الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَنَّ مُفْرَدَهُ مُؤْذِنٌ بِالْجَمَاعَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى جُنْدٌ مَا هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ [ص: 11] فَجَمَعَهُ هُنَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَجَمِّعِينَ مِنْ عِدَّةِ قَبَائِلَ لِكُلِّ قَبِيلَةٍ جَيْشٌ خَرَجُوا مُتَسَانِدِينَ لِغَزْوِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَدِينَةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [249] .
وَالْجُنُودُ الثَّانِي جَمْعُ جُنْدٍ بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ. وَالْمُرَادُ بِهِمْ مَلَائِكَةٌ أُرْسِلُوا لِنَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِلْقَاءِ الرُّعْبِ وَالْخَوْفِ فِي قُلُوب الْمُشْركين.
[10- 11]
[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : الْآيَات 10 إِلَى 11]
إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11)
إِذْ جاؤُكُمْ بَدَلٌ مِنْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ [الْأَحْزَاب: 9] بَدَلَ مُفَصَّلٍ مِنْ مُجْمَلٍ.
وَالْمُرَادُ بِ (فَوْقِ) وأَسْفَلَ فَوْقُ جِهَةِ الْمَدِينَةِ وأسفلها.
ووَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ عَطْفٌ عَلَى الْبَدَلِ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ التَّفْصِيلِ، وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَبْصارُ والْقُلُوبُ والْحَناجِرَ لِلْعَهْدِ، أَيْ: أَبْصَارُ الْمُسْلِمِينَ وَقُلُوبُهُمْ وَحَنَاجِرَهُمْ، أَوْ تُجْعَلُ اللَّامُ فِيهَا عِوَضًا عَنِ الْمُضَافَاتِ إِلَيْهَا، أَيْ: زَاغَتْ أَبْصَارُكُمْ وَبَلَغَتْ قُلُوبُكُمْ حَنَاجِرَكُمْ.
وَالزَّيْغُ: الْمَيْلُ عَنِ الْاسْتِوَاءِ إِلَى الِانْحِرَافِ. فَزَيْغُ الْبَصَرِ أَنْ لَا يَرَى مَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ، أَوْ أَنْ يُرِيدَ التَّوَجُّهَ إِلَى صَوْبٍ فَيَقَعَ إِلَى صَوْبٍ آخَرَ مِنْ شِدَّةِ الرُّعْبِ وَالِانْذِعَارِ.
والْحَناجِرَ: جَمَعُ حَنْجَرَةٍ- بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الْجِيمِ-: مُنْتَهَى الْحُلْقُومِ وَهِيَ رَأْسُ الْغَلْصَمَةِ. وَبُلُوغُ الْقُلُوبِ الْحَنَاجِرَ تَمْثِيلٌ لِشِدَّةِ اضْطِرَابِ الْقُلُوبِ مِنَ
الْفَزَعِ وَالْهَلَعِ حَتَّى كَأَنَّهَا لِاضْطِرَابِهَا تَتَجَاوَزُ مَقَارَّهَا وَتَرْتَفِعُ طَالِبَةً الْخُرُوجَ مِنَ الصُّدُورِ فَإِذَا بَلَغَتِ الْحَنَاجِرَ لَمْ تَسْتَطِعْ تُجَاوُزَهَا مِنَ الضِّيقِ فَشُبِّهَتْ هَيْئَةُ قَلْبِ الْهُلُوعِ الْمَرْعُودِ بِهَيْئَةِ قَلْبٍ تَجَاوَزَ مَوْضِعَهُ وَذَهَبَ مُتَصَاعِدًا طَالِبًا الْخُرُوجَ، فَالْمُشَبَّهُ الْقَلْبُ نَفْسُهُ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْهَيْئَتَيْنِ.
وَلَيْسَ الْكَلَامُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ الْقُلُوبَ لَا تَتَجَاوَزُ مَكَانَهَا، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُمْ:
تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ، وَبَلَغَتِ الرُّوحُ التَّرَاقِيَ.
وَجُمْلَةُ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ زاغَتِ الْأَبْصارُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ وَجِيءَ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ تِلْكَ الظُّنُونِ بِتَجَدُّدِ أَسْبَابِهَا كِنَايَةً عَنْ طُولِ مُدَّةِ هَذَا الْبَلَاءِ.
وَفِي صِيغَةِ الْمُضَارِعِ مَعْنَى التَّعْجِيبِ مِنْ ظُنُونِهِمْ لِإِدْمَاجِ الْعِتَابِ بِالِامْتِنَانِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْهَلَعِ الَّذِي أَزَاغَ الْأَبْصَارَ وَجَعَلَ الْقُلُوبَ بِمِثْلِ حَالَةِ أَنْ تَبْلُغَ الْحَنَاجِرَ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ أَشْفَقُوا مِنْ أَنْ يُهْزَمُوا لِمَا رَأَوْا مِنْ قُوَّةِ الْأَحْزَابِ وَضِيقِ الْحِصَارِ أَوْ خَافُوا طُولَ مُدَّةِ الْحَرْبِ وَفَنَاءَ الْأَنْفُسِ، أَوْ أَشْفَقُوا مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْهَزِيمَةِ جَرَاءَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الظُّنُونِ وَتَفَاوُتِ دَرَجَاتِ أَهْلِهَا.
وَالْمُؤْمِنُ وَإِنْ كَانَ يَثِقُ بِوَعْدِ رَبِّهِ لَكِنَّهُ لَا يَأْمَنُ غَضَبَهُ مِنْ جَرَّاءِ تَقْصِيرِهِ، وَيَخْشَى أَنْ يَكُونَ النَّصْرُ مُرْجَأً إِلَى زَمَنٍ آخَرَ، فَإِنَّ مَا فِي عِلْمِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ لَا يُحَاطُ بِهِ.
وَحُذِفَ مَفْعُولَا تَظُنُّونَ بِدُونِ وُجُودِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيرِهِمَا فَهُوَ حَذْفٌ لِتَنْزِيلِ الْفِعْلِ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، وَيُسَمَّى هَذَا الْحَذْفُ عِنْدَ النُّحَاةِ الْحَذْفَ اقْتِصَارًا، أَيْ: لِلِاقْتِصَارِ عَلَى نِسْبَةِ فِعْلِ الظَّنِّ لِفَاعِلِهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّنْزِيلِ أَنْ تَذْهَبَ نَفْسُ السَّامِعِ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ، وَهُوَ حَذْفٌ مُسْتَعْمَلٌ كَثِيرًا فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ وَعَلَى جَوَازِهِ أَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى [النَّجْم: 35] وَقَوْلُهُ: وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ [الْفَتْح: 12]، وَقَوْلُ الْمَثَلِ: مَنْ يَسْمَعْ يَخَلْ، وَمَنَعَهُ سِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشُ.
وَضُمِّنَ تَظُنُّونَ مَعْنَى تَلْحَقُونَ، فَعُدِّيَ بِالْبَاءِ فَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: قَوْلُهُمْ: ظَنَنْتُ بِهِ، مَعْنَاهُ: جَعَلْتُهُ مَوْضِعَ ظَنِّي. وَلَيْسَتِ الْبَاءُ هُنَا بِمَنْزِلَتِهَا فِي كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً [النِّسَاء: 6]، أَيْ:
لَيْسَتْ زَائِدَةً، وَمَجْرُورُهَا مَعْمُولٌ لِلْفِعْلِ قَبْلَهَا كَأَنَّكَ قُلْتَ: ظَنَنْتُ فِي الدَّارِ، وَمِثْلُهُ: شَكَكْتُ فِيهِ، أَيْ: فَالْبَاءَ عِنْدَهُ بِمَعْنَى (فِي) . وَالْوَجْهُ أَنَّهَا لِلْمُلَابَسَةِ كَقَوْلِ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ:
فَقُلْتُ لَهُمْ: ظُنُّوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ
…
سَرَاتُهُمُ فِي الْفَارِسِيِّ الْمَسَرَّدِ
وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [87] .
وَانْتَصَبَ الظُّنُونَا عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُبَيِّنِ لِلْعَدَدِ، وَهُوَ جَمْعُ ظَنٍّ. وَتَعْرِيفُهُ بِاللَّامِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَجَمْعُهُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الظَّنِّ كَمَا فِي قَول النَّابِغَة:
أبيتك عَارِيًا خَلَقًا ثِيَابِي
…
عَلَى خَوْفٍ تُظَنُّ بِيَ الظُّنُونُ
وَكُتِبَ الظُّنُونَا فِي الإِمَام بِأَلف بَعْدَ النُّونِ، زِيدَتْ هَذِهِ الْأَلِفُ فِي النُّطْقِ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَوَاصِلِ فِي الْوُقُوفِ، لِأَنَّ الْفَوَاصِلَ مِثْلَ الْأَسْجَاعِ تُعْتَبَرُ مَوْقُوفًا عَلَيْهَا لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ أَرَادَهَا كَذَلِكَ. فَهَذِهِ السُّورَةُ بُنِيَتْ عَلَى فَاصِلَةِ الْأَلِفِ مِثْلَ الْقَصَائِدِ الْمَقْصُورَةِ، كَمَا زِيدَتِ الْأَلِفُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا [الْأَحْزَاب: 66] وَقَوْلِهِ: فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [الْأَحْزَاب: 67] .
وَعَنْ أَبِي عَلِيٍّ فِي «الْحُجَّةِ» : مَنْ أَثْبَتَ الْأَلِفَ فِي الْوَصْلِ لِأَنَّهَا فِي الْمُصْحَفِ كَذَلِكَ وَهُوَ رَأس آيَة ورؤوس الْآيَاتِ تُشَبَّهُ بِالْقَوَافِي مِنْ حَيْثُ كَانَتْ مَقَاطِعَ، فَأَما فِي طَرَحَ الْأَلِفَ فِي الْوَصْلِ فَإِنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي القوافي وَلَيْسَ رُؤُوس الْآيِ بِقَوَافٍ.
فَأَمَّا الْقُرَّاءُ فَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَالْكِسَائِيُّ بِحَذْفِ الْأَلِفِ فِي الْوَصْلِ وَإِثْبَاتِهَا فِي الْوَقْفِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ بِحَذْفِ الْأَلِفِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ، وَقَرَأَ خَلَفٌ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ بَعْدَ النُّونِ فِي الْوَقْفِ وَحَذْفِهَا فِي الْوَصْلِ. وَهَذَا اخْتِلَافٌ مِنْ قَبِيلِ الِاخْتِلَافِ فِي وُجُوهِ الْأَدَاءِ لَا فِي لَفْظِ الْقُرْآنِ. وَهِيَ كُلُّهَا فَصِيحَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ وَالْأَحْسَنُ الْوَقْفُ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْفَوَاصِلَ كَالْأَسْجَاعِ وَالْأَسْجَاعَ كَالْقَوَافِي.
وَالْإِشَارَةُ بِ هُنالِكَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ [الْأَحْزَاب: 9] وَقَوله إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ. وَالْأَظْهَرُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى الزَّمَانِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ إِذْ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ. وَكَثِيرًا مَا يُنَزَّلُ أَحَدُ الظَّرْفَيْنِ مَنْزِلَةَ الْآخَرِ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُنالِكَ: ظَرْفُ زَمَانٍ وَالْعَامِلُ فِيهِ