الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ [الطَّلَاق: 7] . وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ عَيَّرُوا الْمُسْلِمِينَ بِالْفَقْرِ، وَقِيلَ: إِنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: إِنْ هَاجَرْنَا لَمْ نَجِدْ مَا نُنْفِقُ.
وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِاللَّامِ عَائِدٌ إِلَى (مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) بِاعْتِبَارِ أَنَّ (مَنْ يَشَاءُ) عَامٌّ لَيْسَ بِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ لَا سِيَّمَا وَقَدْ بَيَّنَ عُمُومَهُ بِقَوْلِهِ مِنْ عِبادِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِفَرِيقٍ وَيَقْدِرُ لِفَرِيقٍ.
وَالتَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لِإِفَادَةِ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ جَارٍ عَلَى حِكْمَةٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا النَّاسُ، وَأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ صَبْرَ الصَّابِرِينَ وَجَزَعَ الْجَازِعِينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [العنكبوت: 3]، قَالَ تَعَالَى:
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ
[آل عمرَان: 186] .
[63]
[سُورَة العنكبوت (29) : آيَة 63]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاء فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاء فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ.
أُعِيدَ أُسْلُوبُ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ لِيَتَّصِلَ رَبْطُ الْأَدِلَّةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ عَلَى قُرْبٍ. فَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ لَا يَدَّعُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ تُنْزِلُ الْمَطَرَ كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الْآيَةُ فَقَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُنْكِرُوهَا وَهِيَ تَقْرَعُ أَسْمَاعَهُمْ.
وَأُدْمِجَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِمْ بِانْفِرَادِهِ تَعَالَى بِإِنْزَالِ الْمَطَرِ أَنَّ اللَّهَ أَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ الْمُشْرِكِينَ يَنْسُبُونَ الْمُسَبَّبَاتِ إِلَى أَسْبَابِهَا الْعَادِيَةِ كَمَا تَبَيَّنَ فِي بَحْثِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ الْعَقْلِيَّيْنِ فِي قَوْلِهِمْ: أَنْبَتَ الرَّبِيعُ الْبَقْلَ، أَنَّهُ حَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ فِي كَلَامِ أَهْلِ الشِّرْكِ لِأَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَنْسُبُونَ الْإِنْبَاتَ إِلَى أَصْنَامِهِمْ، وَقَدِ اعْتَرَفُوا بِأَنَّ سَبَبَ الْإِنْبَاتِ وَهُوَ الْمَطَرُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَيَلْزَمُهُمْ أَنَّ الْإِنْبَاتَ مِنَ اللَّهِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ. وَفِي هَذَا الْإِدْمَاجِ اسْتِدْلَالٌ تَقْرِيبِيٌّ لِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ كَمَا قَالَ: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَةِ
اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الرّوم: 50] وَقَالَ: وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ [الرّوم: 19] .
وَلَمَّا كَانَ سِيَاقُ الْكَلَامِ هُنَا فِي مَسَاقِ التَّقْرِيرِ كَانَ الْمَقَامُ مُقْتَضِيًا لِلتَّأْكِيدِ بِزِيَادَةِ مِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها إِلْجَاءً لَهُمْ إِلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ هُوَ اللَّهُ دُونَ أَصْنَامِهِمْ فَلِذَلِكَ لم يكن مُقْتَضى لِزِيَادَةِ (مِنْ) فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ، وَفِي الْجَاثِيَةِ [5] فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها.
وَقد أَشَارَ قَوْله مِنْ بَعْدِ مَوْتِها إِلَى مَوْتِ الْأَرْضِ، أَيْ مَوْتِ نَبَاتِهَا يَكُونُ بِإِمْسَاكِ الْمَطَرِ عَنْهَا فِي فُصُولِ الْجَفَافِ أَو فِي سِنِين الْجَدْبِ لِأَنَّهُ قَابَلَهُ بِكَوْنِ إِنْزَالِ الْمَطَرِ لِإِرَادَتِهِ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ بِقَوْلِهِ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ، فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهَا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ مَوْتَ الْأَرْضِ كَانَ بَعْدَ حَيَاةٍ سَبَقَتْ مِنْ نَوْعِ هَذِهِ الْحَيَاةِ، فَصَارَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ وَإِمَاتَتِهَا، وَيعلم مِنْهُ أَن مُحْيِيَ الْحَيَوَانِ وَمُمِيتَهُ بِطَرِيقَةِ لَحْنِ الْخِطَابِ. فَانْتَظَمَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُفْتَتَحَةِ بِقَوْلِهِ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [العنكبوت: 61] إِلَى هُنَا أُصُولُ صِفَاتِ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ: الْخَلْقُ، وَالرِّزْقُ،
وَالْإِحْيَاءُ، وَالْإِمَاتَةُ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ عُقِّبَتْ بِأَمْرِ اللَّهِ نَبِيئَهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يَحْمَدَهُ بِكَلَامٍ يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِالْحَمْدِ.
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ.
لَمَّا اتَّضَحَتِ الْحُجَّةُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ اللَّهَ مُنْفَرِدٌ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، وَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَيْسَ لِأَصْنَامِهِمْ شِرْكٌ فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ أُصُولُ نِظَامِ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ فَكَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِإِبْطَالِ شِرْكِهِمْ بِمَا لَا يَسْتَطِيعُونَ إِنْكَارَهُ وَلَا تَأْوِيلَهُ بَعْدَ أَنْ قَرَعَتْ أَسْمَاعَهُمْ دَلَائِلُهُ وَهُمْ وَاجِمُونَ لَا يُبْدُونَ تَكْذِيبًا فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ صِدْقُ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام فِيمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ. وَكَذِبُهُمْ فِيمَا تَطَاوَلُوا بِهِ عَلَيْهِ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِأَنْ يَحْمَدَهُ عَلَى أَنْ نَصَرَهُ بِالْحُجَّةِ نَصْرًا يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ سَيَنْصُرُهُ بِالْقُوَّةِ. وَتِلْكَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ تَسْتَحِقُّ أَنْ يُحْمَدُ اللَّهُ عَلَيْهَا إِذْ