الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَمَعْنَى مِنْ أَنْفُسِكُمْ مَنْ نَوْعِكُمْ، فَجَمِيعُ الْأَزْوَاجِ مِنْ نَوْعِ النَّاسِ، وَأَمَّا قَوْلُ تَأَبَّطَ شَرًّا:
وَتَزَوَّجْتُ فِي الشبيبة غولا
…
يغزال وَصَدْقَتِي زِقُّ خَمْرِ
فَمِنْ تَكَاذِيبِهِمْ، وَكَذَلِكَ مَا يَزْعُمُهُ الْمُشَعْوِذُونَ مِنَ التَّزَوُّجِ بِالْجِنِّيَّاتِ وَمَا يَزْعُمُهُ أَهْلُ الْخُرَافَاتِ وَالرِّوَايَاتِ مِنْ وُجُودِ بَنَاتٍ فِي الْبَحْرِ وَأَنَّهَا قَدْ يَتَزَوَّجُ بَعْضُ الْإِنْسِ بِبَعْضِهَا.
وَالسُّكُونُ: هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلتَّأَنُسِ وَفَرِحِ النَّفْسِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ زَوَالَ اضْطِرَابِ الوحشة والكمد بِالسُّكُونِ الَّذِي هُوَ زَوَالُ اضْطِرَابِ الْجِسْمِ كَمَا قَالُوا: اطْمَأَنَّ إِلَى كَذَا وَانْقَطَعَ إِلَى كَذَا.
وَضَمِنَ لِتَسْكُنُوا مَعْنَى لِتَمِيلُوا فَعُدِّيَ بِحَرْفِ (إِلَى) وَإِنْ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يُعَلَّقَ بِ (عِنْدَ) وَنَحْوِهَا مِنَ الظُّرُوفِ.
وَالْمَوَدَّةُ: الْمَحَبَّةُ، وَالرَّحْمَةُ: صِفَةٌ تَبْعَثُ عَلَى حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ.
وَإِنَّمَا جَعَلَ فِي ذَلِكَ آيَاتٍ كَثِيرَةً بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِ ذَلِكَ الْخَلْقِ عَلَى دَقَائِقِ كَثِيرَةٍ مُتَوَلِّدٌ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ يُظْهِرُهَا التَّأَمُّلُ وَالتَّدَبُّرُ بِحَيْثُ يَتَجَمَّعُ مِنْهَا آيَاتٌ كَثِيرَةٌ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ مَعْنَاهُ شِبْهُ التَّمْلِيكِ وَهُوَ مَعْنَى أَثْبَتَهُ صَاحِبُ «مُغْنِي اللَّبِيبِ» وَيَظْهَرُ أَنَّهُ وَاسِطَةٌ بَيْنَ مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَمَعْنَى التَّعْلِيلِ. وَمَثَّلَهُ فِي «الْمُغْنِي» بِقَوْلِهِ تَعَالَى جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً [النَّحْل: 72] وَذُكِرَ فِي الْمَعْنَى الْعِشْرِينَ مِنْ مَعَانِي اللَّامِ أَنَّ ابْنَ مَالِكٍ فِي «كَافِيَّتِهِ» سَمَّاهُ لَامَ التَّعْدِيَةِ وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ تَعْدِيَةً خَاصَّةً، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [مَرْيَم: 5] .
[22]
[سُورَة الرّوم (30) : آيَة 22]
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22)
هَذِهِ الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَهِيَ آيَةُ النِّظَامِ الْأَرْضِيِّ فِي خَلْقِ الْأَرْضِ بِمَجْمُوعِهَا وَسُكَّانِهَا
فَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ آيَةٌ عَظِيمَةٌ مَشْهُودَةٌ بِمَا فِيهَا مِنْ تَصَارِيفِ الْأَجْرَامِ
السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ، وَمَا هُوَ مَحَلُّ الْعِبْرَةِ من أحوالهما المتقاربة الْمُتَلَازِمَةِ كَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُصُولِ، وَالْمُتَضَادَّةِ كَالْعُلُوِّ وَالِانْخِفَاضِ.
وَإِذْ قَدْ كَانَ أَشْرَفُ مَا عَلَى الْأَرْضِ نَوْعَ الْإِنْسَانِ قُرِنَ مَا فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِ مِنَ الْآيَاتِ بِمَا فِي خَلْقِ الْأَرْضِ مِنَ الْآيَاتِ، وَخُصَّ مِنْ أَحْوَالِهِ الْمُتَخَالِفَةِ لِأَنَّهَا أَشَدُّ عِبْرَةً إِذْ كَانَ فِيهَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَشْيَاءَ مُتَّحِدَةٍ فِي الْمَاهِيَّةِ، وَلِأَنَّ هَاتِهِ الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ لِهَذَا النَّوْعِ الْوَاحِدِ نَجْدُ أَسْبَابَ اخْتِلَافِهَا مِنْ آثَارِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَاخْتِلَافُ الْأَلْسِنَةِ سَبَّبَهُ الْقَرَارُ بِأَوْطَانٍ مُخْتَلِفَةٍ مُتَبَاعِدَةٍ، وَاخْتِلَافُ الْأَلْوَانِ سَبَّبَهُ اخْتِلَافُ الْجِهَاتِ الْمَسْكُونَةِ مِنَ الْأَرْضِ، وَاخْتِلَافُ مُسَامَتَةِ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ لَهَا فَهِيَ مِنْ آثَارِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَلِذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ آيَةُ اخْتِلَافِ اللُّغَاتِ وَالْأَلْوَانِ وَأَنَّ مَا تَقَدَّمَهُ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَات وَالْأَرْض تمهيد لَهُ وَإِيمَاءً إِلَى انْطِوَاءِ أَسْبَابِ الِاخْتِلَافِ فِي أَسْرَارِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُتَعَلِّقَةً بِأَحْوَالٍ عَرَضِيَّةٍ فِي الْإِنْسَانِ مُلَازِمَةٍ لَهُ فَبِتِلْكَ الْمُلَازَمَةِ أَشْبَهَتِ الْأَحْوَالَ الذَّاتِيَّةَ الْمُطْلَقَةَ ثُمَّ النِّسْبِيَّةَ، فَلِذَلِكَ ذُكِرَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَقِبَ الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ حَسَبِ التَّرْتِيبِ السَّابِقِ. وَقَدْ ظَهَرَ وَجْهُ الْمُقَارَنَةِ بَيْنَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَبَيْنَ اخْتِلَافِ أَلْسُنِ الْبَشَرِ وَأَلْوَانِهِمْ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [190] قَوْلُهُ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ.
وَالْأَلْسِنَةُ: جَمْعُ لِسَانٍ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى اللُّغَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [إِبْرَاهِيم: 4] وَقَوْلِهِ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ [النَّحْل: 103] .
وَاخْتِلَافُ لُغَاتِ الْبَشَرِ آيَةٌ عَظِيمَةٌ فَهُمْ مَعَ اتِّحَادِهِمْ فِي النَّوْعِ كَانَ اخْتِلَافُ لُغَاتِهِمْ آيَةً دَالَّةً عَلَى مَا كَوَّنَهُ اللَّهُ فِي غَرِيزَةِ الْبَشَرِ مِنِ اخْتِلَافِ التَّفْكِيرِ وَتَنْوِيعِ التَّصَرُّفِ فِي وَضْعِ اللُّغَاتِ، وَتَبَدُّلِ كَيْفِيَّاتِهَا بِاللَّهَجَاتِ وَالتَّخْفِيفِ وَالْحَذْفِ وَالزِّيَادَةِ بِحَيْثُ تَتَغَيَّرُ الْأُصُولُ الْمُتَّحِدَةُ إِلَى لُغَاتٍ كَثِيرَةٍ.
فَلَا شَكَّ أَنَّ اللُّغَةَ كَانَتْ وَاحِدَةً لِلْبَشَرِ حِينَ كَانُوا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَمَا اخْتَلَفَتِ اللُّغَاتُ إِلَّا بِانْتِشَارِ قَبَائِلِ الْبَشَرِ فِي الْمَوَاطِنِ الْمُتَبَاعِدَةِ، وَتَطَرَّقَ التَّغَيُّرُ إِلَى لُغَاتِهِمْ تَطَرُّقًا تَدْرِيجِيًّا عَلَى أَنَّ تَوَسُّعَ اللُّغَاتِ بِتَوَسُّعِ الْحَاجَةِ إِلَى التَّعْبِيرِ عَنْ أَشْيَاءَ لَمْ يَكُنْ لِلتَّعْبِيرِ عَنْهَا حَاجَةٌ قَدْ أَوْجَبَ اخْتِلَافًا فِي وَضْعِ الْأَسْمَاءِ لَهَا فَاخْتَلَفَتِ اللُّغَاتُ بِذَلِكَ فِي جَوْهَرِهَا كَمَا اخْتَلَفَتْ فِيمَا كَانَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَهَا بِاخْتِلَافِ لَهَجَاتِ النُّطْقِ، وَاخْتِلَافِ التَّصَرُّفِ، فَكَانَ لِاخْتِلَافِ الْأَلْسِنَةِ مُوجِبَانِ. فَمَحَلُّ الْعِبْرَةِ هُوَ اخْتِلَاف اللُّغَات مَعَ اتِّحَادِ
أَصْلِ النَّوْعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ [الرَّعْد:
4] وَلِمَا فِي ذَلِكَ الِاخْتِلَافِ مِنَ الْأَسْرَارِ الْمُقْتَضِيَةِ إِيَّاهُ. وَوَقَعَ فِي الْإِصْحَاحِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ «سِفْرِ التَّكْوِينِ» مَا يُوهِمُ ظَاهِرُهُ أَنَّ اخْتِلَافَ الْأَلْسُنِ حَصَلَ دُفْعَةً وَاحِدَةً بَعْدَ الطُّوفَانِ فِي أَرْضِ بَابِلَ وَأَنَّ الْبَشَرَ تَفَرَّقُوا بَعْدَ ذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْعِبَارَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَأَنَّ التَّفَرُّقَ وَقَعَ قَبْلَ تَبَلْبُلِ الْأَلْسُنِ. وَقَدْ عُلِّلَ فِي ذَلِكَ «الْإِصْحَاحِ» بِمَا يُنَزِّهُ اللَّهُ عَنْ مَدْلُولِهِ.
وَقِيلَ: أَرَادَ بِاخْتِلَافِ الْأَلْسِنَةِ اخْتِلَافَ الْأَصْوَاتِ بِحَيْثُ تَتَمَايَزُ أَصْوَاتُ النَّاسِ الْمُتَكَلِّمِينَ بِلُغَةٍ وَاحِدَةٍ فَنَعْرِفُ صَاحِبَ الصَّوْتِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَرْئِيٍّ. وَأَمَّا اخْتِلَافُ أَلْوَانِ الْبَشَرِ فَهُوَ آيَةٌ أَيْضًا لِأَنَّ الْبَشَرَ مُنْحَدِرٌ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ آدَمُ، وَلَهُ لَوْنٌ وَاحِدٌ لَا مَحَالَةَ، وَلَعَلَّهُ الْبَيَاضُ الْمَشُوبُ بِحُمْرَةٍ، فَلَمَّا تَعَدَّدَ نَسْلُهُ جَاءَتِ الْأَلْوَانُ الْمُخْتَلِفَةُ فِي بَشَرَاتِهِمْ وَذَلِكَ الِاخْتِلَافُ مَعْلُولٌ لِعِدَّةِ عِلَلٍ أَهَمُّهَا الْمَوَاطِنُ الْمُخْتَلِفَةُ بِالْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ، وَمِنْهَا التَّوَالُدُ مِنْ أَبَوَيْنِ مُخْتَلِفَيِ اللَّوْنِ مِثْلَ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ أُمٍّ سَوْدَاءَ وَأَبٍ أَبْيَضَ، وَمِنْهَا الْعِلَلُ وَالْأَمْرَاضُ الَّتِي تُؤَثِّرُ تَلْوِينًا فِي الْجِلْدِ، وَمِنْهَا اخْتِلَافُ الْأَغْذِيَةِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ اخْتِلَافُ أَلْوَانِ الْبَشَرِ دَلِيلًا عَلَى اخْتِلَافِ النَّوْعِ بل هُوَ نواع وَاحِدٌ، فَلِلْبَشَرِ أَلْوَانٌ كَثِيرَةٌ أَصْلَاهَا الْبَيَاضُ وَالسَّوَادُ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا أَبُو عَلِيِّ ابْن سِينَا فِي «أُرْجُوزَتِهِ» فِي الطِّبِّ بِقَوْلِهِ:
بِالنَّزْجِ حَرٌّ غَيَّرَ الْأَجْسَادَ
…
حَتَّى كَسَا بَيَاضَهَا سَوَادَا
وَالصَّقْلَبُ اكْتَسَبَتِ الْبَيَاضَا
…
حَتَّى غَدَتْ جُلُودُهَا بِضَاضَا
وَكَانَ أَصْلُ اللَّوْنِ الْبَيَاضَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى عِلَّةٍ وَلِأَنَّ التَّشْرِيحَ أَثْبَتَ أَنَّ أَلْوَانَ