الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خَفِيَّةٍ وَظَاهِرَةٍ، وَمُسَبِّبَاتِهَا كَذَلِكَ، وَمِنْ تَعَدُّدِ أَحْوَالِ النَّاسِ مِنَ الِاعْتِبَارِ بِهَا وَالْأَخْذِ مِنْهَا، كُلٌّ عَلَى حَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ. وَخُصَّ الْقَوْمُ الْمُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَعْمَقُ بَصَائِرَ بِمَا ارْتَاضَتْ عَلَيْهِ أَنْفُسُهُمْ مِنْ آدَابِ الْإِيمَانِ وَمِنْ نَصْبِ أَنْفُسِهِمْ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ مِنْ عُلُومِ الدِّينِ وَحِكْمَة النبوءة.
[38]
[سُورَة الرّوم (30) : آيَة 38]
فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)
فَاءُ التَّفْرِيعِ تُفِيدُ أَنَّ الْكَلَامَ بَعْدَهَا مُتَرَتِّبٌ عَلَى الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهَا، وَقَدِ اشْتَمَلَ الْكَلَامُ
قَبْلَهَا عَلَى لَحَاقِ آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ بِالنَّاسِ، وَإِصَابَةِ السُّوءِ إِيَّاهُمْ، وَعَلَى أَنَّ مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ السُّوءِ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِي النَّاسِ، وَذَكَرَ بَسْطَ الرِّزْقِ وَتَقْدِيرَهُ. وَتَضَمَّنَ ذَلِكَ أَنَّ الْفَرَحَ يُلْهِيهِمْ عَنِ الشُّكْرِ، وَأَنَّ الْقُنُوطَ يُلْهِيهِمْ عَنِ الْمُحَاسَبَةِ فِي الْأَسْبَابِ، فَكَانَ الْأَمْرُ بِإِيتَاءِ الضُّعَفَاءِ وَالْمَنْكُوبِينَ إِرْشَادًا إِلَى وَسَائِلَ شُكْرِ النِّعْمَةِ عِنْدَ حُصُولِهَا شُكْرًا مِنْ نَوْعِهَا وَاسْتِكْشَافِ الضُّرِّ عِنْدَ نُزُولِهِ، وَإِلَى أَنَّ مِنَ الْحَقِّ التَّوْسِعَةَ عَلَى الْمُضَيَّقِ عَلَيْهِمُ الرِّزْقُ، كَمَا يُحِبُّ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَالْخِطَابُ بِالْأَمْرِ لِلنَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم بِاعْتِبَارِ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِمَّنْ يَحِقُّ عَلَيْهِ الْإِيتَاءُ وَهُوَ الَّذِي بُسِطَ لَهُ فِي الرِّزْقِ، أَيْ فَآتُوا ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ [الرّوم: 38] الْآيَةَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَالْإِيتَاءُ: الْإِعْطَاءُ. وَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْمُعْطَى مَالٌ، وَيُقَوِّي ذَلِكَ وُقُوعُ الْآيَةِ عَقِبَ قَوْلِهِ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ [الرّوم: 37] . وَصِيغَةُ الْأَمْرِ مِنْ قَوْلِهِ فَآتِ مُجْمَلٌ. وَالْأَصْلُ فِي مَحْمَلِهَا الْوُجُوبُ مَعَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِإِيتَائِهِ عَبَّرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ حَقٌّ وَالْأَصْلُ فِي الْحَقِّ الْوُجُوبُ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَادَ حَقٌّ فِي مَالِ الْمُؤْتِي.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ: صِلَةُ الرَّحِمِ- أَيْ بِالْمَالِ- فَرْضٌ مِنَ اللَّهِ عز وجل لَا
تُقْبَلْ صَدَقَةُ أَحَدٍ وَرَحِمُهُ مُحْتَاجَةٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: حَقُّ ذِي الْقُرْبَى الْمُوَاسَاةُ فِي الْيُسْرِ، وَقَوْلٌ مَيْسُورٌ فِي الْعُسْرِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مُعْظَمُ مَا قُصِدَ أَمْرُ الْمَعُونَةِ بِالْمَالِ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم:
«فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ»
، وَلِلْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ حَقٌّ، وَبَيِّنٌ أَنَّ حَقَّ هَذَيْنِ فِي الْمَالِ اهـ. أَقُولُ وَلِذَلِكَ قَالَ جَمْعٌ كَثِيرٌ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَقَالَ فَرِيقٌ: لَمْ تُنْسَخْ بَلْ لِلْقَرِيبِ حَقٌّ فِي الْبِرِّ عَلَى كُلِّ حَالٍ، أَيْ لَا نَسْخَ فِي جَمِيعِ مَا تَضَمَّنَتْهُ بَلْ نَسَخَ بَعْضَهَ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ وَبَقِيَ مَا عَدَاهُ. قُلْتُ: وَمَا بَقِيَ غَيْرَ مَنْسُوخٍ مُخْتَلِفَةٌ أَحْكَامُهُ، وَهُوَ مُجْمَلٌ تُبَيِّنُهُ أَدِلَّةٌ أُخْرَى مُتَفَرِّقَةٌ مِنَ الشَّرِيعَةِ.
والْقُرْبى: قُرْبُ النَّسَبِ وَالرَّحِمِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [36] . والْمِسْكِينَ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ [60] .
وابْنَ السَّبِيلِ: الْمُسَافِرُ الْمُجْتَازُ بِالْقَرْيَةِ أَوْ بِالْحَيِّ.
وَوَقَعَ الْحَقُّ مُجْمَلًا وَالْحَوَالَةُ فِي بَيَانِهِ عَلَى مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ بَيْنَ النَّاسِ وَعَلَى مَا يُبَيِّنُهُ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم. وَكَانَتِ الصَّدَقَةُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَاجِبَةً عَلَى الْجُمْلَةِ مَوْكُولَةً إِلَى حِرْصِ الْمُؤْمِنِ.
وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَيْهَا اسْمُ الزَّكَاةِ فِي آيَاتٍ مَكِّيَّةٍ كَثِيرَةٍ، وَقُرِنَتْ بِالصَّلَاةِ فَالْمُرَادُ بِهَا فِي تِلْكَ الْآيَاتِ الصَّدَقَةُ الْوَاجِبَةُ وَكَانَتْ غَيْرَ مَضْبُوطَةٍ بِنُصُبٍ ثُمَّ ضُبِطَتْ بِأَصْنَافٍ وَنُصُبٍ وَمَقَادِيرَ
مُخْرَجَةٍ عَنْهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه: «فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ» . وَإِنَّمَا ضُبِطَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَصَارَ مَا عَدَاهَا مِنَ الصَّدَقَةِ غَيْرَ وَاجِبٍ. وَقُصِرَ اسْمُ الزَّكَاةِ عَلَى الْوَاجِبَةِ وَأُطْلِقَ عَلَى مَا عَدَاهَا اسْمُ الصَّدَقَةِ أَوِ الْبِرِّ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَجِمَاعُ حَقِّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ الْمُوَاسَاةُ بِالْمَالِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ لَهُمْ. وَكَانَ هَذَا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ بِفَرْضِ الزَّكَاةِ، ثُمَّ إِنَّ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ حَقًّا فَحَقُّ ذِي الْقُرْبَى يَخْتَلِفُ بِحَسْبِ حَاجَتِهِ فَلِلْغَنِيِّ حَقُّهُ فِي الْإِهْدَاءِ تَوَدُّدًا، وَلِلْمُحْتَاجِ حَقٌّ أَقْوَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ ذُو الْقُرَابَةِ الضَّعِيفُ الْمَالِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ بِهِ ضَعْفُهُ مَبْلَغَ الْمَسْكَنَةِ بِقَرِينَةِ التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِالْحَقِّ، وَبِقَرِينَةِ مُقَابلَته بقوله لتربوا فِي أَمْوالِ النَّاسِ [الرّوم: 39] عَلَى أَحَدِ الِاحْتِمَالَاتِ فِي تَفْسِيرِهِ. وَأَمَّا إِعْطَاءُ
الْقَرِيبِ الْغَنِيِّ فَلَعَلَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ هُنَا وَلَيْسَ مِمَّا يَشْمَلُهُ لَفْظُ حَقَّهُ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ الْمُرَغَّبِ فِيهَا.
وَحَقُّ الْمِسْكِينِ: سَدُّ خَلَّتِهِ. وَحَقُّ ابْنِ السَّبِيلِ: الضِّيَافَةُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ «جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ» وَالْمَقْصُودُ إِبْطَالُ عَادَةِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ إِذْ كَانُوا يُؤْثِرُونَ الْبَعِيدَ عَلَى الْقَرِيبِ فِي الْإِهْدَاءِ وَالْإِيصَاءِ حُبًّا لِلْمِدْحَةِ، وَيُؤْثِرُونَ بِعَطَايَاهُمُ السَّادَةَ وَأَهْلَ السُّمْعَةِ تَقَرُّبًا إِلَيْهِمْ، فَأُمِرَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَتَجَنَّبُوا ذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [180] .
وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ هُنَا ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ أَيِ الَّذِينَ يَتَوَخَّوْنَ بِعَطَايَاهُمْ إِرْضَاءَ اللَّهِ وَتَحْصِيلَ ثَوَابِهِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ ذلِكَ خَيْرٌ إِلَى الْإِيتَاءِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ الْآيَةَ.
وَذِكْرُ الْوَجْهِ هُنَا تَمْثِيلٌ كَأَنَّ الْمُعْطِي أَعْطَى الْمَالَ بِمَرْأًى مِنَ اللَّهِ لِأَنَّ الْوَجْهَ هُوَ مَحَلُّ النَّظَرِ. وَفِيهِ أَيْضًا مُشَاكَلَةٌ تَقْدِيرِيَّةٌ لِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ أُرِيدَ بِهِ مُقَابَلَةُ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْإِعْطَاءِ لِوَجْهِ الْمُعْطَى مِنْ أَهْلِ الْوَجَاهَةِ فِي الْقَوْمِ فَجَعَلَ هُنَا الْإِعْطَاءَ لِوَجْهِ اللَّهِ.
وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ لِامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَتَحْصِيلِ رِضَاهُ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلتَّنْوِيهِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ. وخَيْرٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْضِيلًا وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَفْهُومٌ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ صَنِيعِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ يُعْطُونَ الْأَغْنِيَاءَ الْبُعَدَاءَ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، أَوِ الْمُرَادُ ذَلِكَ خَيْرٌ مَنْ بَذْلِ الْمَالِ فِي الْمُرَابَاةِ الَّتِي تُذْكَرُ بَعْدُ فِي قَوْلِهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً الْآيَة [الرّوم: 39] . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَيْرُ مَا قَابَلَ الشَّرَّ، أَيْ ذَلِكَ فِيهِ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ ثَوَابُ اللَّهِ.
وَفِي قَوْلِهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ صِيغَةُ قَصْرٍ مِنْ أَجْلِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ، وَهُوَ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ أُولَئِكَ الْمُتَفَرِّدُونَ بِالْفَلَاحِ، وَهُوَ نَجَاحُ عَمَلِهِمْ فِي إِيتَاءٍ مِنْ ذِكْرٍ