الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سُورَة الرّوم (30) : آيَة 41]
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)
مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَعْنَاهَا صَالِحٌ لِعِدَّةِ وُجُوهٍ مِنَ الْمَوْعِظَةِ، وَهِيَ مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِ الْقُرْآنِ. وَالْمَقْصِدُ مِنْهَا هُوَ الْمَوْعِظَةُ بِالْحَوَادِثِ مَاضِيهَا وَحَاضِرِهَا لِلْإِقْلَاعِ عَنِ الْإِشْرَاكِ وَعَنْ تَكْذِيبِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَّا مَوْقِعُهَا فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً بِقَوْلِهِ قَبْلَهَا أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الْآيَات [الرّوم: 9] ، فَلَمَّا طُولِبُوا بِالْإِقْرَارِ عَلَى مَا رَأَوْهُ مِنْ آثَارِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، أَوْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عَدَمَ النَّظَرِ فِي تِلْكَ الْآثَارِ، أُتْبِعَ ذَلِكَ بِمَا أَدَّى إِلَيْهِ طَرِيقُ الْمَوْعِظَةِ من قَوْله هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الرّوم: 27] ، وَمِنْ ذِكْرِ الْإِنْذَارِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ، وَالتَّذْكِيرِ بِدَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَفْرِيعِ اسْتِحْقَاقِهِ تَعَالَى الشُّكْرَ لِذَاتِهِ وَلِأَجْلِ إِنْعَامِهِ اسْتِحْقَاقًا مُسْتَقِرًّا إِدْرَاكُهُ فِي الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ الْإِرْشَادِ وَالْمَوْعِظَةِ، عَادَ الْكَلَامُ إِلَى التَّذْكِيرِ بِأَنَّ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ مِنَ الْمَصَائِبِ مَا كَانَ إِلَّا بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ، أَيْ بِأَعْمَالِهِمْ، فَيُوشِكُ أَنْ يَحِلَّ مِثْلُ مَا حَلَّ بِهِمْ بِالْمُخَاطَبِينَ الَّذِينَ كَسَبَتْ أَيْدِيهُمْ مِثْلَ مَا كَسَبَتْ أَيْدِي أُولَئِكَ.
فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَوْقِعُ النَّتِيجَةِ مِنْ مَجْمُوعِ الِاسْتِدْلَالِ أَوْ مَوْقِعُ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ بِتَقْدِيرِ سُؤَالٍ عَنْ سَبَبِ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ الْأُمَمِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَقَعَ هَذِهِ الْآيَةُ مَوْقِعَ التَّكْمِلَةِ لِقَوْلِهِ وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ [الرّوم: 33] الْآيَةَ، فَهِيَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ
فِي التَّنْدِيمِ عَلَى مَا حَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ الْمُخَاطَبِينَ مِنْ ضُرٍّ لِيَعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ عِقَابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَيُقْلِعُوا عَنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يُحِيطَ بِهِمْ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ، كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ عَقِبَ ذَلِكَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. فَالْإِتْيَانُ بِلَفْظِ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِزِيَادَةِ إِيضَاحِ الْمَقْصُودِ، وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ «بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ» . فَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى مَصَائِبَ نَزَلَتْ بِبِلَادِ الْمُشْرِكِينَ وَعَطَّلَتْ مَنَافِعَهَا، وَلَعَلَّهَا مِمَّا نَشَأَ عَنِ الْحَرْبِ بَيْنَ الرُّومِ وَفَارِسَ، وَكَانَ الْعَرَبُ مُنْقَسِمِينَ بَيْنَ أَنْصَارِ هَؤُلَاءِ وَأَنْصَارِ أُولَئِكَ، فَكَانَ مِنْ جَرَّاءَ ذَلِكَ أَنِ انْقَطَعَتْ سُبُلَ الْأَسْفَارِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَتَعَطَّلَتِ التِّجَارَةُ وَقَلَّتِ
الْأَقْوَاتُ بِمَكَّةَ وَالْحِجَازِ كَمَا يَقْتَضِيهِ سَوْقُ هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْمُفْتَتَحَةِ بِ غُلِبَتِ الرُّومُ [الرُّومُ: 2] .
فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَوْقِعُ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ لِسَبَبِ مَسِّ الضُّرِّ إيَّاهُم حَتَّى لجأوا إِلَى الضَّرَاعَةِ إِلَى اللَّهِ، وَمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ [الرّوم: 33] إِلَى آخِرِهِ اعْتِرَاضٌ وَاسْتِطْرَادٌ تَخَلَّلَ فِي الِاعْتِرَاضِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْقِعُهَا مَوْقِعَ الِاعْتِرَاضِ بَيْنَ ذِكْرِ ابْتِهَالِ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ إِذَا أَحَاطَ بِهِمْ ضُرٌّ ثُمَّ إِعْرَاضُهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً وَبَيْنَ ذِكْرِ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ اعْتِرَاضًا يُنْبِئُ أَنَّ الْفَسَادَ الَّذِي يَظْهَرُ فِي الْعَالَمِ مَا هُوَ إِلَّا مِنْ جَرَّاءَ اكْتِسَابِ النَّاسِ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا لَكَانَ حَالُهُمْ عَلَى صَلَاحٍ.
والْفَسادُ: سُوءُ الْحَالِ، وَهُوَ ضِدُّ الصَّلَاحِ، وَدَلَّ قَوْلُهُ: فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ عَلَى أَنَّهُ سُوءُ الْأَحْوَالِ فِي مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ مِنْ خَيْرَاتِ الْأَرْضِ بَرِّهَا وَبَحْرِهَا. ثُمَّ التَّعْرِيفُ فِي الْفَسادُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ لِفَسَادٍ مَعْهُودٍ لَدَى الْمُخَاطَبِينَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ الشَّامِلِ لِكُلِّ فَسَادٍ ظَهَرَ فِي الْأَرْضِ بَرِّهَا وَبَحْرِهَا أَنَّهُ فَسَادٌ فِي أَحْوَالِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، لَا فِي أَعْمَالِ النَّاسِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.
وَفَسَادُ الْبَرِّ يَكُونُ بِفِقْدَانِ مَنَافِعِهِ وَحُدُوثِ مَضَارِّهِ، مِثْلَ حَبْسِ الْأَقْوَاتِ مِنَ الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ وَالْكَلَأِ، وَفِي مَوَتَانِ الْحَيَوَانِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ، وَفِي انْتِقَالِ الْوُحُوشِ الَّتِي تُصَادُ مِنْ جَرَّاءَ قَحْطِ الْأَرْضِ إِلَى أَرَضِينَ أُخْرَى، وَفِي حُدُوثِ الْجَوَائِحِ مِنْ جَرَادٍ وَحَشَرَاتٍ وَأَمْرَاضٍ.
وَفَسَادُ الْبَحْرِ كَذَلِكَ يَظْهَرُ فِي تَعْطِيلِ مَنَافِعِهِ مِنْ قِلَّةِ الْحِيتَانِ وَاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ فَقَدْ كَانَا مِنْ أَعْظَمِ مَوَارِدِ بِلَادِ الْعَرَبِ وَكَثْرَةِ الزَّوَابِعِ الْحَائِلَةِ عَنِ الْأَسْفَارِ فِي الْبَحْرِ، وَنُضُوبِ مِيَاهِ الْأَنْهَارِ وَانْحِبَاسِ فَيَضَانِهَا الَّذِي بِهِ يَسْتَقِي النَّاسَ. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالْبَرِّ الْبَوَادِي وَأَهْلُ الْغُمُورِ وَبِالْبَحْرِ الْمُدُنُ وَالْقُرَى، وَهُوَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَالَ: إِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْأَمْصَارَ
بَحْرًا. قِيلَ: وَمِنْهُ قَوْلُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فِي شَأْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ: «وَلَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ هَذِهِ الْبَحْرَةِ عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ» .
يَعْنِي بِالْبَحْرَةِ: مَدِينَةَ يَثْرِبَ وَفِيهِ بُعْدٌ. وَكَأَنَّ الَّذِي دَعَا إِلَى سُلُوكِ هَذَا الْوَجْهِ فِي إِطْلَاقِ الْبَحْرِ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ حَدَثَ اخْتِلَالٌ فِي سَيْرِ النَّاسِ فِي الْبَحْرِ وَقِلَّةٌ فِيمَا يَخْرُجُ مِنْهُ. وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ السَّيْرِ أَنْ قُرَيْشًا أُصِيبُوا بِقَحْطٍ وَأَكَلُوا الْمَيْتَةَ وَالْعِظَامَ، وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّهُمْ تَعَطَّلَتْ أَسْفَارُهُمْ فِي الْبَحْرِ وَلَا انْقَطَعَتْ عَنْهُمْ حِيتَانُ الْبَحْرِ، عَلَى أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ بِالِاقْتِيَاتِ مِنَ الْحِيتَانِ.
وَعَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ يَكُونُ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِلْعِوَضِ، أَيْ جَزَاءً لَهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ، كَالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: 30] ، وَيَكُونُ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِيُذِيقَهُمْ عَلَى حَقِيقَةِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفَسَادِ: الشِّرْكَ قَالَهُ قَتَادَةُ وَالسَّدِّيُّ فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةً بِقَوْلِهِ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ [الرّوم: 40] ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ إِتْمَامًا لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْعَالَمَ سَالِمًا مِنَ الْإِشْرَاكِ وَأَنَّ الْإِشْرَاكَ ظَهَرَ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ مِنْ صَنِيعِهِمْ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ
فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» : «إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَأَنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَأَجَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي»
الْحَدِيثَ.
فَذَكَرَ الْبَرَّ وَالْبَحْرَ لِتَعْمِيمِ الْجِهَاتِ بِمَعْنَى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي جَمِيعِ الْأَقْطَارِ الْوَاقِعَةِ فِي الْبَرِّ وَالْوَاقِعَةِ فِي الْجَزَائِرِ وَالشُّطُوطِ، وَيَكُونُ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَيَكُونُ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَامَ الْعَاقِبَةِ، وَالْمَعْنَى:
فَأَذَقْنَاهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا، فَجُعِلَتْ لَامُ الْعَاقِبَةِ فِي مَوْضِعِ الْفَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: 8] ، أَيْ فَأَذَقْنَا الَّذِينَ أَشْرَكُوا بَعْضَ مَا اسْتَحَقُّوهُ مِنَ الْعَذَابِ لِشِرْكِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْعَالَمَ عَلَى نِظَامٍ مُحْكَمٍ مُلَائِمٍ صَالِحٍ لِلنَّاسِ فَأَحْدَثَ الْإِنْسَانُ فِيهِ أَعْمَالًا سَيِّئَةً مُفْسِدَةً، فَكَانَتْ وَشَائِجَ لِأَمْثَالِهَا:
وَهَلْ يُنْبِتُ الْخَطِّيَّ إِلَّا وَشِيجُهُ
فَأَخَذَ الِاخْتِلَالُ يَتَطَرَّقُ إِلَى نِظَامِ الْعَالَمِ قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [التِّين: 4- 6] ،
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ مَحْمَلُ الْبَاءِ وَمَحْمَلُ اللَّامِ مِثْلُ مَحْمَلِهِمَا عَلَى الْوَجْهِ الرَّابِعِ. وَأُطْلِقَ الظُّهُورُ عَلَى حُدُوثِ حَادِثٍ لَمْ يَكُنْ، فَشَبَّهَ ذَلِكَ الْحُدُوثَ بَعْدَ الْعَدَمِ بِظُهُورِ الشَّيْءِ الَّذِي كَانَ مُخْتَفِيًا.
وَمَحْمَلُ صِيغَةِ فِعْلِ ظَهَرَ عَلَى حَقِيقَتِهَا مِنَ الْمُضِيِّ يَقْتَضِي أَنَّ الْفَسَادَ حَصَلَ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَقْبَلٍ، فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى فَسَادٍ مُشَاهَدٍ أَوْ مُحَقَّقِ الْوُقُوعِ بِالْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ. وَقَدْ تُحْمَلُ صِيغَةُ الْمَاضِي عَلَى مَعْنَى تَوَقُّعِ حُصُولِ الْفَسَادِ وَالْإِنْذَارِ بِهِ فَكَأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ عَلَى طَرِيقَةِ أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: 1] . وَأَيًّا مَا كَانَ الْفَسَادُ مِنْ مَعْهُودٍ أَوْ شَامِلٍ، فَالْمَقْصُودُ أَنَّ حُلُولَهُ بِالنَّاسِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا، وَأَنَّ اللَّهَ يُقَدِّرُ أَسْبَابَهُ تَقْدِيرًا خَاصًّا لِيُجَازِيَ مَنْ يَغْضَبُ عَلَيْهِمْ عَلَى سُوءِ أَفْعَالِهِمْ. وَهُوَ الْمُرَادُ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ لِأَنَّ إِسْنَادَ الْكَسْبِ إِلَى الْأَيْدِي جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ فِي فِعْلِ الشَّرِّ وَالسُّوءِ مِنَ الْأَعْمَالِ كُلِّهَا، دُونَ خُصُوصِ مَا يَعْمَلُ مِنْهَا بِالْأَيْدِي لِأَنَّ مَا يَكْسِبُهُ النَّاسُ يَكُونُ بِالْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ كُلِّهَا، وَبِالْحَوَاسِّ الْبَاطِنَةِ مِنَ الْعَقَائِدِ الضَّالَّةِ وَالْأَدْوَاءِ النفسية.
وبِما مَوْصُولَةٌ، وَحُذِفَ الْعَائِدُ مِنَ الصِّلَةِ، وَتَقْدِيرُهُ: بِمَا كَسَبَتْهُ أَيْدِي النَّاسِ، أَيْ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمْ. وَأَعَظْمُ مَا كَسَبَتْهُ أَيْدِي النَّاسِ مِنَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ الْإِشْرَاكُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ عَامًا. وَيَعْلَمُ أَنَّ مَرَاتِبَ ظُهُورِ الْفَسَادِ حَاصِلَةٌ عَلَى مَقَادِيرَ مَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ،
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسُئِلَ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ «أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ» ،
وَقَالَ تَعَالَى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: 30] وَقَالَ: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ مَاء غَدَقاً [الْجِنّ: 16] .
وَيَجْرِي حُكْمُ تَعْرِيفِ النَّاسِ عَلَى نَحْوِ مَا يَجْرِي فِي تَعْرِيفِ الْفَسادُ مِنْ عَهْدٍ أَوْ عُمُومٍ، فَالْمَعْهُودُ هُمُ الْمُشْرِكُونَ وَقَدْ شَاعَ فِي الْقُرْآنِ تَغْلِيبُ اسْمِ النَّاسِ عَلَيْهِمْ.
وَالْإِذَاقَةُ: اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ شَبَّهَ مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْآلَامِ فَيُحِسُّونَ بِهَا بِإِصَابَةِ الطَّعَامِ حَاسَّةَ الْمَطْعَمِ. وَلَمَّا كَانَ مَا عَمِلُوهُ لَا يُصِيبُهُمْ بِعَيْنِهِ تَعَيَّنَ أَنَّ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا أُطْلِقَ عَلَى جَزَاءِ الْعَمَلِ وَلِذَلِكَ فَالْبَعْضِيَّةُ تَبْعِيضٌ لِلْجَزَاءِ، فَالْمُرَادُ بَعْضُ الْجَزَاءِ عَلَى جَمِيعِ الْعَمَلِ لَا الْجَزَاءُ عَلَى بَعْضِ الْعَمَلِ، أَيْ أَنَّ مَا يُذِيقُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ هُوَ بَعْضُ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ. وَفِي هَذَا تَهْدِيدٌ إِنْ لَمْ يُقْلِعُوا عَنْ مَسَاوِئِ أَعْمَالِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر: 45]، ثُمَّ وَرَاءَ ذَلِكَ عَذَابُ الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى [طه: 127] .
وَالْعُدُولُ عَنْ أَنْ يُقَالَ: بَعْضُ أَعْمَالِهِمْ إِلَى بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لِلْإِيمَاءِ إِلَى مَا فِي الْمَوْصُولِ مِنْ قُوَّةِ التَّعْرِيفِ، أَيْ أَعْمَالُهُمُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَهُمُ الْمُتَقَرَّرُ صُدُورُهَا مِنْهُمْ.
وَالرَّجَاءُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ (لَعَلَّ) يُشِيرُ إِلَى أَنَّ مَا ظَهَرَ مِنْ فَسَادٍ كَافٍ لِإِقْلَاعِهِمْ عَمَّا هُمُ اكْتَسَبُوهُ، وَأَنَّ حَالَهُمْ حَالُ مَنْ يُرْجَى رُجُوعُهُ فَإِنْ هُمْ لَمْ يَرْجِعُوا فَقَدْ تَبَيَّنَ تَمَرُّدُهُمْ وَعَدَمُ إِجْدَاءِ الْمَوْعِظَةِ فِيهِمْ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التَّوْبَة: 126] .
وَالرُّجُوعُ مُسْتَعَارٌ لِلْإِقْلَاعِ عَنِ الْمَعَاصِي كَأَنَّ الَّذِي عَصَى رَبَّهُ عَبْدٌ أَبَقَ عَنْ سَيِّدِهِ، أَوْ دَابَّةٌ قَدْ أَبَدَتْ، ثُمَّ رَجَعَ. وَفِي الحَدِيث «الله أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلِ نَزَلَ مَنْزِلًا وَبِهِ مَهْلَكَةٌ، وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ حَتَّى إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي، فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا دَابَّتُهُ عِنْدَهُ» .
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لِيُذِيقَهُمْ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، أَيْ لِيُذِيقَهُمُ اللَّهُ. وَمَعَادُ الضَّمِيرِ قَوْلُهُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [الرّوم: 40] . وَقَرَأَهُ قَنْبَلٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَرَوْحٌ عَنْ عَاصِمٍ بنُون العظمة.