الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا يَشْعُرُ بِهِ صَاحِبُ النَّوْمِ مِنْ أَحْوَالِ نَوْمِهِ، لِأَنَّ النَّائِمَ لَا يَعْرِفُ مِنْ نَوْمِهِ إِلَّا الِاسْتِعْدَادَ لَهُ وَإِلَّا أَنَّهُ حِينَ يَهُبُّ مَنْ نَوْمِهِ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ نَائِمًا فَأَمَّا حَالَةُ النَّائِمِ فِي حِينِ نَوْمِهِ وَمِقْدَارُ تَنَبُّهِهِ لِمَنْ يُوقِظُهُ، وَشُعُورُهُ بِالْأَصْوَاتِ الَّتِي تَقَعُ بِقُرْبِهِ، وَالْأَضْوَاءِ الَّتِي تَنْتَشِرُ عَلَى بَصَرِهِ فَتُنَبِّهُهُ أَوْ لَا تُنَبِّهُهُ، كُلُّ ذَلِكَ لَا يَتَلَقَّاهُ النَّائِمُ إِلَّا بِطَرِيقِ الْخَبَرِ مِنَ الَّذِينَ يَكُونُونَ أَيْقَاظًا فِي وَقْتِ نَوْمِهِ. فَطَرِيقُ الْعِلْمِ بِتَفَاصِيلِ أَحْوَالِ النَّائِمِينَ وَاخْتِلَافِهَا السَّمْعُ، وَقَدْ يُشَاهِدُ الْمَرْءُ حَالَ نَوْمِ غَيْرِهِ إِلَّا أَنَّ عِبْرَتَهُ بِنَوْمِهِ الْخَاصِّ بِهِ أَشَدُّ، فَطَرِيقُ السَّمْعِ هُوَ أَعَمُّ الطُّرُقِ لِمَعْرِفَةِ تَفَاصِيلِ أَحْوَالِ النَّوْمِ، فَلِذَلِكَ قِيلَ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ. وَأَيْضًا لِأَنَّ النَّوْمَ يَحُولُ دُونَ الشُّعُور بالمسموعات بادىء ذِي بَدْءٍ قَبْلَ أَنْ يَحُولَ دُونَ الشُّعُورِ بِالْمُبْصَرَاتِ.
وَأُجْرِيَتْ صِفَةُ يَسْمَعُونَ عَلَى قَوْمٍ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ السَّمْعَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُمْ حَتَّى كَأَنَّهُ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [164] . وَوَجْهُ جَعْلِ ذَلِكَ آيَاتٍ لِمَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ مِنْ تَعَدُّدِ الدَّلَالَاتِ بِتَعَدُّدِ الْمُسْتَدِلِّينَ وَتَوَلُّدِ دَقَائِقِ تِلْكَ الْآيَةِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَمَعْنَى اللَّامِ فِي قَوْلِهِ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَعْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الرّوم: 21] .
[24]
[سُورَة الرّوم (30) : آيَة 24]
وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)
تِلْكَ آيَةٌ خَامِسَةٌ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْإِنْسَانِ وَلَيْسَتْ مُتَّصِلَةً بِهِ، فَإِنَّ الْبَرْقَ آيَةٌ مِنْ آيَاتٍ صُنْعِ اللَّهِ وَهُوَ مَنْ خَلْقِ الْقُوَى الْكَهْرَبَائِيَّةِ النُّورَانِيَّةِ فِي الْأَسْحِبَةِ وَجَعْلِهَا آثَارًا مُشَاهَدَةً، وَكَمْ مِنْ قُوًى أَمْثَالِهَا مُنْبَثَّةٍ فِي الْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ لَا تُشَاهَدُ آثَارُهَا.
وَمِنَ الْحِكَمِ الْإِلَهِيَّةِ فِي كَوْنِ الْبَرْقِ
مَرْئِيًّا أَنَّ ذَلِكَ يُثِيرُ فِي النُّفُوسِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ سَلَّطَهُ عِقَابًا وَطَمَعًا فِي أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ خَيْرًا لِلنَّاسِ فَيَطْمَعُونَ فِي نُزُولِ الْمَطَرِ، وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَإِنَّ نُزُولَ الْمَطَرِ مِمَّا يَخْطُرُ بِالْبَالِ عِنْدَ ذِكْرِ الْبَرْقِ.
وَقَوْلُهُ مِنْ آياتِهِ جَارٌّ وَمَجْرُورٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ كَوْنٍ إِنْ كَانَ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا، أَوْ إِلَى مُتَعَلَّقٍ إِنْ كَانَ ظَرْفًا لَغْوًا. وَمُوقِعُ هَذَا الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَارِدٌ عَلَى مِثْلِ مَوَاقِعِ أَمْثَالِهِ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ الشَّبِيهَةِ بِهَا، وَذَلِكَ مِمَّا يَدْعُو إِلَى اعْتِبَارِ مَا يُذْكَرُ بَعْدَ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ فِي مَعْنَى مُبْتَدَأٍ مُخْبَرٍ عَنْهُ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ الْمُقَدَّمِ عَلَيْهِ حَمْلًا عَلَى نَظَائِرِهِ، فَيَكُونُ الْمَعْنى: وَمن ءاياته إِرَاءَتُهُ إِيَّاكُمُ الْبَرْقَ إِلَخْ. فَلِذَلِكَ قَالَ أَيِمَّةُ النَّحْوِ: يَجُوزُ هُنَا جَعْلُ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ مِنْ غَيْرِ وُجُودِ (أَنْ) وَلَا تَقْدِيرِهَا، أَيْ مِنْ غَيْرِ نَصْبِ الْمُضَارِعِ بِتَقْدِيرِ (أَنْ) مَحْذُوفَةٍ، وَجَعَلُوا مِنْهُ قَوْلَ عُرْوَةَ بْنِ الْوَرْدِ:
وَقَالُوا مَا تَشَاءُ فَقُلْتُ أَلْهُو
…
إِلَى الْإِصْبَاحِ آثَرُ ذِي آثَارِ
وَقَوْلَ طَرَفَةَ:
أَلَا أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أحْضُرُ الْوَغَى وَجَعَلُوا مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر: 64] بِرَفْعِ أَعْبُدُ فِي مَشْهُورِ الْقِرَاءَاتِ، وَقَوْلَهُمْ فِي الْمَثَلِ: تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ،
وَقَوْلَ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ تَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةً، وَتُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَحْمِلُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةً»
وَقَوْلَهَ فِيهِ: «وَتُمِيطُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةً» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَمِنْ بَدِيعِ الِاسْتِعْمَالِ تَفَنُّنُ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ مَعَانِي الْمَصْدَرِ بِأَنْوَاعِ صِيَغِهِ الْوَارِدَةِ فِي الِاسْتِعْمَالِ، مِنْ تَعْبِيرٍ بِصِيغَةِ صَرِيحِ الْمَصْدَرِ تَارَةً كَقَوْلِهِ وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الرّوم: 22] وَقَوْلِهِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ [الرّوم: 23]، وَبِالْمَصْدَرِ الَّذِي يَنْسَبِكُ مِنِ اقْتِرَانِ أَنْ الْمَصْدَرِيَّةِ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً [الرّوم: 21] وَاقْتِرَانِهَا بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الرّوم:
25] ،