الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَجَبَ فِي صُدُورٍ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَجِيئُونَ بِمِثْلِ تِلْكَ الْأَوْهَامِ مُدَّةَ كَوْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَتَصْرِفُهُمْ أَوْهَامُهُمْ عَنِ الْيَقِينِ، وَكَانُوا يُقْسِمُونَ عَلَى عَقَائِدِهِمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النَّحْل: 38] اسْتِخْفَافًا بِالْأَيْمَانِ، وَكَذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى انْصِرَافِهِمْ عَنِ الْحَقِّ يَوْمَ الْبَعْثِ.
وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ الْمُشَبَّهُ بِهِ وَالْمُشَبَّهُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ كَافُ التَّشْبِيهِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِفْكًا مِثْلَ إِفْكِهِمْ هَذَا كَانُوا يُؤْفَكُونَ بِهِ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا. وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّشْبِيهِ الْمُمَاثَلَةُ وَالْمُسَاوَاةُ.
وَالْأَفْكُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ: الصَّرْفُ وَهُوَ مِنْ بَابِ ضَرَبَ، وَيُعَدَّى إِلَى الشَّيْءِ الْمَصْرُوفِ عَنْهُ بِحَرْفِ (عَنْ)، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [60] . وَلَمْ يُسْنَدْ إِفْكُهُمْ إِلَى آفِكٍ مُعَيَّنٍ لِأَنَّ بَعْضَ صَرْفِهِمْ يَكُونُ مِنْ أَوْلِيَائِهِمْ وَأَيِمَّةِ دِينِهِمْ، وَبَعْضَهُ مِنْ طَبْعِ اللَّهِ عَلَى قُلُوبِهِمْ.
وَإِقْحَامُ فِعْلِ كانُوا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِي زَمَانٍ قَبْلَ ذَلِكَ الزَّمَنِ، أَيْ فِي زَمَنِ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ خُلُقٌ تَخَلَّقُوا بِهِ وَصَارَ لَهُمْ كَالسَّجِيَّةِ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَعَادَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ أَرْوَاحَهُمْ صَدَرَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا تَخَلَّقُوا بِهِ وَقَالَ تَعَالَى: قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ الْآيَة [طه: 125- 127] وَفِي هَذَا الْخَبَرِ أَدَبٌ عَظِيمٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَحَامَوُا الرَّذَائِلَ وَالْكَبَائِرَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَشْيَةَ أَنْ تَصِيرَ لَهُمْ خُلُقًا فيحشروا عَلَيْهَا.
[56]
[سُورَة الرّوم (30) : آيَة 56]
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56)
جَعَلَ اللَّهُ مُنْكِرِي الْبَعْثِ هدفا لسهام التَّغْلِيظ وَالِافْتِضَاحِ فِي وَقْتِ النُّشُورِ، فَلَمَّا سَمِعَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ أُوتُوا عِلْمَ الْقُرْآنِ وَأَشْرَقَتْ عُقُولُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِالْعَقَائِدِ
الصَّحِيحَةِ وَآثَارِ الْحِكْمَةِ لَمْ يَتَمَالَكُوا أَنْ لَا يَرُدُّوا عَلَيْهِمْ غَلَطَهُمْ رَدًّا يَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ أَنْ لَا يَكُونُوا قَبِلُوا دَعْوَةَ الْحَقِّ كَمَا قَبِلَهَا الْمُؤْمِنُونَ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ. وَعَطَفَ الْإِيمَانَ على الْعلم للاهتمام بِهِ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِدُونِ إِيمَانٍ لَا يُرْشِدُ إِلَى الْعَقَائِدِ الْحَقِّ الَّتِي بِهَا الْفَوْزُ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ. وَالْمَعْنَى: وَقَالَ لَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ إِنْكَارًا عَلَيْهِمْ وَتَحْسِيرًا لَهُمْ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَسْمَعُونَ تَحَاجَّ الْمُشْرِكِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ فَيُبَادِرُونَ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ تَغْيِيرَ الْمُنْكَرِ سَجِيَّتَهُمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا. وَفِي هَذَا أَدَبٌ إِسْلَامِيٌّ وَهُوَ أَنَّ الَّذِي يَسْمَعُ الْخَطَأَ فِي الدِّينِ وَالْإِيمَانِ لَا يُقِرُّهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِهِ.
وَقَوْلُهُمْ: لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ صَرْفٌ لَهُمْ عَنْ تِلْكَ الْمَعْذِرَةِ كَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: دَعُوا عَنْكُمْ هَذَا فَلَا جَدْوَى فِيهِ وَاشْتَغِلُوا بِالْمَقْصُودِ وَمَا وُعِدْتُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْبَعْثِ. وَفِعْلُ لَبِثْتُمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ، أَيْ مَكَثْتُمْ، أَيِ اسْتَقْرَرْتُمْ فِي الْقُبُورِ، وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّحْزِينِ وَالتَّرْوِيعِ بِاعْتِبَارِ مَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنَ الْإِفْصَاحِ عَنْ حُضُورِ وَقْتِ عَذَابِهِمْ. وفِي مِنْ قَوْلِهِ فِي كِتابِ اللَّهِ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ لَبِثْتُمْ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ وَلَمْ يُعَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ لِأَجْلِ مَا جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ تَهْدِيدِهِمْ بِهَذَا الْيَوْمِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: 100]، أَيْ: لَقَدْ بَلَغَكُمْ ذَلِكَ وَسَمِعْتُمُوهُ فَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ وَلَا تَعْتَذِرُوا بِقَوْلِكُمْ مَا لَبِثْنَا غَيْرَ سَاعَةٍ.
وَالْفَاءُ فِي فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ فَاءُ الْفَصِيحَةِ أَفْصَحَتْ عَنْ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، وَتُفِيدُ مَعْنَى الْمُفَاجَأَةِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فِي سُورَةِ الْفرْقَان [19] ،
أَي إِذا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ كَالْفَاءِ فِي قَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ الْأَحْنَفِ:
قَالُوا خُرَاسَانُ أَقْصَى مَا يُرَادُ بِنَا
…
ثُمَّ الْقُفُولُ فَقَدْ جِئْنَا خَرَاسَانَا
وَهَذَا تَوْبِيخٌ لَهُمْ وَتَهْدِيدٌ وَتَعْجِيلٌ لِإِسَاءَتِهِمْ بِمَا يَتَرَقَّبُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ لِيَتَوَقَّعُوا كُلَّ سُوءٍ وَعَذَابٍ.