الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُنَادِي حَاجِزُ الْأَرْضِ. فَهَذَا إِطْنَابٌ أَفَادَ مَعْنًى لَا يُفِيدُهُ الْإِيجَازُ بِأَنْ يُقَالَ: وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ الْمَوْتَى.
وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الْأَحْياءُ والْأَمْواتُ تَفَنُّنًا فِي الْكَلَامِ بَعْدَ أَنْ أُورِدَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ بِالْإِفْرَادِ لِأَنَّ الْمُفْرَدَ وَالْجَمْعَ فِي الْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْجِنْسِ سَوَاءٌ إِذَا كَانَ اسْمًا لَهُ أَفْرَادٌ بِخِلَافِ النُّورِ وَالظِّلِّ وَالْحَرُورِ، وَأَمَّا جَمْعُ الظُّلُماتُ فَقَدْ عَلِمْتَ وَجْهَهُ آنِفًا.
وَجُمْلَةُ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ أَفَادَتْ قَصْرًا إِضَافِيًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُعَالَجَةِ تَسْمِيعِهِمُ الْحَقَّ، أَيْ أَنْتَ نَذِيرٌ لِلْمُشَابِهِينَ مَنْ فِي الْقُبُورِ وَلَسْتَ بمدخل الْإِيمَان فِي قُلُوبِهِمْ، وَهَذَا مَسُوقٌ مَسَاقَ الْمَعْذِرَةِ لِلنَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم وَتَسْلِيَتِهِ إِذْ كَانَ مُهْتَمًّا مِنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ.
وَالنَّذِيرُ: الْمُنْبِئُ عَنْ تَوَقُّعِ حُدُوثِ مَكْرُوهٍ أَوْ مُؤْلِمٍ.
وَالِاقْتِصَارُ عَلَى وَصْفِهِ بِالنَّذِيرِ لِأَنَّ مَسَاقَ الْكَلَامِ عَلَى الْمُصَمِّمِينَ على الْكفْر.
[24]
[سُورَة فاطر (35) : آيَة 24]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَاّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24)
اسْتِئْنَافُ ثَنَاءٍ عَلَى النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم وَتَنْوِيهٌ بِهِ وَبِالْإِسْلَامِ. وَفِيهِ دَفْعُ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ قَصْرُهُ عَلَى النِّذَارَةِ قَصْرًا حَقِيقًا لِتَبَيُّنِ أَنَّ قَصْرَهُ عَلَى النِّذَارَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ شَابَهَ حَالُهُمْ حَالَ أَصْحَابِ الْقُبُورِ، أَيْ إِنَّ رِسَالَتَكَ تَجْمَعُ بِشَارَةً وَنِذَارَةً فَالْبِشَارَةُ لِمَنْ قَبِلَ الْهُدَى، وَالنِّذَارَةُ لِمَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَقٌّ لِأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى حَسَبِ الْقَبُولِ، فَهِيَ رِسَالَةٌ مُلَابِسَةٌ لِلْحَقِّ وَوَضْعِ الْأَشْيَاءِ مَوَاضِعَهَا.
فَقَوْلُهُ: بِالْحَقِّ إِمَّا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ فِي أَرْسَلْناكَ أَيْ مُحِقِّينَ غَيْرَ لَاعِبِينَ، أَوْ مِنْ كَافِ الْخِطَابِ، أَيْ مُحِقًّا أَنْتَ غَيْرَ كَاذِبٍ، أَوْ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ إِرْسَالًا مُلَابَسًا بِالْحَقِّ لَا يَشُوبُهُ شَيْءٌ مِنَ الْبَاطِلِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ إِبْطَالٌ لِاسْتِبْعَادِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُرْسِلَ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ بَشَرًا مِنْهُمْ، فَإِنَّ تِلْكَ الشُّبْهَةَ كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ مَا صَدَّهُمْ عَنِ التَّصْدِيقِ
بِهِ، فَلِذَلِكَ أُتْبِعَتْ دَلَائِلُ الرِّسَالَةِ بِإِبْطَالِ الشُّبْهَةِ الْحَاجِبَةِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الْأَحْقَاف: 9] .
وَأَيْضًا فِي ذَلِكَ تَسْفِيهٌ لِأَحْلَامِهِمْ إِذْ رَضُوا أَنْ يَكُونُوا دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي شَرُفَتْ بِالرِّسَالَةِ.
وَوَجْهُ الِاقْتِصَارِ عَلَى وَصْفِ النَّذِيرِ هُنَا دُونَ الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَصْفِ الْبَشِيرِ هُوَ مُرَاعَاةُ الْعُمُومِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ، فَإِنَّ مِنَ الْأُمَمِ مَنْ لَمْ تَحْصُلْ لَهَا بِشَارَةٌ لِأَنَّهَا لَمْ يُؤْمِنْ مِنْهَا أَحَدٌ،
فَفِي الْحَدِيثِ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ فَجَعَلَ النَّبِيءُ يَمُرُّ مَعَهُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيءُ يَمُرُّ مَعَهُ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ، وَالنَّبِيءُ يَمُرُّ وَحْدَهُ»
الْحَدِيثَ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ مَرُّوا وَحْدَهُمْ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِبْ لَهُمْ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَقَدْ يَكُونُ عَدَمُ ذِكْرِ وَصْفِ الْبِشَارَةِ لِلِاكْتِفَاءِ بِذِكْرِ قَرِينَةٍ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَأُوثِرَ وَصْفُ النَّذِيرِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ مُنَاسَبَةً لِمَقَامِ خِطَابِ الْمُكَذِّبِينَ.
وَمَعْنَى الْأُمَّةِ هُنَا: الْجَذْمُ الْعَظِيمُ مِنْ أَهْلِ نَسَبٍ يَنْتَهِي إِلَى جَدٍّ وَاحِدٍ جَامِعٍ لِقَبَائِلَ كَثِيرَةٍ لَهَا مَوَاطِنُ مُتَجَاوِرَةٌ مِثْلَ أُمَّةِ الْفُرْسِ وَأُمَّةِ الرُّومِ وَأُمَّةِ الصِّينِ وَأُمَّةِ الْهِنْد وَأمة اليونان وَأُمَّةِ إِسْرَائِيلَ وَأُمَّةِ الْعَرَبِ وَأُمَّةِ الْبَرْبَرِ فَمَا مِنْ أُمَّةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَّا وَقَدْ سَبَقَ فِيهَا نَذِيرٌ، أَيْ رَسُولٌ أَوْ نَبِيءٌ يُنْذِرُهُمْ بِالْمُهْلِكَاتِ وَعَذَابِ الْآخِرَةِ. فَمِنَ الْمُنْذِرِينَ مَنْ عَلِمْنَاهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْذَرُوا وَانْقَرَضُوا وَلَمْ يَبْقَ خَبَرُهُمْ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غَافِر: 78] .
وَالْحِكْمَةُ فِي الْإِنْذَارِ أَنْ لَا يَبْقَى الضَّلَالُ رَائِجًا وَأَنْ يَتَخَوَّلَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ سَوَاءً عمِلُوا بهَا أَو لم يعلمُوا فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ أَثَرٍ صَالِحٍ فِيهِمْ. وَإِنَّمَا لَمْ يُسَمِّ الْقُرْآنُ إِلَّا الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْأُمَمِ السَّامِيَّةِ الْقَاطِنَةِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ وَمَا جَاوَرَهَا لِأَنَّ الْقُرْآنَ حِينَ نُزُولِهِ ابْتَدَأَ بِخِطَابِ الْعَرَبِ وَلَهُمْ عِلْمٌ بِهَؤُلَاءِ الْأَقْوَامِ فَقَدْ عَلِمُوا أَخْبَارَهُمْ وَشَهِدُوا آثَارَهُمْ فَكَانَ الِاعْتِبَارُ بِهِمْ أَوْقَعَ، وَلَوْ ذُكِرَتْ لَهُمْ رُسُلُ أُمَمٍ لَا يَعْرِفُونَهُمْ لَكَانَ إِخْبَارُهُمْ عَنْهُمْ مُجَرَّدَ حِكَايَةٍ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ اسْتِدْلَال وَاعْتِبَار.