الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[45- 46]
[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : الْآيَات 45 الى 46]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46)
هَذَا النداء الثَّالِث للنبيء صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا أَبْلَغَهُ بِالنِّدَاءِ الْأَوَّلِ مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِذَاتِهِ، وَبِالْنِدَاءِ الثَّانِي مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَزْوَاجِهِ وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنَ التَّكْلِيفِ وَالتَّذْكِيرِ، نَادَاهُ بِأَوْصَافٍ أَوْدَعَهَا سُبْحَانَهُ فِيهِ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِ، وَزِيَادَةِ رِفْعَةِ مِقْدَارِهِ وَبَيَّنَ لَهُ أَرْكَانَ رِسَالَتِهِ، فَهَذَا الْغَرَضُ هُوَ وَصْفُ تَعَلُّقَاتِ رِسَالَتِهِ بِأَحْوَالِ أُمَّتِهِ وَأَحْوَالِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ.
وَذُكِرَ لَهُ هُنَا خَمْسَةُ أَوْصَافٍ هِيَ: شَاهَدٌ. وَمُبَشِّرٌ. وَنَذِيرٌ. وَدَاعٍ إِلَى اللَّهِ. وَسِرَاجٌ مُنِيرٌ. فَهَذِهِ الْأَوْصَافُ يَنْطَوِي إِلَيْهَا وَتَنْطَوِي عَلَى مَجَامِعِ الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا مِنْ بَيْنِ أَوْصَافِهِ الْكَثِيرَةِ.
وَالشَّاهِدُ: الْمُخْبِرُ عَنْ حُجَّةِ الْمُدَّعِي الْمُحِقِّ وَدَفْعِ دَعْوَى الْمُبْطِلِ، فَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم شَاهِدٌ بِصِحَّةِ مَا هُوَ صَحِيحٌ مِنَ الشَّرَائِعِ وَبَقَاءِ مَا هُوَ صَالِحٌ لِلْبَقَاءِ مِنْهَا وَيَشْهَدُ بِبُطْلَانِ مَا أُلْصِقَ بِهَا وَبِنَسْخِ مَا لَا يَنْبَغِي بَقَاؤُهُ مِنْ أَحْكَامِهَا بِمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، قَالَ تَعَالَى:
مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [الْمَائِدَة: 48] .
وَفِي حَدِيثِ الْحَشْرِ: «يَسْأَلُ كل رَسُول هَل بَلَّغَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيَقُولُ اللَّهُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ»
…
الْحَدِيثَ.
وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم شَاهِدٌ أَيْضًا عَلَى أُمَّتِهِ بِمُرَاقَبَةِ جَرْيِهِمْ عَلَى الشَّرِيعَةِ فِي حَيَاتِهِ وَشَاهِدٌ عَلَيْهِمْ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاء: 41] فَهُوَ شَاهِدٌ عَلَى الْمُسْتَجِيبِينَ لِدَعْوَتِهِ وَعَلَى الْمَعْرِضِينَ عَنْهَا، وَعَلَى مَنِ اسْتَجَابَ لِلدَّعْوَةِ ثُمَّ بَدَّلَ.
وَفِي حَدِيثِ الْحَوْضِ: «لِيَرِدَنَّ عَلَيَّ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِي الْحَوْضَ حَتَّى إِذَا رَأَيْتُهُمْ وَعَرَفْتُهُمُ
اخْتُلِجُوا دُونِي فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُصَيْحَابِي أُصَيْحَابِي. فَيُقَالُ لِي: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ تَبًّا وَسُحْقًا لِمَنْ أَحْدَثَ بَعْدِي»
يَعْنِي: أَحْدَثُوا الْكُفْرَ وَهُمْ أَهْلُ الرِّدَّةِ كَمَا
فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ: «إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ»
. فَلَا جَرَمَ كَانَ وَصْفُ الشَّاهِدِ أَشْمَلَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بِوَصْفِ كَوْنِهِ رَسُولًا لِهَذِهِ الْأَمَةِ، وَبِوَصْفِ كَوْنِهِ خَاتَمًا لِلشَّرَائِعِ وَمُتَمِّمًا لِمُرَادِ اللَّهِ مِنْ بِعْثَةِ الرُّسُلِ.
وَالْمُبَشِّرُ: الْمُخْبِرُ بِالْبُشْرَى وَالْبِشَارَةِ. وَهِيَ الْحَادِثُ الْمُسِرُّ لِمَنْ يُخْبَرُ بِهِ والوعد بِالْعَطِيَّةِ، والنبيء صلى الله عليه وسلم مُبَشِّرٌ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْمُطِيعِينَ بِمَرَاتِبِ فَوْزِهِمْ. وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْوَصْفُ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَى الْخَيْرِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَهُوَ قِسْمُ الِامْتِثَالِ مِنْ قِسْمَيِ التَّقْوَى، فَإِنَّ التَّقْوَى امْتِثَالُ الْمَأْمُورَاتِ وَاجْتِنَابُ الْمَنْهِيَّاتِ، وَالْمَأْمُورَاتُ مُتَضَمِّنَةٌ الْمَصَالِحَ فَهِيَ مُقْتَضِيَةٌ بِشَارَةَ فَاعِلِيهَا بِحُسْنِ الْحَالِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ.
وَقُدِّمَتِ الْبِشَارَةُ عَلَى النذارة لِأَن النبيء صلى الله عليه وسلم غَلَبَ عَلَيْهِ التَّبْشِيرُ لِأَنَّهُ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ، وَلِكَثْرَةِ عَدَدِ الْمُؤْمِنِينَ فِي أُمَّتِهِ.
وَالنَّذِيرُ: مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِنْذَارِ وَهُوَ الْإِخْبَارُ بِحُلُولِ حَادِثٍ مُسِيءٍ أَوْ قرب حُلُوله، والنبيء عليه الصلاة والسلام مُنْذِرٌ لِلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ دِينِهِ مِنْ كَافِرِينَ بِهِ وَمِنْ أَهْلِ الْعِصْيَانِ بِمُتَفَاوِتِ مُؤَاخَذَتِهِمْ عَلَى عَمَلِهِمْ.
وَانْتَصَبَ شاهِداً عَلَى الْحَالِ مِنْ كَافِ الْخِطَابِ وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ أَرْسَلْنَاكَ مُقَدَّرًا أَنْ تَكُونَ شَاهِدًا عَلَى الرُّسُلِ وَالْأُمَمِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَمَثَّلَ سِيبَوَيْهِ لِلْحَالِ الْمُقَدَّرَةِ بِقَوْلِهِ: مُرِرْتُ بِرَجُلٍ مَعَهُ صَقْرٌ صَائِدًا بِهِ.
وَجِيءَ فِي جَانِبِ النِّذَارَةِ بِصِيغَةِ فَعِيلٍ دُونَ اسْم الْفَاعِل لإِرَادَة الِاسْمِ فَإِنَّ النَّذِيرَ فِي كَلَامِهِمُ اسْمٌ لِلْمُخْبِرِ بِحُلُولِ الْعَدُوِّ بِدِيَارِ الْقَوْمِ. وَمِنَ الْأَمْثَالِ: أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ، أَيِ الْآتِي بِخَبَرِ حُلُولِ العدوّ بديار قوم. وَالْمُرَادُ بِالْعُرْيَانِ أَنَّهُ يَنْزِعُ عَنْهُ قَمِيصَهُ لِيُشِيرَ بِهِ مِنْ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ فَيَرَاهُ مَنْ لَا يَسْمَعُ نِدَاءَهُ، فَالْوَصْفُ بِنَذِيرٍ تَمْثِيلٌ بِحَالِ نَذِيرِ الْقَوْمِ كَمَا قَالَ: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ [سبأ: 46] لِلْإِيمَاءِ إِلَى تَحْقِيقِ مَا أَنْذَرَهُمْ بِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ حَلَّ بِهِمْ وَكَأَنَّ الْمُخْبِرَ عَنْهُ مُخْبِرٌ عَنْ أَمْرٍ قَدْ وَقَعَ، وَهَذَا لَا يُؤَدِّيهِ إِلَّا اسْمُ النَّذِيرِ، وَلِذَلِكَ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ الْوَصْفُ بِالنَّذِيرِ وَقَلَّ الْوَصْفُ بِمُنْذِرٍ.
وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشُّعَرَاء: 214] خَرَجَ حَتَّى صَعَدَ الصَّفَا، فَنَادَى: يَا
صَبَاحَاهْ (كَلِمَةٌ يُنَادِي بِهَا مَنْ يَطْلُبُ النَّجْدَةَ) فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنَّ أَخْبَرَتْكُمْ أَنَّ خَيْلًا تَخْرُجُ مِنْ سَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ»
. فَهَذَا يُشِيرُ إِلَى تَمْثِيلِ الْحَالَةِ الَّتِي اسْتَخْلَصَهَا
بِقَوْلِهِ: (فَإِنِّي نَذِيرٌ
لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)
. وَمَا فِي بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ مِنْ مَعْنَى التَّقْرِيبِ.
وَشَمَلَ اسْمُ النَّذِيرِ جَوَامِعَ مَا فِي الشَّرِيعَةِ مِنَ النَّوَاهِي وَالْعُقُوبَاتِ وَهُوَ قِسْمُ الِاجْتِنَابِ مِنْ قِسْمَيِ التَّقْوَى فَإِنَّ الْمَنْهِيَّاتِ مُتَضَمِّنَةٌ مَفَاسِدَ فَهِيَ مُقْتَضِيَةٌ تَخْوِيفَ الْمُقْدِمِينَ عَلَى فِعْلِهَا مِنْ سُوءِ الْحَالِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ.
وَالدَّاعِي إِلَى اللَّهِ هُوَ الَّذِي يَدْعُو النَّاسَ إِلَى تَرْكِ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى اتِّبَاعِ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ اللَّهُ. وَأَصْلُ دَعَاهُ إِلَى فُلَانٍ: أَنَّهُ دَعَاهُ إِلَى الْحُضُورِ عِنْدَهُ، يُقَالُ: ادْعُ فَلَانًا إليَّ.
وَلَمَّا عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ جِهَةٍ يَحْضُرُهَا النَّاسُ عِنْدَهُ تَعَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى الدُّعَاءِ إِلَيْهِ الدُّعَاءُ إِلَى تَرْكِ الِاعْتِرَافِ بِغَيْرِهِ (كَمَا يَقُولُونَ: أَبُو مُسلم الْخُرَاسَانِي يَدْعُو إِلَى الرِّضَى مِنْ آلِ الْبَيْتِ) فَشَمَلَ هَذَا الْوَصْفُ أُصُولَ الِاعْتِقَادِ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِصِفَاتِ اللَّهِ لِأَنَّ دَعْوَةَ اللَّهِ دَعْوَةٌ إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِصِفَاتِ الدُّعَاةِ إِلَيْهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَيْهِمْ.
وَزِيَادَةُ بِإِذْنِهِ لِيُفِيدَ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ دَاعِيًا إِلَيْهِ وَيَسَّرَ لَهُ الدُّعَاءَ إِلَيْهِ مَعَ ثِقْلِ أَمْرِ هَذَا الدُّعَاءِ وَعِظَمِ خَطَرِهِ وَهُوَ مَا كَانَ استشعره النبيء صلى الله عليه وسلم فِي مَبْدَأِ الْوَحْيِ مِنَ الْخَشْيَةِ إِلَى أَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ [المدثر: 1، 2]، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى لِمُوسَى: لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى [طه: 68] ، فَهَذَا إِذْنٌ خَاصٌّ وَهُوَ الْإِذْنُ بَعْدَ الْإِحْجَامِ الْمُقْتَضِي لِلتَّيْسِيرِ، فَأَطْلَقَ اسْمَ الْإِذْنِ عَلَى التَّيْسِيرِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى خِطَابًا لِعِيسَى عليه السلام: وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي [الْمَائِدَة: 110] وَقَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْ عِيسَى فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طائرا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمرَان: 49] .
وَقَوْلُهُ وَسِراجاً مُنِيراً تَشْبِيه بليغ بطرِيق الْحَالِيَّةِ وَهُوَ طَرِيقٌ جَمِيلٌ، أَيْ أَرْسَلْنَاكَ كَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ فِي الْهِدَايَةِ الْوَاضِحَةِ الَّتِي لَا لَبْسَ فِيهَا وَالَّتِي لَا تَتْرُكُ لِلْبَاطِلِ شُبْهَةً إِلَّا فَضَحَتْهَا وَأَوْقَفَتِ النَّاسَ عَلَى دَخَائِلِهَا، كَمَا يُضِيءُ السِّرَاجُ الْوَقَّادُ ظُلْمَةَ الْمَكَانِ. وَهَذَا الْوَصْفُ يَشْمَلُ مَا جَاءَ بِهِ النبيء صلى الله عليه وسلم مِنَ الْبَيَانِ وَإِيضَاحِ الِاسْتِدْلَالِ وَانْقِشَاعِ مَا كَانَ قبله فِي الْأَدْيَانِ مِنْ مَسَالِكٍ لِلتَّبْدِيلِ وَالتَّحْرِيفِ فَشَمَلَ مَا فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ أُصُولِ الِاسْتِنْبَاطِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ وَالْعِلْمِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ يُشَبَّهُ
بِالنُّورِ فَنَاسَبَهُ السِّرَاجُ الْمُنِيرُ. وَهَذَا وَصْفٌ شَامِلٌ لِجَمِيعِ
الْأَوْصَافِ الَّتِي وُصِفَ بِهَا آنِفًا فَهُوَ كَالْفَذْلَكَةِ وَكَالتَّذْيِيلِ.
وَوُصِفَ السِّرَاجُ بِ مُنِيراً مَعَ أَنَّ الْإِنَارَةَ مِنْ لَوَازِمِ السِّرَاجِ هُوَ كَوَصْفِ الشَّيْءِ بِالْوَصْفِ الْمُشْتَقِّ مِنْ لَفْظِهِ فِي قَوْلِهِ: شِعْرُ شَاعِرٍ، وَلَيْلٌ أَلْيَلُ لِإِفَادَةِ قُوَّةِ مَعْنَى الِاسْمِ فِي الْمَوْصُوفِ بِهِ الْخَاصِّ فَإِن هدى النبيء صلى الله عليه وسلم هُوَ أَوْضَحُ الْهُدَى. وَإِرْشَادُهُ أَبْلَغُ إِرْشَادٍ.
رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ «التَّفْسِيرِ» مِنْ صَحِيحِهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى سُورَةِ الْفَتْحِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً قَالَ فِي التَّوْرَاةِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ (أَوْ وَيَغْفِرُ) وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيَفْتَحَ (أَوْ فَيَفْتَحُ) بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غَلْفَاءَ» اهـ.
وَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو «فِي التَّوْرَاةِ» يَعْنِي بِالتَّوْرَاةِ: أَسْفَارُ التَّوْرَاةِ وَمَا مَعَهَا مِنْ أَسْفَارِ الْأَنْبِيَاءِ إِذْ لَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِيمَا رَأَيْتُ مِنَ الْأَسْفَارِ الْخَمْسَةِ الْأَصْلِيَّةِ مِنَ التَّوْرَاةِ.
وَهَذَا الَّذِي حَدَّثَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَرَأَيْتُ مُقَارِبَهُ فِي سِفْرِ النَّبِيءِ أَشْعِيَاءَ مِنَ الْكُتُبِ الْمعبر عَنْهَا بِالتَّوْرَاةِ تَغْلِيبًا وَهِيَ الْكُتُبُ الْمُسَمَّاةُ بِالْعَهْدِ الْقَدِيمِ وَذَلِكَ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ مِنْهُ بِتَغْيِيرٍ قَلِيلٍ (أَحْسَبُ أَنَّهُ مِنَ اخْتِلَافِ التَّرْجَمَةِ أَوْ مِنْ تَفْسِيرَاتِ بَعْضِ الْأَحْبَارِ وَتَأْوِيلَاتِهِمْ) ، فَفِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ مِنْهُ «هُوَ ذَا عَبْدَيِ الَّذِي أَعْضُدُهُ مُخْتَارِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي، وَضَعْتُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْرِجُ الْحَقَّ للأمم، لَا يَصِيح ولَا يَرْفَعُ وَلَا يُسْمَعُ فِي الشَّارِعِ صَوْتُهُ، قَصَبَةٌ مرضوضة لَا تقصف، وَفَتِيلَةٌ خَامِدَةٌ لَا تُطْفَأُ، إِلَى الْأَمَانِ يَخْرُجُ الْحَقُّ، لَا يَكِلُّ وَلَا يَنْكَسِرُ حَتَّى يَضَعَ الْحَقَّ فِي الْأَرْضِ وَتَنْتَظِرَ الْجَزَائِرُ (1) شَرِيعَتَهُ
(1) الجزائر: جَزِيرَة الْعَرَب، لقَوْله فِي هَذَا السّفر فِي هَذَا «الإصحاح» :«والجزائر وسكانها لترفع الْبَريَّة ومدنها صَوتهَا الديار الَّتِي سكنها (قيدار) » فَإِن قيدار اسْم ابْن إِسْمَاعِيل كَمَا فِي سفر التكوين. فَأَرَادَ: نسل قيدار وهم الإسماعيليون وهم الأميون.
أَنَا الرَّبُّ قَدْ دَعَوْتُكَ بِالْبِرِّ فَأُمْسِكُ بِيَدِكَ وَأَحْفَظُكَ وَأَجْعَلُكَ عَهْدًا لِلشَّعْبِ وَنُورًا لِلْأُمَمِ لِنَفْتَحَ عُيُونَ الْعُمْيِ لِتُخْرِجَ مِنَ الْحَبْسِ الْمَأْسُورِينَ مِنْ بَيْتِ السِّجْنِ، الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ، أَنَا الرَّبُّ هَذَا اسْمِي وَمَجْدِي لَا أُعْطِيهِ لِآخَرَ» .
وَإِلَيْكَ نَظَائِرُ صِفَتِهِ الَّتِي فِي التَّوْرَاةِ مِنْ صِفَاتِهِ فِي الْقُرْآنِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً نَظِيرُهَا هَذِهِ الْآيَةُ وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ سُورَةُ الْجُمُعَةِ [2] ) أَنْتِ عَبْدِي وَرَسُولِي (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ سُورَةُ الْكَهْفِ [1] ) سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ سُورَةُ الْأَحْزَابِ [3] ) لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ (سُورَةُ آلِ عِمْرَانِ [159] ) وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ سُورَةُ لُقْمَانَ [19] ) وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ (وادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ سُورَةُ فُصِّلَتْ [34] ) وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ سُورَةُ الْعُقُودِ [13] ) وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً سُورَةُ الْمَائِدَةِ [3] ) وَيَفْتَحُ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا (خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [7] فِي ذِكْرِ الَّذِينَ كَفَرُوا مُقَابِلًا لِذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ قَبْلَهُ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الْآيَةَ [2] ) .
وَلْنُذَكِّرْ هُنَا مَا فِي سِفْرِ أَشْعِيَاءَ وَنُقْحِمُ فِيهِ بَيَانَ مُقَابَلَةِ كَلِمَاتِهِ بِالْكَلِمَاتِ الَّتِي جَاءَتْ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو.
جَاءَ فِي «الْإِصْحَاحِ» الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ مِنْ سِفْرِ أَشْعِيَاءَ: هُوَ ذَا عَبْدَيْ (أَنْتَ عَبْدِي) «الَّذِي أَعْضُدُهُ مُخْتَارِي (وَرَسُولَيِ) الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي، وَضَعَتُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْرِجُ الْحَقَّ لِلْأُمَمِ لَا يَصِيحُ (لَيْسَ بِفَظٍّ) وَلَا يَرْفَعُ (وَلَا غَلِيظٍ) وَلَا يُسْمَعُ فِي الشَّارِعِ صَوْتُهُ (وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ) قَصَبَةٌ مَرْضُوضَةٌ لَا يُقْصَفُ (وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ) وَفَتِيلَةٌ خامدة لَا يطفا (يَعْفُو وَيَصْفَحُ) إِلَى الْأَمَانِ يُخْرِجُ الْحَقَّ (وَحِرْزًا) لَا يَكِلُّ وَلَا يَنْكَسِرُ حَتَّى يَضَعَ الْحَقَّ فِي الْأَرْضِ (وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ) وَتَنْتَظِرُ الْجَزَائِرُ شَرِيعَتَهُ (لِلْأُمِّيِّينَ) أَنَا الرَّبُّ قَدْ دَعَوْتُكَ بِالْبِرِّ فَأُمْسِكُ بِيَدِكَ (سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلُ) وَأَحْفَظُكَ (وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ) وَأَجْعَلُكَ عَهْدًا