الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَوْ أُرِيدَ أَنَّ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ وَاعِدٌ وَمَوْعُودٌ فِي الرُّؤَسَاءِ وَأَيِمَّةِ الْكُفْرِ يَعِدُونَ الْعَامَّةَ نَفْعَ الْأَصْنَامِ وَشَفَاعَتِهَا وَتَقْرِيبِهَا إِلَى اللَّهِ وَنَصْرِهَا غُرُورًا بِالْعَامَّةِ وَالْعَامَةُ تَعِدُ رُؤَسَاءَهَا التَّصْمِيمَ عَلَى الشِّرْكِ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها [الْفرْقَان: 42] .
وإِنْ نَافِيَةٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّعٌ عَنْ جِنْسِ الْوَعْدِ مَحْذُوفًا.
وَانْتَصَبَ غُرُوراً عَلَى أَنه صفة للمستثنى الْمَحْذُوفِ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَعْدًا إِلَّا وَعْدًا غُرُورًا.
وَالْغُرُورُ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ فِي آل عمرَان [196] .
[41]
[سُورَة فاطر (35) : آيَة 41]
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41)
انْتِقَالٌ مِنْ نَفْيِ أَنْ يَكُونَ لِشُرَكَائِهِمْ خَلْقٌ أَوْ شَرِكَةُ تَصَرُّفٍ فِي الْكَائِنَاتِ الَّتِي فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَى إِثْبَاتِ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْقَيُّومُ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِتَبْقَيَا مَوْجُودَتَيْنِ فَهُوَ الْحَافِظُ بقدرته نظام بقائهما. وَهَذَا الْإِمْسَاكُ هُوَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ بِنِظَامِ الْجَاذِبِيَّةِ بِحَيْثُ لَا يَعْتَرِيهِ خَلَلٌ.
وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْحِفْظِ بِالْإِمْسَاكِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ.
وَحَقِيقَةُ الْإِمْسَاكِ: الْقَبْضُ بِالْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ بِحَيْثُ لَا يَنْفَلِتُ وَلَا يَتَفَرَّقُ، فَمُثِّلَ حَالُ حِفْظِ نِظَامِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِحَالِ اسْتِقْرَارِ الشَّيْءِ الَّذِي يُمْسِكُهُ الْمُمْسِكُ بِيَدِهِ، وَلَمَّا كَانَ فِي الْإِمْسَاكِ مَعْنَى الْمَنْعِ عُدِيَّ إِلَى الزَّوَالِ بِ مِنْ، وَحُذِفَتْ كَمَا هُوَ شَأْنُ حُرُوفِ الْجَرِّ مَعَ إِنَّ وإِنَّ فِي الْغَالِبِ، وَأُكِّدَ هَذَا الْخَبَرُ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِتَحْقِيقِ مَعْنَاهُ وَأَنَّهُ لَا تَسَامُحَ فِيهِ وَلَا مُبَالَغَةَ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُمْسِكُ السَّماءَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [65] . ثُمَّ أُشِيرَ إِلَى أَنَّ شَأْنَ الْمُمْكِنَاتِ الْمَصِيرُ إِلَى الزَّوَالِ وَالتَّحَوُّلِ وَلَوْ بَعْدَ أَدْهَارٍ فَعُطِفَ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ:
وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، فَالزَّوَالُ الْمَفْرُوضُ أَيْضًا مُرَادٌ بِهِ اخْتِلَالُ نِظَامِهِمَا الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى تطاحنهما.
والزوال يُطْلَقُ عَلَى الْعَدَمِ، وَيُطْلَقُ عَلَى التَّحَوُّلِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَمِنْهُ زَوَالُ الشَّمْسِ عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ، وَتَقَدَّمَ آخِرَ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ.
وَقَدِ اخْتِيرَ هَذَا الْفِعْلُ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَعْنَاهُ الْمُشْتَرك فَإِن اللَّهَ يُمْسِكُهُمَا مِنْ أَنْ يُعْدَمَا، وَيُمْسِكُهُمَا مِنْ أَنْ يَتَحَوَّلَ نِظَامُ حَرَكَتِهِمَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ [يس: 40] . فَاللَّهُ مُرِيدٌ اسْتِمْرَارَ انْتِظَامِ حَرَكَةِ الْكَوَاكِبِ وَالْأَرْضِ عَلَى هَذَا النِّظَامِ الْمُشَاهَدِ الْمُسَمَّى بِالنِّظَامِ الشَّمْسِيِّ وَكَذَلِكَ نِظَامُ الْكَوَاكِبِ الْأُخْرَى الْخَارِجَةِ عَنْهُ إِلَى فَلَكِ الثَّوَابِتِ، أَيْ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ انْقِرَاضَ تِلْكَ الْعَوَالِمِ أَوْ بَعْضِهِا قَيَّضَ فِيهَا طَوَارِئَ الْخَلَلِ وَالْفَسَادِ وَالْخَرْقِ بَعْدَ الِالْتِئَامِ وَالْفَتْقِ بَعْدَ الرَّتْقِ، فَتَفَكَّكَتْ وَانْتَشَرَتْ إِلَى مَا لَا يَعْلَمُ مَصِيرَهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَحِينَئِذٍ لَا يَسْتَطِيعُ غَيْرُهُ مُدَافَعَةَ ذَلِكَ وَلَا إِرْجَاعَهَا إِلَى نِظَامِهَا السَّابِقِ فَرُبَّمَا اضْمَحَلَّتْ أَوِ اضْمَحَلَّ بَعْضُهَا، وَرُبَّمَا أَخَذَتْ مَسَالِكَ جَدِيدَةً مِنَ الْبَقَاءِ.
وَفِي هَذَا إِيقَاظٌ لِلْبَصَائِرِ لِتَعْلَمَ ذَلِكَ عِلْمًا إِجْمَالِيًّا وتتدبر فِي انتساق هَذَا النِّظَامِ الْبَدِيعِ.
فَالْلَّامُ مُوطِئَةٌ لِلْقَسَمِ. وَالشَّرْطُ وَجَوَابُهُ مُقْسَمٌ عَلَيْهِ، أَيْ مُحَقَّقٌ تَعْلِيقُ الْجَوَابِ بِالشَّرْطِ وَوُقُوعُهُ عِنْدَهُ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ هُوَ الْجُمْلَةُ الْمَنْفِيَّةُ بِ إِنَّ النَّافِيَةِ وَهِيَ أَيْضًا سَادَّةٌ مَسَدَّ جَوَابِ الْقَسَمِ.
وَإِذْ قَدْ تَحَقَّقَ بِالْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ أَنَّ اللَّهَ مُمْسِكُهُمَا عَنِ الزَّوَالِ عُلِمَ أَنَّ زَوَالَهُمَا الْمَفْرُوضَ
لَا يَكُونُ إِلَّا بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى زَوَالَهُمَا وَإِلَّا لَبَطَلَ أَنَّهُ مُمْسِكُهُمَا مِنَ الزَّوَالِ.
وَأَسْنَدَ فِعْلَ زالَتا إِلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضَ عَلَى تَأْوِيلِ السَّمَاوَاتِ بِسَمَاءٍ وَاحِدَةٍ. وَأَسْنَدَ الزَّوَالَ إِلَيْهِمَا لِلْعِلْمِ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يُزِيلُهُمَا لِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا.
وَجِيءَ فِي نَفْيِ إِمْسَاكِ أَحَدٍ بِحَرْفِ مِنْ الْمُؤَكِّدَةِ لِلنَّفْيِ تَنْصِيصًا عَلَى عُمُومِ
النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، أَيْ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ كَائِنًا مَنْ كَانَ إِمْسَاكَهُمَا وَإِرْجَاعَهُمَا.
وَ «من بعد» صفة أَحَدٍ ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَي أحد ناشىء أَوْ كَائِنٍ مِنْ زَمَانٍ بَعْدَهُ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ (بَعْدِ) تَأَخُّرُ زَمَانِ أَحَدٍ عَنْ زَمَنِ غَيْرِهِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ (بَعْدَ) وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ عَنِ الْمُغَايَرَةِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ لِأَنَّ بَعْدِيَّةَ الزَّمَانِ الْمُضَافِ تَقْتَضِي مُغَايِرَةَ صَاحِبِ تِلْكَ الْبَعْدِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ [الجاثية: 23] ، أَيْ غَيْرِ اللَّهِ فَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ (بَعْدَ) عَائِدٌ إِلَى الله تَعَالَى.
وَهَذَا نَظِيرُ اسْتِعْمَالِ (وَرَاءَ) بِمَعْنَى (دُونَ) أَوْ بِمَعْنَى (غَيْرَ) أَيْضًا فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ:
وَلَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ لِلْمَرْءِ مَذْهَبُ وَفِي ذِكْرِ إِمْسَاكِ السَّمَاوَاتِ عَنِ الزَّوَالِ بَعْدَ الْإِطْنَابِ فِي مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ وَتَفْظِيعِ غُرُورِهِمْ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ مَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْفَظَاعَةِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُزَلْزِلَ الْأَرَضِينَ وَيُسْقِطَ السَّمَاءَ كِسَفًا لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ بَقَاءَهُمَا لِحِكْمَةٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا يكَاد السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا [مَرْيَم: 89، 90] . وَهَذِهِ دَلَالَةٌ مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرَاكِيبِ بِاعْتِبَارِ مُثَارِ مَقَامَاتِ التَّكَلُّمِ بِهَا، وَهُوَ أَيْضًا تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ.
وَلِذَلِكَ أُتْبِعَ بِالتَّذْيِيلِ بِوَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى بالحلم وَالْمَغْفِرَة لما يَشْمَلُهُ صِفَةُ الْحَلِيمِ مِنْ حِلْمِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يُزْعِجَهُمْ بِفَجَائِعَ عَظِيمَةٍ، وَعَلَى الْمُشْرِكِينَ بِتَأْخِيرِ مُؤَاخَذَتِهِمْ فَإِنَّ التَّأْخِيرَ مِنْ أَثَرِ الْحِلْمِ، وَمَا تَقْتَضِيهِ صِفَةُ الْغَفُورِ مِنْ أَنَّ فِي الْإِمْهَالِ إِعْذَارًا لِلظَّالِمِينَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ كَمَا
قَالَ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم: «لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُهُ» لَمَّا رَأَى مَلَكَ الْجِبَالِ فَقَالَ لَهُ: «إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ»
. وَفِعْلُ كانَ الْمُخْبَرُ بِهِ عَنْ ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ مُفِيدٌ لِتَقَرُّرِ الِاتِّصَافِ بِالصِّفَتَيْنِ الْحُسْنَيَيْنِ