الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَهَذَا وَجْهُ إِيثَارِ الشَّرْطِ هُنَا بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ الَّذِي فِي حَيِّزِ الشَّرْطِ يَتَمَخَّضُ لِلِاسْتِقْبَالِ، أَيْ إِنْ حَدَثَ مِنْهُمْ تَكْذِيبٌ بَعْدَ مَا قَرَعَ أَسْمَاعَهُمْ مِنَ الْبَرَاهِينِ الدَّامِغَةِ.
وَالْمَذْكُورُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ إِنَّمَا هُوَ سَبَبٌ لِجَوَابٍ مَحْذُوفٍ إِذِ التَّقْدِيرُ: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَلَا يَحْزُنْكَ تَكْذِيبُهُمْ إِذْ قَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَاسْتُغْنِيَ بِالسَّبَبِ عَنِ الْمُسَبَّبِ لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ.
وَإِنَّمَا لَمْ يُعَرَّفْ رُسُلٌ وَجِيءَ بِهِ مُنَكَّرًا لِمَا فِي التَّنْكِيرِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى تَعْظِيمِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ زِيَادَةً عَلَى جَانِبِ صِفَةِ الرِّسَالَةِ مِنْ جَانِبِ كَثْرَتِهِمْ وَتَنَوُّعِ آيَاتِ صِدْقِهِمْ وَمَعَ ذَلِكَ كَذَّبَهُمْ أَقْوَامُهُمْ.
وَعُطِفَ عَلَى هَذِهِ التَّسْلِيَةِ وَالتَّعْرِيضِ مَا هُوَ كَالتَّأْكِيدِ لَهُمَا وَالتَّذْكِيرِ بِعَاقِبَةِ مَضْمُونِهَا بِأَنَّ أَمْرَ الْمُكَذِّبِينَ قَدْ آلَ إِلَى لِقَائِهِمْ جَزَاءَ تَكْذِيبِهِمْ مِنْ لَدُنِ الَّذِي تُرْجَعُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا، فَكَانَ أَمْرُ أُولَئِكَ الْمُكَذِّبِينَ وَأَمْرُ أُولَئِكَ الرُّسُلِ فِي جُمْلَةِ عُمُومِ الْأُمُورِ الَّتِي أُرْجِعَتْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِذْ لَا تَخْرُجُ أُمُورُهُمْ مِنْ نِطَاقِ عُمُومِ الْأُمُورِ.
وَقَدِ اكْتَسَبَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْنَى التَّذْيِيلِ بِمَا فِيهَا مِنَ الْعُمُومِ.
والْأُمُورُ جَمْعُ أَمْرٍ وَهُوَ الشَّأْنُ وَالْحَالُ، أَيْ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأَحْوَالُ كُلُّهَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا كَيفَ يَشَاء، فَتَكُونُ الْآيَةُ تَهْدِيدًا للمكذبين وإنذارا.
[5]
[سُورَة فاطر (35) : آيَة 5]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)
أُعِيدَ خِطَابُ النَّاسِ إِعْذَارًا لَهُمْ وَإِنْذَارًا بِتَحْقِيقِ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ الَّذِي وَعَدَهُ مِنْ عِقَابِهِ الْمُكَذِّبِينَ فِي يَوْمِ الْبَعْثِ هُوَ وَعْدٌ وَاقِعٌ لَا يَتَخَلَّفُ وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ قَدَّمَ لَهُمُ التَّذْكِيرَ بِدَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَيْهَا، مَعَ الدَّلَالَةِ عَلَى نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ غَيْرُهُ وَأَنَّهُ لَا يَتَّصِفُ بِالْإِلَهِيَّةِ الْحَقِّ غَيْرُهُ.
وَبَعْدَ أَنْ أَشَارَ إِلَيْهِمْ بِأَنَّ مَا أَنْتَجَتْهُ تِلْكَ الدَّلَائِلُ هُوَ مَا أَنْبَأَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فَيَعْلَمُونَ صِدْقَهُ فِيمَا أَنْبَأَهُمْ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَهُوَ أَكْبَرُ مَا قَرَعَ آذَانَهُمْ وَأَحْرَجُ شَيْءٍ
لِنُفُوسِهِمْ، فَإِذَا تَأَيَّدَ بِالدَّلِيلِ الْبُرْهَانِيِّ تَمَهَّدَ السَّبِيلُ لِتَصْدِيقِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ مِنْ وَعْدِ اللَّهِ وَهُوَ يَوْمُ الْبَعْثِ لِأَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ صِدْقُهُ فِي الْأُولَى يُعْلَمُ صِدْقُهُ فِي الثَّانِيَةِ بِحُكْمِ قِيَاسِ الْمُسَاوَاةِ.
وَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ، أَوْ لَهُمْ وَلِلْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ مَا تَلَاهُ صَالِحٌ لِمَوْعِظَةِ الْفَرِيقَيْنِ كُلٌّ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ إِنْ إِمَّا لِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُنْكِرِينَ، وَإِمَّا لِتَغْلِيبِ فَرِيقِ الْمُنْكِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ أَحْوَجُ إِلَى تَقْوِيَةِ الْمَوْعِظَةِ.
وَالْوَعْدُ مَصْدَرٌ، وَهُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ فِعْلِ الْمُخْبِرِ شَيْئًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَكُونَ
فِيمَا عَدَا الشَّرِّ، وَيُخَصُّ الشَّرُّ مِنْهُ بِاسْمِ الْوَعِيدِ، يَعُمُّهُمَا وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [268] .
وَإِضَافَتُهُ إِلَى الِاسْمِ الْأَعْظَمِ تَوْطِئَةٌ لِكَوْنِهِ حَقًّا لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَأْتِي مِنْهُ الْبَاطِلُ.
وَالْحَقُّ هُنَا مُقَابِلُ الْكَذِبِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ صَادِقٌ. وَوَصْفُهُ بِالْمَصْدَرِ مُبَالغَة فِي حَقِيقَته.
وَالْمُرَادُ بِهِ: الْوَعْدُ بِحُلُولِ يَوْمِ جَزَاءٍ بَعْدَ انْقِضَاءِ هَذِهِ الْحَيَاةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَفْرِيعُ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا الْآيَةَ.
والغرور بِضَمِّ الْغَيْنِ وَيُقَالُ التَّغْرِيرُ: إِيهَامُ النَّفْعِ وَالصَّلَاحِ فِيمَا هُوَ ضُرٌّ وَفَسَادٌ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [196] وَعِنْدَ قَوْلِهِ:
زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [112] .
وَالْمُرَادُ بِالْحَيَاةِ: مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ أَحْوَالُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ لَهْوٍ وَتَرَفٍ، وَانْتِهَائِهَا بِالْمَوْتِ وَالْعَدَمِ مِمَّا يُسَوِّلُ لِلنَّاسِ أَنْ لَيْسَ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ أُخْرَى.
وَإِسْنَادُ التَّغْرِيرِ إِلَى الْحَيَاةِ وَلَوْ مَعَ تَقْدِيرِ الْمُضَافِ إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ لِأَنَّ الْغَارَّ لِلْمَرْءِ هُوَ نَفْسُهُ الْمُنْخَدِعَةُ بِأَحْوَالِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَهُوَ مِنْ إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى سَبَبِهِ وَالْبَاعِثِ عَلَيْهِ.
وَالنَّهْيُ فِي الظَّاهِر موجه إِلَى النَّاس وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ مِنْ أَحْوَالِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مِنْ فِعْلِ النَّاسِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ النَّهْيُ عَنْ لَازِمِ ذَلِكَ الْإِسْنَادِ وَهُوَ الِاغْتِرَارُ لِمَظَاهِرِ الْحَيَاةِ. وَنَظِيرُهُ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَقَوْلِهِمْ: لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا، وَلَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا، وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ [الْمَائِدَة: 2] ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ آخِرَ آلِ عِمْرَانَ [196] .
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ.
والغرور بِفَتْحِ الْغَيْنِ: هُوَ الشَّدِيدُ التَّغْرِيرِ. وَالْمُرَادُ بِهِ الشَّيْطَانُ، قَالَ تَعَالَى:
فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ [الْأَعْرَاف: 22] . وَهُوَ يُغَيِّرُ النَّاسَ بِتَزْيِينِ الْقَبَائِحِ لَهُمْ تَمْوِيهًا بِمَا يَلُوحُ عَلَيْهَا مِنْ مَحَاسِنَ تُلَائِمُ نُفُوسَ النَّاسِ.
وَالْبَاء فِي قَول بِاللَّهِ لِلْمُلَابَسَةِ وَهِيَ دَاخِلَةٌ عَلَى مُضَافٍ مُقَدَّرٍ أَيْ، بِشَأْنِ اللَّهِ، أَيْ
يَتَطَرَّقُ إِلَى نَقْضِ هُدَى اللَّهِ فَإِنَّ فِعْلَ غَرَّ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ فَإِذَا أُرِيدَ تَعْدِيَتُهُ إِلَى بَعْضِ مُتَعَلِّقَاتِهِ عُدِّيَ إِلَيْهِ بِوَاسِطَةِ حَرْفِ الْجَرِّ، فَقَدْ يُعَدَّى بِالْبَاءِ وَهِيَ بَاءُ الْمُلَابَسَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار: 6] وَقَوله فِي سُورَة الْحَدِيدِ [14] :
وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ وَذَلِكَ إِذَا أُرِيدَ بَيَانُ مَنِ الْغَرُورُ مُلَابِسٌ لَهُ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَاف، أَي بِحَال مِنْ أَحْوَالِهِ. وَتِلْكُ مُلَابَسَةُ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْإِيجَازِ. وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْبَاءُ بَاءَ السَّبَبِيَّةِ.
وَقَدْ تَضَمَّنَتِ الْآيَةُ غُرُورَيْنِ: غُرُورًا يَغْتَرُّهُ الْمَرْءُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ وَيُزَيِّنُ لِنَفْسِهِ مِنَ الْمَظَاهِرِ الْفَاتِنَةِ الَّتِي تَلُوحُ لَهُ فِي هَذِه الدُّنْيَا مَا يَتَوَهَّمُهُ خَيْرًا وَلَا يَنْظُرُ فِي عَوَاقِبِهِ بِحَيْثُ تَخْفَى مضارّه فِي بادىء الرَّأْيِ وَلَا يَظُنُّ أَنَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ.
وَغُرُورًا يَتَلَقَّاهُ مِمَّنْ يَغُرُّهُ وَهُوَ الشَّيْطَانُ، وَكَذَلِكَ الْغُرُورُ كُلُّهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ بَعْضُهُ يُمْلِيهِ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ وَبَعْضُهُ يَتَلَقَّاهُ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، فَتُرِكَ تَفْصِيلُ الْغَرُورِ الْأَوَّلِ الْآنَ اعْتِنَاءً بِالْأَصْلِ وَالْأَهَمِّ، فَإِنَّ كُلَّ غُرُورٍ يَرْجِعُ إِلَى غُرُورِ الشَّيْطَانِ. وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً [فاطر: 10] .