الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمَثَلَ بِمَنْ شَكَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ وَاتَّقَوْهُ فَأُوتُوا خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَسُخِّرَتْ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ مِثْلُ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ، وَبِمَنْ كَفَرُوا بِاللَّهِ فَسُلِّطَتْ عَلَيْهِ الْأَرْزَاءُ فِي الدُّنْيَا وَأُعِدَّ لَهُمُ الْعَذَابُ فِي الْآخِرَةِ مَثْلُ سَبَأٍ، وَحُذِّرُوا مِنَ الشَّيْطَانِ، وَذُكِّرُوا بِأَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ قُرَّةِ الْعَيْنِ يُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَأُنْذِرُوا بِمَا
سَيَلْقَوْنَ يَوْمَ الْجَزَاءِ مِنْ خِزْيٍ وَتَكْذِيبٍ وَنَدَامَةٍ وَعَدَمِ النَّصِيرِ وَخُلُودٍ فِي الْعَذَابِ، وَبُشِّرَ الْمُؤْمِنُونَ بالنعيم الْمُقِيم.
[سُورَة سبإ (34) : آيَة 1]
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)
أُفْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِ الْحَمْدُ لِلَّهِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ السُّورَةَ تَتَضَمَّنُ مِنْ دَلَائِلِ تَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَاتِّصَافِهِ بِصِفَاتِ الْعَظَمَةِ مَا يَقْتَضِي إِنْشَاءَ الْحَمْدِ لَهُ وَالْإِخْبَارَ بِاخْتِصَاصِهِ بِهِ. فَجُمْلَةُ الْحَمْدُ لِلَّهِ هُنَا يَجُوزُ كَوْنُهَا إِخْبَارًا بِأَنَّ جِنْسَ الْحَمْدِ مُسْتَحَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى فَتَكُونُ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلَّهِ لَامَ الْمِلْكِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِنْشَاءَ ثَنَاءٍ عَلَى اللَّهِ عَلَى وَجْهِ تَعْلِيمِ النَّاسِ أَنْ يَخُصُّوهُ بِالْحَمْدِ فَتَكُونُ اللَّامُ لِلتَّبْيِينِ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: أَحْمَدُ اللَّهَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحَمْدُ لِلَّهِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ [2] ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى تَعْقِيبِهِ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَأَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ.
وَهَذِهِ إِحْدَى سُوَرٍ خَمْسٍ مُفْتَتَحَةٍ بِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَهُنَّ كُلُّهَا مَكِّيَّةٌ وَقَدْ وُضِعَتْ فِي تَرْتِيبِ الْقُرْآنِ فِي أَوَّلِهِ وَوَسَطِهِ، وَالرُّبُعِ الْأَخِيرِ، فَكَانَتْ أَرْبَاعُ الْقُرْآنِ مُفْتَتَحَةً بِالْحَمْدِ لِلَّهِ كَانَ ذَلِكَ بِتَوْفِيقٍ مِنَ اللَّهِ أَوْ تَوْقِيفٍ.
وَاقْتِضَاءُ صِلَةِ الْمَوْصُولِ أَنَّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَالَى يَجْعَلُ هَذِهِ الصِّلَةَ صَالِحَةً لِتَكَوُنَ عِلَّةً لِإِنْشَاءِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ لِأَنَّ مِلْكَهُ لِمَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِلْكٌ حَقِيقِيٌّ لِأَنَّ سَبَبَهُ إِيجَادُ تِلْكَ الْمَمْلُوكَاتِ وَذَلِكَ الْإِيجَادُ عَمَلٌ جَمِيلٌ يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْحَمْدُ، وَأَيْضًا هُوَ يَتَضَمَّنُ نِعَمًا جَمَّةً. وَهِيَ أَيْضًا تَقْتَضِي حَمْدَ الْمُنْعِمِ، لِأَنَّ الْحَمْدَ يكون للفضائل وللفواضل فَمَا فِي السَّمَوَات فَإِنَّ مِنْهُ مَهَابِطَ أَنْوَارٍ حَقِيقِيَّةٍ وَمَعْنَوِيَّةٍ، فِيهَا هُدًى حِسِّيٌّ وَنَفْسَانِيٌّ، وَإِلَيْهِ مَعَارِجَ لِلنُّفُوسِ فِي مَرَاتِبِ
الْكَمَالَاتِ الَّتِي بِهَا اسْتِقَامَةُ السِّيَرِ، وَإِزَالَةُ الْغِيَرِ، وَنُزُولُ الْغُيُوثِ بِالْمَطَرِ. وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْهُ مَسَارِحُ أَنْظَارِ الْمُتَفَكِّرِينَ، وَمَنَابِتُ أَرْزَاقِ الْمُرْتَزَقِينَ، وَمَيَادِينُ نُفُوسِ السَّائِرِينَ.
وَفِي هَذِهِ الصِّلَةِ تَعْرِيضٌ بِكُفْرَانِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ حَمِدُوا أَشْيَاءَ لَيْسَ لَهَا فِي هَذِهِ الْعَوَالِمِ أَدْنَى تَأْثِيرٍ وَلَا لَهَا بِمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ أَدْنَى شُعُورٍ، وَنَسُوا حَمْدَ مَالِكِهَا وَسَائِرِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَجُمْلَةُ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ عَطْفٌ عَلَى الصِّلَةِ، أَيْ وَالَّذِي لَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا إِنْبَاءٌ بِأَنَّهُ مَالِكُ الْأَمْرِ كُلِّهِ فِي الْآخِرَةِ.
وَفِي هَذَا التَّحْمِيدِ بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالِ الْغَرَضِ مِنَ السُّورَةِ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ، أَيْ لَا حَمْدَ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا لَهُ، فَلَا تَتَوَجَّهُ النُّفُوسُ إِلَى حَمْدِ غَيْرِهِ لِأَنَّ النَّاسَ يَوْمَئِذٍ فِي عَالَمِ الْحَقِّ فَلَا تَلْتَبِسُ عَلَيْهِمُ الصُّوَرُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ جُمْلَةَ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَإِنِ اقْتَضَتْ قَصْرَ الْحَمْدِ عَلَيْهِ تَعَالَى قَصْرًا مَجَازِيًا لِلْمُبَالِغَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سَوَّرَةِ الْفَاتِحَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَمْدَ غَيْرِ اللَّهِ لِلِاعْتِدَادِ بِأَنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ جَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ، فَلَمَّا شَاعَ ذَلِكَ فِي جُمْلَةِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَأُرِيدَ إِفَادَةُ أَنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ حَقِيقَةً غُيَّرَتْ صِيغَةُ الْحَمْدِ الْمَأْلُوفَةِ إِلَى صِيغَةِ لَهُ الْحَمْدُ لِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَهَذَا نَظِيرُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غَافِر: 16]، فَالْمَعْنَى:
أَنَّ قَصْرَ الْحَمْدِ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ أَحَقُّ لِأَنَّ التَّصَرُّفَاتِ يَوْمَئِذٍ مَقْصُورَةٌ عَلَيْهِ لَا يَلْتَبِسُ فِيهَا تَصَرُّفُ غَيْرِهِ بِتَصَرُّفِهِ.
وَلَمَّا نِيطَ حَمْدُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِمَا اقْتَضَى مَرْجِعَ التَّصَرُّفَاتِ إِلَيْهِ فِي الدَّارَيْنِ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِصِفَتَيِ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ، لِأَنَّ الَّذِي أَوْجَدَ أَحْوَالَ النَّشْأَتَيْنِ هُوَ الْعَظِيمُ الْحِكْمَةِ الْخَبِيرُ بِدَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَأَسْرَارِهَا. فَالْحِكْمَةُ: إِتْقَانُ التَّصَرُّفِ بِالْإِيجَادِ وَضِدِّهِ، وَالْخِبْرَةُ تَقْتَضِي الْعِلْمَ بِأَوَائِلِ الْأُمُورِ وَعَوَاقِبِهَا.
وَالْقَرْنُ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ هُنَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى أَصْلِيٍّ وَمَعْنًى لُزُومِيٍّ، وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ، فَالْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ لِلْحَكِيمِ أَنَّهُ مُتْقِنُ التَّصَرُّفِ وَالصُّنْعِ لِأَنَّ الْحَكِيمَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِحْكَامِ وَهُوَ الْإِتْقَانُ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَالْخَبِيرُ هُوَ الْعَلِيمُ بِدَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَظَوَاهِرِهَا بِالْأَوْلَى بِحَيْثُ لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ