الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلَمَّا أَعْرَضَ عَنِ الْخَوْضِ فِي آثَارِ هَذِهِ الْإِرَاءَةِ عُلِمَ أَنَّهُمْ مُفْتَضَحُونَ عِنْدَ تِلْكَ الْإِرَاءَةِ فَقُدِّرَتْ حَاصِلَةٌ، وَأُعْقِبَ طَلَبُ تَحْصِيلِهَا بِإِثْبَاتِ أَثَرِهَا وَهُوَ الرَّدْعُ عَنِ اعْتِقَادِ إِلَهِيَّتِهَا، وَإِبْطَالُهَا عَنْهُمْ بِإِثْبَاتِهَا لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ فَلِذَلِكَ جَمَعَ بَيْنَ حَرْفَيِ الرَّدْعِ وَالْإِبْطَالِ ثُمَّ الِانْتِقَالِ إِلَى تَعْيِينِ الْإِلَهِ الْحَقِّ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ: كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ [الْفجْر: 17] .
وَضَمِيرُ هُوَ اللَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ. وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ تَفْسِيرٌ لِمَعْنَى الشَّأْنِ والْعَزِيزُ الْحَكِيمُ خَبَرَانِ، أَيْ بَلِ الشَّأْنُ الْمُهِمُّ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَا آلِهَتُكُمْ فَفِي الْجُمْلَةِ قَصْرُ الْعِزَّةِ وَالْحُكْمِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى كِنَايَةً عَنْ قَصْرِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَيْهِ تَعَالَى قَصْرَ إِفْرَادٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الْإِلَهِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ خَبَرٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْمُسْتَحْضَرِ فِي الذِّهْنِ وَهُوَ اللَّهُ. وَتَفْسِيرُهُ قَوْلُهُ: اللَّهُ فَاسْمُ الْجَلَالَةِ عَطْفُ بَيَانٍ. والْعَزِيزُ الْحَكِيمُ خَبَرَانِ عَنِ الضَّمِيرِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْوَجْهِ وَبَيْنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَظْهَرُ فِي اخْتِلَافِ مَدْلُولِ الضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ وَاخْتِلَافِ مَوْقِعِ اسْمِ الْجَلَالَةِ بَعْدَهُ، وَاخْتِلَافِ مَوْقِعِ الْجُمْلَةِ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَالْعِزَّةُ: الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ الْغَيْرِ. والْحَكِيمُ: وَصْفٌ مِنَ الْحِكْمَةِ وَهِيَ مُنْتَهَى الْعِلْمِ، أَوْ مِنَ الْإِحْكَامِ وَهُوَ إِتْقَانُ الصُّنْعِ، شَاعَ فِي الْأَمْرَيْنِ. وَهَذَا إِثْبَاتٌ لِافْتِقَارِ أَصْنَامِهِمْ وَانْتِفَاءِ الْعِلْمِ عَنْهَا. وَهَذَا مَضْمُون قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
[مَرْيَم: 42] .
[28]
[سُورَة سبإ (34) : آيَة 28]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَاّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)
انْتِقَالٌ مِنْ إِبْطَالِ ضَلَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي أَمْرِ الرُّبُوبِيَّةِ إِلَى إِبْطَالِ ضَلَالِهِمْ فِي شَأْنِ صِدْقِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم.
وَغَيَّرَ أُسْلُوبَ الْكَلَامِ مِنَ الْأَمْرِ بِمُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْإِخْبَارِ بِرِسَالَةِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم تَشْرِيفًا لَهُ بِتَوْجِيهِ هَذَا الْإِخْبَارِ بِالنِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ إِلَيْهِ، وَيَحْصُلُ إِبْطَالُ مَزَاعِمِ الْمُشْرِكِينَ بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِثْبَاتُ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى منكريها من الْعَرَب وَإِثْبَات عمومها على
مُنْكِرِيهَا مِنَ الْيَهُودِ.
فَإِنَّ كَافَّةً مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ وَوَقَعَتْ هُنَا حَالًا مِنَ «النَّاسِ» مُسْتَثْنًى مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ وَهِيَ حَالٌ مُقَدَّمَةٌ عَلَى صَاحِبِهَا الْمَجْرُورِ بِالْحَرْفِ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [208]، وَعِنْدَ قَوْلِهِ: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [36] . وَذَكَرْنَا أَنَّ التَّحْقِيقَ: أَنَّ كَافَّةً يُوصَفُ بِهِ الْعَاقِلُ وَغَيْرُهُ وَأَنَّهُ تَعْتَوِرُهُ وُجُوهُ الْإِعْرَابِ كَمَا هُوَ مُخْتَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَشَهِدَ لَهُ الْقُرْآنُ وَالِاسْتِعْمَالُ خِلَافًا لِابْنِ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» ، وَأَنَّ مَا شُدِّدَ بِهِ التَّنْكِيرُ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ تَهْوِيلٌ وَتَضْيِيقٌ فِي الْجَوَازِ. وَالتَّقْدِيرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ إِلَّا كَافَّةً. وَقَدَّمَ الْحَالَ عَلَى صَاحِبِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَا لِأَنَّهَا تَجْمَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرِسَالَتِهِ كُلِّهِمْ.
وَتَقْدِيمُ الْحَالِ عَلَى الْمَجْرُورِ جَائِزٌ عَلَى رَأْيِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وَإِنْ أَبَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ تَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ عَلَى حَرْفِ الْجَرِّ فَجَعَلَ كَافَّةً نَعْتًا لِمَحْذُوفٍ، أَيْ إِرْسَالَهُ كَافَّةً، أَيْ عَامَّةً. وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ مَالِكٍ فِي «التَّسْهِيلِ» وَقَالَ: قَدْ جَوَّزَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَابْنُ كَيْسَانَ. وَقُلْتُ: وَجَوَّزَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالرَّضِيُّ.
وَجَعَلَ الزَّجَّاجُ كَافَّةً هُنَا حَالًا مِنَ الْكَافِ فِي أَرْسَلْناكَ وَفَسَّرَهُ بِمَعْنَى جَامِعٍ لِلنَّاسِ فِي الْإِنْذَارِ وَالْإِبْلَاغِ، وَتَبِعَهُ أَبُو الْبَقَاءِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَحَقُّ التَّاءِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ أَنْ تَكُونَ لِلْمُبَالَغَةِ كَتَاءِ الْعَلَّامَةِ وَالرَّاوِيَةِ وَكَذَلِكَ تَقْدِيمُ الْمُسْتَثْنَى لِلْغَرَضِ أَيْضًا.
وَقَدِ اشْتَرَكَ الزَّجَّاجُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا فِي إِخْرَاجِ كَافَّةً عَنْ مَعْنَى الْوَصْفِ بِإِفَادَةِ الشُّمُولِ الَّذِي هُوَ شُمُولٌ جُزْئِيٌّ فِي غَرَضٍ مُعَيَّنٍ إِلَى مَعْنَى الْجَمْعِ الْكُلِّيِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ. وَهَذَا كَمَنْ يَعْمِدُ إِلَى (كُلٍّ) فَيَقُولُ: إِنَّكَ كُلٌّ لِلنَّاسِ، أَيْ جَامِعٌ لِلنَّاسِ أَوْ يَعْمِدُ إِلَى (عَلَى) الدَّالَّةِ عَلَى الِاسْتِعْلَاءِ الْجُزْئِيِّ فَيَسْتَعْمِلُهَا بِمَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ الْكُلِّيِّ فَيَقُولُ: إِيَّاكَ وَعَلَى، يُرِيدُ إِيَّاكَ وَالِاسْتِعْلَاءَ.
والبشير النَّذِيرُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً فِي سُورَة الْبَقَرَةِ