الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَ أَنْ مَصْدَرِيَّةٌ وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْهَا بَدَلٌ مِنَ الْجِنُّ بَدَلُ اشْتِمَال، أَي تبينت الجنّ للنَّاس، أَيْ تَبَيَّنَ أَمْرُهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، أَيْ تَبَيَّنَ عَدَمُ عِلْمِهِمُ الْغَيْبَ، وَدَلِيلُ الْمَحْذُوفِ هُوَ جُمْلَةُ الشَّرْطِ وَالْجَوَابِ.
والْعَذابِ الْمُهِينِ: الْمُذِلُّ، أَيِ الْمُؤْلِمُ الْمُتْعِبُ فَإِنَّهُمْ لَوْ عَلِمُوا الْغَيْبَ لَكَانَ عِلْمُهُمْ بِالْحَاصِلِ أَزَلِيًّا، وَهَذَا إِبْطَالٌ لِاعْتِقَادِ الْعَامَّةِ يَوْمَئِذٍ وَمَا يَعْتَقِدُهُ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ الْجِنَّ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ فَلِذَلِكَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَسْتَعْلِمُونَ الْمُغَيَّبَاتِ مِنَ الْكُهَّانِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ لِكُلِّ كَاهِنٍ جِنِّيًّا يَأْتِيهِ بِأَخْبَارِ الْغَيْبِ، وَيُسَمُّونَهُ رَئِيًّا إِذْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ لَكَانَ أَنْ يَعْلَمُوا وَفَاةَ سُلَيْمَانَ أَهْون عَلَيْهِم.
[15]
[سُورَة سبإ (34) : آيَة 15]
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)
جَرَّ خَبَرُ سُلَيْمَانَ عليه السلام إِلَى ذِكْرِ سَبَأٍ لِمَا بَيْنَ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَبَيْنَ مَمْلَكَةِ سَبَأٍ مِنَ الِاتِّصَالِ بِسَبَبِ قِصَّةِ «بِلْقِيسٍ» ، وَلِأَنَّ فِي حَالِ أَهْلِ سَبَأٍ مُضَادَّةً لِأَحْوَالِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ، إِذْ كَانَ هَذَانِ مَثَلًا فِي إِسْبَاغِ النِّعْمَةِ عَلَى الشَّاكِرِينَ، وَكَانَ أُولَئِكَ مَثَلًا لِسَلْبِ النِّعْمَةِ عَنِ الْكَافِرِينَ، وَفِيهِمْ مَوْعِظَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ إِذْ كَانُوا فِي بُحْبُوحَةٍ مِنَ النِّعْمَةِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنَ الْمُنْعِمِ عَلَيْهِمْ يُذَكِّرُهُمْ بِرَبِّهِمْ وَيُوقِظُهُمْ بِأَنَّهُمْ خَاطِئُونَ إِذْ عَبَدُوا غَيْرَهُ، كَذَّبُوهُ وَأَعْرَضُوا عَنِ النَّظَرِ فِي دَلَالَةِ تِلْكَ النِّعْمَةِ عَلَى الْمُنْعِمِ الْمُتَفَرِّدِ بِالْإِلَهِيَّةِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا [سبأ: 10]
«لَمَّا فَرَغَ التَّمْثِيلُ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم رَجَعَ التَّمْثِيلُ لَهُم (أَي للْمُشْرِكين أَي لحالهم) بِسَبَأٍ وَمَا كَانَ مِنْ هَلَاكِهِمْ بِالْكُفْرِ وَالْعُتُوِّ» اهـ. فَهَذِهِ الْقِصَّةُ تَمْثِيلُ أُمَّةٍ بِأُمَّةٍ، وَبِلَادٍ بِأُخْرَى، وَذَلِكَ مِنْ قِيَاسٍ وَعِبْرَةٍ. وَهِيَ فَائِدَةُ تَدْوِينِ التَّارِيخِ وَتَقَلُّبَاتِ الْأُمَمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ [النَّحْل: 112، 113] فَسَوْقُ هَذِهِ الْقِصَّةِ تَعْرِيضٌ بِأَشْبَاهِ سَبَأٍ. وَالْمَعْنَى: لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي حَالِ مَسَاكِنِهِمْ وَنِظَامِ بِلَادِهِمْ آيَةٌ.
وَالْآيَةُ هُنَا: الْأَمَارَةُ وَالدَّلَالَةُ بِتَبَدُّلِ الْأَحْوَالِ وَتَقَلُّبِ الْأَزْمَانِ، فَهِيَ آيَةٌ عَلَى تَصَرُّفِ اللَّهِ وَنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَهْتَدُوا بِتِلْكَ الْآيَةِ فَأَشْرَكُوا بِهِ، وَقَدْ كَانَ فِي إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ مَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُودِهِ ثُمَّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ.
وَالتَّأْكِيدُ بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ لِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ بِالتَّعْرِيضِ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَتَرَدَّدُ فِي ذَلِكَ لِعَدَمِ اتِّعَاظِهِمْ بِحَالِ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ بِلَادِهِمْ، وَتَجْرِيدُ كانَ مِنْ تَأْنِيثِ الْفِعْلِ لِأَنَّ اسْمَهَا غَيْرُ حَقِيقِيٍّ لِلتَّأْنِيثِ ولوقوع الْفَصْل بالمجرور.
وَاللَّامُ فِي لِسَبَإٍ مُتَعَلِّقٌ بِ آيَةٌ. وَالْمَسَاكِنُ: الْبِلَادُ الَّتِي يَسْكُنُونَهَا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ:
جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ وَالْمَسَاكِنُ: دِيَارُ السُّكْنَى. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى سَبَأٍ عِنْدَ قَوْلِهِ:
وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [22] .
وَاسْمُ سَبَأٍ يُطْلَقُ عَلَى الْأُمَّةِ كَمَا هُنَا وَعَلَى بِلَادِهِمْ كَمَا فِي آيَةِ النَّمْلِ وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فِي مَسَاكِنِهِمْ بِصِيغَةِ جَمْعِ مَسْكَنٍ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَخَلَفٌ بِلَفْظِ الْمُفْرَدِ فِي مَسْكَنِهِمْ إِلَّا أَنَّ حَمْزَةَ وَحَفْصًا فَتَحَا الْكَاف، وَالْكسَائِيّ وَخلف كَسَرَا الْكَافَ وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ مُضَارِعٌ غَيْرُ مَكْسُورِ الْعَيْنِ فَحَقُّ اسْمِ الْمَكَانِ مِنْهُ فَتْحُ الْعَيْنِ. وَشَذَّ نَحْوُ قَوْلِهِمْ: مَسْجِدٌ لِبَيْتِ الصَّلَاةِ.
وجَنَّتانِ بَدَلٌ مِنْ آيَةٌ بِاعْتِبَارِ تَكْمِلَتِهِ بِمَا اتَّصَلَ بِهِ مِنَ الْمُتَعَلِّقِ وَالْقَوْلُ الْمُقَدَّرُ.
وجَنَّتانِ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، أَيْ فِي مَسَاكِنِهِمْ شَبِيهُ جَنَّتَيْنِ فِي أَنه مغترس أشجارا ذَاتِ ثَمَر مُتَّصِل بَعْضهَا بِبَعْضٍ مِثْلَ مَا يُعْرَفُ مِنْ حَالِ الْجَنَّاتِ، وَتَثْنِيَةُ جَنَّتَيْنِ بِاعْتِبَارٍ أَنَّ مَا عَلَى يَمِينِ السَّائِرِ كَجَنَّةٍ، وَمَا عَلَى يَسَارِهِ كَجَنَّةٍ. وَقِيلَ: كَانَ لكل رجل مِنْهُم فِي مَسْكَنِهِ، أَيْ دَارِهِ جَنَّتَانِ جَنَّةٌ عَنْ يَمِينِ الْمَسْكَنِ وَجَنَّةٌ عَنْ شِمَاله فَكَانُوا يتفيؤون ظِلَالَهُمَا فِي الصَّبَاحِ والمساء ويجتنون ثمارهما مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَغَيْرِهَا، فَيَكُونُ مَعْنَى التَّرْكِيبِ عَلَى التَّوْزِيعِ،
أَيْ: لِكُلِّ مَسْكَنٍ جَنَّتَانِ، كَقَوْلِهِمْ: رَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ، وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ: فِي مَسَاكِنِهِمْ دُونَ أَنْ يَقُولَ فِي بِلَادِهِمْ، أَوْ دِيَارِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ مَدِينَتَهُمْ وَهِيَ مَأْرِبُ كَانَتْ مَحْفُوفَةً
عَلَى يَمِينِهَا وَشِمَالِهَا بِغَابَةٍ مِنَ الْجَنَّاتِ يصطافون فِيهَا ويستثمروها مِثْلَ غُوطَةِ دِمَشْقَ، وَهَذَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ بَعْدَ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ [سبأ: 16] لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ الْمُبَدَّلَ بِهِ جَنَّتَانِ اثْنَتَانِ، إِلَّا أَنْ تَجْعَلَهُ عَلَى التَّوْزِيعِ مِنْ مُقَابَلَةِ الْمُتَعَدِّدِ بِالْمُتَعَدِّدِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ جَنَّاتٍ مَغْرُوسَةٍ أَشْجَارًا مُثْمِرَةً وَأَعْنَابًا.
وَكَانَتْ مَدِينَتُهُمْ مَأْرِبُ (بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الْمِيمِ) وَهِيَ بَيْنَ صنعاء وحضرموت، قبل، كَانَ السَّائِرُ فِي طَرَائِقِهَا لَوْ وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ مِكْتَلًا لوجده قد ملىء ثِمَارًا مِمَّا يَسْقُطُ مِنَ الْأَشْجَارِ الَّتِي يَسِيرُ تَحْتَهَا. وَلَعَلَّ فِي هَذَا الْقَوْلِ شَيْئًا مِنَ الْمُبَالَغَةِ إِلَّا أَنَّهَا تُؤْذِنُ بِوَفْرَةٍ.
وَكَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ تَدْبِيرٍ أَلْهَمَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ فِي اخْتِزَانِ الْمِيَاهِ النَّازِلَةِ فِي مَوَاسِمِ الْمَطَرِ بِمَا بَنَوْا مِنَ السَّدِّ الْعَظِيمِ فِي مَأْرِبَ.
وَجُمْلَةُ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ مَقُولُ قَوْلٍ إِمَّا مِنْ دَلَالَةِ لِسَانِ الْحَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ:
امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي وَإِمَّا أَبْلَغُوهُ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَاءَ بُعِثُوا مِنْهُمْ، قِيلَ: بُعِثَ فِيهِمُ اثْنَا عَشَرَ نَبِيئًا، أَيْ مِثْلُ تُبَّعِ أَسْعَدَ، فَقَدْ نُقِلَ أَنَّهُ كَانَ نَبِيئًا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَوْمُ تُبَّعٍ [ق: 14] أَوْ غَيْرُهُ، قَالَ تَعَالَى: مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غَافِر: 78] ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ مِمَّا قَالَهُ سُلَيْمَانُ بَلْقِيسَ أَوْ مِمَّا قَالَهُ الصَّالِحُونَ مِنْ رُسُلِ سُلَيْمَانَ إِلَى سَبَأٍ، وَفِي جَعْلِ جَنَّتانِ فِي نَظْمِ الْكَلَامِ بَدَلًا عَنْ آيَةٍ كِنَايَةٌ عَنْ طِيبِ تُرْبَةِ بِلَادِهِمْ. قِيلَ: كَانُوا يَزْرَعُونَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي كُلِّ عَامٍ.
وَالطَّيِّبَةُ: الْحَسَنَةُ فِي جِنْسِهَا الْمُلَائِمَةُ لِمُزَاوِلِهَا وَمُسْتَثْمِرِهَا قَالَ تَعَالَى: وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ [يُونُس: 22] وَقَالَ: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [النَّحْل: 97] وَقَالَ: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [الْأَعْرَاف: 58] وَقَالَ: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [آل عمرَان: 38] .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ فِي صدقته بحائط (بئرحاء) : «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ»
. وَالطَّيِّبُ ضِدُّ الْخَبِيثِ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ [النِّسَاء: 2] وَقَالَ: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الْأَعْرَاف: 157] .