المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة الأحزاب (33) : آية 72] - التحرير والتنوير - جـ ٢٢

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 31]

- ‌[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 32]

- ‌[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 33]

- ‌[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 34]

- ‌[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 35]

- ‌[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 36]

- ‌[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 37]

- ‌[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : الْآيَات 38 إِلَى 39]

- ‌[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 40]

- ‌[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : الْآيَات 41 إِلَى 42]

- ‌[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 43]

- ‌[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 44]

- ‌[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : الْآيَات 45 الى 46]

- ‌[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 47]

- ‌[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 48]

- ‌[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 49]

- ‌[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 50]

- ‌[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 51]

- ‌[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 52]

- ‌[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 53]

- ‌[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 54]

- ‌[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 55]

- ‌[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 56]

- ‌[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 57]

- ‌[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 58]

- ‌[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 59]

- ‌[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : الْآيَات 60 إِلَى 61]

- ‌[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 62]

- ‌[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 63]

- ‌[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : الْآيَات 64 إِلَى 65]

- ‌[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 66]

- ‌[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : الْآيَات 67 إِلَى 68]

- ‌[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 69]

- ‌[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : الْآيَات 70 إِلَى 71]

- ‌[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 72]

- ‌[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 73]

- ‌34- سُورَةُ سَبَأٍ

- ‌أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ

- ‌[سُورَة سبإ (34) : آيَة 1]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : آيَة 2]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : آيَة 3]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : آيَة 4]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : آيَة 5]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : آيَة 6]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : الْآيَات 7 إِلَى 8]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : آيَة 9]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : الْآيَات 10 إِلَى 11]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : آيَة 12]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : آيَة 13]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : آيَة 14]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : آيَة 15]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : آيَة 16]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : آيَة 17]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : آيَة 18]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : آيَة 19]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : الْآيَات 20 إِلَى 21]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : الْآيَات 22 إِلَى 23]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : آيَة 24]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : آيَة 25]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : آيَة 26]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : آيَة 27]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : آيَة 28]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : الْآيَات 29 إِلَى 30]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : آيَة 31]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : آيَة 32]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : آيَة 33]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : آيَة 34]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : الْآيَات 35 إِلَى 36]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : آيَة 37]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : آيَة 38]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : آيَة 39]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : الْآيَات 40 إِلَى 41]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : آيَة 42]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : آيَة 43]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : آيَة 44]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : آيَة 45]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : آيَة 46]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : آيَة 47]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : آيَة 48]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : آيَة 49]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : آيَة 50]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : الْآيَات 51 إِلَى 53]

- ‌[سُورَة سبإ (34) : آيَة 54]

- ‌35- سُورَةُ فَاطِرٍ

- ‌[سُورَة فاطر (35) : آيَة 1]

- ‌[سُورَة فاطر (35) : آيَة 2]

- ‌[سُورَة فاطر (35) : آيَة 3]

- ‌[سُورَة فاطر (35) : آيَة 4]

- ‌[سُورَة فاطر (35) : آيَة 5]

- ‌[سُورَة فاطر (35) : آيَة 6]

- ‌[سُورَة فاطر (35) : آيَة 7]

- ‌[سُورَة فاطر (35) : آيَة 8]

- ‌[سُورَة فاطر (35) : آيَة 9]

- ‌[سُورَة فاطر (35) : آيَة 10]

- ‌[سُورَة فاطر (35) : آيَة 11]

- ‌[سُورَة فاطر (35) : آيَة 12]

- ‌[سُورَة فاطر (35) : الْآيَات 13 الى 14]

- ‌[سُورَة فاطر (35) : آيَة 15]

- ‌[سُورَة فاطر (35) : الْآيَات 16 إِلَى 17]

- ‌[سُورَة فاطر (35) : آيَة 18]

- ‌[سُورَة فاطر (35) : الْآيَات 19 الى 23]

- ‌[سُورَة فاطر (35) : آيَة 24]

- ‌[سُورَة فاطر (35) : الْآيَات 25 إِلَى 26]

- ‌[سُورَة فاطر (35) : آيَة 27]

- ‌[سُورَة فاطر (35) : آيَة 28]

- ‌[سُورَة فاطر (35) : الْآيَات 29 إِلَى 30]

- ‌[سُورَة فاطر (35) : آيَة 31]

- ‌[سُورَة فاطر (35) : آيَة 32]

- ‌[سُورَة فاطر (35) : آيَة 33]

- ‌[سُورَة فاطر (35) : الْآيَات 34 إِلَى 35]

- ‌[سُورَة فاطر (35) : آيَة 36]

- ‌[سُورَة فاطر (35) : آيَة 37]

- ‌[سُورَة فاطر (35) : الْآيَات 38 إِلَى 39]

- ‌[سُورَة فاطر (35) : آيَة 40]

- ‌[سُورَة فاطر (35) : آيَة 41]

- ‌[سُورَة فاطر (35) : الْآيَات 42 الى 43]

- ‌[سُورَة فاطر (35) : آيَة 44]

- ‌[سُورَة فاطر (35) : آيَة 45]

- ‌36- سُورَةُ يس

- ‌أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ

- ‌[سُورَة يس (36) : آيَة 1]

- ‌[سُورَة يس (36) : الْآيَات 2 إِلَى 4]

- ‌[سُورَة يس (36) : الْآيَات 5 إِلَى 6]

- ‌[سُورَة يس (36) : آيَة 7]

- ‌[سُورَة يس (36) : آيَة 8]

- ‌[سُورَة يس (36) : آيَة 9]

- ‌[سُورَة يس (36) : آيَة 10]

- ‌[سُورَة يس (36) : آيَة 11]

- ‌[سُورَة يس (36) : آيَة 12]

- ‌[سُورَة يس (36) : الْآيَات 13 إِلَى 14]

- ‌[سُورَة يس (36) : آيَة 15]

- ‌[سُورَة يس (36) : الْآيَات 16 إِلَى 17]

- ‌[سُورَة يس (36) : آيَة 18]

- ‌[سُورَة يس (36) : آيَة 19]

- ‌[سُورَة يس (36) : الْآيَات 20 إِلَى 25]

- ‌[سُورَة يس (36) : الْآيَات 26 إِلَى 27]

الفصل: ‌[سورة الأحزاب (33) : آية 72]

اللَّهَ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ. وَإِنَّمَا صِيغَتِ الْجُمْلَةُ فِي صِيغَةِ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ فِي الْمُطِيعِينَ وَأَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ فَصَارَتِ الْجُمْلَةُ بِهَذَيْنِ الْعُمُومَيْنِ فِي قُوَّةِ التَّذْيِيلِ. وَهَذَا نسج بديع مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ وَهُوَ

إِفَادَةُ غَرَضَيْنِ بجملة وَاحِدَة.

[72]

[سُورَة الْأَحْزَاب (33) : آيَة 72]

إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72)

اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ أَفَادَ الْإِنْبَاءَ عَلَى سُنَّةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ سُنَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَكْوِينِ الْعَالَمِ وَمَا فِيهِ وَبِخَاصَّةٍ الْإِنْسَانَ لِيَرْقُبَ النَّاسُ فِي تَصَرُّفَاتِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ مَعَ رَبِّهِمْ وَمُعَامَلَاتِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ بِمِقْدَارِ جَرْيِهِمْ عَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ وَرَعْيِهِمْ تَطْبِيقَهَا فَيَكُونُ عَرْضُهُمْ أَعْمَالَهُمْ عَلَى مِعْيَارِهَا مُشْعِرًا لَهُمْ بِمَصِيرِهِمْ وَمُبَيِّنًا سَبَبَ تَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَاصْطِفَاءِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَيْنِ بَعْضٍ.

وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ مَا قَبْلَهَا، وَفِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ يَقْتَضِي أَنَّ لِمَضْمُونِهَا ارْتِبَاطًا بِمَضْمُونِ مَا قَبِلَهَا، وَيَصْلُحُ عَوْنًا لِاكْتِشَافِ دَقِيقِ مَعْنَاهَا وَإِزَالَةِ سُتُورِ الرَّمْزِ عَنِ الْمُرَادِ مِنْهَا، وَلَوْ بِتَقْلِيلِ الِاحْتِمَالِ، وَالْمَصِيرِ إِلَى الْمَآلِ.

وَالِافْتِتَاحُ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ أَوْ تَنْزِيِلِهِ لِغَرَابَةِ شَأْنِهِ مَنْزِلَةَ مَا قَدْ يُنْكِرُهُ السَّامِعُ.

وَافْتِتَاحُ الْآيَةِ بِمَادَّةِ الْعَرْضِ، وَصَوْغُهَا فِي صِيغَة الْمَاضِي، وَجَعْلُ مُتَعَلِّقِهَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَالْجِبَال وَالْإِنْسَان يومىء إِلَى أَنَّ مُتَعَلِّقَ هَذَا الْعَرْضِ كَانَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَيَقْتَضِي أَنَّهُ عَرْضٌ أَزَلِيٌّ فِي مَبْدَأِ التَّكْوِينِ عِنْدَ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ الرَّبَّانِيَّةِ بِإِيجَادِ الْمَوْجُودَاتِ الْأَرْضِيَّةِ وَإِيدَاعِهَا فُصُولَهَا الْمُقَوِّمَةَ لِمَوَاهِيهَا وَخَصَائِصِهَا وَمُمَيِّزَاتِهَا الْمُلَائِمَةِ لِوَفَائِهَا بِمَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ كَمَا حُمِلَ قَوْلُهُ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذرياتهم [الْأَعْرَاف: 172] الْآيَةَ.

وَاخْتِتَامُ الْآيَةِ بِالْعِلَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ [الْأَحْزَاب: 73] إِلَى نِهَايَةِ السُّورَةِ يَقْتَضِي أَنَّ لِلْأَمَانَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَزِيدَ اخْتِصَاصٍ بِالْعِبْرَةِ فِي أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ مِنْ بَيْنِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ فِي رَعْيِ الْأَمَانَةِ وَإِضَاعَتِهَا.

ص: 124

فَحَقِيقٌ بِنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ هَذَا الْعَرْضَ كَانَ فِي مَبْدَأِ تَكْوِينِ الْعَالَمِ وَنَوْعِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّهُ لَمَّا ذُكِرَتْ فِيهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ مَعَ الْإِنْسَانِ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِنْسَانِ نَوْعُهُ لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ بَعْضُ أَفْرَادِهِ وَلَوْ فِي أَوَّلِ النَّشْأَةِ لَمَا كَانَ فِي تَحَمُّلِ ذَلِكَ الْفَرْدِ الْأَمَانَةَ ارْتِبَاطٌ بِتَعْذِيبِ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَلَمَا كَانَ فِي تَحَمُّلِ بَعْضِ أَفْرَادِهِ دُونَ بَعْضٍ الْأَمَانَةَ حِكْمَةٌ

مُنَاسِبَةٌ لِتَصَرُّفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى.

فَتَعْرِيفُ الْإِنْسانُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيْ نَوْعُ الْإِنْسَانِ.

وَالْعَرْضُ: حَقِيقَتُهُ إِحْضَارُ شَيْءٍ لِآخَرَ لِيَخْتَارَهُ أَوْ يَقْبَلَهُ وَمِنْهُ عَرْضُ الْحَوْضِ عَلَى النَّاقَةِ، أَيْ عَرْضُهُ عَلَيْهَا أَنْ تَشْرَبَ مِنْهُ، وَعَرْضُ الْمُجَنَّدِينَ عَلَى الْأَمِيرِ لِقَبُولِ مَنْ تَأَهَّلَ مِنْهُمْ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ:«عُرِضْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ فَرَدَّنِي وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ فَأَجَازَنِي» . وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ فِي سُورَةِ هُودٍ [18]، وَقَوْلِهِ: عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا

فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [48] .

فَقَوْلُهُ: عَرَضْنَا هُنَا اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ لِوَضْعِ شَيْءٍ فِي شَيْءٍ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لَهُ دُونَ بَقِيَّةِ الْأَشْيَاءِ، وَعَدَمُ وَضْعِهِ فِي بَقِيَّةِ الْأَشْيَاءِ لِعَدَمِ تَأَهُّلِهَا لِذَلِكَ الشَّيْءِ، فَشُبِّهَتْ حَالَةُ صَرْفِ تَحْمِيلِ الْأَمَانَةِ عَنِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ وَوَضْعِهَا فِي الْإِنْسَانِ بِحَالَةِ مَنْ يَعْرِضُ شَيْئًا عَلَى أُنَاسٍ فَيَرْفُضُهُ بَعْضُهُمْ وَيَقْبَلُهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ، أَوْ تَمْثِيلٌ لِتَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِعَدَمِ صَلَاحِيَةِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ لِإِنَاطَةِ مَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْأَمَانَةِ بِهَا وَصَلَاحِيَةِ الْإِنْسَان لذَلِك، فشبهت حَالَةُ تَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ بِمُخَالَفَةِ قَابِلِيَّةِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ بِحَمْلِ الْأَمَانَةِ لِقَابِلِيَّةِ الْإِنْسَانِ ذَلِكَ بِعَرْضِ شَيْءٍ عَلَى أَشْيَاءَ لِاسْتِظْهَارِ مِقْدَارِ صَلَاحِيَّةِ أَحَدِ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ لِلتَّلَبُّسِ بِالشَّيْءِ الْمَعْرُوضِ عَلَيْهَا.

وَفَائِدَةُ هَذَا التَّمْثِيلِ تَعْظِيمُ أَمْرِ هَذِهِ الْأَمَانَةِ إِذْ بَلَغَتْ أَنْ لَا يُطِيقَ تَحَمُّلَهَا مَا هُوَ أَعْظَمُ مَا يُبْصِرُهُ النَّاسُ مِنْ أَجْنَاسِ الْمَوْجُودَاتِ. فَتَخْصِيصُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ الْمَوْجُودَاتِ لِأَنَّهُمَا أَعْظَمُ الْمَعْرُوفِ لِلنَّاسِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ، وَعَطَفُ الْجِبالِ عَلَى الْأَرْضِ وَهِيَ مِنْهَا لِأَنَّ الْجِبَالَ أَعْظَمُ الْأَجْزَاءِ الْمَعْرُوفَةِ مِنْ ظَاهِرِ الْأَرْضِ وَهِيَ الَّتِي تُشَاهِدُ الْأَبْصَارُ عَظَمَتَهَا إِذِ الْأَبْصَارُ

ص: 125

لَا تَرَى الْكُرَةَ الْأَرْضِيَّةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الْحَشْر: 21] .

وَقَرِينَةُ الِاسْتِعَارَةِ حَالِيَّةٌ وَهِيَ عَدَمُ صِحَّةِ تَعَلُّقِ الْعَرْضِ وَالْإِبَاءِ بِالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ لِانْتِفَاءِ إِدْرَاكِهَا فَأَنَّى لَهَا أَنْ تَخْتَارَ وَتَرْفُضَ، وَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْمُرَادِ مِنْهُ جِنْسَهُ وَمَاهِيَّتَهُ لِأَنَّ الْمَاهِيَّةَ لَا تُفَاوِضُ وَلَا تَخْتَارُ كَمَا يُقَالُ: الطَّبِيعَةُ عَمْيَاءُ، أَيْ لَا اخْتِيَارَ لَهَا، أَيْ لِلْجِبِلَّةِ وَإِنَّمَا تَصْدُرُ عَنْهَا آثَارُهَا قَسْرًا.

وَلِذَلِكَ فأفعال عَرَضْنَا، فَأَبَيْنَ، يَحْمِلْنَها، وأَشْفَقْنَ مِنْها، وحَمَلَهَا أَجْزَاءٌ لِلْمُرَكَّبِ

التَّمْثِيلِيِّ. وَهَذِهِ الْأَجْزَاءُ صَالِحَةٌ لِأَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهَا اسْتِعَارَةً مُفْرَدَةً بِأَنْ يُشَبِّهَ إِيدَاعَ الْأَمَانَةِ فِي الْإِنْسَانِ وَصَرْفَهَا عَنْ غَيْرِهِ بِالْعَرْضِ، وَيُشَبِّهَ عَدَمَ مُصَحِّحِ مَوَاهِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ لِإِيدَاعِ الْأَمَانَةِ فِيهَا بِالْإِبَاءِ، وَيُشَبِّهَ الْإِيدَاعَ بِالتَّحْمِيلِ وَالْحَمْلِ، وَيُشَبِّهَ عَدَمَ التَّلَاؤُمِ بَيْنَ مَوَاهِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ بِالْعَجْزِ عَنْ قَبُولِ تِلْكَ الْكَائِنَاتِ إِيَّاهَا وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْإِشْفَاقِ، وَيُشَبِّهَ التَّلَاؤُمَ وَمُصَحِّحَ الْقَبُولِ لِإِيدَاعِ وَصْفِ الْأَمَانَةِ فِي الْإِنْسَانِ بِالْحَمْلِ لِلثِّقْلِ.

وَمِثْلُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَاتِ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ. وَصَلُوحِيَّةُ الْمُرَكَّبِ التَّمْثِيلِيِّ لِلِانْحِلَالِ بِأَجْزَائِهِ إِلَى اسْتِعَارَاتِ مَعْدُودٍ مِنْ كَمَالِ بَلَاغَةِ ذَلِكَ التَّمْثِيلِ.

وَقَدْ عُدَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ مُشْكِلَاتِ الْقُرْآنِ وَتَرَدَّدَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيلِهَا تَرَدُّدًا دَلَّ عَلَى الْحَيْرَةِ فِي تَقْوِيمِ مَعْنَاهَا. وَمَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى تَقْوِيمِ مَعْنَى الْعَرْضِ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ مَعْنَى الْأَمَانَةِ، وَمَعْرِفَةِ مَعْنَى الْإِبَاءِ وَالْإِشْفَاقِ.

فَأَمَّا الْعَرْضُ فَقَدِ اسْتَبَانَتْ مَعَانِيهِ بِمَا عَلِمْتَ مِنْ طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ. وَأَمَّا الْأَمَانَةُ فَهِيَ مَا يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ وَيُطَالَبُ بِحِفْظِهِ وَالْوَفَاءِ دُونَ إِضَاعَةٍ وَلَا إِجْحَافٍ، وَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهَا الْمُفَسِّرُونَ عَلَى عِشْرِينَ قَوْلًا وَبَعْضُهَا مُتَدَاخِلٌ فِي بعض، ولنبتدىء بِالْإِلْمَامِ بِهَا ثُمَّ نَعْطِفُ إِلَى تَمْحِيصِهَا وَبَيَانِهَا.

فَقِيلَ: الْأَمَانَةُ الطَّاعَةُ، وَقِيلَ: الصَّلَاةُ، وَقِيلَ: مَجْمُوعُ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالِاغْتِسَالِ، وَقِيلَ: جَمِيعُ الْفَرَائِضِ، وَقِيلَ: الِانْقِيَادُ إِلَى الدِّينِ، وَقِيلَ: حِفْظُ الْفَرْجِ، وَقِيلَ: الْأَمَانَةُ التَّوْحِيدُ، أَوْ دَلَائِلُ الْوَحْدَانِيَّةِ، أَوْ تَجَلِّيَاتُ اللَّهِ بِأَسْمَائِهِ،

ص: 126

وَقِيلَ: مَا يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ، وَمِنْهُ انْتِفَاء الْغِشّ فِي الْعَمَل، وَقِيلَ: الْأَمَانَةُ الْعَقْلُ، وَقِيلَ: الْخِلَافَةُ، أَيْ خِلَافَةُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ الَّتِي أَوْدَعَهَا الْإِنْسَانَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: 30] الْآيَةَ.

وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ تَرْجِعُ إِلَى أَصْنَافٍ: صِنْفُ الطَّاعَاتِ وَالشَّرَائِعِ، وَصِنْفُ الْعَقَائِدِ، وَصِنْفٌ ضِدَّ الْخِيَانَةِ، وَصِنْفُ الْعَقْلِ، وَصِنْفُ خِلَافَةِ الْأَرْضِ.

وَيَجِبُ أَنْ يُطْرَحَ مِنْهَا صِنْفُ الشَّرَائِعَ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لَازِمَةً لِفِطْرَةِ الْإِنْسَانِ فَطَالَمَا خَلَتْ أُمَمٌ عَنِ التَّكْلِيفِ بِالشَّرَائِعِ وهم أهل الفتر فَتَسْقُطُ سِتَّةُ أَقْوَالِ وَهِيَ مَا فِي الصِّنْفِ الْأَوَّلِ.

وَيَبْقَى سَائِرُ الْأَصْنَافِ لِأَنَّهَا مُرْتَكِزَةٌ فِي طَبْعِ الْإِنْسَانِ وَفِطْرَتِهِ.

فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأَمَانَةُ أَمَانَةَ الْإِيمَانِ، أَيْ تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَهِيَ الْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى جِنْسِ بَنِي آدَمَ وَهُوَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذرياتهم وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [172] . فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَوْدَعَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ دَلَائِلَ الْوَحْدَانِيَّةِ فَهِيَ مُلَازِمَةٌ لِلْفِكْرِ الْبَشَرِيِّ فَكَأَنَّهَا عهد عَهْدُ اللَّهِ لَهُمْ بِهِ وَكَأَنَّهُ أَمَانَةٌ ائْتَمَنَهُمْ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ أَوْدَعَهَا فِي الْجِبِلَّةِ مُلَازِمَةً لَهَا، وَهَذِهِ الْأَمَانَةُ لَمْ تُودَعْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَمَانَةَ مِنْ قَبِيلِ الْمَعَارِفِ وَالْمَعَارِفُ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَتَّصِفُ بِهِ إِلَّا مَنْ قَامَتْ بِهِ صِفَةُ الْحَيَاةِ لِأَنَّهَا مُصَحِّحَةُ الْإِدْرَاكِ لِمَنْ قَامَتْ بِهِ، وَيُنَاسِبُ هَذَا الْمَحْمَلَ قَوْلُهُ: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ [الْأَحْزَاب: 73] ، فَإِنَّ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ خَالُونَ مِنَ الْإِيمَانِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأَمَانَةُ هِيَ الْعَقْلَ وَتَسْمِيَتُهُ أَمَانَةً تَعْظِيمٌ لِشَأْنِهِ وَلِأَن الْأَشْيَاء النفيسة تُوَدَعُ عِنْدَ مَنْ يَحْتَفِظُ بِهَا.

وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْحِكْمَةَ اقْتَضَتْ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ مُسْتَوْدَعَ الْعَقْلِ مِنْ بَيْنِ الْمَوْجُودَاتِ الْعَظِيمَةِ لِأَنَّ خِلْقَتَهُ مُلَائِمَةٌ لِأَنْ يَكُونَ عَاقِلًا فَإِنَّ الْعَقْلَ يَبْعَثُ عَلَى التَّغَيُّرِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَمِنْ مَكَانٍ إِلَى غَيْرِهِ، فَلَوْ جُعِلَ ذَلِكَ فِي سَمَاءٍ مِنَ السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي جَبَلٍ مِنِ الْجِبَالِ أَوْ جَمِيعِهَا لَكَانَ سَبَبًا فِي

ص: 127

اضْطِرَابِ الْعَوَالِمِ وَانْدِكَاكِهَا. وَأَقْرَبُ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي تَحْمِلُ الْعَقْلَ أَنْوَاعُ الْحَيَوَانِ مَا عَدَا الْإِنْسَانَ فَلَوْ أُودِعَ فِيهَا الْعَقْلُ لَمَا سَمَحَتْ هَيْئَاتُ أَجْسَامِهَا بِمُطَاوَعَةِ مَا يَأْمُرُهَا الْعَقْلُ بِهِ. فَلْنَفْرِضْ أَنَّ الْعَقْلَ يُسَوِّلُ لِلْفَرَسِ أَنْ لَا يَنْتَظِرُ عَلَفَهُ أَوْ سَوْمَهُ وَأَنْ يَخْرُجَ إِلَى حَنَّاطٍ يَشْتَرِي مِنْهُ عَلَفًا، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيع إفصاحا ويضيع فِي الْإِفْهَامِ ثُمَّ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَسْلِيمِ الْعِوَضِ بِيَدِهِ إِلَى فَرَسٍ غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ مُعَامَلَتُهُ مَعَ أَحَدٍ مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ.

وَمُنَاسَبَةُ قَوْلِهِ: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ [الْأَحْزَاب: 73] الْآيَةَ لِهَذَا الْمَحْمَلِ نَظِيرُ مُنَاسَبَتِهِ لِلْمَحْمَلِ الْأَوَّلِ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأَمَانَةُ مَا يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَدَنِيٌّ بِالطَّبْعِ مَخَالِطٌ لِبَنِي جِنْسِهِ فَهُوَ لَا يَخْلُو عَنِ ائْتِمَانٍ أَوْ أَمَانَةٍ فَكَانَ الْإِنْسَانُ مُتَحَمِّلًا لِصِفَةِ الْأَمَانَةِ بِفِطْرَتِهِ وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْوَفَاءِ لِمَا ائْتُمِنُوا عَلَيْهِ كَمَا

فِي الْحَدِيثِ: «إِذَا ضُيَّعَتِ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ»

أَيْ إِذَا انْقَرَضَتِ الْأَمَانَةُ كَانَ انْقِرَاضُهَا عَلَامَةً عَلَى اخْتِلَالِ الْفِطْرَةِ، فَكَانَ فِي جُمْلَةِ

الِاخْتِلَالَاتِ الْمُنْذِرَةِ بِدُنُوِّ السَّاعَةِ مِثْلَ تَكْوِيرِ الشَّمْسِ وَانْكِدَارِ النُّجُومِ وَدَكِّ الْجِبَالِ.

وَالَّذِي بَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ حُذَيْفَةَ: «حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَيْنِ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْأَخَرَ، حَدَّثَنَا أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جِذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ، وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا فَقَالَ: يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ (1) ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ (2) كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفَطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمينا، وَيُقَال للرِّجَال: مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ، وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ» أَيْ مِنْ أَمَانَةٍ لِأَنَّ الْإِيمَانَ مِنَ الْأَمَانَةِ لِأَنَّهُ عَهْدُ اللَّهِ.

(1) الوكت: الشية فِي الشَّيْء من غير لَونه.

(2)

المجل: نفاخة فِي الْجلد مُرْتَفعَة يكون مَا تحتهَا فَارغًا مثل مَا يَقع فِي أكف العملة بالفؤوس من ارتفاعات فِي الْجلد.

ص: 128

وَمعنى عرض هَذِه الْأَمَانَةِ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ يَنْدَرِجُ فِي مَعْنَى تَفْسِيرِ الْأَمَانَةِ بِالْعَقْلِ، لِأَنَّ الْأَمَانَةَ بِهَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْأَخْلَاقِ الَّتِي يَجْمَعُهَا الْعَقْلُ وَيُصَرِّفُهَا، وَحِينَئِذٍ فَتَخْصِيصُهَا بِالذِّكْرِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَهَمِّيَّتِهَا فِي أَخْلَاقِ الْعَقْلِ.

وَالْقَوْلُ فِي حَمْلِ مَعْنَى الْأَمَانَةِ عَلَى خِلَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ مِثْلُ الْقَوْلِ فِي الْعَقْلِ لِأَنَّ تِلْكَ الْخِلَافَةَ مَا هَيَّأَ الْإِنْسَانَ لَهَا إِلَّا الْعَقْلُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: 30] ثُمَّ قَوْلُهُ: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [الْبَقَرَة: 31] فَالْخِلَافَةُ فِي الْأَرْضِ هِيَ الْقِيَامُ بِحِفْظِ عُمْرَانِهَا وَوَضْعِ الْمَوْجُودَاتِ فِيهَا فِي مَوَاضِعِهَا، وَاسْتِعْمَالِهَا فِيمَا اسْتَعَدَّتْ إِلَيْهِ غَرَائِزُهَا.

وَبَقِيَّةُ الْأُمُورِ الَّتِي فَسَّرَ بِهَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْأَمَانَةَ يُعْتَبَرُ تَفْسِيرُهَا مِنْ قَبِيلِ ذِكْرِ الْأَمْثِلَةِ الْجُزْئِيَّةِ لِلْمَعَانِي الْكُلِّيَّةِ.

وَالْمُتَبَادِرُ مِنْ هَذِهِ الْمَحَامِلِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَمَانَةِ حَقِيقَتَهَا الْمَعْلُومَةَ وَهِيَ الْحِفَاظُ عَلَى مَا عُهِدَ بِهِ وَرَعْيُهُ وَالْحِذَارُ مِنَ الْإِخْلَالِ بِهِ سَهْوًا أَوْ تَقْصِيرًا فَيُسَمَّى تَفْرِيطًا وَإِضَاعَةً، أَوْ عَمْدًا فَيُسَمَّى خِيَانَةً وَخَيْسًا لِأَنَّ هَذَا الْمَحْمَلَ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِوُرُودِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي خِتَامِ السُّورَةِ الَّتِي ابْتُدِئَتْ بِوَصْفِ خِيَانَةِ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ وَإِخْلَالِهِمْ بِالْعُهُودِ وَتَلَوُّنِهِمْ مَعَ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم قَالَ

تَعَالَى: وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ [الْأَحْزَاب: 15] وَقَالَ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الْأَحْزَاب: 23] . وَهَذَا الْمَحْمَلُ يَتَضَمَّنُ أَيْضًا أَقْرَبَ الْمَحَامِلِ بَعْدَهُ وَهُوَ أَن يكون هُوَ الْعَقْلَ لِأَنَّ قَبُولَ الْأَخْلَاق فرع عَنهُ.

وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا مَحَلُّهَا اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ وَالْمُتَعَلِّقِ بِفِعْلِهَا وَهُوَ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ [الْأَحْزَاب: 73] الْخَ. وَمَعْنَاهَا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ السَّامِعَ خَبَرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ تحمل الْأَمَانَة يترقب مَعْرِفَةَ مَا كَانَ مِنْ حُسْنِ قِيَامِ الْإِنْسَانِ بِمَا حُمِّلَهُ وَتَحَمَّلَهُ وَلَيْسَتِ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلِيَّةً لِأَنَّ تَحَمُّلَ الْأَمَانَةِ لَمْ يَكُنْ بِاخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ فَكَيْفَ يُعَلَّلُ بِأَنَّ حَمْلَهُ الْأَمَانَةَ مِنْ أَجْلِ ظُلْمِهِ وَجَهْلِهِ.

فَمَعْنَى كانَ ظَلُوماً جَهُولًا أَنَّهُ قَصَّرَ فِي الْوَفَاءِ بِحَقِّ مَا تَحَمَّلَهُ تقصيرا: بعضه عَن عَمْدٍ وَهُوَ الْمعبر عَنهُ بِوَصْفِ ظَلُومٍ، وَبَعْضُهُ عَنْ تَفْرِيطٍ فِي الْأَخْذِ

ص: 129

بِأَسْبَابِ الْوَفَاءِ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِكَوْنِهِ جَهُولًا، فَظَلُومٌ مُبَالَغَةٌ فِي الظُّلْمِ وَكَذَلِكَ جَهُولٌ مُبَالَغَةٌ فِي الْجَهْلِ.

وَالظُّلْمُ: الِاعْتِدَاءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ وَأُرِيدُ بِهِ هُنَا الِاعْتِدَاءُ عَلَى حَقِّ اللَّهِ الْمُلْتَزَمِ لَهُ بِتَحَمُّلِ الْأَمَانَةِ، وَهُوَ حَقُّ الْوَفَاءِ بِالْأَمَانَةِ.

وَالْجَهْلُ: انْتِفَاءُ الْعِلْمِ بِمَا يَتَعَيَّنُ عِلْمُهُ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا انْتِفَاءُ عِلْمِ الْإِنْسَانِ بِمَوَاقِعِ الصَّوَابِ فِيمَا تَحَمَّلَ بِهِ، فَقَوْلُهُ: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا مُؤْذِنٌ بِكَلَامٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ هُوَ عَلَيْهِ إِذِ التَّقْدِيرُ: وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ فَلَمْ يَفِ بِهَا إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَكَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، أَيْ ظَلُومًا، أَيْ فِي عَدَمِ الْوَفَاءِ بِالْأَمَانَةِ لِأَنَّهُ إِجْحَافٌ بِصَاحِبِ الْحَقِّ فِي الْأَمَانَةِ أَيًّا كَانَ، وَجَهُولًا فِي عدم تَقْدِيره قَدْرِ إِضَاعَةِ الْأَمَانَةِ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ الْمُتَفَاوِتَةِ الْمَرَاتِبِ فِي التَّبِعَةِ بِهَا، وَلَوْلَا هَذَا التَّقْدِيرُ لَمْ يَلْتَئِمِ الْكَلَامُ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَمْ يُحَمَّلِ الْأَمَانَةَ بِاخْتِيَارِهِ بَلْ فُطِرَ عَلَى تَحَمُّلِهَا.

وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ ظَلُوماً جَهُولًا فِي فِطْرَتِهِ، أَيْ فِي طَبْعِ الظُّلْمِ، وَالْجَهْلِ فَهُوَ مُعَرَّضٌ لَهُمَا مَا لَمْ يَعْصِمْهُ وَازِعُ الدِّينِ، فَكَانَ مِنْ ظُلْمِهِ وَجَهْلِهِ أَنْ أَضَاعَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الْأَمَانَةَ الَّتِي حَمَلَهَا.

وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ ضَمِيرَ إِنَّهُ عَائِدًا عَلَى الْإِنْسَانِ وَتَجْعَلَ عُمُومَهُ مَخْصُوصًا بِالْإِنْسَانِ الْكَافِرِ تَخْصِيصًا بِالْعَقْلِ لِظُهُورِ أَنَّ الظَّلُومَ الْجَهُولَ هُوَ الْكَافِرُ.

أَوْ تَجْعَلُ فِي ضَمِيرِ إِنَّهُ اسْتِخْدَامًا بِأَنْ يَعُودَ إِلَى الْإِنْسَانِ مُرَادًا بِهِ الْكَافِرُ وَقَدْ أُطْلِقَ

لَفْظُ الْإِنْسَانِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ مُرَادًا بِهِ الْكَافِرُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [مَرْيَم: 66] الْآيَةَ قَوْله: يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار: 6] الْآيَاتِ.

وَفِي ذِكْرِ فَعْلِ كانَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ظُلْمَهُ وَجَهْلَهُ وَصْفَانِ مُتَأَصِّلَانِ فِيهِ لِأَنَّهُمَا الْغَالِبَانِ عَلَى أَفْرَادِهِ الْمُلَازِمَانِ لَهَا كَثْرَةً أَوْ قِلَّةً.

فَصِيغَتَا الْمُبَالَغَةِ مَنْظُورٌ فِيهِمَا إِلَى الْكَثْرَةِ وَالشِّدَّةِ فِي أَكْثَرِ أَفْرَادِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ وَالْحُكْمُ الَّذِي يُسَلَّطُ عَلَى الْأَنْوَاعِ وَالْأَجْنَاسِ وَالْقَبَائِلِ يُرَاعَى فِيهِ الْغَالِبُ وَخَاصَّةً فِي مَقَامِ التَّحْذِيرِ وَالتَّرْهِيبِ. وَهَذَا الْإِجْمَالُ يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ عَقِبَهُ: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ

ص: 130