الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ الْعُصَاةُ فَلَيْسُوا مِنْ حِزْبِهِ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ كَيْدَهُ وَلَكِنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ بَعْضَ وَسْوَسَتِهِ بِدَافِعِ الشَّهَوَاتِ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَلْعَنُونَهُ وَيَتَبَرَّأُونَ مِنْهُ. وَقَدْ
قَالَ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي أَرْضِكُمْ هَذِهِ وَلَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ مِنْكُمْ بِمَا دُونَ ذَلِكَ مِمَّا تَحْقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ»
. وَذِكْرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ تَتْمِيمٌ بِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا مِنْ حِزْبِهِ قَدْ فَازُوا بِالْخَيْرَاتِ.
وَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى طَرَفَيْنِ فِي الضَّلَالِ وَالِاهْتِدَاءِ وَطَوَتْ مَا بَيْنَ ذَيْنِكَ مِنَ الْمَرَاتِبِ لِيُعْلَمَ أَنَّ مَا بَيْنَ ذَلِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنْ أَشْبَهِ أَحْوَالِهِمْ بِأَحْوَالِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي وَضْعِ الْمُسْلِمِ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، والأمل والرهبة.
[8]
[سُورَة فاطر (35) : آيَة 8]
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8)
لَمَّا جَرَى تَحْذِيرُ النَّاسِ مِنْ غُرُورِ الشَّيْطَانِ وَإِيقَاظُهُمْ إِلَى عَدَاوَتِهِ لِلنَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ، وَتَقْسِيمُ النَّاسِ إِلَى فَرِيقَيْنِ: فَرِيقٍ انْطَلَتْ عَلَيْهِ مَكَائِدُ الشَّيْطَانِ وَاغْتَرُّوا بِغُرُورِهِ وَلَمْ يُنَاصِبُوهُ الْعَدَاءَ، وَفَرِيقٍ أَخَذُوا حِذْرَهُمْ مِنْهُ وَاحْتَرَسُوا مِنْ كَيْدِهِ وَتَجَنَّبُوا السَّيْرَ فِي مَسَالِكِهِ، ثُمَّ تَقْسِيمُهُمْ إِلَى كَافِرٍ مُعَذَّبٍ وَمُؤْمِنٍ صَالِحٍ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِالْإِيمَاءِ إِلَى اسْتِحْقَاقِ حِزْبِ الشَّيْطَانِ عَذَابَ السَّعِيرِ، وَبِتَسْلِيَةِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَنْ لَمْ يَخْلُصُوا مِنْ حَبَائِلِ الشَّيْطَانِ مِنْ أُمَّةِ دَعْوَتِهِ بِأُسْلُوبِ الْمُلَاطَفَةِ فِي التَّسْلِيَةِ فَفَرَّعَ عَلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ قَوْلَهُ: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً إِلَى قَوْلِهِ: بِما يَصْنَعُونَ فَابْتِدَاؤُهُ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ رَبْطٌ لَهُ بِمَا تَقَدَّمَ لِيَعُودَ الذِّهْنُ إِلَى مَا حُكِيَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، فَالتَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6] ، ثُمَّ بِإِبْرَازِ الْكَلَامِ الْمُفَرَّعِ فِي صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، وَاجْتِلَابِ الْمَوْصُول الَّذِي تومىء صِلَتُهُ إِلَى عِلَّةِ الْخَبَرِ الْمَقْصُودِ، فَأُشِيرَ إِلَى أَنَّ وُقُوعَهُ فِي
هَذِه الْحَالة ناشىء مِنْ تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ لَهُ سُوءَ عَمَلِهِ، فَالْمُزَيِّنُ لِلْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ هُوَ الشَّيْطَانُ قَالَ تَعَالَى: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [النَّمْل: 24] فَرَأَوْا أَعْمَالَهُمُ
السَّيِّئَةَ حَسَنَةً فَعَكَفُوا عَلَيْهَا وَلم يقبلُوا فِيهَا نَصِيحَةَ نَاصِحٍ، وَلَا رِسَالَةَ مُرْسَلٍ.
ومَنْ مَوْصُولَةٌ صَادِقَةٌ عَلَى جَمْعٍ مِنَ النَّاسِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْكَلَامِ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ بَلْ وَدَلَّ عَلَيْهِ تَفْرِيعُ هَذَا عَلَى قَوْله إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6] ومَنْ فِي مَوْضِعِ رَفْعِ الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ عَنْهُ مَحْذُوفٌ إِيجَازًا لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ [فاطر: 7] عَقِبَ قَوْله:
إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ. فَتَقْدِيرُهُ بِالنِّسْبَةِ لِمَا اسْتَحَقَّهُ حِزْبُ الشَّيْطَانِ مِنَ الْعَذَابِ: أَفَأَنْتَ تَهْدِي مَنْ زيّن لَهُ سوء عَمَلُهُ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ.
وَتَقْدِيره بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَسْلِيَة النبيء صلى الله عليه وسلم: لَا يَحْزُنْكَ مَصِيرُهُ فَإِنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ.
وَفُرِّعَ عَلَيْهِ: فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ. وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ أَيْ فَلَا تَفْعَلْ ذَلِكَ، أَيْ لَا يَنْبَغِي لَكَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ أَوْقَعُوا أَنْفُسَهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بِتَزْيِينِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ وَرُؤْيَتِهِمْ ذَلِكَ حَسَنًا وَهُوَ مِنْ فعل أنفسهم فَلَمَّا ذَا تَتَحَسَّرُ عَلَيْهِمْ.
وَهَذَا الْخَبَرُ مِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْمُقَابَلَةُ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [فاطر: 7] فَقَدْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ سُوءٌ وَأَنَّ الْإِيمَانَ حُسْنٌ، فَيَكُونُ «مَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ» هُوَ الْكَافِرَ، وَيَكُونُ ضِدُّهُ هُوَ الْمُؤْمِنَ، وَنَظِيرُ هَذَا التَّرْكِيبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [19]، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [33] .
وَالتَّزْيِينُ: تَحْسِينُ مَا لَيْسَ بِحَسَنٍ بَعْضَهُ أَوْ كُلَّهُ. وَقَدْ صَرَّحَ هُنَا بِضِدِّهِ فِي قَوْلِهِ:
سُوءُ عَمَلِهِ، أَيْ صُوِّرَتْ لَهُمْ أَعْمَالُهُمُ السَّيِّئَةُ بِصُورَةٍ حَسَنَةٍ لِيُقْدِمُوا عَلَيْهَا بِشَرَهٍ وَتَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ النَّمْلِ.
وَجُمْلَةُ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ مُفَرَّعَةٌ، وَهِيَ تَقْرِيرٌ
لِلتَّسْلِيَةِ وَتَأْيِيسٌ مِنِ اهْتِدَاءِ مَنْ لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ فِيهِ أَسْبَابَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الْحَقِّ مِنْ صَحِيحِ النَّظَرِ
وَإِنْصَافِ الْمُجَادَلَةِ.
وَإِسْنَادُ الْإِضْلَالِ وَالْهِدَايَةِ إِلَى الله إِسْنَاد بِوَاسِطَةِ أَنَّهُ خَالِقُ أَسْبَابِ الضَّلَالِ وَالِاهْتِدَاءِ، وَذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفِهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَهُوَ سِرٌّ مِنَ الْحِكْمَةِ عَظِيمٌ لَا يُدْرَكُ غَوْرُهُ وَلَهُ أُصُولٌ وَضَوَابِطُ سَأُبَيِّنُهَا فِي «رِسَالَةِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَجُمْلَةُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ مُفَرَّعَةٌ عَلَى الْمُفَرَّعِ عَلَى جُمْلَةِ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ إِلَخ فتؤول إِلَى التَّفْرِيعِ على الجملتين فيؤول إِلَى أَنْ يَكُونَ النَّظْمُ هَكَذَا:
أَفَتَتَحَسَّرُ عَلَى مَنْ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ فَرَأَوْهَا حَسَنَاتٍ وَاخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ طَرِيقَ الضَّلَالِ فَإِنَّ اللَّهَ أَضَلَّهُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ وَهُوَ قَدْ تَصَرَّفَ بِمَشِيئَتِهِ فَهُوَ أَضَلَّهُمْ وَهُدَى غَيْرَهُمْ بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ الَّتِي شَاءَ بِهَا إِيجَادَ الْمَوْجُودَاتِ لَا بِأَمْرِهِ وَرِضَاهُ الَّذِي دَعَا بِهِ النَّاسَ إِلَى الرَّشَادِ، فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ وَإِنَّمَا حَسْرَتُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ إِذْ رَضُوا لَهَا بِاتِّبَاعِ الشَّيْطَانِ وَنَبَذُوا اتِّبَاعَ إِرْشَادِ اللَّهِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ وَرَّطُوا أَنْفُسَهُمْ فِيمَا أَوْقَعُوهَا فِيهِ بِصُنْعِهِمْ.
فَاللَّهُ أَرْشَدَهُمْ بِإِرْسَالِ رَسُولِهِ لِيَهْدِيَهُمْ إِلَى مَا يُرْضِيهِ، وَاللَّهُ أَضَلَّهُمْ بِتَكْوِينِ نُفُوسِهِمْ نَافِرَةً عَنِ الْهُدَى تَكْوِينًا مُتَسَلْسِلًا مِنْ كَائِنَاتٍ جَمَّةٍ لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا عِلْمُهُ وَكُلُّهَا مِنْ مَظَاهِرِ حِكْمَتِهِ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَ سَلَاسِلَ الْكَائِنَاتِ عَلَى غَيْرِ هَذَا النِّظَامِ فَلَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا، وَكُلُّهُمْ مُيَسَّرٌ بِتَيْسِيرِهِ إِلَى مَا يَعْلَمُ مِنْهُمْ فَعُدِلَ عَنِ النَّظْمِ الْمَأْلُوفِ إِلَى هَذَا النَّظْمِ الْعَجِيبِ. وَصِيغَ بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ وَالنَّهْيِ التَّثْبِيتِيِّ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [19]، فَإِنَّ أَصْلَ نَظْمِهَا: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَنْتَ تُنْقِذُهُ مِنَ النَّارِ، أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ الَّذِينَ فِي النَّارِ. إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ زَادَتْ بِالِاعْتِرَاضِ وَكَانَ الْمُفَرَّعُ الْأَخِيرُ فِيهَا نَهْيًا وَالْأُخْرَى عُرِّيَتْ عَنِ الِاعْتِرَاضِ وَكَانَ الْمُفَرَّعُ الْأَخِيرُ فِيهَا اسْتِفْهَامًا إِنْكَارِيًّا.
وَالنَّهْيُ مُوَجَّهٌ إِلَى نَفْسِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَذْهَبَ حَسَرَاتٍ عَلَى الضَّالِّينَ وَلَمْ يُوَجَّهْ إِلَيْهِ بِأَنْ يُقَالَ: فَلَا تَذْهَبْ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ، وَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَنَفْسُهُ مُتَّحِدَانِ
فَتَوْجِيهُ النَّهْيِ إِلَى نَفْسِهِ دُونَ أَنْ يُقَالَ فَلَا تَذْهَبْ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الذَّهَابَ مُسْتَعَارٌ إِلَى التَّلَفِ وَالِانْعِدَامِ كَمَا يُقَال: طارت نَفسه شَعَاعًا، وَمِثْلُهُ فِي كَلَامِهِمْ كَثِيرٌ كَقَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ:
أَقُولُ لِلنَّفْسِ تَأْسَاءً وَتَعْزِيَةً
…
إِحْدَى يَدَيَّ أَصَابَتْنِي وَلَمْ تُرِدِ
لِتَحْصُلَ فَائِدَةُ تَوْزِيعِ النَّهْيِ وَالْخِطَابِ عَلَى شَيْئَيْنِ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ فَهُوَ تَكْرِيرُ الْخِطَابِ وَالنَّهْيِ لِكِلَيْهِمَا. وَهِيَ طَرِيقَةُ التَّجْرِيدِ الْمَعْدُودِ فِي الْمُحَسِّنَاتِ، وَفَائِدَةُ التَّكْرِيرِ الْمُوجِبِ تَقْرِيرَ الْجُمْلَةِ فِي النَّفْسِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا يُخَادِعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [9] .
وَالْحَسْرَةُ تَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ مِنْ سُورَةِ مَرْيَمَ [39] .
وَانْتَصَبَ حَسَراتٍ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، أَيْ لَا تُتْلِفْ نَفْسَكَ لِأَجْلِ الْحَسْرَةِ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: 3]، وَقَوْلِهِ:
وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ [يُوسُف: 84] أَيْ مِنْ حُزْنِ نَفْسِهِ لَا مِنْ حُزْنِ الْعَيْنَيْنِ.
وَجُمِعَتِ الْحَسَرَاتُ مَعَ أَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ صَالِحٌ للدلالة على تكْرَار الْأَفْرَادِ قَصْدًا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى إِرَادَةِ أَفْرَادٍ كَثِيرَةٍ مِنْ جِنْسِ الْحَسْرَةِ لِأَنَّ تَلَفَ النَّفْسِ يَكُونُ عِنْدَ تَعَاقُبِ الْحَسَرَاتِ الْوَاحِدَةِ تِلْوَ الْأُخْرَى لِدَوَامِ الْمُتَحَسَّرِ مِنْهُ فَكُلُّ تَحَسُّرٍ يَتْرُكُ حَزَازَةً وَكَمَدًا فِي النَّفْسِ حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي لَا تُطِيقُهُ النَّفْسُ فَيَنْفَطِرَ لَهُ الْقَلْبُ فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ فِي الطِّبِّ أَنَّ الْمَوْتَ مِنْ شِدَّةِ الْأَلَمِ كَالضَّرْبِ الْمُبَرِّحِ وَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ سَبَبُهُ اخْتِلَالُ حَرَكَةِ الْقَلْبِ مِنْ تَوَارُدِ الْآلَامِ عَلَيْهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَالْهَاءِ وَرَفْعِ نَفْسُكَ عَلَى أَنَّهُ نَهْيٌ لِنَفْسِهِ وَهُوَ كِنَايَةٌ ظَاهِرَةٌ عَنْ نَهْيِهِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْهَاءِ وَنَصْبِ نَفْسُكَ عَلَى أَنَّهُ نَهْيُ الرَّسُولِ أَنْ يُذْهِبَ نَفْسَهُ.
وَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى فَاءَاتٍ أَرْبَعٍ كُلُّهَا لِلسَّبَبِيَّةِ وَالتَّفْرِيعِ وَهِيَ الَّتِي بَلَغَ بِهَا نَظْمُ الْآيَةِ إِلَى هَذَا الْإِيجَازِ الْبَالِغِ حَدَّ الْإِعْجَازِ وَفِي اجْتِمَاعِهَا مُحَسِّنُ جَمْعِ النَّظَائِرِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ تَصْلُحُ لِإِفَادَةِ التَّصَبُّرِ وَالتَّحَلُّمِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ