الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سُورَة سبإ (34) : آيَة 45]
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45)
هَذَا تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَتَهْدِيدٌ لِلَّذِينِ كَذَّبُوهُ، فَمَوْقِعُ التَّسْلِيَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَمَوْقِعُ التَّهْدِيدِ بَقِيَّةُ الْآيَةِ، فَالتَّسْلِيَةُ فِي أَنَّ لَهُ أُسْوَةً بِالرُّسُلِ السَّابِقِينَ، وَالتَّهْدِيدُ.
بِتَذْكِيرِهِمْ بِالْأُمَمِ السَّالِفَةِ الَّتِي كَذَّبَتْ رُسُلَهَا وَكَيْفَ عَاقَبَهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَكَانُوا أَشَدَّ قُوَّةً مِنْ قُرَيْشٍ وَأَعْظَمَ سَطْوَةً مِنْهُمْ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً [الزخرف: 8] .
وَمَفْعُولُ كَذَّبَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ، أَي كذبُوا الرُّسُل، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
فَكَذَّبُوا رُسُلِي.
وَضَمِيرُ بَلَغُوا عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي آتَيْناهُمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هَذَا سحر مُبين [سبأ: 43] . وَالْمَقَامُ يُرَدُّ عَلَى كُلِّ ضَمِيرٍ إِلَى معاده، كَمَا تقدم قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ: 41] .
وَالْمِعْشَارُ: الْعُشْرُ، وَهُوَ الْجُزْءُ الْعَاشِرُ مِثْلَ الْمِرْبَاعِ الَّذِي كَانَ يَجْعَل لقائد الكتبية مِنْ غَنَائِمِ الْجَيْشِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَذُكِرَ احْتِمَالَانِ آخَرَانِ فِي مَعَادِ الضَّمِيرَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: وَما بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ لَا يَسْتَقِيمُ مَعَهُمَا سِيَاقُ الْآيَةِ.
وَجُمْلَةُ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ مُعْتَرِضَةٌ، وَالِاعْتِرَاضُ بِهَا تَمْهِيدٌ لِلتَّهْدِيدِ وَتَقْرِيبٌ لَهُ بِأَنَّ عِقَابَ هَؤُلَاءِ أَيْسَرُ مِنْ عِقَابِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرّوم: 27] .
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَكَذَّبُوا رُسُلِي لِلتَّفْرِيعِ عَلَى قَوْلِهِ: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بِاعْتِبَارِ أَن المفرع عطف عَلَيْهِ قَوْله: فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ، وَبِذَلِكَ كَانَتْ جُمْلَةُ فَكَذَّبُوا رُسُلِي تَأْكِيدًا لِجُمْلَةِ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا فِي سُورَةِ الْقَمَرِ [9] ، وَلِكَوْنِ الْفَاءِ
الثَّانِيَةِ فِي قَوْلِهِ: فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا لِلْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَكَذَّبُوا رُسُلِي.
وَقَوْلُهُ: فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ مُفَرَّعٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.
وَ (كَيْفَ) اسْتِفْهَامٌ عَنِ الْحَالَةِ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّقْرِيرِ وَالتَّفْرِيعِ كَقَوْلِ الْحَجَّاجِ لِلْعُدَيْلِ ابْنِ الْفَرْخِ «فَكَيْفَ رَأَيْتَ اللَّهَ أَمْكَنَ مِنْكَ» ، أَيْ أَمْكَنَنِي مِنْكَ، فِي قِصَّةِ هُرُوبِهِ.
فَجُمْلَتَا فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ فِي قُوَّةِ جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ مُفَرَّعَةٍ عَلَى جُمْلَةِ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَالتَّقْدِيرُ: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكيف كَانَ نكيري عَلَى تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ جُمْلَةُ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مَقْصُودًا مِنْهَا تَسْلِيَةُ الرَّسُولِ ابْتِدَاءً جُعِلَتْ مَقْصُورَةً عَلَى ذَلِكَ اهْتِمَامًا بِذَلِكَ الْغَرَضِ وَانْتِصَارًا مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ خَصَّتْ عِبْرَةَ تَسَبُّبِ التَّكْذِيبِ فِي الْعِقَابِ بِجُمْلَةٍ تَخُصُّهَا تَهْوِيلًا لِلتَّكْذِيبِ وَهُوَ مِنْ مَقَامَاتِ
الْإِطْنَابِ، فَصَادَفَ أَنْ كَانَ مَضْمُونُ الْجُمْلَتَيْنِ مُتَّحِدًا اتِّحَادَ السَّبَبِ لِمُسَبِّبَيْنِ أَوِ الْعِلَّةِ لِمَعْلُولَيْنِ كَعِلَّةِ السَّرِقَةِ لِلْقَطْعِ وَالْغُرْمِ. وَبُنِيَ النَّظْمُ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ الشَّيِّقِ تَجَنُّبًا لِثِقَلِ إِعَادَةِ الْجُمْلَةِ إِعَادَةً سَاذِجَةً فَفُرِّعَتِ الثَّانِيَةُ عَلَى الْأُولَى وَأُظْهِرَ فِيهَا مَفْعُولُ كَذَّبَ وَبُنِيَ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ التَّقْرِيرِيُّ التَّفْظِيعِيُّ، أَوْ فَرَّعَ لِلتَّكْذِيبِ الْخَاصِّ عَلَى التَّكْذِيبِ الَّذِي هُوَ سَجِيَّتُهُمُ الْعَامَّةُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فِي مَعْنَى: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ [الْقَمَر: 9] .
والنكير: اسْمٌ لِلْإِنْكَارِ وَهُوَ عَدُّ الشَّيْءِ مُنْكَرًا، أَيْ مَكْرُوهًا، وَاسْتُعْمِلَ هُنَا كِنَايَةً عَنِ الْغَضَبِ وَتَسْلِيطِ الْعِقَابِ عَلَى الْآتِي بِذَلِكَ الْمُنْكَرِ فَهِيَ كِنَايَةٌ رَمْزِيَّةٌ.
وَالْمَعْنَى: فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِي لَهُمْ عَلَى مَا جَاءُوا بِهِ مِمَّا أَنْكَرَهُ، أَيْ كَانَ عِقَابًا عَظِيمًا عَلَى وَفْقِ إِنْكَارِنَا تَكْذِيبَهُمْ.
ونَكِيرِ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَهُوَ مُضَافٌ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَحُذِفَتِ الْيَاءُ لِلتَّخْفِيفِ مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَيْهَا بِبَقَاءِ الْكَسْرَةِ عَلَى آخِرِ الْكَلِمَةِ وَلِيُنَاسِبَ الْفَاصِلَةَ وَأُخْتَهَا. وَكُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ بِدُونِ يَاءٍ وَبِوَقْفٍ عَلَيْهِ بِالسُّكُونِ.