المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في ذكر الحساب وغيره - فتح القريب المجيب على الترغيب والترهيب - جـ ١٤

[حسن بن علي الفيومي]

فهرس الكتاب

- ‌التَّرْهِيب من النِّيَاحَة على الْمَيِّت والنعي وَلَطم الخد وخمش الْوَجْه وشق الجيب

- ‌إن الميت ليعذب ببكاء الحي

- ‌لا تصلي الملائكة على نائحة ولا مرنة

- ‌النهي عن النعي

- ‌ليس منا من حلق ولا خرق ولا صلق

- ‌التَّرْهِيب من إحداد الْمَرْأَة على غير زَوجهَا فَوق ثَلَاث

- ‌[التَّرْهِيب من أكل مَال الْيَتِيم بِغَيْر حق]

- ‌التَّرْغِيب فِي زِيَارَة الرِّجَال الْقُبُور والترهيب من زِيَارَة النِّسَاء واتباعهن الْجَنَائِز

- ‌التَّرْهِيب من الْمُرُور بقبور الظَّالِمين وديارهم ومصارعهم مَعَ الْغَفْلَة عَمَّا أَصَابَهُم وَبَعض مَا جَاءَ فِي عَذَاب الْقَبْر ونعيمه وسؤال مُنكر وَنَكير عليهما السلام

- ‌فوائد يختم بها الباب:

- ‌[التَّرْهِيب من الْجُلُوس على الْقَبْر وَكسر عظم الْميِّت]

- ‌كتاب البعث وأهوال يوم القيامة

- ‌فصل في النفخ في الصور وقيام الساعة

- ‌فصل في الحشر وغيره

- ‌فصل في ذكر الحساب وغيره

- ‌فصل في الحوض والميزان والصراط

- ‌فصل في الشفاعة وغيرها

- ‌كتاب صفة الجنة والنار الترغيب في سؤال الجنة والاستعاذة من النار

- ‌الترهيب من النار أعاذنا الله منها بمنه وكرمه

- ‌فصل فِي شدَّة حرهَا وَغير ذَلِك

- ‌فصل في ظلمتها وسوادها وشررها

- ‌فصل في أوديتها وجبالها

- ‌فصل في بعد قعرها

- ‌فصل في سلاسلها وغير ذلك

- ‌فصل في حيّاتها وعقاربها

- ‌فصل في شراب أهل النار

- ‌فصل في طعام أهل النار

- ‌شراب أهل النار

- ‌في عظم أهل النار وقبحهم فيها

- ‌فصل في تفاوته في العذاب وذكر هونهم عذابا

- ‌فصل في بكائهم وشهيقهم

- ‌الترغيب الجنة ونعيمها ويشتمل على فصول

- ‌فصل في صفة دخول أهل الجنة الجنة وغير ذلك

- ‌عدد أبواب الجنة ثمانية:

- ‌فصل فيما لأدنى أهل الجنة

- ‌فصل في درجات الجنة وغرفها

- ‌فصل فِي بِنَاء الْجنَّة وترابها وحصبائها وَغير ذَلِك

- ‌فصل في حياض الجنة وعرفها

- ‌فصل في أنهار الجنة

الفصل: ‌فصل في ذكر الحساب وغيره

‌فصل في ذكر الحساب وغيره

5443 -

عن أبي برزة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه؟ وعن علمه ما عمل به؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟ وعن جسمه فيما أبلاه؟ رواه الترمذي

(1)

وقال: حديث حسن صحيح.

قوله: "عن أبي برزة" أبو برزة هذا اسمه نضلة، بنون ثم ضاد معجمة، ابن عبيد، هذا هو الصحيح المشهور في اسمه، ويقال: نضلة بن عمرو، ويقال: نضلة بن عبد اللَّه. قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه وعن علمه ما عمل به" الحديث، وفي حديث معاذ الذي بعده: وعن علمه ماذا عمل فيه. قال الإمام أبو عبد اللَّه القرطبي. قلت:

(1)

الترمذي (2417)، وأخرجه الدارمي (543)، وأبو يعلى (7434)، والروياني (1313)، والآجري في أخلاق العلماء (115)، والبيهقي في المدخل (494)، والخطيب في اقتضاء العلم العمل (1)، ومحمد بن عبد الباقي الأنصاري في المشيخة الكبرى (425)، والمزي في التهذيب (10/ 517 - 518)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 346) رواه الطبراني في الأوسط وهو عند الترمذي دون قوله: وعن حبنا أهل البيت. وما بعده. وجعل الرابعة: وعلمه ماذا عمل به. وفي إسناد الطبراني الحارث بن محمد الكوفي، ويقال له: المعكوف، قال صاحب الميزان: أتى بخبر باطل، وباقيهم ثقات. وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (7300)، واقتضاء العلم 1 - 3، والصحيحة 946. وصحيح الترغيب والترهيب (3/ 423).

ص: 276

قوله: "وعن علمه فيما عمل فيه" هذا مقام مخوف لأنه لم يقل وعن علمه ما قال فيه وإنما قال ما عمل فيه فلينظر العبد ما عمل فيما علمه هل صدق اللَّه في ذلك وأخلصه حتى يدخل فيمن أثنى عليه بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا}

(1)

أو خالف علمه [فيدخل] في قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ}

(2)

الآية. وقوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ}

(3)

الآية، وقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)}

(4)

الآية، والأخبار بهذا المعنى كثيرة جدًا وتقدم ذلك واللَّه أعلم، قاله في التذكرة

(5)

.

5444 -

وَعَن معَاذ بن جبل رضي الله عنه. قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم لن تَزُول قدما عبد يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى يسْأَل عَن أَربع خِصَال عَن عمره فِيمَا أفناه وَعَن شبابه فِيمَا أبلاه وَعَن مَاله من أَيْن اكْتَسبهُ وَفِيمَا أنفقهُ وَعَن علمه مَاذَا عمل فِيهِ رَوَاهُ الْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح وَاللَّفْظ لَهُ

(6)

.

(1)

سورة البقرة، الآية:177.

(2)

سورة الأعراف، الآية:169.

(3)

سورة البقرة، الآية:44.

(4)

سورة الصف، الآية:2.

(5)

التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة (ص: 632).

(6)

أخرجه البزار (2640 و 2641)، والطبراني في الكبير (25/ 60 رقم 111). قال الهيثمي في المجمع 10/ 346: رواه الطبراني، والبزار بنحوه، ورجال الطبراني رجال الصحيح غير صامت بن معاذ، وعدي بن عدي الكندي، وهما ثقتان. وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3593). ولم يدرج الشارح تحته شرحا.

ص: 277

5445 -

وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من نوقش الحساب عذب فقلت أليس يقول اللَّه: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)}

(1)

فقال إنما ذلك العرض وليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك.

رواه البخاري

(2)

ومسلم

(3)

وأبو داود

(4)

والترمذي

(5)

.

قوله: "وعن عائشة" تقدم الكلام عليها. قوله صلى الله عليه وسلم: "من نوقش الحساب عُذِّب" الحديث، المناقشة الاستقصاء في الحساب حتى لا يترك منه شيء، يقال ناقشه الحساب إذا عاسره فيه واستقصى فلم يترك قليلا ولا كثيرًا، يقال انتقشت منه جميع حقي، وقيل المناقشة هو نفس عذابه المراد، يعذب بمحاسبته وقيل بل [إذا]

(6)

نوقش وزنت أعماله وخطراته وهمه وصغائره وكبائره لم يكن يتخلص إن لم يعف اللَّه عنه كما قال عليه السلام: لا يدخل أحدكم الجنة بعمله، الحديث، قال القاضي عياض رحمه اللَّه تعالى

(7)

وللحديث معنيان: أحدهما أن نفس المناقشة وعرض الذنوب والتوقيف عليها هو

(1)

سورة الإنشقاق، الآية: 7 - 9.

(2)

صحيح البخاري (6536).

(3)

صحيح مسلم (79)(2876).

(4)

سنن أبي داود (3093).

(5)

سنن الترمذي (2426) وقال: "هذا حديث حسن صحيح".

(6)

سقطت هذه العبارة من النسخة الهندية.

(7)

شرح النووي على مسلم (17/ 208).

ص: 278

التعذيب لما فيه من التوبيخ، والثاني أنه مفض إلى العذاب بالنار، [وتؤيده] الرواية الأخرى وهو حديث ابن الزبير من نوقش الحساب هلك مكان عُذّب، هذا كلام القاضي، وهذا الثاني هو الصحيح ومعناه أن التقصير غالب في العباد فمن استقصى عليه ولم يُسامح هلك وأدخل النار ولكن اللَّه يعفو ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء، اهـ، قاله النووي

(1)

.

قولها رضي الله عنها فقلت: "أليس يقول {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)}

(2)

" أي سهلا هينا لا يناقش فيه ولا يعترض فيما يشق عليه كما يناقش أصحاب الشمال، ووجه المعارضة أن الحديث عام في تعذيب كل من حوسب والآية تدل على عدم تعذيب بعضهم وهم أصحاب اليمين، وجوابها: أن المراد بالحساب في الآية العرض يعني الإبراز والإظهار. وعن عائشة رضي الله عنها: "هو أن يُعرّف ذنوبه ثم يتجاوز عنه" اهـ. وقوله: "إنما ذلك العرض" هو بكسر الكاف أي عرض الأعمال لا الحساب.

قوله صلى الله عليه وسلم: "وليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك" أي يحاسب حسابا على سبيل الاستقصاء والمناقشة حتى لا يترك منه شيء، يؤيده قوله صلى الله عليه وسلم:"من نوقش الحساب عذب" وفي رواية: "هلك"، كما تقدم، وهذا لمن لم يحاسب نفسه في الدنيا فيناقش بالصغيرة والكبيرة فأما من تاب وحاسب

(1)

شرح النووي على مسلم (17/ 209).

(2)

سورة الانشقاق، الآية: 7 - 8.

ص: 279

نفسه فلا يناقش واللَّه أعلم. وفي هذا الحديث بيان فضيلة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وحرصها على التعلم والتحقيق فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما كان يتضجر من المراجعة إليه وإثبات الحساب والعرض والعذاب وجواز المناظرة ومقابلة السنة بالكتاب وتفاوت الناس في الحساب وغير ذلك واللَّه أعلم.

تنبيه: في آخر الكتاب باليمين، حكى النووي

(1)

عن القاضي عياض في ذلك قولين أحدهما أن جميع المؤمنين من الأمم يأخذون كتبهم بأيمانهم ثم يعذّب اللَّه من [يشاء] من عصاتهم والثاني إنما يأخذ كتابه بيمينه الناجون من النار خاصة، اهـ. قاله الكمال الدميري.

لطيفة: فيها بشرى: قال أبو عثمان النهدي: إن المؤمن يُؤتى كتابه في ستر من اللَّه تعالى فيقرأ سيئاته فإذا قرأها تغير لونه حتى يمرّ بحسناته فيقرأها فيرجع إليه لونه ثم ينظر فإذا سيئاته بدلت حسنات، فعند ذلك يقرأ {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ}

(2)

الآية، قاله ابن رجب الحنبلي

(3)

.

5446 -

وعن ابن الزبير رضي الله عنهما قال قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من نوقش الحساب هلك. رواه البزار

(4)

والطبراني في الكبير (1) بإسناد صحيح.

(1)

انظر: إكمال المعلم بفوائد مسلم (7/ 257).

(2)

سورة الحاقة، الآية:19.

(3)

جامع العلوم والحكم (ج 1/ ص 118)، وأخرجه ابن المبارك في الزهد (1415)، وقال السيوطي في الدر المنثور ج 6/ ص 280 وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن أبي عثمان النهدي.

(4)

مسند البزار = البحر الزخار (2198).

ص: 280

قوله: "وعن ابن الزبير" سيأتي الكلام على ترجمته في الكلام على الحوض إن شاء اللَّه تعالى. قوله صلى الله عليه وسلم: "من نوقش الحساب هلك" تقدم الكلام عليه.

5447 -

وَعَن عتبَة بن عبد اللَّه رضي الله عنه أَن رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ لَو أَن رجلًا يخر على وَجهه من يَوْم ولد إِلَى يَوْم يَمُوت هرما فِي مرضاة اللَّه عز وجل لحقره يَوْم الْقِيَامَة رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وَرُوَاته ثِقَات إِلَّا بَقِيَّة

(2)

.

5448 -

وَعَن مُحَمَّد بن أبي عميرَة رضي الله عنه: وَكَانَ من أَصْحَاب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَحْسبهُ رَفعه إِلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَو أَن رجلًا خر على وَجهه من يَوْم ولد إِلَى يَوْم يَمُوت هرما فِي طَاعَة اللَّه عز وجل لحقره ذَلِك الْيَوْم ولود أَنه رد إِلَى الدُّنْيَا كَيْمَا يزْدَاد من الأجر وَالثَّوَاب رَوَاهُ أَحْمد وَرُوَاته رُوَاة الصَّحِيح

(3)

.

= (1) الطبراني - جامع المسانيد والسنن (6389) -، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 350): رواه البزار، والطبراني في الكبير والأوسط، ورجال البزار والكبير رجال الصحيح، وكذلك رجال الأوسط غير عمرو بن أبي عاصم النبيل، وهو ثقة. وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 424).

(2)

أخرجه أحمد 4/ 185 (17649)، والبخاري في التاريخ الكبير 1/ 15، ويعقوب بن سفيان في المعرفة 1/ 340، والطبرأني في الكبير 17/ 122 (303) والشاميين (1138). قال الهيثمي في المجمع 1/ 51: رواه أحمد والطبراني في الكبير، وفيه بقية وهو مدلس، ولكنه صرح بالتحديث، وبقية رجاله وثقوا. وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3596) والصحيحة (446). ولم يدرج الشارح تحته شرحا.

(3)

أخرجه أحمد 4/ 185 (17650)، والطبراني في الكبير 19/ 249 (562). قال الهيثمي في المجمع 1/ 51: رواه أحمد والطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح. وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3597). ولم يدرج الشارح تحته شرحا.

ص: 281

5449 -

وروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يخرج لابن آدم يوم القيامة ثلاثة دواوين ديوان فيه العمل الصالح وديوان فيه ذنوبه وديوان فيه النعم من اللَّه عليه فيقول اللَّه عز وجل لأصغر نعمة أحسبه قال في ديوان النعم خذي ثمنك من عمله الصالح فتستوعب عمله الصالح ثم تنحى وتقول وعزتك ما استوفيت وتبقى الذنوب والنعم وقد ذهب العمل الصالح فإذا أراد اللَّه أن يرحم عبدا قال يا عبدي قد ضاعفت لك حسناتك وتجاوزت عن سيئاتك أحسبه قال ووهبت لك نعمي رواه البزار

(1)

.

قوله: "وعن أنس بن مالك" تقدم. قوله صلى الله عليه وسلم: "يخرج لابن آدم يوم القيامة ثلاثة دواوين ديوان فيه العمل الصالح" فذكره، إلى أن قال:"فيقول اللَّه لأصغر نعمة -أحسبه قال في ديوان النعم- خذي ثمنك من عمله الصالح فتستوعب عمله الصالح" الحديث أي تأتي عليه والإيعاب والاستيعاب الإستئصال والاستقصاء في كل شيء، قاله في النهاية

(2)

.

5450 -

وَعَن ابْن عمر رضي الله عنهما أَن رجلًا من الْحَبَشَة أَتَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُول اللَّه فضلْتُمْ علينا بالألوان والنبوة أَفَرَأَيْت إِن آمَنت بِمثل مَا آمَنت بِهِ وعملت بِمثل مَا عملت بِهِ إِنِّي لكائن مَعَك فِي الْجنَّة فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم نعم ثمَّ

(1)

أخرجه البزار (4/ 160) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 357) رواه البزار، وفيه صالح المري، وهو ضعيف. وقال الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب (2/ 415)، وفي السلسلة الضعيفة (6698): موضوع.

(2)

النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 205).

ص: 282

قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه كَانَ لَهُ بهَا عهد عِنْد اللَّه وَمن قَالَ سُبْحَانَ اللَّه كتب لَهُ مائَة ألف حَسَنَة فَقَالَ رجل يَا رَسُول اللَّه كيفَ نهلك بعد هَذَا فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ إِن الرجل ليجيء يَوْم الْقِيَامَة بِعَمَل لَو وضع على جبل لأثقله فتقوم النِّعْمَة من نعم اللَّه فتكاد تستنفد ذَلِك كُله لَوْلا مَا يتفضل اللَّه من رَحمته ثمَّ نزلت {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} إِلَى قَوْله: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)}

(1)

فَقَالَ الحبشي يَا رَسُول اللَّه وَهل ترى عَيْني فِي الْجنَّة مثل مَا ترى عَيْنك فَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم نعم فَبكى الحبشي حَتَّى فاضت نَفسه قَالَ ابْن عمر فَأَنا رَأَيْت رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم يدليه فِي حفرته رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من رِوَايَة أَيَّوب بن عتبَة

(2)

.

5451 -

وَرُوِيَ عَن وَاثِلَة بن الأَسْقَع رضي الله عنه عَن رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ يبْعَث اللَّه يَوْم الْقِيَامَة عبدا لا ذَنْب لَهُ فَيَقُول اللَّه أَي الأمريْنِ أحب إِلَيْك أَن أجزيك بعملك أَو بنعمتي عنْدك قَالَ يَا رب إِنَّك تعلم أَنِّي لم أعصك قَالَ خُذُوا عَبدِي بِنِعْمَة من نعمي فَمَا تبقى لَهُ حَسَنَة إِلَّا استغرقتها تِلْكَ النِّعْمَة فَيَقُول رب

(1)

سورة الإنسان، الآيات: 1 - 20.

(2)

أخرجه الطبراني في الأوسط (2/ 161 - 162 رقم 1581).

قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن عطاء إلا أيوب، تفرد به: عفيف، ولا يروى عن ابن عمر إلا بهذا الإسناد. وقال الهيثمي في المجمع 10/ 358: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه أيوب بن عتبة، وهو ضعيف، وفيه توثيق لين. وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (2097). ولم يدرج الشارح تحته شرحا.

ص: 283

بنعمتك ورحمتك فَيَقُول بنعمتي ورحمتي رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ

(1)

.

5452 -

وعن جابر رضي الله عنه قال خرج علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال خرج من عندي خليلي جبريل آنفا فقال يا محمد والذي بعثك بالحق إن للَّه عبدا من عباده عبد اللَّه خمسمائة سنة على رأس جبل في البحر عرضه وطوله ثلاثون ذراعا في ثلاثين ذراعا والبحر محيط به أربعة آلاف فرسخ من كل ناحية وأخرج له عينا عذبة بعرض الأصبع تفيض بماء عذب فيستنقع في أسفل الجبل وشجرة رمان تخرج له في كل ليلة رمانة يتعبد يومه فإذا أمسى نزل فأصاب من الوضوء وأخذ تلك الرمانة فأكلها ثم قام لصلاته فسأل ربه عند وقت الأجل أن يقبضه ساجدا وأن لا يجعل للأرض ولا لشيء يفسده عليه سبيلا حتى يبعثه اللَّه وهو ساجد قال ففعل فنحن نمر عليه إذا هبطنا وإذا عرجنا فنجد له في العلم أنه يبعث يوم القيامة فيوقف بين يدي اللَّه فيقول له الرب أدخلوا عبدي الجنة برحمتي فيقول رب بل بعملي فيقول أدخلوا عبدي الجنة برحمتي فيقول رب بل بعملي فيقول اللَّه قايسوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله فتوجد نعمة البصر قد أحاطت بعبادة خمسمائة سنة وبقيت نعمة الجسد فضلا عليه فيقول أدخلوا عبدي النار فيجر إلى النار فينادي رب

(1)

أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (685)، والطبراني في الكبير (22/ 59 رقم 140) والشاميين (3395). قال الهيثمي في المجمع 10/ 349: رواه الطبراني، وفيه بشر بن عون، وهو متهم بالوضع. وقال الألباني: موضوع ضعيف الترغيب (2098). ولم يدرج الشارح تحته شرحا.

ص: 284

برحمتك أدخلني الجنة فيقول ردوه فيوقف بين يديه فيقول يا عبدي من خلقك ولم تك شيئًا فيقول أنت يا رب فيقول من قواك لعبادة خمسمائة سنة فيقول أنت يا رب فيقول من أنزلك في جبل وسط اللجة وأخرج لك الماء العذب من الماء المالح وأخرج لك كل ليلة رمانة وإنما تخرج مرة في السنة وسألته أن يقبضك ساجدا ففعل فيقول أنت يا رب قال فذلك برحمتي وبرحمتي أدخلك الجنة أدخلوا عبدي الجنة فنعم العبد كنت يا عبدي فأدخله اللَّه الجنة قال جبريل إنما الأشياء برحمة اللَّه يا محمد رواه الحاكم

(1)

عن سليمان بن هرم عن محمد بن المنكدر عن جابر وقال صحيح الإسناد.

قوله: "وعن جابر" تقدم الكلام عليه. قوله: "خرج علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: خرج من عندي خليلي جبريل آنفا" أي قريبا. قوله: "وأخرج له عينا عذبة بعرض الأصبع" أي حلوة والعذب من الماء هو الحلو الطيب. قوله:

(1)

الحاكم في المستدرك (4/ 250) - وتعقبه الذهبي بقوله: قلت: لا واللَّه، وسليمان غير معتمد. ثم الناجي من بعده فقال: كيف وفيه سليمان؟! قال الأزدي: لا يصح حديثه. وقال العقيلي: مجهول، وحديثه غير محفوظ. وأخرجه تمام في الفوائد (1688)، وابن طولون في الأربعين في الرحمة (ص 101 - 104)، وقال ابن طولون: سليمان بن هرم مجهول، قاله العقيلي، وقال أبو الفتح الأزدي: منكر الحديث، وذكر كل منهما حديثه نقلًا عن محمد بن المنكدر بطوله، وقال الذهبي في ميزان الاعتدال (2/ 228) قلت: لم يصح هذا، واللَّه تعالى يقول: ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون. ولكنه لا ينجى أحدا عمله من عذاب اللَّه، كما صح، بلي، أعمالنا الصالحة هي من فضل اللَّه علينا ومن نعمه، لا بحول منا ولا بقوة، فله الحمد على الحمد له، وضعفه الألباني في الضعيفة (1183)، وضعيف الترغيب والترهيب (2/ 417).

ص: 285

"تبِضُّ بماء عذب" تبض معناه قطر وسال واختلفوا في ضبطه هناك فضبطه بعضهم بالمعجمة وبعضهم بالمهملة أي تبرق قوله: "فأصاب من الوَضوء" الحديث، الوضوء بالفتح هو الماء الذي يتوضأ به والوُضوء بالضم هو الفعل، وتقدم الكلام على ذلك في باب الوضوء في كتاب الطهارة. [قوله:"والبحر محيط به أربعة آلاف فرسخ"، تقدم الكلام على الفرسخ. وقوله:"وأخرج له عينا عذبة بعرض الإصبع تبضّ بماء عذب"، تبضّ معناه قطر وسال واختلفوا في ضبطه هناك فضبطه بعضهم بالمعجمة وبعضهم بالمهملة أي تبرق].

5453 -

وعن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لن يدخل أحدا الجنة عمله. قالوا: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني اللَّه برحمته. رواه البخاري

(1)

ومسلم

(2)

وغيرهما.

قوله: "وعن عائشة" تقدم الكلام على مناقبها. قوله صلى الله عليه وسلم: "سدّدوا وقاربوا" أي اطلبوا السداد واعملوا به وإن عجزتم عنه فقاربوا أي اقربوا منه، والسداد الصواب وهو بين الإفراط والتفريط فلا تغلوا ولا تُقصِّروا. قوله:"فإنه لن يدخل الجنة أحدا عمله" الحديث، المراد بيان أن النجاة من العذاب والفوز بالثواب بفضل اللَّه ورحمته والعمل غير مؤثر فيهما على سبيل

(1)

صحيح البخاري (6467).

(2)

صحيح مسلم (78)(2818).

ص: 286

الإيجاب بل غايته أنه يُعَدّ للعامل لأن يتفضل عليه وتقرب إليه الرحمة كما قال اللَّه تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}

(1)

، فدخول الجنة بفضل اللَّه ورحمته والنجاة من النار بعفوه ومغفرته وعلى هذا حمل غير واحد ما جاء في الآيات في دخول الجنة فالأعمال كقوله تعالى:{وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)}

(2)

اهـ. قوله: "ولا أنت يا رسول اللَّه" الحديث، قال أبو العبَّاس القرطبي: كأنه وقع لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لعظيم معرفته باللَّه وكثرة عباداته أن يُنجيه عمله فردّ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وسوّى بينه وبينهم في ذلك المعنى وأخبر أنه عن فضله ورحمته لا يستغني.

قوله: "إلا أن يتغمدني اللَّه برحمته" أي يلبسني ويغمدني بها ومنه غمدت السيف وأغمدته إذا جعلته في غمده وسترته به أو يحفظني اللَّه برحمته كما يحفظ السيف في غمده، في نوادر الأصول

(3)

الذي سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ كان [أي السائل]

(4)

في عمًى من [هذا الأمر] وأن اللَّه منَّ عليه [صلى الله عليه وسلم] بالنبوءة وشرح الصدر وكل ذلك رحمة منه، قال اللَّه تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}

(5)

، اهـ،

(1)

سورة الأعراف، الآية:56.

(2)

سورة الزخرف، الآية:72.

(3)

نوادر الأصول في أحاديث الرسول (1/ 96).

(4)

سقطت هذه العبارة من النسخة الهندية.

(5)

سورة القصص، الآية:86.

ص: 287

فجمع في هذا الحديث مقامات الدين كلها فأمر بالاستقامة وهي السداد والإصابة في النيات والأقوال والأعمال وأخبر في حديث ثوبان أنهم لا يطيقونها فنقلهم إلى المقاربة وهي أن يقربوا من الاستقامة بحسب طاقتهم كالذي يرمي إلى الغرض فإن لم يصبه يقاربه ومع هذا فأخبرهم أن الاستقامة والمقاربة لا تُنجي يوم القيامة فلا يركن أحد إلى عمله ولا ترى أن نجاته به بل إنما نجاته برحمة اللَّه وعفوه وفضله واللَّه أعلم.

5454 -

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لن يدخل الجنة أحد إلا برحمة اللَّه قالوا ولا أنت يا رسول اللَّه قال ولا أنا إلا أن يتغمدني اللَّه برحمته وقال بيده فوق رأسه.

رواه أحمد

(1)

بإسناد حسن ورواه البزار

(2)

والطبراني

(3)

من حديث أبي موسى والطبراني

(4)

أيضًا من حديث أسامة بن شريك والبزار

(5)

أيضًا من

(1)

مسند أحمد (11486) وأخرجه عبد بن حميد في المنتخب (892): وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 357)،: رواه أحمد، وإسناده حسن!. وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 425).

(2)

مسند البزار = البحر الزخار (3121).

(3)

المعجم الأوسط (6553). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 357) رواه البزار، والطبراني في الأوسط والكبير، إلا أنه قال في الكبير:"ما منكم من أحد يدخله عمله الجنة. فقال بعض القوم: ولا أنت؟! " فذكره. وفي أسانيدهم أشعث بن سوار، وقد وثق على ضعفه، وبقية رجالهم ثقات.

(4)

وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 425).

(5)

المعجم الكبير للطبراني (1/ 187/ 493)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 357): =

ص: 288

حديث شريك بن طارق بإسناد جيد.

(1)

قوله: "وعن أبي سعيد" هو الخدري، تقدم. قوله صلى الله عليه وسلم:"لن يدخل الجنة أحد إلا برحمة اللَّه. قالوا: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني اللَّه برحمته" الحديث. يقال تغمده اللَّه برحمته أي غمده بها وسترها بها وألبسه رحمته وإذا اشتملت على شيء فغطته فقد تغمدته أي صارت له كالغمد للسيف، وتقدم الكلام عليه في الحديث قبله.

[فإن قلت: كل المؤمنين لا يدخلون الجنة إلا تغمدهم بفضله فما وجه تخصيص الذكر برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قلت: تغمد اللَّه تعالى له بعينه مقطوع به أو إذا كان له بفضل اللَّه فلغيره بالطريق الأولى أن يكون بفضله لا بعلمه.

فإن قلت: قال اللَّه تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)}

(2)

، قلت: الباء ليست للسببية -[ويمكن أن تكون سببية وعُبر بالعمل عن الفضل الناشيء عنه العمل إقامة للمسبب مقام سببه {وَاللَّهُ

= (10/ 357): رواه الطبراني، وفيه المفضل بن صالح الأسدي، وهو ضعيف. وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 425).

(1)

المعجم الكبير للطبراني (7/ 308/ 7218)، وأخرجه مسدد وأبو يعلى في "المسند" (المطالب العالية 3850 - 3851) وقال ابن حجر في المطالب العالية (15/ 642) هذا حديث صحيح. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 357): رواه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدها رجال الصحيح.

(2)

سورة الزخرف، الآية:72.

ص: 289

خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)}

(1)

، {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ}

(2)

الآية، واللَّه أعلم]

(3)

- بل للإلصاق والمصاحبة أي أورثتموها ملابسة أو مصاحبة لثواب أعمالكم اهـ]

(4)

.

تنبيه: واعلم أن مذهب أهل السنة أنه لا يثبت بالعقل ثواب ولا عقاب بل ثبوتهما بالشريعة المطهرة حتى لو عذب اللَّه تعالى جميع المؤمنين كان عدلا ولو أدخلهم الجنة فهو فضل لا يجب عليه شيء وكذا لو أدخل الكافرين الجنة لكان له ذلك ولكن أخبرنا بأنه لا يفعل بل يغفر للمؤمنين ويعذب الكافرين. والمعتزلة يُثبتون بالعقل الثواب والعقاب ويجعلون الطاعة سببا للثواب موجبا له، والحديث يردّ عليهم، قاله الكرماني

(5)

. أي جميع الكلام على حديث أبي سعيد هذا.

5455 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء، رواه مسلم

(6)

(1)

سورة الصافات، الآية:96.

(2)

سورة الأنفال، الآية:17.

(3)

سقطت هذه العبارة من النسخة الهندية.

(4)

حصل تأخير لهذه العبارة في النسخة الهندية، وأدرجت بعد قوله:(والمعتزلة يُثبتون بالعقل الثواب والعقاب ويجعلون الطاعة سببا للثواب موجبا له، والحديث يردّ عليهم).

(5)

الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (20/ 199).

(6)

صحيح مسلم (60)(2582).

ص: 290

والترمذي

(1)

ورواه أحمد

(2)

.

ولفظه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال يقتص للخلق بعضهم من بعض حتى للجماء من القرناء وحتى للذرة من الذرة ورواته رواه الصحيح الجلحاء التي لا قرن لها.

قوله: "وعن أبي هريرة" تقدم الكلام على مناقبه. قوله صلى الله عليه وسلم: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة" الحديث، هو على بناء المفعول، والحقوق مرفوعة وهي الرواية المعتدّ بها، وزعم بعضهم بناءه للفاعل وضم الدال ونصب الحقوق والفعل مسندا إلى الجماعة الذين خوطبوا به والصحيح ما تقدم، واللام جواب قسم مقدر كذا في الميسر وهو كتاب يتعلق بالحديث. قوله صلى الله عليه وسلم:"حتى يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء" الحديث، الجلحاء التي لا قرن لها، قاله الحافظ وقال بعضهم القرناء ضد الجلحاء وهي كناية على العدل بين الخلق. وقوله:"حتى للذرة من الذرة" الذرة بالذال المعجمة النملة الحمراء الصغيرة، وسئل ثعلب عنها فقال: إن مائة نملة وزن حبة والذرة واحدة منها، وقيل الذرة ليس لها وزن ويراد بها ما يرى

(1)

سنن الترمذي (2420): "وحديث أبي هريرة حديث حسن صحيح".

(2)

أحمد (8756)، والحديث؛ أخرجه الدينوري، في "المجالسة وجواهر العلم"(3102)، والحاكم في المستدرك (2/ 316) وقال الحاكم: قد احتج به مسلم وهو صحيح على شرطه ولم يخرجاه، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 352) رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح. وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 426).

ص: 291

في شعاع الشمس الداخل في النافذة قاله في النهاية

(1)

، فهذا تصريح بحشر البهائم يوم القيامة وإعادتها في القيامة كما يُعاد أهل التكليف من الآدميين وكما تُعاد الأطفال والمجانين ومن لم تبلغهم دعوة، وعلى هذا تظاهرت دلائل القرآن والسنة. قال اللَّه تعالى:{وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)}

(2)

، وإذا ورد لفظ الشرع ولم يمنع من إجرائه على ظاهره عقل ولا شرع وجب حمله على ظاهره. قال العلماء: وليمس من شرط الحشر والإعادة في القيامة المجازاة والعقاب والثواب. وأما القصاص من القرناء للجماء فليس هو من قصاص التكليف إذ لا تكليف عليها بل هو قصاص مقابلة واللَّه أعلم، وتقدم شيء من ذلك في الفصل قبله.

لطيفة لها تعلق بالقصاص في عجائب المخلوقات: عن موسى بن عمران صلى الله عليه وسلم أنه اجتاز بعين ماء في سفح جبل فتوضأ منها ثم ارتقى ليصلي إذْ أقبل فارس فشرب من ماء العين وترك عندها كيسا فيه دراهم فجاء بعده راعي غنم فرآى الكيس فأخذه ومضى ثم جاء بعده شيخ عليه أثر البؤس على رأسه حزمة حطب فوضعها هناك واستلقى ليستريح فما كان إلا قليلا حتى عاد الفارس يطلب كيسه فلم يجده فأقبل على الشيخ يطالبه به ولم يزل يضربه حتى قتله. فقال موسى: يا رب كيف العدل في هذه الأمور؟ فأوحى اللَّه تعالى

(1)

النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 157).

(2)

سورة التكوير، الآية:5.

ص: 292

إليه أن الشيخ كان قتل أبا الفارس وعلى أبي الفارس دين لأبي الراعي مقدار ما في الكيس فجرى بينهما القصاص وقضى الدين وأنا حليم عادل، اهـ، قاله الكمال الدميري في منافع الحيوان

(1)

واللَّه أعلم [بالصواب].

5456 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليختصمن كل شيء يوم القيامة حتى الشاتان فيما انتطحتا رواه أحمد

(2)

بإسناد حسن ورواه أحمد

(3)

أيضًا وأبو يعلى

(4)

من حديث أبي سعيد.

قوله: "وعن أبي هريرة" تقدم. قوله صلى الله عليه وسلم: "ليختصم كل شيء يوم القيامة حتى الشاتان فيما انتطحتا" الحديث، [الخصام هو] الجدل.

5457 -

وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلًا من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جلس بين يديه فقال يا رسول اللَّه إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأضربهم وأشتمهم فكيف أنا منهم فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم فإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلًا لك وإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافا لا لك ولا عليك وإن

(1)

حياة الحيوان الكبرى (2/ 261).

(2)

مسند أحمد (9072) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 349) رواه أحمد، وإسناده حسن. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (4/ 609)، وصحيح الترغيب والترهيب (3/ 426).

(3)

مسند أحمد (11238)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 349): رواه أبو يعلى وأحمد بنحوه، وإسناده حسن.

(4)

أبو يعلى (1400). والحديث؛ أخرجه أسد بن موسى، في "الزهد"(99).

ص: 293

كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل الذي بقي قبلك فجعل الرجل يبكي بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ويهتف فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما لك ما تقرأ كتاب اللَّه {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} الأنبياء 47 فقال الرجل يا رسول اللَّه ما أجد شيئًا خيرًا من فراق هؤلاء يعني عبيده أشهدك أنهم كلهم أحرار رواه أحمد

(1)

والترمذي

(2)

وقال الترمذي حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن غزوان وقد روى أحمد بن حنبل هذا الحديث عن عبد الرحمن بن غزوان انتهى.

(1)

مسند أحمد (26401) والحديث؛ أخرجه البزار (107)، والبيهقي، في "شعب الإيمان"(8223)، وقال البزار: هذا الحديث لا نعلم أحدًا رواه عن الليث إلا عبد الرحمن بن غزوان، عن الليث، عن مالك، ولم يتابع.

وقال ابن أبي حاتم "علل الحديث"(2342): عن أبيه قال: وبحثنا من حديث الليث فإذا حدثنا أبو صالح، عن الليث، عن ابن الهاد، عن زياد مولى ابن عياش؛ أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الدارقطني "تهذيب التهذيب" (6/ 248): رواه قراد أبو نوح ولم يتابع على هذا الإسناد.

وخالفه ابن وهب، رواه عن الليث، عن زياد بن عجلان، عن زياد مولى ابن عيَّاش، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مرسلًا، وهو الصَّواب - وقال الدارقطني في "غرائب مالك": لم يروه عن مالك، عن الزهري غير قراد، عن الليث، وليس بمحفوظ، وساقه الدارقطني من عدة طرق غير هذه عن قراد كذلك. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 352): حديث عائشة وحده رواه الترمذي. رواه أحمد، وفي إسناد الصحابي الذي لم يسم راو لم يسم أيضًا، وبقية رجالهما رجال الصحيح. وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/ 565).

(2)

سنن الترمذي (3165).

ص: 294

قال الحافظ: وإسناد أحمد والترمذي متصلان ورواتهما ثقات عبد الرحمن هذا يكنى أبا نوح ثقة احتج به البخاري وبقية رجال أحمد ثقات احتج بهم البخاري ومسلم.

قوله: "وعن عائشة" تقدم الكلام على مناقبها رضي الله عنها.

قوله: "إن لي مملوكين يكذبونني ويخونني ويعصونني وأضربهم وأشتمهم" الحديث، المراد بالمملوكين هم الأرقاء، والشتم هو السب واللعن. قوله:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}

(1)

الآية، القسط العدل، وتقدم هذا الحديث في باب الشفقة على خلق اللَّه.

5458 -

وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بيتي وكان بيده سواك فدعا وصيفة له أو لها حتى استبان الغضب في وجهه فخرجت أم سلمة إلى الحجرات فوجدت الوصيفة وهي تلعب ببهمة فقالت ألا أراك تلعبين بهذه البهمة ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يدعوك فقالت لا والذي بعثك بالحق ما سمعتك فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لولا خشية القود لأوجعتك بهذا السواك وفي رواية لولا القصاص لضربتك بهذا السواك رواه أبو يعلى

(2)

بأسانيد أحدها جيد.

(1)

سورة الأنبياء، الآية:47.

(2)

أبو يعلى الموصلي في "المسند" كما في المطالب العالية (3320)، وإتحاف الخيرة المهرة (6/ 136)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 353): روى هذا كلّه أبو يعلى، والطبراني بنحوه، وقال:"دعا وصيفة له، ولم يشك، وقال: لولا مخافة القود يوم القيامة". وإسناده جيد عند أبي يعلى، والطبراني. وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب (2/ 97).

ص: 295

قوله: "وعن أم سلمة" هي أم المؤمنين، تقدم الكلام على مناقبها. قولها:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بيتي وكان بيده سواك فدعا وصيفة له أو لها" الحديث، الوصيفة بفتح الواو وكسر الصاد هي الخادم.

قوله: "فخرجت أم سلمة إلى الحجرات فوجدت الوصيفة وهي تلعب بلهمة" البهمة تقدم الكلام عليها في الباب المذكور أعلاه. قوله: "فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لولا خشية القود لأوجعتُك بهذا السواك" القود القصاص.

5459 -

وَعَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم من ضرب مَمْلُوكه سَوْطًا ظلما اقْتصّ مِنْهُ يَوْم الْقِيَامَة رَوَاهُ الْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ بِإِسْنَاد حسن

(1)

.

5460 -

وعن عبد اللَّه بن أنيس رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول يحشر اللَّه العباد يوم القيامة أو قال الناس عراة غرلا بهما قال قلنا وما بهما قال ليس معهم شيء ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الديان أنا الملك لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه حتى اللطمة قال قلنا كيف وإننا نأتي عراة غرلا بهما قال الحسنات والسيئات رواه أحمد

(2)

بإسناد حسن.

(1)

أخرجه البزار (9446) و (9535)، والطبراني في الأوسط (2/ 120 رقم 1445). قال الهيثمي في المجمع 10/ 353: رواه البزار، والطبراني في الأوسط، وإسنادهما حسن. وقال الألباني: حسن صحيح صحيح الترغيب (2291) و (3607). ولم يدرج الشارح تحته شرحًا.

(2)

أخرجه أحمد في مسنده (3/ 495) وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (970) في خلق أفعال العباد (59) وأخرجه أحمد (3/ 495) وابن أبي عاصم في السنة (514)، وفي =

ص: 296

قوله: "وعن عبد اللَّه بن أنيس" وعبد اللَّه بن أنيس مختلف في نسبه قيل الجهني وقيل أنصاري ومختلف في أنهما اثنان أو واحد ومختلف في قدوم جابر عليه هل هو إلى الشام أو إلى مصر. قال الحافظ المقدسي هذا حديث لم يسنده أحد من المشهورين بتخريج السنن الصحاح ولا الحسان كالبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وإنما ذكره البخاري تعليقًا

(1)

بغير إسناد متصل فقال: ويذكر عن جابر بن عبد اللَّه عن عبد اللَّه بن أنيس قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعُد كما يسمعه من قَرُب" فاحترز البخاري من أن يضاف إليه تصحيحه بقوله: ويذكر لأنه ليس كل ما يذكر صحيحا ولم

= الآحاد والمثاني (2534)، الطبراني في مسند الشاميين (156) والطبراني في الأوسط (8588)، والحارث بن أبي أسامة (44)(45) زوائد، الحاكم (4/ 619) والبيهقي في الأسماء والصفات ص 78 و 273، والخطيب في الجامع لأخلاق الراوي (1748)، وفي الرحلة (31)، (32) وابن عبد البر في بيان العلم (ص 122).

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 351): وهو عند أحمد، والطبراني في الأوسط بإسناد حسن. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وحسن الحافظ في الفتح 1/ 174 إسناد قسم الرحلة منه. وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 427). قال البخاري في "الصحيح" (1/ 29) -عقب (77) -: ورحل جابر بن عبد اللَّه مسيرة شهر، إلى عبد اللَّه بن أنيس، في حديث واحد.

(1)

قال البخاري (9/ 172) -عقب (7480) -: ويذكر عن جابر، عن عبد اللَّه بن أنيس، قال: سمعت النبي (يقول: يحشر اللَّه العباد فيناديهم بصوت، يسمعه من بعد، كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان.

ص: 297

يسم ابن عقيل لأنه ليس من شرط كتابه وذلك من عادته في تخريج حديث من لا يكون على شرطه [لأن في سند] هذا الحديث ابن عقيل، قال الترمذي وعبد اللَّه بن محمد بن عقيل صدوق وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قِبل حفظه وسمعت محمد بن [عقيل] يقول: كان أحمد بن حنبل وإسحاق [والحميدي] يحتجون بحديثه. قال محمد وهو مقارب الحديث ولفظ مقارب يروى بفتح الراء وكسرها فمن فتح أراد أن غيره يُقاربه في الحفظ ومن كسر أراد أنه يُقارب غيره فهو في الأول مفعول وفي الثاني فاعل والمعنى واحد. قال الشيخ تقي الدين السبكي الترمذي يصحح أحاديث محمد بن عقيل وله حديث يتعلق بالأصول يرده لتفرده به لما في ابن عقيل من الكلام وهو حديث عبد اللَّه بن أنيس في الصوت وقد صنف فيه المقدسي شيخ الحافظ المنذري جزءا فقال: أنبأنا به الحافظ شرف الدين الدمياطي أن جابر بن عبد اللَّه حدثه فقال: بلغني عن رجل من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حديث سمعه من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم أسمعه قال: فابتعت بعيرًا [فشددت] عليه رحلي وسرت عليه شهرا حتى أتيت الشام فإذا هو عبد اللَّه بن أنيس الأنصاري. قال: فأرسلت إليه أن جابرا على الباب، قال: فخرج إليّ واعتنقني واعتنقته فقلت له: حديث بلغني عنك سمعته من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خشيت أن أموت أو تموت قبل أن أسمعه، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: يحشر اللَّه العباد أو قال يحشر اللَّه الناس عراة غرلا، الحديث.

قوله صلى الله عليه وسلم: "يحشر العباد يوم القيامة - أو قال الناس، الشك من الرواي"

ص: 298

قوله: "عراة غرلا بهما"، الحديث [وتقدم] الكلام على العراة والغرل. وأما البهم فجمع بهيم وهو في الأصل الذي لا يخالط لونه لون سواه يعني ليس فيهم شيء من العاهات والأعراض التي تكون في الدنيا كالعمى والعور والعرج والبرص وغير ذلك وإنما هي أجساد مصحّحة لخلود الأبد في الجنة أو النار. وقال بعضهم: روي في تمام الحديث قيل: وما البهم؟ قال: ليس معهم شيء يعني من أعراض الدنيا، وقيل عراة ليس عليهم من متاع الدنيا شيء، وهذا يخالف الأول من حيث المعنى ومنه الحديث في خيل دهم بهم. قوله:"ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب" الصوت معلوم ولا يجوز على كلام اللَّه تعالى صفته وأنه لا يحل لمسلم أن يعتقد أن كلام اللَّه تعالى صوت وحرف من طريق العقل والشرع وقد دل الدليل العقلي على استحالة قيام الصوت بالقديم سبحانه وتعالى لأن الصوت والحرف مخلوقان وكلام اللَّه سبحانه وتعالى [يجل] عن ذلك كله وأما من طريق الشرع فلأنه لم يرد في وصف كلام اللَّه سبحانه وتعالى حرف وصوت من طريق صحيحة ولفظ النداء لا يحتاج إلى تأويل بل إطلاقه ورد به الكتاب العزيز، ولفظ الصوت يقبل التأويل ومعناه أنه [تعالى وتقدَّس] يأمر [مناديا] ينادي بصوت أن اللَّه يقول: أنا الملك أنا الدين، فيتفق المعقول مع المنقول. وقال بعضهم أيضًا: معناه يجعل ملكا من ملائكته يناديهم بصوته أو صوت يحدثه اللَّه تعالى يسمع الناس، ومنه رواية أبي [ذر]، [فيُنادي] على ما لم يُسم فاعله واللَّه أعلم. قوله:"أنا الملك أنا الديان" الحديث، قيل هو

ص: 299

القهار وقيل الحاكم والقاضي، وهو فعال من دان الناس أي قهرهم على الطاعة، يقال دنتهم فدانوا أي قهرتهم فأطاعوا، [ومنه شعر الأعشى الخزمازي يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم: يا سيّد الناس وديّان العربْ

(1)

. ومنه حديث أبي طالب قال له عليه السلام

(2)

: أريد من قريش كلمة تدين لهم بها العرب، أي تطيعهم وتخضع لهم. اهـ، قال في النهاية]

(3)

.

ومنه الحديث: الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، أي أذلها واستعبدها وقيل حاسبها

(4)

، وفي شرح الأسماء والصفات للبيهقي

(5)

لما أن تكلم على معنى اسمه تعالى الديان، روي من حديث عبد الرزاق عن أيوب

(1)

أخرجه عبد اللَّه بن أحمد (6885). وأبو يعلى (6871) والحديث؛ أخرجه البخاري، في "التاريخ الكبير" 2/ 61، وابن أبي عاصم، في "الآحاد والمثاني"(2711 و 2824)، والروياني (1465)، والبيهقي 10/ 240. وقال البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة (6/ 149) هذا إسناد صحيح. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 128) عبد اللَّه بن أحمد والطبراني وأبو يعلى والبزار وقال: إن اسم الأعشى عبد اللَّه بن الأعور، ورجالهم ثقات.

وقال الهيثمي في (4/ 332) رواه عبد اللَّه بن أحمد ورجاله ثقات، وقال الهيثمي في (4/ 331) رواه عبد اللَّه بن أحمد، والطبراني، وفيه جماعة لم أعرفهم. وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (5712) وقال ابن حجر: الأعشى المازني، ويقال: الحرمازي، ومازن وحرماز أخوان من بني تميم، اسمه عبد اللَّه بن الأعور، وقيل غير ذلك. "الإصابة"(1/ 246).

(2)

انظر: لسان العرب ج 13/ ص 167.

(3)

حصل تأخير لهذه الفقرة في النسخة الهندية، وأدرجت بعد قوله:(البر لا يبلى والإثم لا ينسى والديان لا يموت، ولكن كما شئت كما تدين تدان ثم قال هذا مرسل).

(4)

النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 148).

(5)

الأسماء والصفات للبيهقي (132).

ص: 300

عن أبي قلابة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: البر لا يبلى والإثم لا ينسى والديان لا يموت، ولكن كما شئت كما تدين تدان. ثم قال: هذا مرسل. [فإذا استوى كل واحد على قبره فمنهم العريان والمكسو والأسود والأبيض ومنهم من يكون له نور كالمصباح الضعيف ومنهم من يكون له نور كالمصباح إلى آخر الحديث [إلا أنّ كل] واحد منهم لا يزال مطرقا برأسه ما يدري ما يصنع ألف عام حتى يظهر من [الغرب] نار لها دوي [يساق] فيدهش لها [رءوس] الخليقة إنس وجن ووحش وطير فيأتي كل واحد من الخلق عمله ويقول له: قم فانهض إلى المحشر فمن كان له حينئذ عمل جيد أشخص له عمله بغلا ومنهم من يشخص له حمارا ومنهم من يشخص له عمله كبشا تارة يحمله وتارة [يكفيه] ويجعل لكل واحد منهم نورا [شعاعي بين] يديه وعن يمينه [من الدرة]

(1)

.

5461 -

وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يجيء الظالم يوم القيامة حتى إذا كان على جسر جهنم بين الظلمة والوعرة لقيه المظلوم فعرفه وعرف ما ظلمه به فما يبرح الذين ظلموا يقصون من الذين ظلموا حتى ينزعوا ما في أيديهم من الحسنات فإن لم يكن لهم حسنات رد عليهم من سيئاتهم حتى يوردوا الدرك الأسفل من النار، رواه الطبراني في الأوسط

(2)

(1)

حصل تقديم لهذه الفقرة في النسخة الهندية، وأدرجت قبل قوله:([وتقدم] الكلام على العراة والغرل. وأما البهم فجمع بهيم).

(2)

المعجم الأوسط (5976). أخرجه البخاري في التاريخ (2/ 1/ 228 - 229) - ولم يسق =

ص: 301

ورواته مختلف في توثيقهم.

قوله: "وعن أبي أمامة الباهلي" واسمه صُديّ بن عجلان، تقدم الكلام على ترجمته.

قوله صلى الله عليه وسلم: "يجيء الظالم يوم القيامة حتى إذا كان على جسر جهنم بين الظلمة والوعرة لقيه المظلوم فعرفه وعرف ما ظلمه به" الحديث. قوله صلى الله عليه وسلم: "حتى يورد الدرك الأسفل من النار" الحديث، الدرك بالتحريك وقد يسكن واحد الأدراك وقد قرئ بالوجهين في قوله تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}

(1)

، وهي منازل في النار، والدرك إلى أسفل والدرج إلى فوق، قاله ابن الأثير في النهاية

(2)

واللَّه أعلم.

تنبيه: أما مظالم العباد فلا بد من استيفائها، ففي معجم الطبراني

(3)

عن

= لفظه-، وحسين المروزي في زوائد الزهد (499/ 1420)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 354) رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله وثقوا. وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (11/ 495)(5317)، وضعيف الترغيب والترهيب (2/ 418).

(1)

سورة النساء، الآية:145.

(2)

النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 114).

(3)

أخرجه أحمد (6/ 240)، والحاكم (4/ 619)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (3022). وقال العراقي في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين (5/ 2091): رواه أحمد والحاكم وصححه من حديث عائشة وفيه صدقة بن موسى الدقيقي ضعفه ابن معين وغيره وله شاهد من حديث سلمان رواه الطبراني وهو منكر قاله الذهبي انتهى. قلت: ورواه أحمد والحاكم من طريق صدقة بن موسى عن عمران الجوني عن يزيد بن بابنوس عن عائشة وقد ردَّ الذهبي على الحاكم تصحيحه وقال صدقة بن موسى ضعفه الجمهور =

ص: 302

النبي صلى الله عليه وسلم: الظلم عند اللَّه تعالى يوم القيامة ثلاث دواوين: ديوان لا يغفر اللَّه منه شيئا وهو الشرك باللَّه ثم قرأ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}

(1)

الآية، وديوان لا يترك اللَّه منه شميئا وهو مظالم العباد بعضهم بعضا، وديوان لا يعبؤ اللَّه به شيئا وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه ومعلوم أن هذا الديوان مشتمل على الكبائر والصغائر لكن مستحقه أكرم الأكرمين وما يعفو عنه من حقه ويهبه أضعاف أضعاف ما يستوفيه وأمره أسهل من الديوان الذي لا يترك منه لعدله وإيصال كل حق إلى صاحبه.

وقال سفيان الثوري: بلغني أن بني إسرائيل قحطوا سبع سنين حتى أكلوا الميتة من المزابل وأكلوا الأطفال وكانوا يخرجون إلى الجبال ويتضرعون فأوحى اللَّه تعالى إلى أنبيائهم لو مشيتم إليّ بأقدامكم حتى تحفى ركبكم وتبلغ أيديكم عنان السماء وتكل ألسنتكم عن الدعاء فإني لا أجيب لكم داعيا ولا أرحم منكم باكيا حتى تردّوا المظالم إلى أهلها، ففعلوا فمطروا من يومهم.

مسألة فقهية: فأما حقوق العباد فيتصور في مسائل كمن غصب أموالا ثم تاب وتعذر عليه ردها إلى أصحابها أو إلى ورثتهم لجهله بهم أو لانقراضهم فاختلف في ذلك، فقالت طائفة لا توبة إلا بالأداء وقد تعذر فتعذرت التوبة والقصاص أمامه يوم القيامة بالحسنات والسيئات ليس إلا، قالوا

= ويزيد بن بابنوس فيه جهالة.

(1)

سورة النساء، الآية:48.

ص: 303

لأن هذا حق آدمي لم يصل إليه واللَّه تعالى لا يترك من حقوق عباده شيئًا بل يستوفيها لبعضهم من بعض ولا يجاوزه ظلم ظالم فلابد أن يأخذ للمظلوم حقه من ظالمه ولو لطمة أو كلمة أو رمية بحجر. وقالت طائفة يدفعها إلى الإمام أو نائبه لأنه وكيل أربابها فيحفظها لهم ويكون حكمها حكم الأموال الضائعة. وقالت طائفة أخرى بل باب التوبة مفتوح لهذا التائب ولم يُغلق عنه ولا عن مذنب باب التوبة وتبوته أن يتصدق بتلك الأموال عن أربابها واللَّه تعالى أعلم.

5462 -

وَرُوِيَ عَن زَاذَان قَالَ دخلت على عبد اللَّه بن مَسْعُود وَقد سبق إِلَى مَجْلِسه أَصْحَاب الْخَزّ والديباج فَقلت أدنيت النَّاس وأقصيتني فَقَالَ لي ادن فأدناني حَتَّى أقعدني على بساطه ثمَّ قَالَ سَمِعت رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُول إِنَّه يكون للْوَالِدين على ولدهما دين فَإِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة يتعلقان بِهِ فَيَقُول أَنا ولدكما فيودان أَو يتمنيان لَو كَانَ أَكثر من ذَلِك رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ

(1)

.

5463 -

وَعَن أنس بن مَالك رضي الله عنه: قَالَ بَينا رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم جَالس إِذْ رَأَيْنَاهُ ضحك حَتَّى بَدَت ثناياه فَقَالَ لَهُ عمر مَا أضْحكك يَا رَسُول اللَّه بِأبي أَنْت وَأمي قَالَ رجلَانِ من أمتِي جثيا بَين يَدي رب الْعِزَّة فَقَالَ أَحدهمَا يَا رب خُذ

(1)

أخرجه الطبراني في الكبير (10/ 219 رقم 10526). وقال الهيثمي في المجمع 10/ 355: رواه الطبراني، عن عمرو بن مخلد، عن زكريا بن يحيى الأنصاري ولم أعرفهما، وبقية رجاله وثقوا على ضعف في بعضهم. وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (2102). ولم يدرج الشارح تحته شرحًا.

ص: 304

لي مظلمتي من أخي فَقَالَ اللَّه كَيفَ تصنع بأخيك وَلم يبْق من حَسَنَاته شَيْء قَالَ يَا رب فليحمل من أوزاري وفاضت عينا رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالبكاء ثمَّ قَالَ إِن ذَلِك ليَوْم عَظِيم يحْتَاج النَّاس أَن يحمل عَنْهُم من أوزارهم فَذكر الحَدِيث رَوَاهُ الْحَاكِم وَقَالَ صَحِيح الإِسْنَاد

(1)

وَتقدم بِتَمَامِهِ فِي الْعَفو.

5464 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: قالوا يا رسول اللَّه هل نرى ربنا يوم القيامة فقال هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحابة قالوا لا، قال فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحابة قالوا لا قال فوالذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما فيلقى العبد ربه فيقول أي فل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع فيقول بلى يا رب فيقول أظننت أنك ملاقي فيقول لا فيقول فإني أنساك كما نسيتني ثم يلقى الثاني فيقول أي فل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخرلك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع فيقول بلى يا رب فيقول أظننت أنك ملاقي فيقول لا فيقول إني أنساك كما نسيتني ثم يلقى الثالث فيقول أي فل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع فيقول بلى يا رب فيقول أظننت أنك ملاقي فيقول

(1)

أخرجه الخرائطي في مساوئ الأخلاق (602)، والحاكم (4/ 576). وصححه الحاكم وتعقبه الذهبي فقال: فيه عباد بن شيبة الحبطي، عن سعيد، والأول ضعيف، وشيخه لا يعرف. وضعفه الألباني جدًا في ضعيف الترغيب (1469) و (2103). ولم يدرج الشارح تحته شرحا.

ص: 305

أي رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع فيقول ههنا إذا ثم يقول الآن نبعث شاهدا عليك فيتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد علي فيختم على فيه ويقال لفخذه انطقي فينطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي يسخط اللَّه عليه رواه مسلم

(1)

.

ترأس بمثناة فوق تم راء ساكنة ثم همزة مفتوحة أي تصير رئيسا. وتربع بموحدة بعد الراء مفتوحة معناه يأخذ ما يأخذه رئيس الجيش لنفسه وهو ربع المغانم ويقال له المرباع.

قوله: "عن أبي هريرة" تقدم. قوله: "قالوا يا رسول اللَّه هل ترى ربنا يوم القيامة؟ فقال: هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليس في سحابة؟ قالوا: لا. قال: فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحابة؟ قالوا: لا" الحديث. تضارون، روي بتشديد الراء وتخفيفها والتاء مضمومة فيهما ومعنى التشديد لا تضارون غيركم في حال الرؤية بزحمة أو مخالفة في الرؤية أو غيرها لخفائه، ومعنى المخففة لا يلحقكم في رؤيته ضير. قوله [صلى اللَّه تعالى عليه وسلم] في رؤية الشمس في الظهيرة، والظهيرة ساعة الزوال لأن الشمس تظهر في ذلك الوقت أي تعلو غاية ما لها أن تعلو. وقال يعقوب: الظهيرة نصف النهار حتى تكون الشمس حيال رأسك، انتهى.

قوله: "فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحابة؟ قالوا: لا؟ "

(1)

صحيح مسلم (16)(2968).

ص: 306

وسمى القمر بدرا لأنه يبادر الشمس، شبّه رؤية الباري سبحانه وتعالى برؤية القمر لذلك إشارة إلى وضوحها وعدم الشك والمشقة والاختلاف فيها، ومذهب جميع أهل السنة أن رؤية اللَّه تعالى ممكنة غير مستحيلة عقلا، [وأجمعوا] على وقوعها في الآخرة وأن المؤمنين يرون ربهم دون الكافرين وزعمت طائفة من أهل البدع المعتزلة والخوارج وبعض المرجئة أن اللَّه تعالى لا يراه أحد من خلقه وأن رؤيته مستحيلة عقلا وهذا خطأ صريح وجهل قببيح فقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى إثبات رؤية اللَّه تعالى في الآخرة ولكن الجمهور من السلف والخلف على أنها لا تقع في الدنيا ثم مذهب أهل الحق أن الرؤية قوة يجعلها اللَّه تعالى في خلقه ولا يشترط فيها اتصال الأشعة ولا مقابلة المرئي ولا غير ذلك لكن جرت العادة في رؤية بعضنا بعضا بوجود ذلك على جهة الاتفاق لا على جهة الاشتراط ولا يلزم من رؤية اللَّه تعالى إثبات جهة للَّه تعالى عن ذلك بل يراه المؤمنون لا من جهة كما يعلمون لا من جهة. اهـ.

قوله: "فوالذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما" أي ترون ربكم رؤية محققة لا شك فيها ولا مشقة وهو تشبيه للرؤية بالرؤية لا للمرئي بالمرئي. [اختلف العلماء]

(1)

في رؤية اللَّه تعالى فقال بعضهم لا يُرى الباري سبحانه وتعالى لا في الدنيا ولا في الآخرة، وقال

(1)

هكذا في النسخة الهندية، والمثبت في الأصل بين المعقوفين:(وقال أو الليث السمرقندي: تكلم الناس).

ص: 307

بعضهم: يراه أهل الجنة في الآخرة بغير تشبيه كما أنهم يعرفونه في الدنيا بغير كيف ولا تشبيه فأهل الجنة يرونه بغير كيف ولا تشبيه كما شاء هو سبحانه وتعالى، فأما من قال بأنه لا يُرى ذهب إلى قوله تعالى:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ}

(1)

، وقال تعالى:[لموسى عليه الصلاة والسلام: رضيت؟ قال]: {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي}

(2)

ولفظة لن [تراني] تقتضي [الأبد]. وأما من قال بالرؤية احتج بقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)}

(3)

، وقال في موضع آخر:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}

(4)

، قال ابن عباس: الزيادة النظر إلى وجهه تعالى، والأحاديث الواردة في الصحاح صريحة بذلك، اهـ]

(5)

.

قوله صلى الله عليه وسلم: "فيلقى العبد ربه فيقول: أي فل" الحديث، أي يا فلان حذفت منه الألف والنون لغير ترخيم. وقال صاحب النهاية وغيره: أي فل أي حرف ينادى به القريب وفل أي فلان وفُل بضم الفاء وإسكان اللام ومعناه يا فلان كما تقدم وهو ترخيم على خلاف القياس، وقال ابن الأثير ليس ترخيما لفلان لأنه لا يقال إلا بسكون اللام ولو كان ترخيما لفتحوا اللام أو

(1)

سورة الأنعام، الآية:103.

(2)

سورة الأعراف، الآية:143.

(3)

سورة القيامة، الآيات: 22 - 23.

(4)

سورة يونس، الآية:26.

(5)

حصل تقديم لهذه الفقرة في النسخة الهندية، وأدرجت بعد قوله:(ولم يُغلق عنه ولا عن مذنب باب التوبة وتوبته أن يتصدق بتلك الأموال عن أربابها واللَّه تعالى أعلم).

ص: 308

ضموها [وبه] قال سيبويه وقال ليست ترخيما وإنما هي صيغة ارتجلت في باب النداء وقد جاء في غير النداء: قال: في [لغةٍ أمسكَ] فلانا عن فُلِ، [بكسر] اللام للقافية. وقال قوم إنها ترخيم فلان فحذفت النون للترخيم والألف لسكونها وتفتح اللام وتضم على مذهبي الترخيم ومنه حديث أسامة في الوالي الجائر يلقى في النار فتندلق أقتابه فيقال: أي فل أين ما كنت تصف؟ اهـ. قوله: "ألم أكرمك وأسوِّدك" بتشديد الواو وكسرها أي أجعلك سيدا في قومك، اهـ، قاله المنذري. قوله:"وأذرك ترأس" بمثناة فوق ثم راء ساكنة ثم همزة مفتوحة، أي تصير رئيسا، اهـ، قاله المنذري. وقال ابن الأثير

(1)

: ترأس القوم يرأسُهم رياسة إذا صار رئيسهم ومقدِّمهم ومعناه رئيس القوم وكبيرهم ومنه الحديث، رأس الكفر من قبل المشرق ويكون إشارة إلى الدجال أو غيره من رؤساء الضلال الخارجين بالمشرق، قاله في النهاية.

قوله: "وتربع" وقد ضبطه المملي بالتاء المثناة فوق والباء الموحدة فقال: معناه يأخذ ما يأخذه رئيس الجيش لنفسه وهو ربع المغانم ويُقال له المرباع، اهـ. يقال ربعت القوم أربعهم إذا أخذت ربع أموالهم مثل عشرتهم أعشرهم يريد ألم أجعلك رئيسا مطاعا لأن الملك كان يأخذ الربع من الغنيمة في الجاهلية دون أصحابه ويسمى ذلك الربع المرباع وهو الربع من رأس ما غنموه إذا غزى بعضهم بعضا ومنه قوله لعدي بن حاتم: إنا نأكل المرباع وهو لا يحل لك في دينك ومنه شعر وفد تميم: نحن الرءوس وفينا يقسم الربع.

(1)

النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 176).

ص: 309

يقال: ربع وربع يريد ربع الغنيمة وهو واحد من أربعة، قاله في النهاية

(1)

.

تنبيه: وفي رواية ابن هامان: ترتع بدل تربع بمثناة من فوق بعد الراء ومعناه تتنعّم وقيل تأكل وقيل تلهو وقيل تعيش في سعة، قاله النووي في شرح مسلم

(2)

.

قوله تعالى: "فإني أنساك كما نسيتني" أي أمنعك الرحمة كما امتنعت من طاعتي.

وقال عياض

(3)

: قوله: أنساك كما نسيتنِي على طريق المقابلة في الكلام أي أجازيك على نسيانك كما قال تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}

(4)

أي يعاقبهم عقابا صورته صورة المنسي بتركهم ومنعهم الرحمة والإعراض عنهم حيث نجا غيرهم وفاز، اهـ.

قوله: "فيقول أي رب آمنك بك وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع" الحديث، أي يتني هذا العبد على نفسه فيقول عملت كذا وكذا.

قوله: "فيقول هاهنا إذًا" ومعنى هاهنا إذا أي اثبت هاهنا أي مكانك حتى تعرف أعمالك. وقال بعضهم قف هاهنا حتى يتحقق لك خلاف ما زعمت

(1)

النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 186).

(2)

شرح النووي على مسلم (18/ 154).

(3)

إكمال المعلم بفوائد مسلم (8/ 521).

(4)

سورة التوبة، الآية:67.

ص: 310

وهما بمعنى واحد.

تنبيه: "قوله: إذًا وإذًا" جواب وجزاء يقول أنا آتيك فتقول إذًا أحسن إليك وتكتب إذًا بالألف [عند الأكثر] لأن الوقف عليها بالألف ومنهم من يكتبها بالنون وهما بأن الألف نون في الوقف. قوله: "هاهنا إذا" كذا هو عند أبي بحر وغيره ومعناه اثبت مكانك إذا حتى تفتضح في دعواك. حكى ابن خروف في شرح الحمل أن من العرب من يرفع ما بعد إذًا وإن اجتمعت فيه شروط النصب، فتقول في الجواب: إذًا أكرمُك، حكاه سيبويه، وفي الحديث: إذا يحلفُ ولا يبالي، اهـ. قاله عياض

(1)

.

قوله: "فيختم على فيه ويقال لفخذه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه" وذلك ليعذر من نفسه أي بعث الشاهد عليه ليعذر من نفسه من الإعذار والمعنى ليزيل عذره من نفسه بكثرة ذنوبه وشهادة أعضائه عليه وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: "لن تهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم" الحديث، رواه أبو داود يعذروا بكسر الذال وفتحها فأما كسر الذال فهو من أعذر إذا صار ذا ذنب كثير محتاجا إلى العذر من كثرة [ذنوبه يعني لن يهلك الناس حتى تكثر]

(2)

ذنوبهم وأما من فتح الذال فهو من أعذر يعني يجعلهم اللَّه بحيث لا يقدرون على العذر بأن يبعث عليهم الرسل ويبينوا لهم الرشاد من الضلال والحلال من الحرام والحق من الباطل فإذا عرفوا الحق من الباطل ولم

(1)

انظر: فتح الباري (8/ 38).

(2)

سقطت هذه العبارة من النسخة الهندية.

ص: 311

يؤمنوا أو آمنوا ولكن أكثروا المعاصي ولم يتوبوا فحينئذ أهلكم اللَّه تعالى، ومعنى يعذروا من أنفسهم أي تكثر ذنوبهم ويستوجبوا العقوبة فيكون كمن يعذبهم العذر، يقال أعذر الرجل إعذارا إذا صار ذا عيب وفساد. وقال في الفائق

(1)

ويروى بفتح الياء وضمها في يعذروا والمعنى حتى يفعلوا ما يتجه لمحل العقوبة بهم العذر واللَّه علم.

5465 -

وعنه أيضًا رضي الله عنه أن الناس قالوا يا رسول اللَّه هل نرى ربنا يوم القيامة قال هل تمارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب قالوا لا يا رسول اللَّه قال هل تمارون في الشمس ليس دونها سحاب قالوا لا قال فإنكم ترونه كذلك يحشر الناس يوم القيامة فيقول من كان يعبد شيئا فليتبعه فمنهم من يتبع الشمس ومنهم من يتبع القمر ومنهم من يتبع الطواغيت وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم اللَّه فيقول أنا ربكم فيقولون هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم اللَّه فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيدعوهم ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته ولا يتكلم يومئذ أحد إلا الرسل وسلام الرسل يومئذ اللهم سلم سلم وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم شوك السعدان قالوا نعم قال فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا اللَّه تخطف الناس بأعمالهم فمنهم من يوبق بعمله ومنهم من يخردل ثم ينجو حتى إذا أراد اللَّه رحمة من أراد من أهل النار أمر اللَّه الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد اللَّه فيخرجونهم

(1)

الفائق في غريب الحديث (2/ 401).

ص: 312

بآثار السجود وحرم اللَّه على النار أن تأكل أثر السجود فيخرجون من النار وقد امتحشوا فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ثم يفرغ اللَّه من القضاء بين العباد ويبقى رجل بين الجنة والنار وهو آخر أهل النار دخولا الجنة مقبل بوجهه قبل النار فيقول يا رب اصرف وجهي عن النار قد قشبني ريحها وأحرقني ذكاها فيقول هل عسيت إن أفعل أن تسأل غير ذلك فيقول لا وعزتك فيعطي اللَّه ما شاء من عهد وميثاق فيصرف اللَّه وجهه عن النار فإذا أقبل به على الجنة رأى بهجتها سكت ما شاء اللَّه أن يسكت ثم قال يا رب قدمني عند باب الجنة فيقول اللَّه أليس قد أعطيت العهد والميثاق أن لا تسأل غير الذي كنت سألت فيقول يا رب لا أكون أشقى خلقك فيقول فما عسيت إن أعطيتك ذلك أن تسأل غيره فيقول لا وعزتك لا أسألك غير هذا فيعطي ربه ما شاء من عهد وميثاق فيقدمه إلى باب الجنة فإذا بلغ بابها رأى زهرتها وما فيها من النضرة والسرور فسكت ما شاء اللَّه أن يسكت فيقول يا رب أدخلني الجنة فيقول اللَّه ويحك يا ابن آدم ما أغدرك أليس قد أعطيتني العهود أن لا تسأل غير الذي أعطيت فيقول يا رب لا تجعلني أشقى خلقك فيضحك اللَّه منه ثم يأذن له في دخول الجنة فيقول تمن فيتمنى حتى إذا انقطعت أمنيته قال اللَّه تمن من كذا وكذا يذكره ربه حتى إذا انتهت به الأماني قال اللَّه لك ذلك ومثله معه قال أبو سعيد الخدري لأبي هريرة رضي الله عنهما إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: قال اللَّه لك ذلك وعشرة أمثاله قال أبو هريرة رضي الله عنه لم أحفظ من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا قوله لك ذلك ومثله معه قال أبو

ص: 313

سعيد رضي الله عنه أشهد أني سمعته من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول لك ذلك وعشرة أمثاله قال أبو هريرة وذلك الرجل آخر أهل الجنة دخولا الجنة رواه البخاري

(1)

.

أي فل أي يا فلان حذفت منه الألف والنون لغير ترخيم إذ لو كان ترخيما لما حذفت الألف قال الأزهري: ليست ترخيم فلان ولكنها كلمة على حدة توقعها بنو أسد على الواحد والاثنين والجمع بلفظ واحد وأما غيرهم فيثني ويجمع ويؤنث أسودك بتشديد الواو وكسرها أي أجعلك سيدا في قومك السعدان نبت ذو شوك معقف المخردل المرمي المصروع وقيل المقطع يقال لحم خراديل إذا كان قطعا والمعنى أنه تقطعه كلاليب الصراط حتى يهوي في النار امتحش بضم التاء وكسر الحاء المهملة بعدها شين معجمة أي احترق وقال الهيثم هو أن تذهب النار الجلد وتبدي العظم الحبة بكسر الحاء هي بزور البقول والرياحين وقيل بزر العشب وقيل نبت في الحشيش صغير وقيل جمع بزور النبات وقيل بزر ما نبت من غير بذر وما بذر تفتح حاؤه حميل السيل بفتح الحاء المهملة وكسر الميم هو الزبد وما يلقيه على شاطئه قشبني ريحها أي آذاني ذكاها بذال معجمة مفتوحة مقصورة هو إشعالها ولهبها.

قوله: "وعنه أيضًا" تقدم الكلام عليه. قوله صلى الله عليه وسلم: "هل تمارون في القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا يا رسول اللَّه" فذكر الحديث إلى أن قال: "فإنكم ترونه كذلك".

(1)

صحيح البخاري (6573).

ص: 314

قوله: "تمارون" التماري الاختلاف والمنازعة وقوله: "فإنكم ترونه كذلك" وقد تخيّل إلى بعض السامعين أن الكاف كاف التشبيه للمرئي وإنما هي للرؤية وهي فعل الرائي ومعناه أنكم ترون ربكم رؤية ينزاح معها الشك كرؤيتكم القمر ليلة البدر لا ترتابون فيه ولا تمترون، اهـ، قاله في النهاية

(1)

. [والرؤية تختص بالمؤمن، وقيل يراه منافقوا هذه الأمة وهو قول باطل، والصحيح أنه لا يراه إلا نفس مؤمنة].

قوله: "من كان يعبد شيئا فليتبعه فمنهم من يتبع الشمس" الحديث. تنبيه: الشمس تجمع على شموس وهي في السماء الرابعة وهي أفضل من القمر. قال الإمام فخر الدين وهي تقطع في خطوة الفرس في شدة عدوها عشرة آلاف فرسخ، اهـ، قاله الكمال الدميري في شرح المنهاج في المواقيت

(2)

.

قوله: "ومنهم من يتبع الطواغيت" الحديث، والطواغيت جمع طاغوت. قال الليث وأبو عبيد والكسائي وجماهير أهل اللغة وهو ما كان يعبد من دون اللَّه تعالى من الأصنام وغيرها. وقال ابن عباس ومقاتل والكلبي وغيرهم: الشيطان. وقيل هو الأصنام. قال الواحدي: الطاغوت يكون واحدا وجمعا ويُذكر ويؤنث. قال اللَّه تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ}

(3)

، وهذا في الواحد، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا

(1)

النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 202).

(2)

النجم الوهاج (2/ 9 - 10).

(3)

سورة النساء، الآية:60.

ص: 315

أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ}

(1)

، وقال في المؤنث:{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا}

(2)

اهـ.

قوله صلى الله عليه وسلم: "وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم اللَّه فيقول: أنا ربكم، فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا. فإذا جاء ربنا عرفناه. فيأتيهم اللَّه فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فيدعوهم" الحديث، الإتيان في الجملة كلما جاء في الكتاب وفي أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم من ذكر المجيء والإتيان وغير ذلك لا يُكيّف ولا نجعله كمجيء الأشخاص وإتيانها وفي أمثال القبول والتسليم. وفي الحديث الآخر، فيأتيهم اللَّه في صورة غير [الصورة] التي يعرفونها إلى قوله:"فيقولون أنت ربنا"، المراد بالصورة هنا الصفة ومعناه فيتجلى اللَّه سبحانه وتعالى لهم على الصفة التي يعلمونها ويعرفونه بها وإنما عرفوه بصفته وإن لم تكن تقدمت لهم رؤية له سبحانه وتعالى [لأنهم يرونه لا يشبه شيئا من مخلوقاته فيعلمون أنه ربهم فيقولون أنت ربنا. والرؤية مختصة بالمؤمن. وقيل: يراه منافقوا هذه الأمة وهو قول باطل والصحيح أنه لا يراه إلا نفس مؤمنة وإنما عبر عن الصفة بالصورة]

(3)

لمشابهتها إياها ولمجانسة الكلام.

تنبيه: واعلم أن لأهل العلم في أحاديتا الصفات وآيات الصفات قولين: أحدهما وهو مذهب معظم السلف أو كلهم أنه لا يتكلم في معناها بل يقولون

(1)

سورة البقرة، الآية:257.

(2)

سورة الزمر، الآية: 17

(3)

سقطت هذه الفقرة من النسخة الهندية.

ص: 316

يجب علينا أن نؤمن بها ونعتقد لها معنى يليق بجلال اللَّه سبحانه وتعالى مع اعتقادنا الجازم أن اللَّه سبحانه وتعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}

(1)

وأنه منزه عن التجسم والانتقال والتحيز [في جهة] وعن سائر صفات المخلوقات وهذا القول هو قول جماعة من المتكلمين واختاره جماعة من محققيهم وهو أسلم. والقول الثاني وهو قول معظم المتكلمين أنها تتأول على ما يليق بها على حسب موانعها وإنما يسوغ تأويلها لمن كان من أهله بأن يكون عارفا بلسان العرب وقواعد الأصول والفروع ذا رياضة في العلم، فعلى هذا يقال في قوله صلى الله عليه وسلم:"فيأتيهم اللَّه" أن الإتيان عبارة عن رؤيتهم إياه لأن العادة أن من غاب عن غيره لا تمكنه رؤيته إلا بالإتيان فعبر بالإتيان والمجيء هنا عن الرؤية مجازا. وقيل المراد بيأتيهم اللَّه سبحانه وتعالى أي يأتيهم بعض ملائكته، قال القاضي عياض

(2)

: وهذا الوجه أشبه عندي بالحديث. وقيل غير ذلك.

قوله: "ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم" أي ينصب، وظهراني جهنم هو بفتح الظاء المعجمة المشالة وسكون لهاء وفتح النون أي بين ظهريها والألف والنون زيدتا للمبالغة وظهرانيها أي وسطها ومعناه يمد الصراط علحها. وفي هذا إثبات الصراط ومذهب أهل الحق إثباته وقد أجمع السلف على ذلك وهو جسر على متن جهنم يمر عليه الناس كلهم، فالمؤمنون ينجون على حسب منازلهم والآخرون يسقطون فيها. قال: وأصحابنا

(1)

سورة الشورى، الآية:11.

(2)

شرح النووي على مسلم (3/ 19).

ص: 317

المتكلمون وغيرهم من السلف يقولون أن الصراط أدق من الشعر وأحدّ من السيف كما ذكره أبو سعيد الخدري [قاله النووي

(1)

].

قوله صلى الله عليه وسلم: "فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته" وفي رواية: يجيز بأمته، ويجيز لغة في يجوز ويجيز هو بضم الياء وكسر الجيم وبالزاي أي أول من يقطع مسافة الصراط، قاله عياض. ومعناه يكون أول من يمضي عليه ويقطعه. يقال: جاز وأجاز بمعنى ويقال أيضًا أجزت الوادي وجُزته لغتان بمعنى. وقال الأصمعي: أجزته قطعته وجزته مشيت فيه، اهـ.

قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يتكلم يومئذ أحد إلا الرسل" معناه لشدة الأهوال، والمراد لا يتكلم في الإجازة وإلا ففي يوم القيامة مواطن يتكلم الناس فيها وتجادل كل نفس عن نفسها ويسأل بعضهم بعضا ويتلاومون ويخاصم التابعون المتبوعين.

قوله: "وكلام الرسل يومئذ اللهم سلم سلم" الحديا، هذا من كمال شفقتهم ورحمتهم للخلق وفيه أن الدعوات تكون بحسب المواطن فيُدعى في كل موطن بما يليق به واللَّه أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم:"في جهنم كلاليب مثل شوك السعدان" الحديث، أما الكلاليب فجمع كلوب بفتح الكاف وضم اللام المشددة وهي حديدة معوجة الرأس عليها اللحم وترسل في التنور. قال صاحب المطالع

(2)

: هي خشبة في رأسها عقافة حديد وقد تكون حديدا كلها

(1)

شرح النووي على مسلم (3/ 20).

(2)

مطالع الأنوار على صحاح الآثار (3/ 360).

ص: 318

ويقال لها أيضًا كلاب اهـ، وكذا هي آلة الاجتذاب للدلو من البئر ويقال لها أيضًا كلاب بضم الكاف، وأما السعدان فهو نبت ذو شوك معقّف، اهـ، قاله المملى. وقال بعض العلماء هو بفتح السين وإسكان العين المهملتين وهو نبت له شوكة عظيمة مثل الحسك من كل الجوانب واحدتها سعدانة وهو من أفضل مراعي الإبل يضرب به المثل.

قوله صلى الله عليه وسلم: "تخطف الناس بأعمالهم" هو بفتح الطاء وكسرها، يقال خطف وخطف بكسر الطاء وفتحها والكسر أفصح، ويجوز أن يكون معناه تخطفهم [بسبب أعمالهم القبيحة ويجوز أن يكون معناه تخطفهم]

(1)

على قدر أعمالهم، اهـ. قاله الكرماني

(2)

وغيره.

قوله صلى الله عليه وسلم: "فمنهم من يوبق بعمله" ومعناه الذي أوبقته ذنوبه والموبق بعمله هو المحبوس المعاقب أي يهلك ويحبس بسبب عمله السيّء من أوبَقه إذا حبَسه والإيباق الإهلاك أيضًا. قوله صلى الله عليه وسلم: "ومنهم من يخردل ثم ينجو" الحديث. المخردل المرمي المصروع. وقيل المقطع، يقال لحم خراديل إذا كان قطعًا. والمعنى أنه يقطعه كلاليب الصراط حتى يهوي إلى النار، اهـ، قاله المنذري. وقال بعضهم المخردل بالخاء المعجمة والدال المهملة ويقال فيه بالذال المعجمة أيضًا، ورواه بعضهم في البخاري المجردل بالجيم عوضا عن الخاء فأما بالخاء فمعناه المقطع بالكلاليب كما

(1)

سقطت هذه العبارة من النسخة الهندية.

(2)

كشف المناهج والتناقيح في تخريج أحاديث المصابيح (5/ 40).

ص: 319

قال المملى رحمه الله، وأما المجردل بالجيم [عوضا عن الخاء]

(1)

[فمعناه] المشرف على الهلاك والسقوط.

قوله صلى الله عليه وسلم: "حتى إذا أراد اللَّه رحمة من أراد من أهل النار" الحديث، وهم المؤمنون الخُلص إذ الكافر لا ينجو من النار أبدا ويبقى خالدا فيها أبدا، قاله الكرماني

(2)

.

قوله صلى الله عليه وسلم: "أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان يعبد اللَّه من برا وفاجرًا" أما البر فهو المطيع، وفي حديث: من كان لا يشرك باللَّه شيئا ممن أراد أن يرحمه ممن يقول لا إله إلا اللَّه.

قوله صلى الله عليه وسلم: "فيعرفونهم" أي في النار "بآثار السجود وقد حرم اللَّه تعالى على النمار أن تأكل أثر السجود" الحديث. ظاهر هذا الحديث أن النار لا تأكل شيئا من أعضاء السجود السبعة في قوله: أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، الحديث. فالسبعة المأمور بالسجود عليها هي الجبهة واليدان والركبتان والقدمان، فهذا قاله بعض العلماء وأنكره القاضي عياض رحمه اللَّه تعالى. وقال: المراد بأثر السجود الجبهة خاصة. وقال النووي: المختار الأول، فإن قيل: فقد ذكر مسلم رحمه الله في صحيحه

(3)

بعد هذا مرفوعا أن قوما يخرجون من النار يحترقون فيها إلا دارات وجوههم حتى يدخلون الجنة،

(1)

سقطت هذه العبارة من النسخة الهندية.

(2)

الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (5/ 163).

(3)

شرح النووي على مسلم (3/ 22).

ص: 320

فالجواب أن هؤلاء القوم مخصوصون من جملة الخارجين من النار فإنه لا يسلم منهم من النار إلا دارات الوجوه وهو جمع دارة وهو ما يحيط بالوجه من جوانبه، أراد لا تأكلها النار لأنها محل السجود وأما غيرهم فيسلم جميع أعضاء السجود منهم عملا بعموم هذا الحديث، فهذا الحديث عام وذاك خاص فيعمل بالعام إلا ما خص واللَّه أعلم. وهذا الحديث أدل دليل على أن أهل الكبائر من أهل التوحيد لا تسود لهم وجوه ولا تزرق لهم عيون ولا يغلون بخلاف الكفار. قال الإمام القرطبي: وقد جاء هذا المعنى منصوصا في حديث أبي هريرة مرفوعًا إنما الشفاعة يوم القيامة لمن عمل الكبائر من أمتى ثم ماتوا عليها فهم في الباب الأول من جهنم لا تسود وجوههم ولا تزرق أعينهم ولا يغلون بالأغلال ولا [يقرنون] مع الشياطين ولا يضربون بالمقامع ولا يطرحون في الأدراك منهم من يمكث فيها ساعة ثم يخرج ومنهم من يمكث فيها سنة ثم يخرج وأطولهم مكثا فيها مثل الدنيا منذ خلقت إلى يوم أفنيت وذلك سبعة آلاف سنة، خرّجه الترمذي الحكيم في نوادره

(1)

.

(1)

التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة (ص: 792). أما حديث أبي هريرة فأخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول كما في الكشف عن مجاوزة هذه الأمة الألف للسيوطي، قال: ثنا صالح بن أحمد بن أبي محمد ثنا يعلى بن هلال عن ليث عن مجاهد عنه مرفوعا إنما الشفاعة يوم القيامة لمن عمل الكبائر. . . الحديث وفيه مثل الدنيا منذ يوم خلقت إلى يوم أفنيت وذلك سبعة آلاف سنة وإسناده ضعيف لضعف ليث بن أبي سليم، وصالح بن أحمد ويعلي بن هلال لم أعرفهما. قال العراقي في المغني عن حمل الأسفار (ص: 1676) وإسناده ضعيف.

ص: 321

تنبيه: قال العراقي في شرح الأحكام قلت: وبتقدير أن يحمل على الجبهة خاصة ففي هذا الحديث وهو قوله: إن قوما يحترقون في النار إلا دارات وجوههم زيادة على الحديث الأول لأن دارات الوجوه أوسع من الجبهة. واللَّه أعلم.

قوله: "فيخرجونهم من النار وقد امتُحشوا" امتُحشوا بضم التاء المثناة فوق وكسر الحاء المهملة بعدها شين معجمة أي احترقوا. وقال الهيثم: هو أن تُذهب النار الجلد وتبري العظم، انتهى. قاله الحافظ وضبطه بعض العلماء بفتحهما أيضًا، هكذا هو في الروايات وكذا نقله القاضي عياض

(1)

عن متقنى شيوخهم قال: وهو وجه الكلام وبه ضبط الخطابي والهروي وقالوا في معناه احترقوا [والمحشن] احتراق الجلد وظهور العظم. قال في النهاية

(2)

: وقد محشته النار تمحشه محشًا ومنه حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أتوضأ من طعام أجده حلالا لأنه محشته النار. قاله مُنكِرا على من يوجب الوضوء مما مسته النار، اهـ.

قوله صلى الله عليه وسلم: "فيصب عليهم ماء الحياة" الحديث، معناه الماء الذي يحيي من انغمس فيه واللَّه أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم:"فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل" الحديث. وفي الأصول فينبتون منه بالميم والنون وهو صحيح ومعناه ينبتون بسببه. والحبة بكسر الحاء هي بذور البقول والياحين وقيل بزر

(1)

إكمال المعلم بفوائد مسلم (1/ 554).

(2)

النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 302).

ص: 322

العشب وقيل نبت في الحشيش صغير وقيل بذور جميع النبات وقيل بذر ما نبت من غير بذر وما بُذر، تفتح حاؤه، اهـ. قاله المنذري. وقال بعضهم أما الحبة فبكسر الحاء وتشديد الباء وهي بذر البقول والعشب ينبت بالبراري وجوانب السيول وجمعها حِبَب بكسر الحاء وفتح الباء كقربة وقرب، وقال الجوهري: الحبة بالكسر بزور الصحراء مما ليس بقوت وأما الحبة بالفتح فهي الحنطة والشعير، قاله في النهاية

(1)

. والحبة الحبوب إذا كانت تختلف أما الحب والحبة فتستعمل في كل شيء حتى يقال حبة عنب من عنب وقيل الحبة اسم جامع [لحبوب البقول] التي [تنتثر إذا هاجت] ثم إذا مطرت من قابل نبتت. وأما حميل السيل فهو بفتح الحاء المهملة وكسر الميم وفي حديث آخر كما تنبت الحبة في حمائل السيل جمع حميل وهو الزّبد وما يلقيه على شاطئه، قاله المصنف، وقال في النهاية

(2)

هو ما جاء به السيل من طين أو غثاء، والغثاء بالضم والمد ومعناه ما يجيء فوق السيل مما يحمله من الزبد والوسخ وغيره، وجاء في صحيح مسلم كما تنبت [الغثاة] يريد ما احتمله السيل من البزورات فإذا اتفق أن يكون فيه حبة واستقرت على شط مجرى السيل فإنها تنبت في يوم وليلة وهي أسرع نابتة نباتا فشبه النبي صلى الله عليه وسلم بها سرعة عَوْد أبدانهم وأجسادهم بعد إحراق النار لها بسرعة نبات تلك الحبة والمراد التشبيه في سرعة النبات وحسنه وطرواته. وفي التنزيل ألم تر أن اللَّه

(1)

النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 326).

(2)

النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 343).

ص: 323

أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة، [واللَّه تعالى أعلم، وحميل السيل، قال الأصمعي: مما حمله السيل، وكل محمول حميل، كما تقول للمقتول قتيل. قال أبو سعيد العزيز:]. حميل السيل ما جاء به من طين أو غثاء فإذا أنفق فيه الحبة واستقرت على شط مجرى السيل فإنها تنبت في يوم وليلة وهي أسرع نابتة نباتا وإنما أخبر بسرعة نباتهم، اهـ.

قوله صلى الله عليه وسلم: "ثم يفرغ اللَّه من القضاء بين العباد" الحديث، إسناد الفراغ إلى اللَّه تعالى ليس على سبيل الحقيقة إذ الفراغ هو الخلاص عن المهام واللَّه تعالى لا يشغله شأن عن شأن، فالمراد منه إتمام الحكم بين العباد بالثواب والعقاب، اهـ، قاله الكرماني

(1)

.

قوله: "قد قشبني ريحها" أي آذاني، قاله الحافظ. وقال بعض العلماء: قشبني بقاف مفتوحة ثم شين معجمة مخففة مفتوحة أي سمّني بالسين وأهلكني وآذاني أي صار ريحها كالسم في أنفي، كذا قاله الجماهير من أهل اللغة والغريب. وقال الداوودي معناه غيّر جلدي وصورتي

(2)

.

وقال في النهاية

(3)

: أي سمَّني والقشب السم وكل مسموم قشيب ومقشب. يقال: قشبه الدخان إذا امتلأ خياشيمه من الدخان، ومنه حديث عمر رضي الله عنه أنه وجد من معاوية ريح طيب وهو محرم فقال: من قشبنا، أراد أن

(1)

الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (5/ 163).

(2)

إكمال المعلم بفوائد مسلم (1/ 557) شرح النووي على مسلم (3/ 23).

(3)

النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 64).

ص: 324

ريح الطيب في هذه الحال مع الإحرام ومخالفة السنة قشب كما أن ريح النتن قشب. يقال: ما أقشب بيتهم أي ما أقذره، والقشب بالفتح خلط السم بالطعام، ا هـ.

قوله: "وأحرقني ذكاها" بذال معجمة مفتوحة مقصور هو اشتعالها ولهبها. وقال بعض العلماء: ذكاؤها بالمد، كذا وقع في جميع روايات الحديث وهو بفتح الذال المعجمة ومعناه لهبها واشتعالها وشدة وهجها فالذكاء شدة ريح النار والأشهر في اللغة ذكاها مقصور كما ذكر الحافظ وذكر جماعات من العلماء أن المد والقصر لغتان، يقال ذكيت النار إذ أتممت إشعالها ورفعتها وذكت النار تذكو [ذكاء] مقصور أي اشتعلت وأذكيتها أنا اهـ. يقال ذكيت أي أشعلتها إشعالا تاما وأصل الذكاء بلوغ كل شيء منتهاه.

[قوله:] فيقول: هل عسيت أن أفعل أن تسأل غير ذلك الحديث، ومعناه أي رجوت وعسى بمعنى لعل للترجي ومنه قوله تعالى:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ}

(1)

بمعنى لعلكم ورجاء لكم وعسيت هو بفتح التاء على الخطاب، ويقال بفتح السين وكسره لغتان قرئ بهما في السبع، قرأ نافع بالكسر والباقون بالفتح وهو الأصح الأشهر في اللغة. قال ابن السكيت: ولا ينطق في عسيت بمستقبل واللَّه أعلم. قوله: "فإذا أقبل على الجنة ورآى بهجتها سكت ما شاء اللَّه أن يسكت" الحديث، بهجة الجنة حسنها وما فيها من النعيم. يقال: أبهجني [الشيء] إبهاجا وبهجني بهجا أعجبني والأول أفصح [و [يقال] بهُج

(1)

سورة محمد، الآية:22.

ص: 325

الشيء يبهج فهو بهيج وبهج به بالكسر إذا فرح وسُرَّ، قاله في النهاية

(1)

]

(2)

. والأزهر هو الأبيض المشرب بحمرة أو صفرة ومنه زهرة النجوم والزهرة البياض النير. وقوله في الجنة: "فرآى زهرتها" يفسره قوله بعدها: و"وما فيها من النضرة والسرور" اهـ، قاله عياض. قوله:"فيقول: يا رب لا أكون أشقى خلقك" الحديث، أي كافرا، فإن قلت كيف طابق هذا الجواب لفظ أليس قد أعطيت العهود. قلت: كأنه قال يا رب أعطيت لكن كرمك يُطمعني إذ لا ييأس من روح اللَّه إلا القوم الكافرون، قاله الكرماني

(3)

.

قوله: "فيقول يا رب أدخلني الجنة. فيقول اللَّه تعالى: ويحك يا ابن آدم ما أغدرك" الحديث، ويحك منصوب بفعل مضمر نحو الزم اللَّه وويح كلمة رحمة وويل كلمة عذاب، وقيل هما بمعنى واحد وما أغدرك فعل التعجب والغدر ترك الوفاء، انتهى. قاله الكرماني

(4)

. قوله: "فيقول: يا رب لا تجعلني أشقى خلقك" يعني كافرا كما تقدم.

قوله صلى الله عليه وسلم: "فيضحك اللَّه تعالى منه الحديث". قال العلماء: "الضحك لا يتصور على اللَّه تعالى والمراد به رضي اللَّه تعالى بفعل عبده ومحبته إياه

(1)

النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 165).

(2)

حصل تأخير لهذه العبارة في النسخة الهندية، وأدرجت بعد قوله:(يفسره قوله بعدها: و (وما فيها من النضرة والسرور) اهـ، قاله عياض).

(3)

الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (5/ 164).

(4)

الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (23/ 62).

ص: 326

وإظهار نعمته عليه وإيجابها له" قاله النووي في شرح مسلم

(1)

. وقال الخطابي

(2)

: الضحك من اللَّه تعالى مؤول على معنى الرضا لأن الضحك من ذوي التمييز يدل على الرضى والبشر والاستهلال منهم يدل على قبول الوسيلة ومقدمة إنجاح الطلب والكرام يُوصفون عند المسألة بالبشر وحسن اللقاء فيكون المعنى في قوله: " [فيضحك] اللَّه منه" أي يجزل له العطاء لأنه موجب الضحك ومقتضاه، اهـ.

قوله: "فيقول تمنّ فيتمنى حتى إذا انقطعت أمنيته قال اللَّه تعالى: تمن من كذا وكذا، يُذكره ربه" معناه يقول تمن من الشيء الفلاني ومن الشيء الفلاني يسمي له [سبحانه وتعالى] أجناس ما يتمنى وهذا من عظيم رحمته سبحانه وتعالى بعباده.

قوله: "قال اللَّه تعالى: لك ذلك ومثله معه" قال أبو سعيد الخدري لأبي هريرة: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: قال اللَّه تعالى: لك ذلك وعشرة أمثاله. قال أبو هريرة: لم أحفظ من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا قوله: لك ذلك ومثله معه. الحديث، قال الكرماني

(3)

: فإن قلت ما وجه الجمع بين رواية أبي هريرة وأبي سعيد؟ قلت: أعلم أولا بما في حديث أبي هريرة ثم تكرم اللَّه سبحانه وتعالى فزادها فأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمعه أبو هريرة وفيه أكرم الأكرمين. قال الغزالي في

(1)

شرح النووي على مسلم (3/ 24).

(2)

أعلام الحديث (2/ 1367 و 3/ 1922).

(3)

الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (5/ 165).

ص: 327

الإحياء في أثناء كتاب التوبة

(1)

: وفي الخبر: آخر من يخرج من النار يعطى [مثل] الدنيا كلها عشرة أضعاف لا يظن أن المراد تقدير المساحة لأطراف الأجسام [بأن] تقابل فرسخ بفرسخين أو بعشرة [فإن هذا جهل] بطريق ضرب المثال بل هو كقول القائل أخذ منه جملا وأعطاه عشرة أمثاله وكان الجمل يساوي عشرة دنانير فأعطاه مائة دينار فإن لم يفهم من المثل إلى المثل في الوزن والثقل فلا يكون مائة دينار لو وضعت في كفة الميزان والجمل في الكفة الأخرى عشرة عشرة بل موازنة معاني الأجسام وأرواحها دون [أشخاصها وهياكلها] فإن [الجمل] لا يقصد لثقله وطوله وعرضه ومساحته بل لماليته [فروحه المالية] وجسمه اللحم والدم ومائة دينار عشرة أمثاله بالموازنة الروحانية لا بالموازنة الجسمانية فهذا صادق عند من يعرف روح المالية من الذهب والإبل بل لو أعطاه جوهرة وزنها متقال وقيمتها مائة دينار وقال أعطيته عشرة أمثاله كان صادقا ولكن لا يدرك صدقه إلا الجوهري فإن روح الجوهر لا يدرك بمجرد البصر بل بفطنة أخرى وراء البصر وكل ذلك يكذب به الصبي والقروي والبدوي ويقول ما هذه الجوهرة إلا حجر وزنه مثقال ووزن الجمل ألف ألف مثقال مضاعفة فقد كذب في قوله أعطيته عشرة أمثاله والكاذب بالتحقيق هو الصبي ولكن لا سبيل إلى تحقيق ذلك عنده إلا بأن ينتظر به البلوغ والكمال وأن يحصل في قلبه النور الذي به يدرك أرواح الأجسام من الجواهر وسائر الأموال فعند ذلك ينكشف

(1)

إحياء علوم الدين (4/ 28).

ص: 328

له الصدق والعارف في صدق هذه الموازنة أن تقول الجنة في السماوات كما ورد به الأخبار والسموات في الدنيا فكيف [يكون] عشرة [أمثال] الدنيا في الدنيا وهذا كما يعجز البالغ عن تفهيم [الصبي] تلك المنزلة [والموازنة وكذلك] يعجز عن تفهيم البدوي [كما] أن الجوهري مرحوم إذا بلي [بالبدوي والقروي في تفهيم تلك الموازنة فكذلك العارف مرحوم إذا بلي]

(1)

بالبليد الأبله في تفهيم هذه الموازنة ولذلك قال [عليه الصلاة والسلام]: ارحموا عزيز قوم ذل وغني قوم افتقر [وعالما] بين الحمقى والجهال، ا هـ.

5466 -

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قلنا يا رسول اللَّه هل نرى ربنا يوم القيامة قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نعم فهل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوا ليس معها سحاب وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحوا ليس فيها سحاب قالوا لا يا رسول اللَّه قال فما تضارون في رؤية اللَّه تعالى يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فلا يبقى أحد كان يعبد غير اللَّه من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد اللَّه من بر وفاجر وغبر أهل الكتاب فيدعى اليهود فيقال لهم ما كنتم تعبدون قالوا كنا نعبد عزيرا ابن اللَّه فيقال كذبتم ما اتخذ اللَّه من صاحبة ولا ولد فماذا تبغون قالوا عطشنا يا ربنا فاسقنا فيشار إليهم ألا تردون فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم

(1)

سقطت هذه العبارة من النسخة الهندية.

ص: 329

بعضها بعضا فيتساقطون في النار ثم تدعى النصارى فيقال لهم ما كنتم تعبدون قالوا كنا نعبد المسيح ابن اللَّه فيقال لهم كذبتم ما اتخذ اللَّه من صاحبة ولا ولد فماذا تبغون فيقولون عطشنا يا ربنا فاسقنا فيشار إليهم ألا تردون فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد اللَّه من بر وفاجر أتاهم اللَّه في أدنى صورة من التي رأوه فيها قال فما تنتظرون تتبع كل أمة ما كانت تعبد قالوا يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ باللَّه منك لا نشرك باللَّه شيئا مرتين أو ثلاثا حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها فيقولون نعم فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد للَّه من تلقاء نفسه ألا أذن اللَّه له بالسجود ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل اللَّه ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة فقال أنا ربكم فيقولون أنت ربنا ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون اللهم سلم سلم قيل يا رسول اللَّه وما الجسر قال دحض مزلة فيه خطاطيف وكلاليب وحسكة يكون بنجد فيها تشويكة يقال لها السعدان فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكدوش في نار جهنم حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد مناشدة للَّه في استيفاء الحق من المؤمنين للَّه يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار وفي

ص: 330

رواية فما أنتم بأشد مناشدة في الحق قد تبين لكم من المؤمنين يومئذ للجبار إذا رأوا أنهم قد نجوا في إخوانهم فيقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون فيقال لهم أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقه وإلى ركبته ثم يقولون ربنا ما بقي فيها ممن أمرتنا به فيقال ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا وكان أبو سعيد يقول إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرؤوا إن شئتم {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} فيقول اللَّه عز وجل شفعت الملائكة وشفع النبيون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما من النار لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر ما يكون إلى الشمس أصيفر وأخيضر وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض فقالوا يا رسول اللَّه كأنك كنت ترعى بالبادية قال فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم يعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء اللَّه الذين أدخلهم اللَّه الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه ثم يقول ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم

ص: 331

فيقولون ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين فيقول لكم عندي أفضل من هذا فيقولون يا ربنا أي شيء أفضل من هذا فيقول رضاي فلا أسخط عليكم أبدا رواه البخاري

(1)

ومسلم واللفظ له.

(2)

الغبر بغين معجمة مضمومة ثم باء موحدة مشددة مفتوحة جمع غابر وهو الباقي وقوله دحض مزلة الدحض بإسكان الحاء هو الزلق والمزلة هو المكان الذي لا يشت عليه القدم إلا زلت المكدوش بشين معجمة هو المدفوع في نار جهنم دفعا عنيفا الحمم بضم الحاء المهملة وفتح الميم جمع حممة وهي الفحمة وبقية غريبه تقدم.

قوله: "وعن أبي سعيد" تقدم الكلام على مناقبه. قوله صلى الله عليه وسلم: "فهل تضارون في رؤية الشمس بالظهرية صحوا ليس معها سحاب" الحديث. أصله تتضارون ووزنه تتفاعون حذفت إحدى التاءين منهما أي هل تتزاحمون عند رؤيته حتى يلحقكم الضرر، وتقدم الكلام على ذلك قريبا أبسط من هذا. قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا كان يوم القيامة أذّن مؤذن لتتبع كل أمة ما كانت تعبد" تقدم معنى الأمة في أوائل هذا التعليق. قوله: "حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد اللَّه من بر وفاجر وغبر أهل الكتاب" الحديث، أما البر فهو المطيع وأما الفاجر فالمراد به الكافر واسم الفاجر في عرف القرآن والسنة يتناول الكافر قطعا كقوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ

(1)

صحيح البخاري (4581).

(2)

صحيح مسلم (302)(183).

ص: 332

(14)

}

(1)

، وقوله تعالى:{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8)}

(2)

، قاله في حادي القلوب. وأما غُبِّر أهل الكتاب فبغين معجمة مضمومة ثم باء موحدة مشددة مفتوحة جمع غابر وهو الباقي، قاله الحافظ. وقال بعضهم: معناها بقاياهم، جمع غابر ويُقال لبقيّة الشيء غبر وجمعه أغبار، وقد جمع على الغبرات. قوله:"فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النار" الحديث، أما السراب فهو الذي يتراءى للناس في الأرض القفر والقاع المستوي وسط النهار في الحر الشديد لامعا مثل الماء يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. فأما الكفار فيأتون جهنم عافانا اللَّه منها وسائر المسلمين من كل مكروه وهم عطاش فيحسبونها ماء فيتساقطون فيها وأما يحطم بعضها بعضا فبكسر الطاء فمعناه لشدة إيقادها وتلاطم أمواج لهبها والحطم الكسر والإهلاك والحطمة اسم من أسماء النار لكونها تحطم ما يُلقى فيها، قاله النووي في شرح مسلم

(3)

. قوله: "تدعى النصارى" الحديث، وسُمُّوا نصارى لنصر بعضهم بعضا أو لأنهم نزلوا موضعا يقال له نصرانة أو نصرة أو ناصرة أو لقوله:{مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ}

(4)

وهو جمع نصران. قوله صلى الله عليه وسلم: "حتى إذا لم يبق إلا من

(1)

سورة الانفطار، الآية: 13 - 14.

(2)

سورة المطففين، الآية: 7 - 8.

(3)

شرح النووي على مسلم (3/ 26).

(4)

سورة آل عمران، الآية:52.

ص: 333

كان يعبد اللَّه من بر وفاجر أتاهم اللَّه في أدنى من صورته التي رأوه فيها" الحديث، أي ظهر لهم والإتيان مجاز عن الظهور. وقوله: "أدنى من صورته" أي أقربها.

قال الخطابي: المراد بالصورة الصفة، يقال صورة هذا الأمر كذا أي صفته أو أطلق الصورة على سبيل المشاكلة والمجانسة، اهـ.

تنبيه: وإنما وجب أن يرى ذلك بالصفة لاستحالة المماثلة والمشابهة على اللَّه تعالى فمن زعم أن المراد من الصورة في هذا الحديث ما يعهد من الصور فقد أعظم الفرقة على اللَّه تعالى فإن اللَّه تعالى قال: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}

(1)

وقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}

(2)

فنحن نؤمن بكل ما جاء عن ربنا على ما علمه ربنا من الوجه اللائق بقدوسيته سبحانه وتعالى، قاله في حادي القلوب، وهذا موضع امتحان ليميز المحق من المبطل، وقال بعضهم: ليقع التمييز بين من عبد اللَّه تعالى وبين من عبد الشمس والقمر والطواغيت وذلك أنه لما بقي المنافقون والمراءون متلبسين بالمؤمنين والمخلصين زاعمين أنهم منهم وأنهم عملوا مثل أعمالهم وعرفوا اللَّه مثل معرفتهم امتحنهم اللَّه تعالى بأن أتاهم بصورة قالت للجميع أنا ربكم فأجاب المؤمنون بإنكار ذلك والتعوذ منه لما قد سبق لهم من معرفتهم باللَّه عز وجل وأنه منزه عن صفات هذه الصورة إذ سماتها سمات المحدثات،

(1)

سورة طه، الآية:110.

(2)

سورة الشورى، الآية:11.

ص: 334

ولهذا قال في الحديث: فنعوذ باللَّه منك لا نشرك باللَّه شيئا مرتين أو ثلاثا حتى أن بعضهم ليكاد أن ينقلب، [فقال الخطابي

(1)

: يحتمل أن تكون هذه الاستعاذة من المنافقين خاصة، وأنكر القاضي عياض هذا، وقال

(2)

: لا يصح أن يكون من قول المنافقين ولا يستقيم الكلام فيه، وهذا الذي قاله عياض هو الصواب، ولفظ الحديث مصرح به، وظاهر فيه، وإنما استيفاء منه لما قدمناه من كونهم رأوا سمات المخلوق، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.] قال بعض علمائنا: وهذا لمن لم يكن له رسوخ العلماء ولعلهم الذين اعتقدوا الحق وجرموا عليه من غير بصيرة [وكذلك] كان اعتقادهم قابلا للانقلاب واللَّه أعلم. قلت: ويحتمل أن يكونوا المنافقين والمرائين وهو أشبه واللَّه أعلم لأن في الامتحان الثاني يتحقق ذلك لأن في حديث أبي سعيد هذا بعد قوله حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول: هل بينكم وبينه علامة فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم. قاله القرطبي في التذكرة

(3)

.

قوله: "قالوا يا ربنا فارقنا الناس أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم" معنى قولهم يا ربنا: التضرع إلى اللَّه تعالى في كشف هذه الشدة عنهم وأنهم لزموا طاعته سبحانه وتعالى وفارقوا في الدنيا الناس الذين زاغوا عن طاعته سبحانه وتعالى من قراباتهم وغيرتهم ممن كانوا يحتاجون في معايشهم ومصالح

(1)

إكمال المعلم بفوائد مسلم (1/ 548)، وشرح النووي على مسلم (3/ 20).

(2)

شرح النووي على مسلم (3/ 20).

(3)

التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة (ص: 743).

ص: 335

دنياهم إلى معاشرتهم للارتفاق بهم، اهـ، قاله النووي في شرح مسلم

(1)

.

وقال الكرماني

(2)

: قوله: أفقر ما كنا، أي أحوج، يعني لم نتبعهم في الدنيا مع الاحتياج إليهم ففي هذا اليوم بالطريق الأولى. قوله:"فيقول أنا ربكم فيقولون: نعوذ باللَّه لا نشرك باللَّه شيئا مرتين أو ثلاثا" الحديث.

قال الكرماني

(3)

: فإن قلت ما فائدة قولهم: لا نشرك باللَّه شيئا إذ يوم القيامة ليس [فيه] التكليف. قلت: قالوا استلذاذا وافتخارا بذلك أو تذكارا لسبب النعمة التي وجدوها، اهـ. قوله:"حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب" معناه وللَّه أعلم ينقلب عن الصواب ويرجع عند الامتحان الشديد الذي جرى واللَّه أعلم، قاله النووي

(4)

.

قوله: "فيقول أَهَلْ بينكم وبينه آية فتعرفونه بها؟ فيقولون نعم: فيكشف عن ساق" الحديث، المراد بالآية العلامة وقوله:"فيكشف عن ساق" ضبط يكشف بضم الياء وفتحها وفسر ابن عباس وجمهور أهل اللغة الساق هنا بالشدة أي يكشف عن شدة وأمور مهولة، وقال بعضهم عن ساق يعني عن شدة عظيمة خارقة للعادة خارجة عن وسع البشر وقيل المراد بالساق هنا نور عظيم وورد ذلك في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن فورك معنى ذلك ما

(1)

شرح النووي على مسلم (3/ 27).

(2)

الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (17/ 79).

(3)

الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (17/ 79).

(4)

شرح النووي على مسلم (3/ 27).

ص: 336

يتجدد للمؤمنين عند رؤية اللَّه من الفوائد والألطاف، قالوا: وهذا مثل تضربه العرب لشدة الأمر ولهذا يقولون: وقامت الحرب على ساق، [وأصله أن الإنسان إذا وقع في شدة يقال شمّر عن ساقه] وكشف عن ساقه للاهتمام بذلك الأمر العظيم، قاله النووي

(1)

. وزاد الكرماني

(2)

كما يقال: [للأقطع] الشحيح يده مغلولة ولا يد ثَمَّ ولا غُلّ وإنما هو متل في شدة البخل، وكذلك هذا لا ساق هناك ولا كشف، اهـ.

قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يبقى من كان يسجد للَّه من تلقاء نفسه إلا أذن اللَّه له بالسجود" الحديث، وهذا السجود امتحان من اللَّه تعالى لعباده، قاله النووي

(3)

.

قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل اللَّه ظهره طبقة واحدة" الحديث، والطبقة بفتح الطاء والياء، قال الهروي وغيره الطبق، فقار الظهر أي صار فقارة واحدة كالصفيحة فلا يقدر على الانحناء ولا على السجود، قاله عياض.

قوله صلى الله عليه وسلم: "ثم يرفعون رءوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة، فقال أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا" الحديث، أي فيتجلى لهم في صفته التي يعرفونه بها التي هو عليها من الجلال والكمال والتعالي والجمال بعد

(1)

شرح النووي على مسلم (3/ 28) النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 422).

(2)

النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 422).

(3)

شرح النووي على مسلم (3/ 28).

ص: 337

أن يرفع الموانع عن أبصارهم. قال الخطابي

(1)

: وهذه [الرؤية] التي في هذا المقام يوم القيامة غير الرؤية التي في الجنة لكرامة أولياء اللَّه تعالى وإنما هذه للامتحان، اهـ. إذ هي للتمييز بين من عبد اللَّه تعالى ومن عبد غيره، والرؤية المذكورة في الحديث بمعنى يالعلم لأنهم لم يروه قبل ذلك واللَّه أعلم. وفي حديث آخر: فيتبعونه، معناه يتبعون أمره إياهم بذهابهم إلى الجنة أو يتعبون ملائكته ورسله الذين يذهبون بهم إلى الجنة. قوله:"ثم يضرب الجسر على جهنم" أي ينصب والجسر بفتح الجيم وكسرها لغتان مشهورتان وهو هاهنا الصراط وأصله القنطرة يعبر عليها، قاله عياض

(2)

.

قوله: "وتحل الشفاعة" بكسر الحاء وقيل بضمها، ومعنى تحل أي تقع، [وأصله القنطرة يعبر عليها، قاله عياض]، ويؤذن فيها. قوله:"قيل يا رسول اللَّه وما الجسر؟ قال دحض مزلة فيه خطاطيف وكلاليب وحسكة تكون بنجد" الحديث، الدحض بإسكان الحاء هو الزلق قاله المنذري. وقال بعض العلماء: دحض بالدال المفتوحة والحاء الساكنة والتنوين، والمزلة هو المكان الذي لا تثبت عليه القدم إلا زلت، قاله الحافظ، وقال بعضهم مزلة بفتح الميم وفي الزاي لغتان مشهورتان الفتح والكسر، والدحض والمزلة بمعنى واحد وهو الموضع الذي تزل وتزلق فيه الأقدام ولا تستقر إلا من

(1)

شرح النووي على مسلم (3/ 28)، وإكمال المعلم بفوائد مسلم (1/ 549)، وكشف المناهج والتناقيح في تخريج أحاديث المصابيح (5/ 37).

(2)

شرح النووي على مسلم (3/ 29).

ص: 338

عصمه اللَّه تعالى، ومنه دحضت الشمس أي مالت وحجة داحضة أي لا ثبات لها. وأما الخطاطيف فجمع خطاف بضم الخاء في المفرد والكلاليب بمعناه، وتقدم الكلام على الكلوب، وأما الحسك فهو بفتح الحاء والسين المهملتين وهو شوك صلب من حديد وتقدم الكلام على السعدان. قوله صلى الله عليه وسلم:"فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب" الحديث، معناه أنهم يكونون في سرعة المرور على حسب مراتبهم وأعمالهم.

قوله صلى الله عليه وسلم: "فناج مُسلّم" أي من النار "ومخدوش مرسل ومكدوش في نار جهنم" الحديث، معناه أنهم على ثلاثة أقسام قسم يسلم فلا يناله شيء أصلا وقسم يخدش ثم يرسل فيخلص وقسم مكدوش فيلقى فيسقط في نار جهنم الحديث، المكدوش بشين معجمة هو المدفوع في نار جهنم دفعا عنيفا، وأما المكردس فهو بالسين المهملة هكذا هو في الأصول وكذا نقله القاضي عياض عن أكثر الرواة أي الموثق الملقى في النار أو الملقى على غيره بعضهم على بعض في النار.

قال ورواه بعضهم بالشين المعجمة ومعناه السوق، ومعناه كون الأشياء بعضها على بعض ومنه تكردست الدواب في سيرها إذا ركب بعضها على بعض. وقال في النهاية

(1)

: المكردس الذي جُمعت يده ورجلاه وألقي إلى موضع.

(1)

النهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 162).

ص: 339

فائدة: قال القرطبي

(1)

: روي عن بعض أهل العلم أنه لن يجوز أحد الصراط حتى يُسأل في سبع قناطر: فأما القنطرة الأولى فيسأل فيها عن الإيمان باللَّه تعالى والإيمان هو التصديق بالقلب المطابق مع الإقرار باللسان حتى لو أقر بلسانه من غير علم ومعرفة بربه سبحانه وتعالى لا يستحق اسم المؤمن وهذا لا نزاع فيه عند العلماء الذين هم حجة اللَّه في أرضه وعبارة بعضهم عقد القلب المصدق لإقرار اللسان الذي لا ينفع عند اللَّه تعالى غيره. واعلم أنه مع ذلك لابد أن يكون الاعتقاد جازما خاليا عن الشّكوك مستمرا على ذلك، فلو طرأ عليه شك كفر، نسأل اللَّه تعالى العافية وقد نص القرآن العظيم على إكفار المنافقين وإن كانوا أظهروا الإتيان بالشهادتين في قوله تعالى:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا}

(2)

الآية، وإجماع المسلمين على ذلك.

القنطرة الثانية: يسأل فيها عن الصلاة فإن جاء بها تامة جاز وتمامها بأن يأتي بمصححاتها ويجتنب مفسداتها، وذلك مذكور في كتب الفقه، ثم للصلاة أمور أخر اعتنى الشارع صلى الله عليه وسلم بها وحرّض على الإتيان بها منها الخشوع وناهيك به أن اللَّه تعالى قد أثنى على فاعليه فقال سبحانه وتعالى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)}

(3)

وقد ذهب بعفر

(1)

التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة (ص: 751).

(2)

سورة التوبة، الآية:84.

(3)

سورة المؤمنون، الآية: 1 - 2.

ص: 340

العلماء إلى أن الخشوع لابد منه في الصلاة وإلا فلا تصح والخشوع قطب البدن وما احتوى عليه واتفقوا على أن محله القلب وهو ذبول يرد على القلب عند الوقوف بين يدي الحق، وللناس فيه عبارات مختلفة وتقدم ذلك في بابه.

القنطرة الثالثة: يسأل فيها عن صوم شهر رمضان فإن جاء به تاما جاز وله مصحّحات ومفسدات ذكرها العلماء في كتب الفقه وفيه وفي فضله من الأحاديث ما لا يكاد يحصى وتقدم ذلك في بابه.

القنطرة الرابعة: يسأل فيها عن الزكاة ووجوبها ثابت بالكتاب والسنة. قال اللَّه تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}

(1)

، فإن أدّاها على الوضع الشرعي جاز العقبة وإن منعها أو منع منها شيئا فقد تسبب لنفسه في عذاب مهول، وتقدمت الأحاديث في ذلك.

القنطرة الخامسة: يسأل فيها عن الحج والعمرة والحج أحد أركان الإسلام وهو فرض عين بالإجماع بعد الكتاب والسنة وقد ورد في فضله أحاديث كثيرة تقدمت.

القنطرة السادسة: يسأل فيها عن الوضوء والغسل فإن جاء [بهما] تامّين جاز وإلا فهو محبوس في شدة وعناء زيادة على ما هو على ظهره من أوزاره، والغسل والوضوء واجبان بالكتاب والسنة وإجماع الأمة عندما يقتضي إيجابهما ولابد من الإتيان بهما على الوجه الشرعي وإلا فهو باق على ما كان

(1)

سورة النور، الآية:56.

ص: 341

عليه من الحديث الأكبر والأصغر ولهما شروط وأركان مذكورة في كتب الفقه فيجب على كل مسلم تعلم ذلك ومتى أخّر عصى واستحق العقوبة واللَّه أعلم.

القنطرة السابعة: وليس في القناطر أصعب منها: يسأل فيها عن ظلامات الناس. وفي الصحيح أن المؤمنين إذا جاوزوا الصراط حبسوا على قنطرة يقتص منهم مظالم كانت بينهم في الدنيا. وقال بعض السلف: إن الرجل يحبس على باب الجنة مائة عام بالذنب كان يعمله في الدنيا، ومظالم العباد كثيرة لا تنحصر حتى لو نظر شخص إلى شخص بعين التهديد أو الاحتقار بغير حق فهو ظلم، والآيات والأخبار في ذلك كثيرة جدا تقدمت، فإذا سلم العبد من هذه القناطر، ومن يسلم منها وأمروا بالمرور على الصراط مرُّوا أفواجا: المرسلون ثم النبيئون ثم الصديقون ثم المحسنون ثم الشهداء تم المؤمنون ثم العارفون وتبقى المسلمون مرورهم على قدر إيمانهم وأعمالهم وسيد المرسلين واقف على الصراط يقول: يا رب سلم سلم فمنهم من يمر كالبرق الخاطف الحديث. قال أبو الفرج بن الجوزي: قال المصطفى صلى الله عليه وسلم فإذا صار الناس على [طرف] الصراط نادى ملك من تحت العرش يا فطرة الملك الجبار جوزوا على الصراط وليقف على كل عاص منكم وظالم فيا لها من ساعة ما أعظم خوفها وما أشد حره.

تنبيه: فإذا فرغ الخلق من الحساب فيقسم الخلق على أقسام ناج مطلق وهو الذي رجحت حسناته وطاشت سيئاته وقسم قضى اللَّه عليه بالعذاب

ص: 342

مدة وهو من الموحدين [بما] استوجبه ولم يجب عليه الخلود في النار لكونه من أهل الإيمان وقسم وجب عليه الخلود في النار لكونه من الكفار فهؤلاء الأصناف إذا مرّوا على الصراط كان المؤمنون الناجون متباطئين في سرعة الجواز فمنهم من يمر كالبرق ومنهم من يمر كالريح إلى آخره فيقطعون الصراط ويسيرون إلى الحوض، وأما الكفار [فينقطعون] بين الصراط في إدراك النار فلا يقطعون ظهر الصراط حتى يلج الجمل في سم الخياط. وأما عصاة الموحدين الذين قضى اللَّه عليهم مدة بالعذاب في النار فإنهم إذا مروا على الصراط تخطفهم الكلاليب وتجتذبهم إلى النار فمنهم من يغمس فيها غمسا ثم يخرج ومنهم من يبقى فيها ساعة وساعات إلى آخر من يخرج من النار. قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث:"فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم أشد مناشدة للَّه يوم القيامة في استيفاء الحق من المؤمنين للَّه يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار" الحديث، وفي رواية في استقصاء الحق بالصاد للكافة وعند بعضهم بضاد معجمة وعند السمرقندي في استيصاء الحق ولا وجه له [وعند] العذري والشجري، استيفاء الحق كما في رواية الكتاب والأول أولى. [واعلم] أن هذه وهي استيفاء الحق ضبطت على أوجه: أحدها استيضاء بتاء مثناة من فوق ثم مثناة من تحت ثم ضاد معجمة. والثاني بحذف المثناة من تحت، والثالث استيفاء بإثبات المثناة من تحت وبالفاء بدل الضاد. والرابع استقصاء بمثناة من فوق ثم قاف ثم صاد مهملة فالأول موجود في [كثير] من الأصول ببلادنا والثاني هو الموجود في أكثرها والثالث

ص: 343

في بعضها وهو الموجود في الصحيحين لعبد الحق والرابع في بعضها ولم يذكر القاضي غيره، وجميع الروايات التي ذكرناها صحيحة ولكل منها معنى حسن وفيه كلام مطول في تفسير كل رواية واللَّه أعلم. قوله:"فيقال لهم أخرجوا من عرفتم فتحرّم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا" الحديث، أخرجوا من الإخراج خطابا للملائكة، وتقدم الكلام على تحريم الصور على النار وعلى دارات الوجوه وعلى السبعة أعضاء التي أمر بالسجود عليها.

قوله: "فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه" الحديث، فحديث أبي سعيد الخدري هذا بيّن في أن الإيمان يزيد وينقص كما تقدم عن العلماء وهو مذهب أهل السنة فإن قوله:"أخرجوا من في قلبه مثقال دينار نصف دينار وذرة" يدل على ذلك.

وقوله: "من خير" يريد به من إيمان أي من أعمال الإيمان التي هي أعمال الجوارح فيكون فيه دلالة على أن الأعمال الصالحة من شرائع الإيمان. ومنه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}

(1)

، وقد قيل أن المراد في هذا الحديث أعمال القلوب كأنه يقول: أخرجوا من عمل عملا بنية من قلبه لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" [وضرب بمثقال الذرة المثل لأقل الخير فإنها أقل المقادير. وقوله تعالى: "من كان في قلبه ذرة" هذا

(1)

سورة البقرة، الآية:143.

ص: 344

دليل على أنه لا ينفع من العمل إلا ما حضر له القلب وصحبته نية]

(1)

. وقال القاضي عياض

(2)

: قيل معنى الخير المذكور في الحديث هنا اليقين. قال: والصحيح أن معناه شيء زائد على مجرد الإيمان لأن مجرد الإيمان الذي هو التصديق لا يتجزأ وإنما يكون هذا التجزِّي لشيء زائد عليه من عمل صالح أو ذِكر خفيّ أو عمل من أعمال القلب من شفقة على مسكين أو رقة على يتيم أو خوف من اللَّه تعالى، فما هي من أفعال القلب دون الجوارح، وسماها إيمانا لكونها في محل الإيمان، والدليل على أنه أراد بالإيمان ما قلنا ولم يرد مجرد الإيمان الذي هو التوحيد ونفي الشرك والإخلاص بقوله: لا إله إلا اللَّه، [ما في] الحديث، ثم هو بعد ذلك يقبض قبضة فيخرج قوما لم يعملوا خيرا قط يريد إلا التوحيد المجرد عن الأعمال، وقد جاء مبينا فيما رواه الحسين عن أنس في حديث مطول في الشفاعة وفيه: فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا اللَّه. قال: ليس ذلك لك أو قال ليس ذاك إليك، وعزتي وكبريائي وعظمتي وكبريائي لأخرجن من قال لا إله إلا اللَّه [قاله النووي في شرحه]

(3)

.

قوله [أي اللَّه عز وجل]: "ثم يقول ارجعوا" خطابا للملائكة كما تقدم.

(1)

حصل تقديم في النسخة الهندية، وأدرجت قبل قوله:(وقد قيل أن المراد في هذا الحديث أعمال).

(2)

إكمال المعلم بفوائد مسلم (1/ 566)، شرح النووي على مسلم (3/ 31).

(3)

سقطت هذه العبارة من النسخة الهندية.

ص: 345

وقوله تعالى: "فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه" الحديث، وضرب بمثقال الذرة المثل لأقل الخير فإنها أقل المقادير. وقوله تعالى:"من كان في قلبه مثقال ذرة" هذا دليل على أنه لا ينفع من العمل إلا ما حضر له القلب وصحبته نية كما تقدم، وفيه دليل أيضًا على زيادة الإيمان ونقصانه كما تقدم أيضًا، وهو مذهب أهل السنة ومثقال الذرة من الخير ما يزن كذا، [والمراد بالذرة واحدة الذر وهو]

(1)

[والذر] النمل الصغير الأحمر واحدته ذرة. قال اللَّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}

(2)

، وسئل ثعلب عنها فقال: إنّ مائة نملة وزن حبة والذرة واحدة منها وليس لها وزن. ويحكى أن رجلا وضع خبزا حتى علاه الذر وستره ثم وزنه فلم يزد شيئا. وهو أصغر ما يكون إذا مر عليها حول لأنها تصغر وتجري كما تفعل الأفعى. وروي عن ابن عباس أنه قال: الذرة رأس النمل.

وقال صاحب المغيث

(3)

: قال بعض العلماء: الشعيرة أربع رزات والرزة أربع سمسمات والسمسمة أربع خردلات والخردلة أربع ورقات نخالة والورقة أربع ذرات، وقد تشبه أجزاء الغبار التي ترى عند طلوع الشمس في الكوة بالذرات والذرة النملة الحمراء. وقال يزيد بن هارون: زعموا أن الذرة ليس لها وزن، وتقدم ذلك أيضًا عن ثعلب، وذكر عن بعضهم قال: وضعت

(1)

سقطت هذه العبارة من النسخة الهندية.

(2)

سورة النساء، الآية:40.

(3)

المجموع المغيث (1/ 696 - 697).

ص: 346

كذا وكذا ذرة في كفة الميزن فلم تترجح [بها]. وقال آخر وضعت خبزا فغشيته النمل بحيث عمّته فوزنته [مع النمل ثم نقيته فوزنته] فما نقص من وزنه شيء، وتقدم ذلك لكن هذه العبارة أوضح. وقيل الذرة ليس [لها] في الدنيا وزن أصلا فأخبر اللَّه تعالى أنه يحاسب في الآخرة بما لا وزن له في الدنيا، اهـ.

تنبيه: ورد في حديث آخر

(1)

: أخرجوا من النار من وجدتم في قلبه مثقال حبة [من]

(2)

خردل من إيمان أو كما ذكر، والحبة بفتح الحاء واحدة الحب المأكول من الحنطة ونحوها، والخردل نبات معروف، قال الخطابي

(3)

: الحبة من الخردل مثل ليكون عيارا في المعرفة وليس بعيار في الوزن لأن الإيمان ليس بجسم يحصره الوزن أو الكيل، اهـ. ولكن ما يشكل في العقول قد يرد إلى عيار المحسوسات ليعلم ومعنى الحديث أنه يدخل الجنة من كان في قلبه أقل قدر من الإيمان؛ والمراد من الخير الإيمان إذ هو أصل [الخيور] ولا خير أعظم منه. قال النووي

(4)

: قال العلماء: المراد بحبة الخردل زيادة على أصل التوحيد: وقد جاء في الصحيح بيان ذلك ففي رواية أخرجوا من قال لا إله إلا اللَّه وعمل من خير ما يزن كذا، ثم بعد هذا يخرج منها من لم يعمل خيرا قط غير التوحيد.

(1)

صحيح البخاري (22)، ومسلم (184) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(2)

سقطت هذا اللفظ من النسخة الهندية.

(3)

فتح الباري (1/ 73)، الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (1/ 117).

(4)

الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (1/ 117).

ص: 347

فإن قيل: كيف يعلمون ما كان في قلوبهم في الدنيا من الإيمان ومقداره؟ [قلنا]: يجعل اللَّه سبحانه وتعالى علامات يعرفون ذلك بها كما يعلمون كونهم من أهل التوحيد. قال: وفيه أن الأعمال من الإيمان لقوله صلى الله عليه وسلم: "خردل من إيمان" والمراد ما زاد على أصل التوحيد، اهـ. وتقدم معنى ذلك معزُوًّا لغيره.

قوله في الحديث: "ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا" هكذا هو خيرًا بإسكان الياء، أي صاحب خير. قوله:"فيقول اللَّه عز وجل شفعت الملائكة وشفع النبيئون ولم يبق إلا أرحم الراحمين" شفعت الملائكة هو بفتح الفاء.

قال النووي: وإنما ذكرته وإن كان ظاهرا لأني رأيت من يصحفه ولا خلاف فيه، يقال شفع يشفع شفاعة فهو شافع وشفيع والمشفع بكسر الفاء الذي يقبل الشفاعة والمشفع بفتحها الذي تقبل شفاعته. قوله:"فيقبض قبضة من النار" معناه يجمع جماعة. قوله: "فيخرج منها قوم من النار لم يعملوا خيرا قط" فهؤلاء أحرقتهم النار جميعهم فلم يبق في بدن أحدهم موضع لم تمسه بحيث صاروا حمما وهو الفحم المحترق بالنار، فظاهر السياق أنه لم يكن في قلوبهم مثقال ذرة من خير، فهذا السياق يدل على ذلك. وفي الحديث الآخر: لأخرجن من قال لا إله إلا اللَّه. قال القاضي عياض

(1)

: فهؤلاء الذين معهم مجرد الإيمان وهم الذين لم يؤذن في الشفاعة فيهم وإنما دلت الآثار على أنه أذن لمن عنده شيء زائد من العمل على مجرد الإيمان وجعل الشافعين من الملائكة والنبيين دليلا عليه وتفرد اللَّه سبحانه وتعالى بعلم ما تُكِنُّه

(1)

إكمال المعلم بفوائد مسلم (1/ 567)، شرح النووي على مسلم (3/ 31).

ص: 348

القلوب والرحمة لمن ليس عنده إلا مجرد الإيمان، اهـ.

قوله: "قد عادوا حُمَما" ليس بلازم في عادَه أن يصير إلى حالة كان عليها قبل ذلك، بل معنى عادوا صاروا، اهـ. وحمما الحمم بضم الحاء المهملة وفتح الميم جمع حُمَمة وهي الفحمة واحدة الفحم بفتح الحاء. قال ابن دريد: ولا يقال بسكونها وهو الجمر إذا [طفئ] ناره. قال القاضي

(1)

: وقياس هذا الباب السكون والفتح، اهـ. قاله عياض. قوله:"فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال لها نهر الحياة" الحديث، النهر فيه لغتان مشهورتان بفتح الهاء وإسكانها والفتح أجود وبه جاء القرآن العزيز، ونهر الحياة معناه الماء الذي يحيي من انغمس فيه وتقدم ذلك قريبا. وأما الأفواه فجمع فوهة بضم الفاء وتشديد الواو المفتوحة وهو جمع سمع من العرب على غير قياس وأفواه الأزقة والأنهار أوائلها وأفواه الجنة [شرقها] يقال فوهة النهر والطريق أي فمه وأوله كأنه يريد مفتتحات مسالك قصور الجنة ومنازلها. قاله عياض

(2)

. قال صاحب المطالع

(3)

كأن المراد في الحديث مفتتح من مسالك قصور الجنة ومنازلها.

قوله: "فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل" الحديث. قال [القتيبي] شبه نبات لحومهم بعد إحراقها بنبات الطاقة من النبت حين يطلع يكون صبيغا فما يلي الشمس من أعاليها أخضر وما يلي الظل أبيض، قاله في

(1)

انظر: شرح النووي على مسلم (3/ 32).

(2)

مشارق الأنوار على صحاح الآثار (2/ 165).

(3)

مطالع الأنوار على صحاح الآثار (5/ 275).

ص: 349

النهاية

(1)

. وتقدم الكلام على حميل السيل والحِبة مبسوطا في الحديث قبله. قوله: "ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر ما يكون إلى الشمس أُصَيْفِر وأخيضر وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض" الحديث، أمّا يكون في الموضعين الأولين فتامة ليس لها خبر معناها ما يقع وأصيفر وأخيضر مرفوعان، وإما يكون أبيض [فتكون] ناقصة وأبيض منصوب وهو خبرها.

لطيفة. قوله: "أصيفر"، الاصفرار من جنس ألوان الرياحين ولهذا يسر الناظرين، وقد قال اللَّه تعالى:{إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ}

(2)

، وسيد رياحين الجنة الحناء وهو أصفر وملتوية أي منعطفة منثنية وذلك أيضًا يزيد الريحان حسنا يعني اهتزازه وتميله أي الذي في قلبه مثقال حبة من إيمان يخرج من ذلك الماء نضرا حسنا متنشطا متبخترا كخروج هذه الريحانة من جانب السيل صفراء متميلة، انتهى، قاله الكرماني

(3)

.

قوله صلى الله عليه وسلم: "فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم" الحديث. أما اللؤلؤ فمعروف وفيه أربع قراءات في السبع جهمزتين في أوله وآخر وبحذفهما وبإثبات الهمز في أوله دون آخره وعكسه، وأما الخواتم فجمع خاتم بفتح التاء وكسرها ويقال خيتام وخاتام، قال صاحب التحرير المراد بالخواتيم هنا

(1)

النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 10).

(2)

سورة البقرة، الآية:69.

(3)

الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري (1/ 117).

ص: 350

أشياء من ذهب أو غير ذلك تعلق في أعناقهم علامة يعرفون بها، قال: ومعناه تشبيه صفاتهم وتلألئهم باللؤلؤ واللَّه أعلم. وفي حديث أبي هريرة: يكتب على جباههم عتقاء الرحمن وهذا يعارض. ووجه الجمع بين الحديثين أن يكون بعضهم سيماهم في وجوههم وبعضهم سيماهم في رقابهم وقد يعبر بالرقبة عن جملة الشخص، قال تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}

(1)

، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الخيل:"ولم ينس حق اللَّه في رقابها وظهورها"[فعبر] برقابها عن جملتها. فإن قيل: كيف سألوا محو ذلك ذلك الاسم عنهم وهو اسم شريف لأنه سبحانه وتعالى أضافهم إليه، وقد جاء في حديث المتاحبون في اللَّه تعالى فيكون في جباههم هؤلاء المتحابون في اللَّه تعالى ولم يسألوا محوه. فالجواب أنهم إنما يسألوا محو ذلك بخلاف المتحابين في اللَّه تعالى لأنه أنِفوا أن يُنسبوا إلى جهنم التي هي دار الأعداء واستحيوا من إخوانهم من أجل ذلك فلما منّ اللَّه عليهم بدخول الجنة أرادوا كمال الامتنان بزوال هذه النسبة عنهم. وروي في حديث: أنهم إذا دخلوا الجنة قال أهل الجنة هؤلاء الجهنميون فعند ذلك يقولون إلهنا لو تركتنا في النار كان أحب إلينا من العار فيرسل اللَّه تعالى ريحا من تحت العرش يقال لها المسرة فتهب على وجوههم فتمحو الكتابة [وتزيدهم] بهجة وجمالا، اهـ، قاله في الديباجة. [تتمة. قال القرطبي

(2)

: وذكر الكلابادي أبو بكر محمد بن إبراهيم في بحر

(1)

سورة النساء، الآية:92.

(2)

التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة (ص: 785).

ص: 351

الفوائد له

(1)

قال: حدثنا أبو نصر محمد بن إسحاق الرشادي فذكره إلى أن قال: حدثنا نعيم بن الحكم بن أبان عن أبيه عن أبي قلابة: قال كان لي ابن أخ يتعاطى الشراب فمرض فبعث إليّ ليلا أن ألحق به فأتيته فرأيت أسودين قد دنيا من ابن أخي فقلت إنا للَّه وانا إليه راجعون، هلك ابن أخي فاطلع أبيضان من الكوة التي في البيت فقال أحدهما لصاحبه انزل إليه فلما [تنحى] الأسودان فجاء فشم فاه فقال ما أرى فيه ذكرا ثم شم بطنه فقال ما أرى فيه صوما ثم عاد فشم رجليه فقال ما أرى فيهما صلاة. فقال له صاحبه: إنا للَّه وإنا إليه راجعون رجل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليس له من الخير شيء؟ ويحك عدُ فانظر. فعاد فشم فاه فقال: ما أرى فيه ذكرا ثم عاد فشم بطنه فقال ما أرى فيه صوما ثم عاد فشم رجليه فقال: ما أرى فيهما صلاة فقال ويحك رجل من أمة محمد ليس معه من الخير شيء؟ اصعد حتى أنزل أنا، فنزل الآخر فشم فاه وقال: ما أرى فيه ذكرا ثم شم بطنه فقال ما أرى فيه صوما ثم شم رجليه فقال: ما أرى فيهما صلاة. قال: ثم عاد فأخرج طرف لسانه فشم لسانه ثم قال: اللَّه أكبر، أراه قد كبر تكبيرة بأنْتَاكيِةَ يريد بها وجه اللَّه تعالى. قال: ثم فاضت نفسه وشممت في البيت رائحة المسك، فلما صليت الغداة قلت لأهل المجلس هل لكم في رجل صالح من أهل الجنة، وحدثتهم حديث ابن أخي فلما بلغت ذكر أنتاكية قالوا: ليست بأنتاكية هي أنطاكية. قلت: لا واللَّه لا أسمِّيها إلا كما سمّاها الملك، اهـ. قال: فهذه تكبيرة أراد بها وجه اللَّه زائدة

(1)

بحر الفوائد (المشهور بمعاني الأخبار) للكلاباذي (609).

ص: 352

على الشهادة التي هي شهادة الحق التي هي الإيمان باللَّه تعالى كما تقرر، فشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم والملائكة والنبيئين والمؤمنين لمن كان له عمل زائد على مجرد التصديق ومن لم يكن معه مع الإيمان خير هو الذي يتفضل اللَّه عليه فيخرجه من النار فضلا وكرما وعدا منه حقا [وكلمة] صدقا {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}

(1)

، فسبحان الرءوف بعبده الموفي بعهده، اهـ، قاله في الديباجة]

(2)

.

تنبيه: ورد في الخبر الصحيح أن أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون وأما عصاة هذه الأمة الذين أصابتهم النار بذنوبهم أو قال بخطاياهم فأماتهم اللَّه إماتة حتى إذا كانوا حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة فيهم فيجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون في حميل ويسمى هؤلاء عتقاء اللَّه تعالى، اهـ. فأما قوله:"الذين أصابتهم النار بذنوبهم" فمعناه أن المذنبين من المؤمنين يميتهم اللَّه إماتة بعد أن يُعذبوا المدة التي أراد اللَّه سبحانه وتعالى، وهذه الإماتة إماتة حقيقة يذهب معها الإحساس ويكون عذابهم على قدر ذنوبهم ثم يميتهم ثم يكونون محبوسين في النار من غير إحساس المدة التي قدرها اللَّه تعالى يخرجون من النار موتى قد صاروا فحما

(1)

سورة النساء، الآية:48.

(2)

حصل تقديم لهذه الصحيفة في النسخة الهندية، وأدرجت قبل قوله:(قوله في الحديث: (ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا) هكذا هو خيرا بإسكان الياء، أي صاحب خير).

ص: 353

فيحملون ضبائر. قال أهل اللغة: الضبائر جماعات في تفرقة. وقوله: "فبثوا" هو بالباء الموحدة المضمومة وبعدها ثاء مثلثة ومعناه فرقوا فيحملون كما تحمل الأمتعة ويلقون على أنهار الجنة فيصب عليهم ماء الحياة فيحيون ثم تشتدّ [قوّتهم] بعد ذلك ويصيرون إلى منازلهم فهذا الظاهر من لفظ الحديث، ومعناه. وحكى القاضي عياض فيه وجهين: أحدهما أنه إماتة حقيقة والثاني ليست بموت حقيقي ولكن يغيب عنهم إحساسهم بالآلام واللَّه أعلم، ويجوز أن تكون آلامهم أخف، هذا كلام القاضي والمختار ما قدمناه. قاله النووي

(1)

.

تنبيه أيضًا: قد اختلفت الآثار في مقدار بقاء العصاة في النار، فقال الإمام أبو العباس الإقليشي لم أجد في ذلك حدا في صحيح الآثار غير أن الإمام أبا حامد الغزالي ذكر في الإحياء

(2)

حال عصاة الموحدين فقال أن أقل بقاء العاصي في النار لحظة وأكثره سبعة آلاف عام لما ورد به الإخبار، اهـ.

تنبيه أيضًا: هذا الحديث حجة لأهل السنة على المرجئة [أي الفرقة الملقبة بالمرجئة، ولقبوا بالمرجئة لأنهم يرجئون العمل أي يؤخرونه، يقال أرجئت الأمر أي أخرته بهمز ولا يهمز، أو لأنهم يعطون الرجاء حيث يقولون: لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، واللَّه أعلم، قاله في الديباجة،] حيث علم منه دخول طائفة من عصاة المؤمنين النار إذ

(1)

شرح النووي على مسلم (17/ 83).

(2)

إحياء علوم الدين (4/ 26).

ص: 354

مذهبهم أنه لا يضر مع الإيمان معصية فلا يدخل العاصي النار وحجة على المعتزلة أيضًا حيث دل على عدم وجوب تخليد العاصي في النار واللَّه أعلم.

5467 -

وعن أنس رضي الله عنه قال كنا عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فضحك فقال هل تدرون مم أضحك قلنا اللَّه ورسوله أعلم قال من مخاطبة العبد ربه فيقول يا رب ألم تجرني من الظلم يقول بلى فيقول إني لا أجيز اليوم على نفسي شاهدا إلا مني فيقول كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا والكرام الكاتبين شهودا قال فيختم على فيه ويقول لأركانه انطقي فتنطق بأعماله ثم يخلي بينه وبين الكلام فيقول بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل رواه مسلم

(1)

.

أناضل بالضاد المعجمة أي أجادل وأخاصم وأدافع.

قوله: "وعن أنس" تقدم الكلام على مناقبه. قوله: "عند النبي صلى الله عليه وسلم فضحك فذكره إلى أن قال: فقال يا رب ألم تجرني من الظلم" معناه ألم تنقذني من الظلم فإني ما أشركت بك شيئا ولا ارتكبت معصية وتعذيب من هذا صفته ظلم وجنابك المقدس منزه عنه، يقال: أجاره اللَّه من العذاب أي أنقذه. وقوله: "قال: فيقول بلى". قال النبي صلى الله عليه وسلم: يقول اللَّه تعالى بلى أي ارتكبت المعصية. قوله: "فيقول: إني لا أجيز اليوم على نفسي شاهدا إلا مني" أي لا أنفذ وأمضي، مِن أجاز أمره يجيزه إذا أمضاه وجعله جائزا، قاله في النهاية

(2)

. قوله: "فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا والكرام الكاتبين شهودا". قال

(1)

صحيح مسلم (17)(2969).

(2)

النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 315).

ص: 355

الزمخشري: فإن قلت لم ذكر الحسيب؟ قلت لأنه بمنزلة الشهيد والقاضي والأمين لأن هذه الأمور الغالب أن يتولاها الرجال فكأنه قيل: كفى بنفسك رجلا حسيبا وكان الحسن إذا قرأها قال: يا ابن آدم أنصفك من جعلك واللَّه حسيب نفسك. قوله: "ويقال لأركانه انطقي" أي [لأعضائه وجوارحه وأركان] كل شيء [جوانبه التي يستند إليها ويقوم بها]، [قوله:"ثم يخلي بينه وبين الكلام"، ومعنى يخلي بينه وبينه أي بينه وبين أركانه، قوله:". . . "، أي لجوارحه وأركان كل شيء نواحيه،] قوله:"فيقول بعدا لكُنّ وسحقا" أي هلاكا، ويجوز أن يكون من البعد ضد القرب. قاله في النهاية

(1)

.

قوله: "فعنكُنَّ كنت أناضل" أي أجادل وأخاصم وأدافع، قاله المنذري. وقال بعض العلماء أي أدافع لئلا تُعذَّبن. يقال: فلان يُناضل عن فلان إذا تكلم عنه بعذره ودفع والأصل فيه المراماة، [يقال انتضل القوم وتناضلوا إذا رموا السبق، وناضله إذا رماه]

(2)

فأصله من المناضلة بالسهام.

5468 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قرأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هذه الآية {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} الزلزلة 8 قال أتدرون ما أخبارها قالوا اللَّه ورسوله أعلم قال فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها تقول عمل كذا وكذا رواه ابن حبان في صحيحه.

(3)

(1)

النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 140).

(2)

سقطت هذه العبارة من النسخة الهندية.

(3)

صحيح ابن حبان (7360)، وأخرجه ابن المبارك في مسنده (93) وعنه أحمد (2/ 374)، =

ص: 356

قوله: "وعن أبي هريرة تقدم"، قوله صلى الله عليه وسلم:"يوم ندعو كل أناس بإمامهم"، قال يُدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه ويمدُّ له في جسمه ستون ذراعا ويبيض وجهه، الحديث. وقال ابن عمر: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}

(1)

فأما الذين ابيضت وجوههم فأهل السنة والجماعة، وأما الذين اسودت وجوههم فأهل البدع والأهواء، ذكره الخطيب أبو بكر الحافظ من حديث مالك عن نافع عن ابن عمر.

فائدة يختم بها الباب: ومما يجلبه الموت على الإسلام من المنافع بياض الوجوه يوم القيامة، قال اللَّه تعالى:{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} إلى قوله: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}

(2)

، فجعل اللَّه سبحانه وتعالى الذين ابيضت وجوههم قسيما للذين اسودت وجوههم وبيّن أن الذين

= والترمذي (2429 و 3353) والنسائي في الكبرى (11629)، والبزار في مسنده -البحر الزخار- (8549)، والبغوي في شرح السنة (15/ 117)، وفي التفسير (8/ 502)، والحاكم (2/ 580)، والبيهقي في الشعب (7298).

وقال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح ووافقه النووي في الرياض (1/ 153)، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وصححه عبد الحق في الأحكام الكبرى (3/ 389)، (4/ 246) والحديث اختلف فيه فقيل: أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 256)(2/ 532)، وقال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب (2104)، والضعيفة (4834)، وضعيف الجامع الصغير (6450).

(1)

سورة آل عمران، الآية:106.

(2)

سورة آل عمران، الآية:106.

ص: 357

اسودت وجوههم هم الذي يقال لهم أكفرتم بعد إيمانكم؟ فاقتضى ذلك أن كل مؤمن يبيض وجهه وأن كل من ابيض وجهه خالد في رحمة اللَّه. وأما الكافر فيسود وجهه، فهذا مما يقوّي في نفسك أن سواد الوجوه لا يكون إلا للكافرين فكل مؤمن يبيض وجهه بحمد اللَّه تعالى وبه قال أبي بن كعب واختاره الطبري

(1)

. وقال الحسن: السود وجوههم هم المنافقون وهو تنصيص على بعض الكفار. وقال مالك بن أنس: هم أهل الأهواء. وقال ابن عباس

(2)

: تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة. وفي الحديث ما يؤيده، والمراد بأهل الأهواء وأهل البدعة من يقدح هواهم [وبدعتهم] في الإيمان. ومما يقوي في نفسك وجوه المؤمنين أيضًا قوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38)}

(3)

، الآية. يريد سبحانه وتعالى بذلك وجوه المؤمنين، يدل على ذلك قوله سبحانه وتعالى عقب ذلك:{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40)}

(4)

الآية، وقوله سبحانه وتعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ}

(5)

الآية. {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ} (1) الآية،

(1)

تفسير الطبري (5/ 666) وقال وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بالصواب القول الذي ذكرناه عن أبي بن كعب أنه عنى بذلك جميع الكفار.

(2)

تفسير ابن أبي حاتم (3950)، تفسير الثعلبي (3/ 124)، تفسير القرطبي (4/ 167)، تفسير ابن كثير (2/ 92).

(3)

سورة عبس، الآية:38.

(4)

سورة عبس، الآية:40.

(5)

سورة يونس، الآية:26.

ص: 358

وقد ظهر لك من هذه الآية أن المراد بالذين كسبوا السيئات الكفار بدليل ذكر خلودهم في النار واللَّه أعلم.

5469 -

وَعنهُ رضي الله عنه عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي قَوْله: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ}

(2)

قَالَ يدعى أحدهم فَيعْطى كتَابه بِيَمِينِهِ ويمد لَهُ فِي جِسْمه سِتُّونَ ذِرَاعا ويبيض وَجهه وَيجْعَل على رَأسه تَاج من لُؤْلُؤ يتلألأ قَالَ فَينْطَلق إِلَى أَصْحَابه فيرونه من بعيد فَيَقُولُونَ اللَّهُمَّ بَارك لنا فِي هَذَا حَتَّى يَأْتِيهم فَيَقُول أَبْشِرُوا فَإِن لكل رجل مِنْكُم مثل هَذَا وَأما الْكَافِر فَيعْطى كتَابه بِشمَالِهِ مسودا وَجهه ويمد لَهُ فِي جِسْمه سِتُّونَ ذرَاعا على صُورَة آدم وَيجْعَل على رَأسه تَاج من نَار فيراه أَصْحَابه فَيَقُولُونَ اللَّهُمَّ اخزه فَيَقُول أبعدكم اللَّه فَإِن لكل رجل مِنْكُم مثل هَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن حبَان فِي صَحِيحه وَاللَّفْظ لَهُ وَالْبَيْهَقِيّ فِي الْبَعْث

(3)

.

= (1) سورة يونس، الآية:27.

(2)

سورة الإسراء، الآية:71.

(3)

أخرجه الترمذي (3136)، وابن حبان (7349)، والحاكم 2/ 242 - 243. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي. وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (2105) و (2165) الضعيفة (4827). ولم يدرج الشارح تحته شرحًا.

ص: 359