الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ البَدَلِ
هذا هو الباب الأخير من التوابع. والبدل لغة: العِوض ومنه قوله تعالى: (عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا)[القلم:32] أي يعوضنا خيراً منها. وفي الاصطلاح: تابع مقصود بالحكم بلا واسطة، قوله: تابع جنس يشمل التوابع الخمسة كلها: النعت، والعطف، وعطف البيان، وعطف النسق، والتوكيد، والبدل. قوله: مقصود بالحكم أخرج النعت والتوكيد وعطف البيان، فهذه الثلاثة خرجت بقوله مقصود بالحكم؛ لأن هذه الثلاثة ليست مقصودة بذاتها يعني لم يسق الكلام من أجلها، وإنما هي مكملات للمتبوع المقصود بالحكم، إذا قيل: جاء زيد العاقل، أصل الكلام جاء زيد، لأن المقصود بالكلام هنا الإخبار بمجيء زيد، ثم لما وقع اشتباه في زيد جيء بالنعت وهو العاقل، فهو متمم لزيد، كذلك جاء زيد نفسه، فنفسه متمم وليس مقصوداً بالحكم، ما سيق الكلام من أجل لفظ نفسه، وإنما جيء بنفسه توكيداً، والأصل هو جاء زيد، وجاء أبو عبد الله محمد، الأصل الإخبار بمجيء أبي عبد الله، ومحمد هذا عطف بيان، ليس مقصوداً لذاته بالحكم، وإنما يعتبر مكملاً للمقصود، إذاً النعت وعطف البيان والتوكيد هذه ليست مقصودة بالذات، وإنما مقصودة للتتميم فقط، يعني هي متممات للمقصود، قصدها قصد تكميلي، لا قصد تأسيسي في الكلام. قوله: بلا واسطة أخرج عطف النسق؛ لأنه مقصود بذاته، مقصود بالحكم، جاء زيد وعمرو، فعمرو مقصود
بالحكم، لكن بواسطة.
إِذَا اسْمٌ ابْدِلَ مِنِ اسْمٍ يَنْحَلُ
…
إِعْرَابَهُ وَالفِعْلُ أَيْضًا يُبْدَلُ
[إِذَا اسْمٌ ابْدِلَ مِنِ اسْمٍ] إذا أُبدل اسم من اسم [يَنْحَلُ إِعْرَابَهُ] يقال: نَحَلَه القولَ كمنعه نسبه إليه، ومراده ينحل إعرابه يعني يُعطى إعرابه، لأن البدل حكمه في الإعراب حكم المبدل منه؛ لأننا في مقام التوابع، والأصل في التابع أن يكون مشاركاً لما قبله في إعرابه، فإن كان المبدل منه مرفوعاً كان البدل مرفوعاً، وإن كان منصوباً كان منصوباً، وإن كان مجروراً كان مجروراً، وإن كان مجزوماً كان مجزوماً، إذاً يأخذ حكمه مطلقاً، [إِذَا اسْمٌ ابْدِلَ مِنِ اسْمٍ يَنْحَلُ إِعْرَابَهُ] أي يعطى إعرابه مطلقاً رفعاً ونصباً وخفضاً وجزماً، والدليل على أن المراد بالإعراب ما يشمل الجزم قوله:[وَالفِعْلُ أَيْضًا يُبْدَلُ] من الفعل، فحينئذٍ لا يفهم من قوله: إذا اسم أبدل من اسم أن البدل خاص بالأسماء كما هو الشأن في التوكيد، بل يدخل الأسماء ويدخل الأفعال. وإعراب قوله:[إِذَا اسْمٌ ابْدِلَ مِنِ اسْمٍ يَنْحَلُ] إذا ظرفٌ لما يستقبل من الزمان مُضَمَّنٌ معنى الشرطِ خافضٌ لشرطه منصوبٌ بجوابه، اسمٌ نائب فاعل لفعل محذوف وجوباً تقديره: إذا أُبدل اسمٌ، لأن إذا وإن الشرطيتين لا يَحُلُّ بعدهما الاسم أبداً على الصحيح وهو مذهب البصريين، حينئذٍ نقول: قوله تعالى: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)[التكوير:1]، وقوله:(إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ)[الانفطار:1]، فالشمس نائب فاعل لفعل محذوف يفسره الفعل المذكور تقديره إذا كورت الشمس، والسماء فاعل لفعل محذوف
يفسره الفعل المذكور تقديره إذا انفطرت السماء، ومثله قوله تعالى:(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ)[التوبة:6] إن حرف شرط، وأحدٌ فاعل مرفوع لفعل محذوف يفسره الفعل المذكور تقديره وإن استجارك أحد، فإن شرطية ولا يليها إلا فعل، كما أن إذا الشرطية لا يليها إلا فعل، فحينئذٍ لو جاء بعدهما اسم مرفوع وجب تقدير فعل محذوف وجوباً، وجوباً لوجود المفسِّر؛ لأنك إذا قدَّرتَ فعلاً فلا بُدَّ أن تفسره، لو قيل: إذا السماء، لا تستطيع أن تقدر فعلا، لا بد من شيء يدل عليه من السياق، فتأتي بفعل مناسب، وحدث مناسب، وليس ثَمَّ قرينة تدل على المحذوف، لكن إذا قيل: إذا السماء انفطرت، تعلم هنا أن المراد انفطار السماء، إذا انفطرت السماء انفطرت، فصار انفطرت هذا هو المفسِّر، والمحذوف وجوباً هو المفسَّر، ولا يجمع بين المفسَر والمفسِر، وإنما يذكران في مقام التعليم فقط، يقال: إذا انفطرتِ السماءُ انفطرت، وأما عند التحقيق فالأصل أنه لا يجمع بينهما فيقال: إذا السماء انفطرت تقدير العامل إذا انفطرت السماء، وانفطرت الثانية لا يجوز جمعه وذكره مع المحذوف.
وجملة أبدل لا محل لها من الإعراب مفسرة، ومِن اسم متعلق بقوله أبدل، وينحل فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم ورفعه ضمة ظاهرة على آخره، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو يعود على الاسم، والجملة جواب إذا، وإعرابه مفعول به، والفعل أيضاً يبدل، والفعلُ أيَّ فعل مطلقاً، مبتدأ،
وأيضاً مفعول مطلق مصدر آضَ يئيضُ أيضاً، وجملة يبدل خبر المبتدأ.
أَقْسَامُهُ أَرْبَعَةٌ فَإِنْ تُرِدْ
…
إِحْصَاءَهَا فَاسْمَعْ لِقَولِي تَسْتَفِدْ
[أَقْسَامُهُ أَرْبَعَةٌ] أي أقسام البدل على المشهور عند النحاة أربعة أي معدودة بالأربعة، وهي التي ذكرها الناظم، وزاد بعضهم قسمين: بدل الإضراب، وبدل النسيان. وقوله: أقسامه مبتدأ، وأربعة خبره، [فَإِنْ تُرِدْ إِحْصَاءَهَا] فإن الفاء فصيحة، إذا جاء إجمال أو محل سؤال أو تعداد ثم جاءت الفاء فالغالب أنها فصيحة، لأنه لَمَّا قال: أقسامه أربعة، فإن سئلتَ وأردت معرفة هذه الأربعة فأقول لك: إن ترد إحصاءها، إذاً الفاء فصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، فإن ترد أيها النحوي إحصاءها أي جمعها [فَاسْمَعْ] الفاء واقعه في جواب الشرط، وإنْ شرطية، وترد فعل مضارع فعل الشرط، والجواب اسمع، إذًا وقع فعل أمر فوجب اقترانه بالفاء، [لِقَولِي] الأصل اسمع قولي، واللام زائدة، وزيادتها ليست قياسية، لقوة العامل، لأن اللام إنما تزاد لضعف العامل، وإذا كان العامل متقدماً على معموله وهو فعل فهو قوي لا يحتاج إلى تقوية، فحينئذٍ إذا زيدت اللام فهي على خلاف القياس، لكن لو قال: لقولي فاسمع حينئذٍ تقول: ضَعُفَ العامل؛ لأن العامل يعمل فيما بعده على الأصل، فإذا تقدَّم عليه ضعف فحينئذٍ يحتاج إلى تقوية، وفرق بين أن تقول: ضربت لزيد، ولزيد ضربت، ضربت لزيد مثل فاسمع لقولي، ليس على القياس، وأما لزيدٍ ضربتُ فهذا
على القياس. ومنه قوله تعالى: (إِِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ)[يوسف:43] والأصل تعبرون الرؤيا، فيتعدى بنفسه، وزِيدت اللام في قوله: للرؤيا لضعف العامل، فحينئذٍ نقول:(للرؤيا) الرؤيا مفعول به، واللام زائدة جيء بها لتقوية العامل، وإنما تزاد قياساً في موضعين: إذا تقدم المعمول على عامله؛ لأنه يضعف، أو كان العامل وصفاً يعني اسما مشتقا ولو كان المعمول متأخراً؛ لأن العامل إذا لم يكن فعلاً فهو ضعيف، كل الأسماء إذا عملت فهي ضعيفة، حينئذٍ إذا دخلت اللام على معمولها فهو قياس، كقوله تعالى:(فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)[هود:107] ففعال يتعدى بنفسه، وما اسم موصول بمعنى الذي في محل نصب مفعول به، دخلت اللام تقوية للعامل؛ لأن فعال هذا ليس بفعل، وإنما هو وصف، والوصف ضعيف بذاته، حينئذٍ إذا قوي فلا بأس أن يؤتى باللام الزائدة، أما فاسمع لقولي فاللام زائدة، لكنها ليست على القياس، [تَسْتَفِدْ] جواب الطلب وهو اسمع، واسمع هذا جواب الشرط إن، وتستفد فعل مضارع مجزوم لوقوعه في جواب الطلب. كقوله:(قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ)(الأنعام: من الآية151) وأتلو فعل مضارع أصله بالواو، وحذفت للجزم لوقوعها في جواب الطلب، وهنا كذلك فاسمع تستفد، إن تسمع تستفد، فتستفد فعل مضارع مجزوم لوقوعه في جواب الطلب.
فَبَدَلُ الشَّيءِ مِنَ الشَّيءِ كَجَا
…
زَيدٌ أَخُوكَ ذَا سُرُورٍ بَهِجَا
وَبَدَلُ البَعْضِ مِنَ الكُلِّ كَمَنْ
…
يَأْكُلْ رَغِيْفًا نِصْفَهُ يُعْطِ الثَّمَنْ
وَبَدَلُ اشْتِمَالٍ نَحْوُ رَاقَنِي
…
مُحَمَّدٌ
…
جَمَالُهُ
…
فَشَاقَنِي
وَبَدَلُ الغَلَطِ نَحْوُ قَدْ رَكِبْ
…
زَيدٌ حِمَارًا فَرَسًا يَبْغِي اللَّعِبْ
[فَبَدَلُ الشَّيءِ مِنَ الشَّيءِ] الفاء فاء الفصيحة، وبدل الشيء من الشيء يعني به بدل الكل من الكل، وهذا تعبير ابن مالك رحمه الله، واشتهر على ألسنة النحاة توسعاً بدل الكل من الكل، هكذا الكل بأل، والأصل أن يقال: بدل كل من كل؛ لأن كلا لا يجوز إدخال أل عليها مطلقاً، لأنها ملازمة للإضافة، وما كان ملازماً للإضافة أو مضافاً ولولم يكن ملازماً للإضافة لا يجوز إدخال أل عليه، كغلام زيد، لا يصح أن يقال: الغلام زيد، كذلك كلٌّ ملازمة للإضافة إلى المفرد، ثم هذا المضاف إليه قد يحذف ويعوض عنه التنوين، ويسمى تنوين العوض عن كلمة، كقوله تعالى:(وَكُلَّ إِنسَانٍ)[الإسراء:13] فكل هنا مضاف لفظا، وقوله تعالى:(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ)[الإسراء:84] كل مضافة لكنها مضافة في المعنى لا في اللفظ، وأما في اللفظ فقد حذف المضاف وعوض عنه التنوين، إذاً إذا قيل: الكل فقد أدخلنا أل على لفظٍ مضاف، وهذا ممتنع، ولكن من باب التوسع يقال: بدل الكل من الكل.
وبدل الكل من الكل هو ما كان الثاني فيه عين الأول، أو قل مساوياًَ للأول في المعنى، نحو: جاءني محمد أبو عبد الله، جاء فعل ماض، ومحمد فاعل، وأبو عبد الله بدل كل من كل؛ لأن أبو عبد الله - على الحكاية - هو عين الأول وذاته محمد وهو المكني بأبي
عبد الله، إذاً كان الثاني عين الأول، [كَجَا زَيدٌ] أي كقولك، أو مثل، وجا بالقصر للوزن، أصله جاء بالهمزة، وقصره للوزن، [كَجَا زَيدٌ أَخُوكَ] جاء فعل ماض مبني على الفتح لا محل له من الإعراب، وزيد فاعل، وأخوك بدل كل من كل؛ لأن الأخ هنا هو عين زيد، وزيد هو عين الأخ، وبدل المرفوع مرفوع ورفعه ضمة ظاهرة على آخره، وكما أعرب بدل الكل من الكل كذلك يصح إعرابه عطف بيان لما ذكرناه سابقاً أن كل ما صح الحكم عليه بأنه عطف بيان جاز إعرابه بدل كل من كل، فحينئذٍ جاءني محمد أبو عبد الله، أبو عبد الله يجوز فيه وجهان: أن يكون بدل كل من كل، وأن يكون عطف بيان، [ذَا سُرُورٍ بَهِجَا] ذا حال من الفاعل، منصوب بالألف لأنه من الأسماء الستة، أي حالة كونه ذا سرور بهجا، وسرور بمعنى الفرح، وبهجا بمعنى الابتهاج، والسرور والفرح، والألف في بهجا للإطلاق، إذاً كل منهما بمعنى الآخر.
ومنه قوله تعالى: (مَفَازًا، حَدَائِقَ)[النبأ:32] فحدائق بدل كل من كل من مفازاً، وحينئذٍ نقول: يصح أن يكون البدل نكرة والمبدل منه نكرة، لأن حدائق بدل وهو نكرة، ومفازاً مبدل منه وهو نكرة. جاء محمد أبو عبد الله، فمحمد معرفة، وأبو عبد الله معرفة، إذاً صح أن يبدل المعرفة من المعرفة، ويصح أن يكونا مختلفين كما سيأتي.
هذا النوع الأول: بدل كل من كل، أو إن شئت قل بدل الشيء من الشيء، وعدل ابن مالك رحمه الله عن التعبير ببدل الكل من
الكل؛ لأنه قد يأتي في القرآن في حق الرب عز وجل فلا يقال فيه: بدل كل من كل لعدم صحة إطلاق الكل على الله عز وجل، وأما الشيء فهذا ثابت إطلاقه على الله عز وجل قال تعالى:(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ)[الأنعام:19] إذاً صح إطلاق الشيء على الله عز وجل، أما بدل كل من كل فلا يصح.
النوع الثاني: أشار إليه بقوله: [وَبَدَلُ البَعْضِ مِنَ الكُلِّ] أيضاًًًًًًًًً البعض يقال فيه ما قيل في الكل، فهو مثل كل ملازم للإضافة للمفرد معنى، حينئذٍ قد يذكر المضاف لفظاً وقد يحذف ويعوض عنه تنوين يسمى تنوين العوض عن كلمة، وبدل البعض من الكل هو أن يكون الثاني جزءاً من الأول، أو قل: بعضاً من الأول سواء كان مساوياً لنصفه أو أقل أو أكثر، ولذلك لا يُشترط فيه عند الأصوليين ما يشترط في الاستثناء، والاستثناء فيه خلاف، هل يصح إخراج أكثر من النصف أو لا؟ استثناء دون النصف مجمع عليه، والنصف وأكثر من النصف فيه خلاف، وهذا الخلاف في الاستثناء، أما البدل فلا. ويشترط في هذا النوع - بدل البعض من الكل- أن يكون مشتملاً على ضمير يعود على المبدل منه، قال تعالى:(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)[آل عمران:97] فمن استطاع هذا بدل بعض من كل، فلا يشترط أن يكون أكثر أو أقل أو نصف، قد يكون وقد لا يكون، يختلف باختلاف الأزمان والأحوال. والناس لفظ عام يشمل المستطيع وغير المستطيع، ومن استطاع من اسم موصول بمعنى الذي، وجملة
استطاع صلة الموصول، وهو في قوة المشتق أي المستطيع، فمن استطاع بدل بعض من كل على الصحيح؛ لأن الناس كل وليس كل الناس مستطيع.
[كَمَنْ يَأْكُلْ رَغِيْفًا نِصْفَهُ يُعْطِ الثَّمَنْ] كمن الكاف بمعنى مثل، أو كقولك حينئذٍ تكون داخلة على محذوف، ومن يأكل رغيفاً فمن اسم شرط مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، ويأكل فعل مضارع فعل الشرط مجزوم بمن وجزمه سكون آخره، والفاعل ضمير مستتر تقدير هو يعود على من، رغيفاً مفعول به، ونصفه بدل بعض من كل، الرغيف كل، وهو لم يأكل كل الرغيف، وإنما أكل بعض الرغيف، حينئذٍ نقول: بدل بعض من كل، وقد اشتمل على الضمير هنا، نصفه أي نصف الرغيف، فأكل نصف الرغيف، فوجدت الحقيقة أن يكون الثاني جزءاً من الأول، والنصف جزء أو بعض من الكل ولا إشكال، ويعط الثمن يعط فعل مضارع جواب الشرط مجزوم وجزمه حذف حرف العلة، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو يعود على من، والثمن مفعول به منصوب ونصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بسكون الوقف.
عرفنا بدل البعض من الكل، وهل يوجد بدل الكل من البعض؟ نقول: هذا فيه خلاف، والأكثر على المنع، وجوَّزه بعضهم وأثبت بدل الكل من البعض. قال الشاعر:
رَحِمَ اللهُ أَعْظُمًا دَفَنُوهَا
…
بِسِجِسْتَانَ طَلَحَةَ الطَّلَحَاتِ
أعظماً بعض من طلحة، وطلحة كل لأنه عظم ولحم، فطلحة بدل من أعظم بدل كل من بعض، وهذا محل خلاف.
والنوع الثالث أشار إليه بقوله: [وَبَدَلُ اشْتِمَالٍ] ففيه اشتمال أن يشتمل المبدل على البدل، بأن يكون بين البدل والمبدل منه ملابسة أي علاقة وارتباط، لكن بغير الجزئية والكلية، ليس كلا ولا جزءا، يعني كأنه قال لك: انظر في البدل هل هو بدل كل من كل أو لا؟ فإن لم يكن بدل كل من كل إذاً انتفت العلاقة الكلية، ثم انظر هل هو بعض من المبدل منه أو لا؟ فإن لم يكن بدل بعض من كل إذاً انتفت العلاقة الجزئية، فاحكم عليه بأنه بدل اشتمال، لذلك تكون العلاقة أو الملابسة بين الأول والثاني بغير الجزئية والكلية، يعني ليس بدل كل من كل، ولا بدل بعض من كل. أو قل: أن يكون المبدل منه مشتملا على البدل بأن يكون دالا عليه بحيث إذا ذكر المبدل منه تتشوَّف النفس وتنتظر البدل. [نَحْوُ رَاقَنِي مُحَمَّدٌ جَمَالُهُ فَشَاقَنِي] نحو بمعنى مثل، وراقني بمعنى أعجبني محمد جماله، ومحمد فاعل، وجماله بدل اشتمال من محمد، ما العلاقة بين الجمال ومحمد؟ هل هو كل من محمد بأن يكون بدل كل من كل؟ الجواب: لا، هل هو جزء من ذاته؟ الجواب: لا، وإنما العلاقة بينهما أن محمداً مشتمل على الجمال، إذاً الملابسة والعلاقة بينهما بغير الكلية والجزئية. ومثله: أعجبني زيد علمه، إذاً ثَمَّ ملابسة وارتباط بين زيد وبين العلم، وهي كون العلم قائماً بزيد، كما أن الجمال إنما يكون في محمد لا في غيره، وكذلك العلم يكون في زيد لا في غيره. ومنه قوله تعالى:
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيه)[البقرة:217] أي في الشهر الحرام، فقتال بدل اشتمال من الشهر الحرام، ما الملابسة والعلاقة والارتباط؟ نقول: لكون القتال قد وقع في الشهر الحرام، وهنا أبدلت النكرة من المعرفة، ويجوز العكس، وفي قوله:(مَفَازًا، حَدَائِقَ)[النبأ:32] أبدلت النكرة من النكرة، وفي قوله:(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)[آل عمران:97](الناسِ، من استطاع) أبدلت المعرفة من المعرفة، إذاً لا يشترط في البدل والمبدل منه الاتفاق تعريفاً وتنكيراً.
وقوله: [جَمَالُهُ] اشتمل على ضمير يعود على المبدل منه، [فَشَاقَنِي] الفاء عاطفة، وشاقني حبها أي هاجني كشوَّقني.
والنوع الرابع أشار إليه بقوله: [وَبَدَلُ الغَلَطِ] أي بدل عن اللفظ الذي ذُكِر غلطاً، لا أنه نفسه هو الغلط، ليس البدل هو الغلط، وإنما هو بدل عن اللفظ الذي ذُكر أولاً غلطاً. [نَحْوُ قَدْ رَكِبْ زَيدٌ حِمَارًا فَرَسًا يَبْغِي اللَّعِبْ] فرساً هو بدل الغلط، لأن الذي ذكر غلطا هو قوله: حمارًا، قال: ركبت حماراً فغلط ليس حماراً فقال: فرساً، إذاً حصل بدل الغلط، الغلط في الأول، والذي يسمى بدل الغلط الثاني، إذاً التركيب يكون: بدل الغلط ليس هو نفسه غلطًا، وإنما بدل عن اللفظ الذي ذكر أولاً غلطاً، وبدل الغلط أن يكون الثاني مقصوداً، والأول غير مقصود، نحو قولك:[نَحْوُ قَدْ رَكِبْ زَيدٌ حِمَارًا فَرَسًا يَبْغِي اللَّعِبْ] أي وذلك نحو، فهو خبر لمبتدأ محذوف،
قد ركب: قد حرف تحقيق مبني على السكون لا محل له من الإعراب، رَكِبَ فعل ماض مبني على الفتح المقدر منع من ظهوره اشتغال المحل بسكون الوقف، وزيد فاعل، مرفوع ورفعه ضمة ظاهرة على آخره، حماراً مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره، فرساً بدل الغلط، وبدل المنصوب منصوب ونصبه فتحة ظاهرة على آخره.
بدل الغلط محله اللسان، وليس القلب، أراد أن يخبر أولاً بأنه ركب فرساً فسبق لسانه فقال: حماراً، ثم أتى بالمقصود، إذاً حماراً ليس مقصوداً، وفرساً هو المقصود، [يَبْغِي اللَّعِبْ] يعني ركب، لأنه يبغي ويريد اللعب واللعب هو اللهو. وبدل الغلط مختلف فيه، هل هو موجود في لغة العرب أو لا؟ لذلك لا يُوقف على مثالٍ واحد في الشعر أنه يحكم عليه بأنه بدل غلط، ولذلك أنكره الكثيرون نثراً وشعراً، قالوا: لأنه ليس بفصيح بل هو غلط في اللسان، فحينئذٍ لا يمكن أن يكون في المنثور الفصيح، ولا في الشعر الفصيح، لأنه غلط أراد أن يخبر عن شيء فأخبرك عن شيء آخر فسبق لسانه فذكر شيئاً لم يرد ذكره، فكيف يكون في الفصيح؟! ولذلك اختلف فيه أربعة أقوال:
الأول: من أثبته نظماً ونثراً.
الثاني: من نفاه نظماً ونثراً.
الثالث: من أثبته نثراً لا نظماً.
الرابع: من أثبته نظماً لا نثراً.
نظماً أي شعراً، والمسألة فيها خلاف، لكن عزَّ أن يوجد مثال منقول عن العرب وهو بدل غلط، والله أعلم.