الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ قِسْمَةِ الأَفْعَالِ وَأَحْكَامِهَا
أي هذا باب بيان قسمة الأفعال وأحكامها، هنا ذكر بعد الإعراب باب الأفعال، وبعض النحاة يقدم المبتدأ والخبر والنعت والحال والتميز، ثم يذكر في آخر الأبواب باب الأفعال كما صنع ابن مالك في الألفية وابن الحاجب في الكافية، ذكروا الأسماء ومتعلقات الأسماء أوَّلا، لأن الاسم أشرف، فحينئذ يُذكر الاسم، ويُذكر كل متعلقات الاسم، المبتدأ والخبر، واسم كان وخبرها، والحال، والتمييز، والظرف، والمفعول لأجله، والمفعول به، والمفعول معه، فقدموا هذه الأبواب لتعلقها بالاسم وهو أَشرف، ثم ذكروا الفعل لأنه يلي الاسم في الرتبة، وبعضهم يقدم باب الأفعال على ما يتعلق بالاسم من باب تقديم العامل على المعمول، لأنه سيأتي أن بعضاً من تلك المذكورات أن العامل فيها قد يكون فعلاً، فإذا علم الطالب العامل تيسر له حينئذ معرفة المعمول، فحينئذ يكون تقديم باب الأفعال على سائر أبواب الأسماء من باب تقديم العامل على المعمول، ورتبة العامل مقدَّمة على رتبة المعمول طبعاً فقدمت وضعاً ليوافق الوضع الطبع، ثم أيضا الكلام على الأفعال يسير ومحصور، وأما الكلام على أبواب الأسماء فهذا طويل فيحتاج إلى بسط، وما كان يسيراً فهو مقدَّم على ما يحتاج إلى بسط، كذلك الفعل كالوسيلة للاسم، لأنه كما سبق أن الأفعال كلَّها صفاتٌ في المعنى، فحينئذ يكون موصوفاتها الاسم، إذاً الفعل كالوسيلة والعلم بالوسائل
مقدَّم على العلم بالمقاصد، على كلٍّ هذه نكات وهي لا تتزاحم.
[بَابُ قِسْمَةِ الأَفْعَالِ] المراد بالأفعال هنا الأفعال الاصطلاحية، لأن الفعل قد يكون المراد به الفعل الاصطلاحي الذي هو الفعل الماضي والمضارع والأمر، وقد يكون المراد به الفعل اللغوي، والأفعال اللغوية لا تنحصر، لأن الأفعال جمع فِعْل - بكسر الفاء وإسكان العين - احترازاً من الفَعْل - بفتح الفاء وإسكان العين - والفِعْل لغة: الحدث، نفس الحدث الذي يُحدثه الفاعل من قيام أو قعود أو نوم إلى آخره، كل ما يصدر عن الإنسان من حدثٍ فهو فِعْل، ولذلك المصدر مدلوله الفِعلُ اللغوي نفس القيام، ونفس الأكل، ونفس الشرب، ونفس الجلوس، فنفس الأكل هذا حدث اسمه الأكل، فالأكل فعل الإنسان يأخذ الطعام ويُوصله إلى فمه ويمضغه، الفعل نفسه أخذ الطعام وإيصاله إلى الفم هذا حدث اسمه الأكل، فالأكل مصدر مسماه عين الحدث، ففرْق بين المصدر والحدث، المصدر اسم مسماه الحدث، فالفعل اللغوي هو عين الحدث نفس الحدث، والأفعال اللغوية لا يمكن حصرها، أما الاصطلاحية فهذه محصورة.
[بَابُ قِسْمَةِ الأَفْعَالِ] أي باب معرفة أقسام الأفعال، أي مطلق الفعل، وقيل: أل جنسية فتبطل معنى الجمعية أي باب معرفة أقسام الفعل، وقد تكون أل للعهد الذهني لأن الأفعال هنا المراد بها الفعل الاصطلاحي، فخرج بذلك الأفعال اللغوية وهي مطلق الحدث فإنها لا تنحصر. قال:[وَأَحْكَامِهَا] معطوف على قوله قسمة، وهو
مجرور، والمعطوف على المجرور مجرور، [وَأَحْكَامِهَا] جمع حكم، والحكم في الاصطلاح: إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه، والمراد بها هنا من حيث الإعراب والبناء، إذاً باب معرفة أقسام الفعل الاصطلاحي وأحكامها من حيث الإعراب والبناء، وأما حد الفعل اصطلاحًا من حيث هو بقطع النظر عن كونه ماضياً أو مضارعاً أو أمراً: فهو كلمة دلت على معنى في نفسها واقترنت بأحد الأزمنة الثلاثة. كلمة جنس يشمل الاسم والفعل والحرف، دلت على معنى في نفسها يعني بنفسها في ذاتها دون ضميمة كلمة أخرى، فخرج الحرف لأنه لا يدل على معنى في نفسه، وبقي الاسم والفعل، واقترن بأحد الأزمنة الثلاثة خرج الاسم، لأن الاسم يدل على معنى في نفسه، ولم يقترن بزمن معين، ولا تقل ولم يقترن بزمنٍ فهو خطأ، لأن الاسم الذي يُسلَب عنه الزمن لكون الزمن مختصاً بالفعل هو الزمن المعين، وهي الأزمنة الثلاثة: الماضي، والحال، والمستقبل، إذاً مطلق الزمن لا ينافي الاسمية، لأنه قد يكون معناه الزمن كأمس، وقد يقترن بمعناه مطلق زمن كصباحٍ ومساءٍ، نقول: مساء دل على كون الزمن آخر اليوم، وصباح دل على كون الزمن أول اليوم، فحينئذ دل على معنى واقترن بزمن لكنه أيُّ صباحٍ هو؟ من حيث اللفظ لا يدل على صباح قد مضى أو حال أو مستقبل، فحينئذ صباح يدل على زمن لكنه مطلقُ زمنٍ، وأما الذي يُنفى عن الاسم هو الزمن المعين، ولذلك نقول: واقترن أي الفعل بأحد الأزمنة الثلاثة، فشملت هذه العبارة الماضي والمضارع والأمر، قوله: بأحد،
لأنه لا يمكن أن يدل على زمنين في وقت واحد حقيقة، ولا يمكن أن يدل على الأزمنة الثلاثة من باب أولى، وإنما يكون مدلول الفعل زمناً واحداً فقط. قال رحمه الله:
وَهْيَ ثَلَاثَةٌ مُضِيٌّ قَدْ خَلَا
…
وَفِعْلُ أَمْرٍ وَمُضَارِعٌ عَلَا
[وَهْيَ ثَلَاثَةٌ] الواو حرف عطف وهي لمطلق الجمع، وهنا المعطوف هي ثلاثة، وأين المعطوف عليه؟ نقول: اتفق النحاة على أن الواو لا تقع استئنافية، لكن إذا جاءت الواو في أول الكلام، قالوا: هي استئنافية، ثم الاستئناف نوعان: استئناف نحوي، واستئناف بياني، والاستئناف البياني: ما كان واقعاً في جواب سؤال مقدر، إذا قَدَّر المصنف سؤالاً في نفسه ثم بدأ الجملة بالواو فتكون معطوفة على ذلك السؤال المقدر، فحينئذ يكون ثَمَّ سؤال محذوف، لما قال المصنف: قسمة الأفعال وأحكامها، كأن سائلا سأل: ما هي أقسام الأفعال؟ قال الناظم: وهي ثلاثة، فحينئذ يكون العطف على السؤال المقدر، فحصل العطف بجملة على جملة. والاستئناف النحوي: هوما ليس واقعاً في جواب سؤال مقدر. والواو هنا للاستئناف البياني. [وَهْيَ ثَلَاثَةٌ] أي الأفعال الاصطلاحية ثلاثة لا رابع لها، ووجه تقسيم الفعل هنا من حيث الزمن، لأن الفعل له اعتبارات يعني يقسم باعتبارات:
يقسم من حيث الزمن، ويقسم من حيث الجمود والتصرف، ومن حيث التمام والنقصان، ومن حيث الزيادة والتجرد إلى آخره، فله تقسيمات عدة، والمراد هنا أن تقسيم الفعل من حيث الزمن
يعني من حيث دلالة الفعل على الزمن الذي وقع فيه الحدث، فقال:[وَهْيَ ثَلَاثَةٌ] أي باعتبار أنواعها لا صيغها، لأن الصيغ كثيرة، فالفعل الماضي له صيغ، فالماضي المجرَّد يأتي على ثلاثة أوزان: فَعَل وفَعِل وفَعُل، والمزيد يأتي على خمس وعشرين وزنا، منها انفعل وتفعَّل إلى آخره، والمضارع له ست صيغ، إذًا ليس التقسيم هنا باعتبار صيغ الماضي، ولا صيغ المضارع، ولا الأمر -وإن كان الأمر له صيغة واحدة- وإنما باعتبار دلالته على الزمن. [وَهْيَ ثَلَاثَةٌ] لا رابع لها، والدليل على أن القسمة ثلاثية الاستقراء والتتبع، وهو حجة قال في السلم المنورق:
وَإِنْ بِجُزْئِيٍّ عَلَى كُلِّي اسْتُدِلْ
…
فَذَا بِالِاسْتِقْرَاءِ عِنْدَهُمْ عُقِلْ
تتبعوا كلام العرب فوجدو أن الأفعال ثلاثة من حيث اعتبار الزمن، وأيضاً الزمن ثلاثة أنواع، ماض وحال والاستقبال، بدليل قوله تعالى:((لَهُمَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ (64))) [مريم:64] قالوا: هذه الآية تشير إلى أن الأزمنة ثلاثة: (له ما بين أيدينا) هذا المستقبل (وما خلفنا) وهذا الماضي (وما بين ذلك) وهذا الحال، فإذا تقرَّر أن الأزمنة ثلاثة، فالمتكلم والمخبر بالحدث إما أن يخبر عن حدث وقع في زمن قبل زمن التكلم، وإما أن يخبر عن حدث يقع في زمن التكلم، وإما أن يخبر عن حدث يقع في الزمن المستقبل، فالأول الماضي، والثاني المضارع، والثالث الأمر. ويستأنس لهذا بالآية السابقة، وبقول الشاعر زهير:
وَأَعْلَمُ عِلْمَ اليَوْمِ وَالأَمْسِ قَبْلَهُ وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمِي
[وَهْيَ ثَلَاثَةٌ مُضِيٌّ] مضي بدل مفصل من مجمل، لأن لفظ ثلاثة مجمل، ثم قال: مضي، فحينئذ يكون مضي بدل من ثلاثة يسمى بدل مفصل من مجمل، وإن شئت قل: بدل بعض من كل، أو مبتدأٌ لخبر محذوف، أو خبرٌ لمبتدأ محذوف. [مُضِيٌّ] ومعنى مضيه أنه وقع وانقطع، فهو مضي من حيث اللفظ، فحينئذ لا يلزم منه أن يكون اسمه ماضياً أو مضياً من حيث اللفظ دون دلالة معناه على ذلك المضي، ولذلك أكد هذا المعنى بقوله:[قَدْ خَلَا] أي قد مضى، فهذا تأكيد لمعنى مضي؛ وإلا لو جعل للفظ فالمضي هو الذي قد خلا.
الفعل بأنواعه الثلاثة قد يعرَّف بحد جامع وقد سبق بيانه، وقد يخص كل نوع بحد يختص به، وإذا أردنا أن نحد الفعل الماضي وهو نوع من أنواع الفعل فنقول هو: ما دل على حدث وقع في الزمان الذي قبل زمان التكلم، فقوله: ما أي فعل، ولا نفسره بالكلمة، وإنما نقول: فعل ليشمل الفعل الماضي والمضارع والمستقبل الذي هو الأمر، وقوله: دل على حدث وقع في الزمان الذي قبل زمان التكلم خرج به المضارع والأمر؛ لأن المضارع يدل على حدث يقع في زمن التكلم أي في أثناء زمن التكلم، والأمر يدل على حدث يقع في الزمن المستقبل، لذلك هو من نوع الإنشاء لا من الخبر. هذا حده، وأما علامته فهي قبول تاء التأنيث الساكنة كما سبق بيانه. [وَهْيَ ثَلَاثَةٌ مُضِيٌّ قَدْ خَلَا] أي علة تسميته ماضياً لمضي معناه حالة التكلم بحسب الوضع، وعبارة بعضهم أوضح من هذا أنه يقال:
سمي ماضياً باعتبار زمانه المستفاد منه، هكذا قال الفاكهي في شرح قطر الندى. وقدم الفعل الماضي على فعل الأمر والمضارع؛ لأنه مبني باتفاق، وأما فعل الأمر فهو مبني على الأرجح، وأما المضارع فهو معرب، وإن كان الأصل فيه أنه مبني، لكن يبنى في حالتين كما سيأتي، ويبقى الأصل أنه معرب.
ثم قال: [وَفِعْلُ أَمْرٍ] ثنى بفعل الأمر لكونه مبنياً على الأرجح، [وَفِعْلُ أَمْرٍ] فعل مضاف، وأمر مضاف إليه، وهذه الإضافة من إضافة الدال إلى المدلول يعني فعل يدل على الأمر، وحدُّ فعل الأمر: هو ما دل على حدث يُطلب حصوله بعد زمان التكلم. قوله: ما اسم موصول، وهو جنس يعم الأفعال الثلاثة، قوله: دل على حدث يطلب حصوله خرج المضارع والماضي؛ لأن المضارع والماضي لا يدل على حدث يطلب حصوله، وإنما يدل المضارع على حدث يقع في الزمن الحال، ويدل الماضي على حدث قد وقع وانقطع، ولذلك قالوا: فعل الأمر مستقبل أبدا؛ لأنه يطلب به حصول مالم يحصل، نحو: قم أنت، إذا أمرت من لم يقم، إذاً طُلب بفعل الأمر حصول قيام لم يحصل، أو دوام ما حصل، يعني لا يشترط في فعل الأمر أن يكون حدثه معدوما، بل يطلب به حصول مالم يحصل وهذا لا إشكال فيه أنه معدوم، أو دوام ما قد حصل، فهذا باعتبار أصل الفعل موجود، لكن الطلب هنا باعتبار المداومة، وهي معدومة كقوله:((يَا أَيُّهَاالنَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ (1))) [الأحزاب:1] اتق: فعل أمر، وليس المراد به تحصيل التقوى وإيجادها بعد أن لم تكن،
بل دُم على التقوى، ومثله:((يَا أَيُّهَاالَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ)) [النساء:136] قوله: يأيها الذين آمنوا إذاً أثبت لهم صفة الإيمان، ثم قال: آمنوا أي طلب المداومة على الإيمان أي حافظوا ودوموا على إيمانكم، فحينئذ يطلب بفعل الأمر حصول ما لم يحصل، أو دوام ما قد حصل، والأصل فيه أن يكون معدوماً، فحينئذ إذا ورد الإشكال في نحو:((يَا أَيُّهَاالنَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ (1))) تقول: المطلوب المداومة، والأصل أنها معدومة فلم يخرج عن الأصل.
ثم قال: [وَمُضَارِعٌ عَلَا] بمعنى ارتفع عن أخويه الماضي وفعل الأمر، وذلك بكونه معرباً، والإعراب أشرف من البناء، ولذلك الأًصل في الأسماء الإعراب، والأصل في الأفعال البناء، فهما أصلان متضادان، لأن الإعراب والبناء ضدان، فإذا جاء اسم مبني تقول: لِمَ بني؟ فيسأل عنه، لأنه قد خرج عن أصله، وإذا جاء فعل معرب كالمضارع تقول: جاء على خلاف أصله، فحينئذ لا بد من السؤال لِمَ أعرب الفعل المضارع؟
إذاً الأصل في الأسماء الإعراب، وضابط الاسم المعرب: هو الذي لم يشبه الحرف، فإن أشبه الحرف فهو مبني، فالأول أصل والثاني فرع. والأًصل في الفعل البناء، والإعراب فيه فرع، ولذلك جاء نوعان من الفعل مبنيان: وهما الفعل الماضي، وفعل الأمر، فالفعل الماضي هذا متفق عليه بين البصريين والكوفيين، وفعل الأمر على الأصح على مذهب البصريين، وسيأتي مذهب الكوفيين. وأما الفعل المضارع ففيه تفصيل: الأصل فيه عند التجرد من نون الإناث
ونوني التوكيد الإعراب، فهو معرب، وإذا اتصلت به إحدى النونين نون الإناث ونون التوكيد فهو مبني ويختلف بناؤه كما سيأتي.
[وَمُضَارِعٌ عَلَا] أي وفعل مضارع علا وسما وارتفع على قسيميه الفعل الماضي وفعل الأمر بكونه معرباً، والمضارع مشتق من المضارعة، والمضارعة في اللغة المشابهة، فسمي الفعل المضارع مضارعاً لمشابهته الاسم، قيل مأخوذة من الضرع، كأنَّ كلا من المشتبهين الاسم والفعل المضارع ارتضعا من ثدي واحد، فهما أخوان رضاعًا، لذلك سمي الفعل المضارع بالمضارع لوجود مشابهة الفعل المضارع بالاسم. ووجه المشابهة التي جعلت الفعل المضارع قد وجدت فيه علة إعراب الاسم فأعرب حملا على الاسم، كما سبق أن القاعدة العامة عند العرب أن الشيء إذا أشبه شيئًا آخر أخذ حكمه، فإذا أشبه الاسم الحرف أخذ حكمه وهو البناء، وإذا أشبه الاسم الفعل بوجوه الشبه السابقة أخذ حكمه وهو المنع من الصرف، ووجه الشبه بين الفعل المضارع والاسم كما قال جمهور النحاة أنه إذا وُجد الفعل المضارع على واحد من أمور أربعة:
الأول والثاني: أن يكون الفعل المضارع أشبه الاسم في الإبهام والتخصيص، فالاسم يكون مبهماً ثم يخص تقول: جاءني رجل، هذا مبهم، ثم تقول: جاءني رجل صالح فتخصص، كذلك الفعل المضارع يكون مبهماً ويقبل التخصيص، وإبهام الفعل المضارع من حيث دلالته على الزمن، فجمهور النحاة على أن زمن الفعل المضارع مشترك بين الحال والاستقبال، فإذا قلت: زيد يصلي،
يحتمل أنه يصلي الآن، ويحتمل أنه في المستقبل، إذاً فيه إبهام، ويتخصص الفعل المضارع بالقيد تقول: يضرب زيد عمرًا الآن في الحال، أو غدًا في المستقبل، أو بحرف يدل على الاستقبال، فإذا قلت: زيد سيصلي أو سوف يصلي تخصص بالزمن المستقبل، إذاً أشبه الفعلُ المضارعُ الاسمَ في الإبهام والتخصيص، الاسم يكون مبهماً كرجل فيتخصص بالوصف أو بأل، والفعل المضارع يكون مبهماً من حيث الزمن محتملا للحال أو الاستقبال، فيتخصص بلفظ آخر فيحمل على الاستقبال أو على الحال.
والثالث: قبوله لام الابتداء، نحو: إنَّ زيداً لضارب عمراً، إذاً الاسم تدخله لام الابتداء - على تفصيل فيه- وتقول: إن زيداً ليضرب عمراً، وقع المضارع في موضع يقع فيه الاسم، إذاً أشبهَ الفعلُ المضارعُ الاسمَ في كونه يقبل لام الابتداء.
الرابع: أن الفعل المضارع قد أشبه الاسم - اسم الفاعل - في الحركات والسكنات، فضَارِبٌ حركة فسكون فحركة، ويَضْرِبْ حركة فسكون فحركة، والمراد مطلق الحركة، كون الحرف محركا ولا ينظر إلى شخصها وعينها، إذاً أشبه الفعل المضارع الاسم في مطلق الحركات والسكنات.
لهذه العلل الأربع قال جمهور النحاة: إن الفعل المضارع قد أشبه الاسم فأخذ حكمه وهو الإعراب، إذاً علة إعراب الفعل المضارع هي هذه الأوجه الأربعة، وابن مالك رحمه الله -لم يرتض هذه العلة، بل قال: إن علة إعراب الفعل المضارع هي مشابهته
للاسم في اعتوار معاني مختلفة على صيغة واحدة لا يميزها إلا الإعراب، لأن الإعراب كما ذكرنا في اللغة أنه بمعنى البيان والإظهار، فالإعراب في الاسم إنما جيء به لتمييز المعاني بعضها عن بعض، والاسم أي الاسم الواحد والصيغة الواحدة قد يعتوره معانٍ مختلفة، يعني يطرأ على الاسم الواحد معانٍ مختلفة، هذه المعاني لا يميز بعضها عن بعض إلا الإعراب، حينئذ صار الإعراب أصلاً في الاسم، وهذه المعاني المعتورة تكون في مثال واحد، وذلك إذا قلت: ما أحسن زيد، في مثل هذا التركيب -هكذا دون إعراب- فيحتمل أن يكون زيد مرداً به الفاعل وما نافية، ويحتمل أن يكون زيد مراداً به أنه مفعول وما تعجبية، ويحتمل أن يكون زيد مضافاً إليه وما استفهامية، إذاً لفظ زيد صيغة واحدة قد توارد وتعاقب عليها معانٍ مختلفة وهي الفاعلية والمفعولية والإضافة، وهي في الأصل تكون في الاسم، فحينئذ لا يميز الفاعل عن المفعول ولا عن المضاف إليه إلا الإعراب، فإذا أردت الفاعل تقول: ما أحسنَ زيدٌ، فحينئذ يكون الكلام نفيا، فما نافية، وأحسنَ فعل ماض، وزيد فاعل، وإذا أردت أنه مفعول به فحينئذ تقول: ما أحسنَ زيداً! فتكون ما تعجبية، وزيدًا مفعولا به، وإذا أردت الإضافة فحينئذ تقول: ما أحسنُ زيدٍ؟ أَيْ أيُّ شيء أو أي أجزاء زيد حسن فصار استفهاماً.
إذاً التركيب واحد ما أحسن وزيد يحتمل أن ما تعجبية أو نافية أو استفهامية، والذي ميز لنا هذا عن ذاك هو الإعراب، إذاً جيء بالإعراب في الاسم لكشف وتمييز المعاني المختلفة على صيغة واحدة، وهذه المعاني لا يميز بعضها عن
بعض إلا الإعراب، هذه علة الإعراب في الاسم فإذا وجدت هذه العلة في الفعل المضارع فالقاعدة العامة: أنه إذا أشبه الشيءُ الشيءَ الآخر أخذ حكمه، فحينئذ إذا وُجدت هذه العلة وهي اعتوار المعاني المختلفة على صيغة واحدة في الفعل المضارع فحينئذ نقول: الفعل المضارع قد أشبه الاسم فأخذ حكمه وهو الإعراب، كما أن الاسم إذا أشبه الفعل أخذ حكمه وهو المنع من الصرف، فما هي الصيغة التي يمكن أن يكون عليها الفعل المضارع وتعتوره المعاني المختلفة ولا يميزها إلا الإعراب؟ قالوا المثال المشهور: لا تأكلِ السمكَ وتشرب اللبن، لا ناهية، وتأكل فعل مضارع مجزوم بلا وجزمه السكون المقدر على آخره، منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة التخلص من التقاء الساكنين، والفاعل ضمير مستتر وجوباً تقديره أنت، والسمك مفعول به منصوب ونصبه فتحة ظاهرة على آخره لأنه اسم مفرد، إلى هنا لا إشكال فيه، ولكن قوله: وتشرب اللبن هذا فعل مضارع تتوارد عليه المعاني المختلفة التي لا يميزها إلا الإعراب، وهذه المعاني المختلفة لصحة أن يقال: وتشربِ اللبن بالجزم، وتشربَ اللبن بالنصب، وتشربُ اللبن بالرفع، ثلاثة أوجه، وليست هذه المعاني متحدة؛ لأن الإعراب فيها متغير، وإنما جيء بالإعراب لتغير المعاني، فحينئذ لا بد أن يكون كل وجه منها مغايرًا للآخر، فإذا قلت: لا تأكل السمك وتشربِ اللبن، صار كلٌّ من أَكْلِ السمك وشرب اللبن منهياً عنه لذاته، إذا جزمت حينئذ تقول: وتشربِ اللبن بالجزم: الواو حرف عطف، وتشربِ فعل مضارع معطوف
على تأكل، والمعطوف على المجزوم مجزوم وجزمه سكون مقدر على آخره منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة التخلص من التقاء الساكنين، والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت، واللبن مفعول به، إذاً عطف تشرب على لا تأكل، وإذا عطف عليه صار كل واحد منهياً عنه على حِدة، يعني لا تأكل السمك مطلقاً، ولا تشرب اللبن مطلقاً. وتشربَ بالنصب: الواو واو المعية، وتشربَ فعل مضارع منصوب بأن وجوباً بعد واو المعية، وهي تدل على المصاحبة إذاً لا تأكل السمك مع شرب اللبن، لا تجمع بينهما لكن كُلِ السمك مفردا، واشْربِ اللبن مفردا، فالنهي هنا مسلط على الجمع بينهما فقط دون إفراد كل واحد منهما على حدة.
وتشربُ اللبن: الواو للاستئناف، وتشرب فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم ورفعه ضمة ظاهرة على آخره، والمعنى لا تأكل السمك ولك شرب اللبن مطلقاً، فالمنهي عنه شيء واحد، إذاً اختلفت المعاني باختلاف الإعراب، فحينئذٍ صار الفعل المضارع في نحو: تشرب مفتقراً للإعراب، فأشبه الفعل المضارع الاسمَ في اعتوار وطرو معان مختلفة على صيغة واحدة وهي تشرب، كما هو في الاسم في قولك: ما أحسن زيد صيغة واحدة طرأت المعاني المختلفة عليها لا يميزها إلا الإعراب، حينئذ أعرب الفعل المضارع فدخل في حيز الإعراب فارتفع وعلا وسما على الفعل الماضي وفعل الأمر، ولذلك قال:[وَمُضَارِعٌ عَلَا] لكن يرد السؤال هنا إذا كان الأصل في الأسماء الإعراب، وعلة الإعراب هي اعتوار المعاني، وهذه العلة
موجودة في الفعل المضارع، فلمَ كان الإعراب فرعاً في الفعل ولم يكن أصلاً مع وجود العلة؟ الجواب: أنه لما كان الإعراب أصلاً في الأسماء لاعتوار هذه المعاني، وجدوا أن هذه المعاني لا يمكن أن يميزها إلا الإعراب فقط، وأما الفعل المضارع قالوا: يميزها الإعراب، ويميزها غير الإعراب، فلما وُجد سبيل غير الإعراب جُعل فرعاً في الفعل المضارع، ولما لم يكن في الاسم إلا الإعراب جعل أصلاً فيه، ويمكن أن تميز هذه المعاني بعضها عن بعض في الفعل المضارع دون إعراب، قالوا: لك أن تفصح تقول: لا تأكل السمك ولا تشرب اللبن، فتظهر لا الناهية، إذاً نهيت عنهما مطلقا، وتقول: لا تأكل السمك شارباً اللبن، نهيت عن الجمع بينهما، وتقول: لا تأكل السمك ولك شرب اللبن، فصار استئنافا، ولك خبر مقدم، وشرب اللبن مبتدأ مؤخر. إذاً وجد سبيل لفصل المعاني بعضها عن بعض غير الإعراب، فلذلك جعل فرعاً في الفعل ولم يجعل أًصلاً.
لما قسَّم لك الأفعال ووفَّى لك بما قال في الترجمة باب قسمة الأفعال قال: وهي ثلاثة، ثم قال: وأحكامها بدأ في بيان أحكام الأفعال من حيث الإعراب والبناء، فقال:[فَالمَاضِي] الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، إذا عرفت القسمة الثلاثية وأردت معرفة أحوال الماضي من جهة الإعراب والبناء فأقول لك الماضي، [فَالمَاضِي] أل هذه للعهد الذكري، لأنه ذكر الماضي أولاً نكرة ثم أعاده معرفة، وذِكْرُ الاسم نكرة ثم إعادته
معرفة دال على أنه عين الأول كما هو القاعدة، [فَالمَاضِي مَفْتُوحُ الأَخِيرِ أَبَدَا] سبق بيان حد الماضي، وعرفنا علامته، وهنا بين حكمه فالماضي مبني، وقد جاء على الأصل في الأفعال، والقاعدة أن ما جاء على أصله لا يسأل عن علته، فلا يقال حينئذ لماذا هو مبني؟ لأنه جاء على الأصل وما جاء على الأصل لا يسأل عن علته. ثم يرد السؤال على أي شيء بُني الفعل الماضي؟ نقول: فيه ثلاثة مذاهب للنحاة: جمهور النحاة المتأخرين على التفصيل، لأن الفعل الماضي له أحوال: إما أن يتصل بآخره شيء أولا، فإن لم يتصل بآخره شيء فهو مبني على الفتح سواء كان الفتح ظاهراً أو مقدراً، فإن اتصل بآخره شيء إما أن يكون واواً أو ضمير رفع متحرك، فإن كان واواً ضم آخره لمناسبة الواو فيبنى على الضم، وإن كان ضمير رفع متحرك بني معه على السكون، فحينئذ له ثلاثة أحوال:
الحالة الأولى: أن يكون مبنياً على الفتح كما قال الحريري:
وَحُكْمُهُ فَتْحُ الأَخِيرِ مِنْهُ
…
كَقَوْلِهِمْ سَارَ وَبَانَ عَنْهُ
تقول: جاء زيد، فجاء: فعل ماضٍ مبني على الفتح الظاهر، ونحو:(وعصى آَدَمُ رَبَّهُ (121)) [طه:121] عصى: فعل ماض مبني على فتح مقدر، كما قال هنا:[مَفْتُوحُ الأَخِيرِ] أي مفتوح الحرف الأخير فتح بناء، [أَبَدَا] سواء كان ظاهراً أو مقدراً، وهذا إذا لم يتصل به شيء، أو اتصل به ألف الاثنين التي هي فاعل، نحو: الزيدان ضربا، فالزيدان مبتدأ، وضربا فعل ماض مبني على الفتح مع كونه اتصل به ألف الاثنين، فيبقى على أصله على قول الجمهور
أن هذا الفتح فتح بناء وليس لمناسبة الألف، وقال بعضهم: إن هذه الفتحة لمناسبة الألف، فحينئذٍ يكون البناء هنا على الفتح المقدر، وهذا ليس بصحيح بل الصواب أنه فتح ظاهر، فالحالة الأولى: أن يبنى الفعل الماضي على الفتح ظاهراً كضرب، أو اتصل به ألف الاثنين فلا يخرجه عن أصل البناء على الفتح بل يكون فتحاً ظاهراً. أو مقدراً فيما إذا كان معتل الآخر كعصى.
الحالة الثانية: أن يكون مبنياً على الضم، وذلك إذا اتصل بالفعل الماضي واو الجماعة كضربوا، وواو الجماعة لا يناسبها ما قبلها إلا أن يكون مضموماً، فحينئذ بُني الفعل الماضي على الضم، فيقال في إعرابه ضربوا: فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة، وواو الجماعة ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل.
الحالة الثالثة: أن يكون مبنياً على السكون، وذلك إذا اتصل بالفعل الماضي ضمير رفع متحرك، ضمير إذاً لا اسم ظاهر، لأنه لو اتصل به اسم ظاهر يعني تلاه اسم ظاهر صار مبنياً على الفتح الظاهر أو المقدر، تقول: ضرب زيدٌ، اتصل به اسم ظاهر لأنه الفاعل، فحينئذ بقي على أصله، وعصى آدم، اتصل به اسم ظاهر فحينئذ بقي على أصله، وهو أنه مبني على الفتح المقدر، ضمير رفع لا ضمير نصب، لأنه لو اتصل به ضمير نصب بقى على الأصل وهو البناء على الفتح، مثل: نا الدالة على المفعولين إذا وقعت في محل نصب مفعولاً به، كقولك: ضربَنا الزيدان، فضرب فعل ماضٍ مبني على الفتح الظاهر،
والزيدان فاعل، ونا مفعول به، إذاً اتصال نا الدالة على المفعولين بالفعل الماضي لا يخرجه عن أصله وهو البناء على الفتح. ويرد السؤال هنا لماذا لم نعد هذه الحالة في الحالة الأولى وهي ما لم يتصل بآخره شيء أو اتصل به ألف الاثنين؟ نقول: هنا ضربَنا الاتصال في اللفظ فقط لا في الحقيقة، لأن ضربنا هذا ثلاث كلمات: ضرب، ثم فصل بالفاعل، لأن مرتبة الفاعل مقدَّمة على مرتبة المفعول به، ثم جاء المفعول به وهو نا، فلذلك يقال في نا التي اتصلت بضربنا، أنها في نية الانفصال، لأن حق نا وهي مفعول به الانفصال لا الاتصال بالفعل كما قال ابن مالك:
وَالأَصْلُ فِي الفَاعِلِ أَنْ يَتَّصِلَا وَالأَصْلُ فِي المَفْعُولِ أَنْ يَنْفَصِلَا
الأصل في الفاعل أن يتصل بعامله، نحو: ضربْنا ضرب فعل ماضٍ، ونا دالة على الفاعلين، وضربا ضرب فعل ماضٍ، والألف فاعل، والأصل في المفعول أن ينفصل عن العامل بالفاعل هذه هي القاعدة، فحينئذ قوله: ضربَنا نا الدالة على المفعولين لم تتصل في الحقيقة بالفعل، وإن اتصلت به في اللفظ. ضمير رفع متحرك لا ضمير رفع ساكن، وهو الواو نحو: ضربوا - التي هي الحالة الثانية - فالفعل معها مبني على الضم، وأيضاً الألف نحو: ضربا فالفعل معها مبني على الفتح، وضمير الرفع المتحرك مثل: تاء الفاعل، نحو: ضربتَُِ هذا يبنى على السكون، وإعرابه: ضربت: فعل ماض مبني على السكون، لاتصاله بضمير رفع متحرك، والتاء ضمير متصل مبني على الضم في محل رفع فاعل، وضربْنا: فعل
ماض مبني على السكون لاتصاله بضمير رفعٍ متحرك، ونا الدالة على الفاعلين هل هي ضمير رفع متحرك أولا؟ قيل: متحرك باعتبار النون ولا إشكال، وقيل: ساكن باعتبار الألف، فحينئذ يرد الإشكال وهو أن الماضي يبنى على السكون إذا اتصل به ضمير رفع متحرك، وهذا ليس بضمير رفع متحرك بل ساكن، قالوا: القاعدة أنه إذا اتصل بضمير رفع متحرك بنفسه كالتاء والنون، أو ببعضه المتصل بالفعل، وضربنا النون اتصلت بالفعل وهي متحركة، فحينئذ بني الفعل على السكون. وتقول: النسوة ضربن، فضربنَ: فعل ماضٍ مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث، وهو ضمير رفع متحرك، والنون ضمير متصل مبني على الفتح في محل رفع فاعل.
هذا هو المشهور أنه يبنى على الفتح ظاهراً أو مقدراً كما سبق، ويبنى على الضم إذا اتصل به واو الجماعة، ويبنى على السكون إذا اتصل به ضمير رفع متحرك، والأصح أن الفعل الماضي مبني على الفتح مطلقاً ظاهرًا كان أو مقدرًا، فضربوا نقول في إعرابه: فعل ماض مبني على الفتح المقدر منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة المناسبة؛ لأن الواو لا يناسبها إلا ضم ما قبلها، وحركة المناسبة هذه لا تمنع أن يكون الفعل مبنيا على الأصل وهو الفتح، فتقدر عليه الفتحة. وضربْت: فعل ماضٍ مبني على الفتح المقدر منع من ظهوره اشتغال المحل بسكون دفع كراهة توالي أربع متحركات فيما هو كالكلمة الواحدة، لأن القاعدة عند العرب أن الكلمة إذا كانت مؤلفة من أربعة أحرف لا تكون كلها متحركة، لا بد أن يكون
حرف منها حرف ساكن، قالوا: ضَرَبْتُ أصله ضَرَبَتُ على الأصل ضَرَبَ ثم اتصل به ضمير رفع متحرك فصار أربعة أحرف ضَرَبَتُ، هذا الأصل فيه، فيكون مبنياً على فتح ظاهر، لكن لما كان الفتح الظاهر قد سبب ثقلاً في الكلمة وهو توالي أربع متحركات فيما هو كالكلمة الواحدة، لكن يرد سؤال هنا ليس عندنا كلمة واحدة وإنما هو فعل وفاعل؟ قالوا: فيما هو كالكلمة الواحدة لتنزيل الفاعل منَزلة الجزء من فعله، وهذا هو الدليل أن العرب سلبت الفعل الماضي الحركة، وجلبت له السكون دفعاً لتوالي أربع متحركات فيما هو كلمة واحدة، ولكن لوجود الكلمتين هنا -الجملة الفعلية- قالوا: كالكلمة الواحدة، لأن القاعدة أنه لا توجد أربع متحركات في الكلمة الواحدة. والدليل على أن الفاعل جزء من فعله هو ما ذكرناه الآن، ثم أيضًا الأمثلة الخمسة، وهذا أظهر دليل على أن العرب تنزل وتعامل الفاعل منزلة الجزء من فعله، فقد تقرر عندنا في باب الإعراب أن الإعراب: أثرٌ ظاهر أو مقدر يجلبه العامل في آخر الكلمة. فمحل الإعراب هو آخر الكلمة، ثم تأمل الأمثلة الخمسة، فيقومون مثلا: فعل مضارع مرفوع ورفعه ثبوت النون. إذاً ثبوت النون هذا في آخر الكلمة لأنه محل للإعراب، والفاعل هو الواو، إذاً جُعل الإعراب تالياً للفاعل، لتنزيل الفاعل منزلة الجزء من الكلمة، هذا مثال واضح بيِّن أن الفعل المضارع الذي هو من الأمثلة الخمسة يكون رفعه بثبوت النون، وهذه النون تكون بعد الواو أو الألف أو الياء، فمثلا يفعلو هذه جملة مركبة من
فعل وفاعل ثم تذكر النون، وهذه النون إعراب، والإعراب محله آخر الكلمة، هذا دليل على أن العرب نزلت الواو منزلة الجزء من الكلمة، فكأنهما كلمة واحدة.
والحاصل أن الفعل الماضي يكون مبنياً على الفتح مطلقاً ظاهرًا أو مقدرًا. والظاهر في ثلاثة مواضع: الأول: أن يكون فاعله اسمًا ظاهرًا، نحو: قام زيد. والثاني: أن يكون فاعله ضميرًا مستترًا، نحو: زيد قام. والثالث: أن يكون فاعله ألف تثنية، نحو: الزيدان قاما.
والمقدر في أربعة مواضع: الأول: أن يكون الفعل معتل الآخر بالألف مع كون فاعله اسمًا ظاهرًا، نحو: رمى زيد. وأما المعتل الياء أو الواو فالفتح فيه ظاهر لا مقدر، نحو: شَقِيَ ورَضِيَ، وبَذُوَ وسَرُوَ. والثاني: أن يكون الفعل معتل الآخر بالألف مع كون فاعله ضميرًا مستترًا، نحو: زيد رمى. والثالث: أن يكون فاعله واو الجماعة، نحو: قاموا. والرابع: أن يكون فاعله ضمير رفع متحرك كتاء الفاعل ونون النسوة. ويمكن أن يحمل هذا القول الراجح على ظاهر كلام الناظم [فَالمَاضِي مَفْتُوحُ الأَخِيرِ أَبَدَا] لأنه قال: أبداً سواء كان مختوماً بحرف يقبل الحركة كضرب، أو مختوماً بحرف لا يقبل الحركة بذاته كعصى، وسواء كان ثلاثياً كذهب، أو رباعياً كدحرج وأكرم، أو خماسياً كانطلق وتعلَّم، أو سداسياً كاستخرج واستغفر، وسواءٌ اتصل به واو الجمع، أو اتصل به ضمير رفع متحرك، لأن أبداً هذه ظرف بمعنى أنه مستصحب
للحكم مدة وقت وجود الفعل الماضي.
ثم قال: [وَالأَمْرُ بِالجَزْمِ لَدَى البَعْضِ ارْتَدَى] والأمر مبتدأ، وعرفنا حده وعلامته، وأل في الأمر للعهد الذكري، لأنه ذكره نكرة أوَّلا عند قوله: فعل أمر ثم أعاده معرفة، و [بِالجَزْمِ لَدَى] متعلقان بارتدى، و [ارْتَدَى] فعل ماض، أي لبس الرداء، فكأنَّ فعل الأمر قد ارتدى الجزم، وكأن الجزم صار له رداءاً، حينئذ يعرف ويميز بالجزم، وتكون علامته الجزم، [لَدَى البَعْضِ] لدى بمعنى عند، والبعض بإدخال أل على كلمة بعض، وهذا ينكره كثير من النحاة، لأن بعضًا وكلا من الكلمات الملازمة للإضافة لفظاً ومعنى، وقد يحذف المضاف وهو مفرد في اللفظ وينوب عنه التنوين، فحينئذ يكون التنوين عوضاً عن كلمة، فلا يجوز إدخال أل على المضاف، هذه القاعدة العامة في باب الإضافة لا يجوز إدخال أل على المضاف، وبعض هنا مضاف والمضاف إليه منْويٌّ مثل: كل فلا يقال: الكل بأل لأنها ملازمة للإضافة كقوله: ((وَكُلَّإِنْسَانٍ ((13))) [الإسراء:13]((قُلْكُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ (84))) [الإسراء:84] فكل: مضاف لكنه في المعنى والتقدير، بدليل وجود التنوين الذي هو عوض عن المضاف إليه، وحينئذ لا يجوز أن يجامع المضاف أل إلا ما استثنيَ في بابه.
[وَالأَمْرُ بِالجَزْمِ لَدَى البَعْضِ ارْتَدَى] ظاهره أن فعل الأمر - كما هو ظاهر كلام ابن آجروم - مجزوم، وعليه فقسمة الأفعال ثنائية، وحينئذ يرد الإشكال، وهو أنه قد ذكر قسمة الأفعال ثلاثة،
ثم ذكر هنا أن الأمر مجزوم وهذا على مذهب الكوفيين أن القسمة ثنائية، لأن القسمة ثلاثية على مذهب البصريين، وثنائية على مذهب الكوفيين، البصريون على أنها ثلاثة: ماضٍ، وفعل أمر، ومضارع. ومرادهم بهذه الأقسام الثلاثة أن الماضي قسم مستقل برأسه، وفعل الأمر قسم مستقل برأسه ليس مقتطعاً من شيء آخر بل وضع ابتداءاً، والفعل المضارع قسم مستقل برأسه، والكوفيون لا ينكرون وجود فعل الأمر، بل عندهم الأفعال ثلاثة، لكن باعتبار الواقع هي ثلاثة، لأنه موجود في لغة العرب كم وكم من الأفعال الماضية أو المضارع أو الأمر في القرآن والسنة، إذاً يثبتون فعل الأمر لكن يقولون: الأمر ليس فعلا مستقلاً بذاته، لم تضع العرب القسمة ثلاثية ابتداءًا بل وضعت القسمة ثنائية: الماضي، والمضارع، وفعل الأمر مقتطع ومشتق ومأخوذ من الفعل المضارع المجزوم الذي دخلت عليه لام الأمر، فهو عندهم معربٌ بلام الأمر مقدرة، فأصل افعل لتفعل فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، ولَمَّا كان أمر المخاطب أكثر على ألسنتهم استثقلوا مجيء اللام فيه فحذفت اللام طلبًا للتخفيف مع كثرة الاستعمال وبقي عملها -وهذا محل إشكال عندهم وهو دليلُ ردِّ هذا القول- فاشتبه فعل الأمر بالفعل المضارع، فأسقط حرف المضارعة، فحينئذ صار الحرف الذي بعد حرف المضارعة ساكناً، فاجتلب همزة الوصل للتمكن من الابتداء بالساكن، فالتقى ساكنان الهمزة وما بعده، فكسرت الهمزة على الأصل في التخلص من التقاء الساكنين، فقيل: افعل، إذاً افعل ليس مستقلاً وإنما مقتطع من لتفعل، والأصل لتفعل، مأخوذ من ليفعل
لأن الغالب أن لام الأمر تدخل على الفعل المضارع الغائب ((* لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ (7))) [الطلاق:7] وأقل منه أن تدخل على الفعل المضارع المخاطب، نحو قوله صلى الله عليه وسلم: لتأخذوا مصافكم، وقوله تعالى:((((((((((((((فَلْيَفْرَحُوا (58))) [يونس:58] وقرئ فلتفرحوا بالتاء، وإن كان الأكثر والأشهر ليفعل، لكن لا يستطيعون أن يقولوا: إن أصل الأمر ليفعل ويقتطع منه، لأن افعل فاعله ضمير مستتر وجوبًا تقديره أنت، وليفعل هذا لا يمكن أن يكون الفاعل فيه ضمير مستتر تقديره أنت، فقالوا إذاً هو مقتطع من لتفعل. والأرجح أيضاً - استطراداً - أنه يصح أن يأمر نفسه، فيقول: لأفعل ولنفعل ومنه حديث: قوموا فلأصل لكم، ومنه ((وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ (12))) [العنكبوت:12] وكثير من النحاة ينكرون دخول لام الأمر على الفعل المضارع المبدوء بحرف دالٍ على المتكلم وهو الهمزة أو النون، والصحيح جوازه لثبوته في القرآن.
إذاً دخلت لام الأمر على الفعل المضارع حينئذٍ حكموا بأن فعل الأمر مجزوم، فهو معرب، فحينئذٍ يكون مجزوماً على ما يجزم به مضارعه، والأصح أن فعل الأمر مبني؛ لأن الأصل في الأفعال البناء، وإذا كانت العلة مشكوكًا فيها، فحينئذ نقول: اليقين لا يزول بالشك فيبقى الأصل أنه مبني، والأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يرد دليل ناقل، فالصحيح كما ذكرنا أن فعل الأمر مبني، والقول بأنه مجزوم بلام الأمر ضعيف، لأن إعمال حرف الجزم محذوفاً كإعمال حرف الجر محذوفًا، وسبق أن الكوفيين
يتساهلون في إعمال الحروف، ولذلك يجوزون إعمالها محذوفة، والأصح أنه لا يصح أن يَعمل الحرف محذوفاً لأنه ضعيف، لأن العمل أَصل في الأفعال، وإعمال الحرف فرعٌ، فهو ضعيف فلا يعمل إلا ظاهراً، وكذلك لام الأمر هي حرف يعمل الجزم، فحينئذ نقول: تعمل ظاهرة لأن إعمالها وهي ظاهرة ضعيف، لأنها حرف، والأصل في الحرف أن لا يعمل، فكيف إذا حذفت؟! فمن باب أولى أنه أشد ضعفًا. هذا وجه إبطال مذهب الكوفيين. وابن هشام رحمه الله في مغني اللبيب اختار مذهب الكوفيين قال: وبقولهم أقول - لكنه في الأوضح والشذور وسائر كتبه رد مذهب الكوفيين، إذاً عرفنا أنه مبني فله أحوال أربعة:
أولاً: البناء على السكون، وذلك إذا كان صحيح الآخر، ولم يتصل به ألف الاثنين ولا واو الجماعة ولا ياء المؤنثة المخاطبة يعني ليس من الأمثلة الخمسة، ولو اتصل به نون الإناث؛ لأن نون الإناث يبنى معها على السكون، فتقول: اضرب يا زيد، فاضرب: فعل أمر مبني على السكون، لأنه صحيح الآخر، وبني لأنه الأَصل، وما جاء على الأصل لا يسأل عنه، سواء كان هذا البناء على السكون ظاهراً أو مقدراً، نحو قوله تعالى:((* قُمِ اللَّيْلَ (2))) [المزمل:2] فقم: فعل أمر مبني على سكون مقدر، منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة التخلص من التقاء الساكنين، والفاعل ضمير مستتر وجوباً تقديره أنت. ونحو: يا هندات اضربن أولادكن، فاضربْنَ: اضرب فعل أمر مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث
- ولا تقل نون النسوة بل نون الإناث، ولذلك ابن مالك يعبر بنون الإناث لأنها أعم، نون النسوة تختص بالعقلاء، ونون الإناث تعم العقلاء وغير العقلاء، تقول: النوق يسرحْنَ، يسرحن فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث لا يصح أن تقول هنا نون النسوة؛ لأن مرجع الضمير النوق وهي ليست بنسوة حينئذٍ تقول: نون الإناث.
ثانيًا: البناء على الفتح، وذلك إذا اتصل بفعل الأمر نون التوكيد خفيفة كانت أو ثقيلة، نحو: اضربنَّ: فهو فعل أمر مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة.
ثالثًا: البناء على حذف حرف العلة، وذلك إذا كان معتل الآخر، تقول: اخشَ يا زيد، اخشَ: فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، وهو الألف، وارم يا زيد، ارم: فعل أمرٍ مبني على حذف حرف العلة، وهو الياء، لأنه معتل الآخر، وادعُ يا زيد، ادعُ فعل أمرٍ مبني على حذف حرف العلة، وهو الواو، قال في ملحة الإعراب:
وَإِنْ أَمَرْتَ مِنْ سَعَى وَمِنْ غَدَا
…
فَأَسْقِطِ الحَرْفَ الأَخِيرَ أَبَدَا
تَقُولُ يَا زَيْدُ اغْدُ فِي يَوْمِ الأَحَدْ
…
وَاسْعَ إِلَى الخَيْرَاتِ لُقِّيتَ الرَّشَدْ
وَهَكَذَا قَوْلُكَ فِي ارْمِ مِنْ رَمَى
…
فَاحْذُ
…
عَلَى ذَلِكَ فِي مَا اسْتَبْهَمَا
رابعًا: البناء على حذف النون، وذلك إذا كان الفعل مسنداً إلى ألف الاثنين أو واو الجماعة أو ياء المؤنثة المخاطبة، نحو: اضربا يا زيدان، اضربا: فعل أمرٍ مبني على حذف النون، والألف ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل، واضربوا يا زيدون، اضربوا: فعل أمرٍ مبني على حذف النون، والواو ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل، واضربي يا هند، اضربي: فعل أمرٍ مبني على حذف النون، والياء ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل. إذاً أربعة أحوال لفعل الأمر:
1 -
أن يكون مبنياً على السكون.
2 -
أن يكون مبنياً على الفتح.
3 -
أن يكون مبنياً على حذف حرف العلة.
4 -
أن يكون مبنياً على حذف النون.
وبعض النحاة يقول: الأمر مبني على ما يجزم به مضارعه، فالعبرة بالفعل المضارع فتنظر إليه فحينئذ يكون الأمر مبنياً على ما يجزم به مضارعه، لكن هذه قاعدة مع شهرتها مدخولة، وقد بينت ذلك في شرح الملحة فليرجع إليه. ثم قال:
ثُمَّ المُضَارِعُ الَّذِي فِي صَدْرِهِ
…
إِحْدَى زَوَائِدِ نَأَيْتُ فَادْرِهِ
شرع في بيان النوع الثالث من أنواع الفعل فقال: [ثُمَّ المُضَارِعُ] ثم للترتيب الذكري، وليست على بابها يعني ليس ثَمَّ تراخٍ بين الفعل المضارع وغيره، إذ كيف يقول ومضارع علا ثم بعد ذلك
يذكر أنه متراخٍ عن الفعل الماضي والأمر؟!
[ثُمَّ المُضَارِعُ] أي ثم الفعل المضارع وهو ما دل على حدث مقترن بأحد زماني الحال والاستقبال، وإن شئت قل: ما دل على حدث يقع في زمان التكلم أو بعده، على قول الجمهور أن مدلول الزمن في الفعل المضارع الحال والاستقبال معاً، إذاً يدل على زمنين الحال والاستقبال حقيقة، ولكن الصواب أنه يدل على الحال حقيقة، وعلى المستقبل مجازاً كما نصَّ على ذلك الرضي ورجحه السيوطي في همع الهوامع، لأن الاستقبال لا يُعدل إليه إلا بقرينة كسوف أو السين أو غداً ونحو ذلك، تقول: زيدٌ يصلي غداً أو يسافر غداً، غداً هو اللفظ الذي صرف الفعل عن دلالته من الحال إلى الاستقبال، وحينئذٍ ما احتاج إلى قرينة فرعٌ عما لا يحتاج إلى قرينة، وهذا ضابط المجاز، حينئذٍ نقول: هو حقيقة في الحال مجاز في الاستقبال. ثم بعد أن عرفنا حد المضارع، أراد أن يميز لك المضارع بعلامة، وإن كان قد ذكر له علامة فيما سبق وهي السين وسوف وهاتان علامتان خاصتان بالمضارع، وابن مالك يخصه بلم كما قال:
فِعْلٌ مُضَارِعٌ يَلِي لَمْ كَيَشَمْ
لأنه لا ينفك عن لم، لا يوجد مضارع إلا وهو صالح لدخول لم عليه، لكن هنا ميَّزه بعلامة أخرى، وهي كون صدره أي أوله مشتملاً على أحد الحروف المجموعة في قولك: نأيت، فإذا وجد في أول الفعل الهمزة أو النون أو الياء أو التاء، حكمنا عليه بأنه مضارع. واختلف النحاة
هل هذه الأحرف الأربعة تصلح أن تكون علامة للفعل المضارع أولا؟ وسبب الخلاف وجودها في الفعل الماضي، نحو: أكل وأخذ وأمر ونفع ونقم ونعس وينع ويفع ويئس وتجر وتبع وتخذ ويرْنأ وتعلم، فوجدت هذه الحروف في الفعل الماضي، فحينئذ كيف تكون هذه الأحرف الأربعة علامة على الفعل المضارع؟! والجواب: أنه ليس مطلق هذه الحروف علامة على الفعل المضارع، وإنما صارت علماً بالغلبة على أحرفٍ زيدت على الفعل المضارع لمعانٍ خاصة بها، إذاً ليس مطلق الهمزة تكون علامة على الفعل المضارع بل همزة مقيدة بكونها زائدة، ودالة على معنى - كما سيأتي- إذاً يصحُّ أن يجعل من علامات الفعل المضارع دخول حرف من حروف نأيت، وابن هشام ذكر هذه الأحرف في شرح قطر الندى ثم قال: لم أذكر هذه الأحرف لأميز الفعل المضارع وإنما لأذكر حكمها، وهذا خلاف الصواب بل الصواب أنها مما يميز الفعل المضارع بها، بل هي أولى من لم، فتمييز الفعل المضارع بالهمزة أو النون أو الياء أو التاء أولى من تمييزه بما ميز به ابن مالك وتبعه ابن هشام في قطر الندى وغيره، حيث قال: فعل مضارع يلي لم كيشم، لأنه قد يوجد الفعل المضارع دون لم، نحو: يضرب زيدٌ عمراً وُجد الفعل المضارع دون لم، إذاً ينفك الفعل المضارع عن لم، لكن لا يمكن أن ينفك عن هذه الأحرف، إذاً تمييز الفعل المضارع بما لا ينفك عنه مطلقاً أولى من تمييزه بما ينفك في بعض الأحوال، لأن الفعل المضارع ليس دائماً مجزوماً بلم، فقد يدخل عليه بعض أدوات
النصب، وقد يكون عارياً عن النوعين مع اتصال إحدى الحروف الزائدة به، فحينئذ نقول: لاتصالها بالفعل وعدم انفكاكها عنه مطلقاً، فالتمييز بها أولى مما ميز به ابن مالك وابن هشام الفعل المضارع، وأيضاً لم غير متصلة بالفعل، تقول: لم يقم، فهاتان كلمتان، أما الفعل يقوم فقد صار كالكلمة الواحدة بدليل تخطي العامل لحرف المضارعة، لأن أحرف نأيت من حروف المعاني، لا من حروف المباني، وحرف المعنى كلمة مستقلة، وإذا كان حرف معنى فيقوم ويضرب مؤلف من كلمتين - الكلمة الأولى هي حرف المضارعة، والكلمة الثانية هي الفعل - وإذا قلت: لم يقم، دخلت لم على الكلمة الثانية بدليل الجزم، لأن الفعل مجزوم بلم، وجزمه الذي هو السكون ظهر في آخره، والحرف لا يدخل على الحرف، وإنما يدخل على الاسم حرف مختص بالاسم، ويدخل على الفعل حرف مختص بالفعل، وقد يكون الحرف مشتركا بينهما، وهنا الحرف لم دخل على فعل، وأما الياء حرف المضارعة قالوا: نزلت منزلة الجزء من الكلمة، كأنها حرف مبنى، بدليل تخطي العامل لها فجزم الفعل المضارع.
[ثُمَّ المُضَارِعُ الَّذِي فِي صَدْرِهِ] الظرفية هنا غير مرادة، ولذلك قال العشماوي: إن حذف الحرف في أولى؛ إذ لا معنى للظرفية هنا، [ثُمَّ المُضَارِعُ الَّذِي فِي صَدْرِهِ] أي في أوله، والضمير يعود إلى المضارع أي أول حرف من الفعل المضارع [إِحْدَى زَوَائِدِ نَأَيْتُ فَادْرِهِ] يعني فاعلمه، فالدراية هنا بمعنى العلم، لأن درى يأتي
بمعنى علم، وزوائد جمع زائدة، سميت زوائد لأن حروف المضارعة تزاد على الفعل الماضي، يقال: ضرب هذا فعل ماضٍ، إذا أردت المضارع تأتي بحرف من أحرف أنيت، فتزيده على الفعل الماضي، فتقول: أَضربُ، أو يضرب أو نضرب أو تضرب، إذاً سميت زوائد لكونها تزاد في أول الفعل الماضي، لأن الفعل المضارع وإن كان مستقلاً برأسه أصلاً؛ إلا أنه عند الاشتقاق يؤخذ من الماضي، فيزاد عليه حرف من أحرف أنيت، قوله:[إِحْدَى زَوَائِدِ نَأَيْتُ] حكم عليها بأنها زائدة، إذاً لو كانت أصلية حينئذٍ لا يكون الفعل مضارعاً، نحو: أكل في أوله حرف من أحرف أنيت، وأكل فعل ماض لا مضارع لأن الهمزة أصلية، وإنما نحكم عليه بأنه فعل مضارع إذا كانت زائدة بشرطها، ومثله أخذ وأمر فالهمزة أصلية، ونفع ونقم ونعس فالنون أصلية، ويفع وينع ويئس فالياء أصلية، وتبع وتجر وتخذ فالتاء أصلية، فهذه كلها مبدؤة بأحرف نأيت إلا أنها أصلية، فهي جزء من الكلمة أي حرف مبنى، وهي فاء الكلمة، حينئذٍ لا نحكم عليه بأنه فعل مضارع، لأن الشرط الأول في كون هذه الحروف علامة على مضارعية الفعل كونها زائدة وهذه أصلية.
والشرط الثاني الذي يتحقق به كون هذه الأحرف علامة على المضارع كونها دالةً على معانٍ خاصة، فالهمزة تدل على المتكلم سواء كان مذكراً أو مؤنثًا، نحو: أضربُ يكون الفاعل مذكراً، وأضربُ ويكون الفاعل مؤنثاً. والنون للمتكلم ومعه غيره أو المعظم نفسه
حقيقة أو ادعاءاً، نحو: نضرب، فالنون للمتكلم ومعه غيره فليست للمتكلم وحده، أو تكون معظِّماً لنفسك فتقول: نكتب، ونفعل، ونأمر ونحو ذلك، ويكون الكاتب والفاعل والآمر واحدًا، وقد يكون حقيقة كأن يصدر من كبير يقول: نكتب ونفتى ونحو ذلك. وقد يكون ادعاءاً، مثلوا لذلك بقول فرعون:((أَلَمْنُرَبِّكَ فِينَا (18))) [الشعراء:18] فنربك بالنون وهو يعظم نفسه، لكنه حقير، فلذلك نقول هنا التعظيم ادعاءاً يعني لا واقع له. والياء للغائب مطلقاً يعني سواء كان مفرداً أو مثنى أو جمعاً وكذا الغائبات، نحو: زيدٌ يضرب، والزيدان يضربان، والزيدون يضربون، والهندات يضربن. والتاء للمخاطب سواء كان مفرداً أو مثنىً أو جمعاً، أو غائبة، أو غائبتين، نحو: أنت تضرب يا زيدُ، وأنتما يا هندان تضربان، وأنتما يا زيدان تضربان، وأنتم يا زيدون تضربون، وهند تضرب، والهندان تكتبان، إذاً لا بد من شرط الزيادة، ولا بد من شرط الدلالة على معنى خاص، ولذلك نأيت صارت علماً بالغلبة على ما جمع شيئين اثنين: الزيادة مع الدلالة على المعاني الخاصة، فإذا أطلق اللفظ انصرف إلى المعنى الخاص فصار حقيقة عرفية. و [نَأَيْتُ] بمعنى بَعُدْت، وتجمع أيضاً على أنيت، ونأتي، وأتينا، أربع كلمات، وأنيت بمعنى أدركت وهذا مرجح عندهم، لأن فيه تفاؤلا بمعنى أنك أدركت العلم، [فَادْرِهِ] أي فادر هذا الحكم، وهو أن المضارع يميز عن قسميه بإحدى زوائد نأيت مع الشرط الذي ذكرناه، فإن لم تكن هذه الحروف زائدة بل كانت من أصل الفعل فهو فعل ماضٍ،
أو كانت زائدة ولكنها لا تدل على معنىً خاص كأكرم فالهمزة فيه زائدة لكنه ليس بفعل مضارع لأن شرط الهمزة مع كونها زائدة أن تدل على معنى خاص، وهو التكلم ذكراً كان أو أنثى، وأكرم تدل على معنى التعدية، فلها معنى؛ لكنه ليس هو المعنى الخاص الذي وضع له أنيت.
ثم لما بيَّن الفعل المضارع من حيث تمييزه عن أخويه الماضي والأمر، شرع في بيان حكمه فقال:
وَحُكْمُهُ الرَّفْعُ إِذَا يُجَرَّدُ
…
مِنْ نَاصِبٍ وَجَازِمٍ كَتَسْعَدُ
[وَحُكْمُهُ] والحكم هنا يترتب على أحرف أنيت، وعلى آخره، فله حكمان: حكم باعتبار أوله، وحكم باعتبار آخره، أما الحكم الأول: فقد عرفنا أن هذه الأحرف حروف معنى، وأنها زوائد، والأصل فيه أنه مبني، والأصل في المبني أنه ساكن، والابتداء بالساكن متعذر، فحينئذٍ لا بد من تحريكه ليبتدأ به، فقالوا: له ضابط باستقراء كلام العرب، وهو أن النظر إلى الفعل الماضي فإن كان رباعياً أصولاً أو بالزيادة فحينئذ الحرف الذي يزاد عليه ليكون مضارعاً يُضم، وما عداه يفتح، فتقول: أُكرِمُ ونُكرم ويُكرم وتُكرم، لأن أصله أَكرَمَ - على أربعة أحرف ولو كان أحد الحروف زائداً - فإذا جئت بالمضارع وزدت عليه حرفًا من أحرف نأيت تضمه مطلقاً سواء كان همزة أو نوناً أو ياءاً أو تاءاً. ودحرج ماضٍ رباعي، وكلها أصول، فتقول: أُدحرج ونُدحرج ويُدحرج وتُدحرج بضم حرف المضارعة مطلقا، وما عدا الرباعي فحكمه فتح حرف
المضارعة منه، فتقول: ذهب - وهذا ثلاثي - أََذهبُ ونَذهب ويَذهب وتَذهب بفتح حرف المضارعة، وانطلق -وهذا خماسي- أَنطلِقُ ويَنطلق وتَنطلق ويَنطلق بفتح حرف المضارعة، واستخرج -وهذا سداسي- أَستخرِجُ ويَستخرج وتَستخرج ونَستخرج بفتح حرف المضارعة. نظم هذه القاعدة الحريري في الملحة فقال:
وَضُمَّهَا مِنْ أَصْلِهَا الرُّبَاعِي مِثْلُ يُجِيبُ مِنْ أَجَابَ الدَّاعِي
وَمَا سِوَاهُ فَهِيَ مِنْهُ تُفْتَتَحْ
…
وَلَا تُبَلْ أَخَفَّ وَزْنًا أَمْ رَجَحْ
مِثَالُهُ يَذْهَبُ زَيْدٌ وَيَجِي
…
وَيَسْتَجِيشٌ تَارَةً وَيَلْتَجِي
أما حكمه باعتبار آخره فقال:
وَحُكْمُهُ الرَّفْعُ إِذَا يُجَرَّدُ مِنْ نَاصِبٍ وَجَازِمٍ كَتَسْعَدُ
[وَحُكْمُهُ] أي حكم الفعل المضارع [الرَّفْعُ] لأن الأًصل في الفعل المضارع الإعراب، فهو معرب، وقد ذكرنا علة إعرابه فيما سبق، [وَحُكْمُهُ الرَّفْعُ] يعني يكون مرفوعاً بحركة أو حرفٍ، نحو: يقوم زيدٌ، يقوم: فعل مضارع مرفوع ورفعه ضمة، رُفع بحركة، والزيدان يقومان، يقومان: فعل مضارع مرفوع ورفعه ثبوت النون، رُفع بحرف، والحركة ظاهرة أو مقدرة، فالظاهرة كالمثال السابق، والمقدرة كيخشى، ويدعو، ويرمي، والحرف قد يكون ظاهرًا أو مقدرًا، فالظاهر كالمثال السابق، والمقدر نحو: لتبلونَّ، فعلامة الرفع النون وهي حرف، لكنها مقدرة لأنها حذفت لكراهة توالي الأمثال، توالت ثلاث نونات فحذفت نون الرفع،
لتبلونَّ هذه نون التوكيد الثقيلة وهي عبارة عن نونين مع نون الرفع اجتمع عندنا ثلاث نونات، فحذفت نون الرفع دفعاً لتوالي ثلاث نونات، والعرب تكره توالي الأمثال. وتقول في إعرابه: لتبلونَّ فعل مضارع مرفوع ورفعه النون المحذوفة لدفع توالي الأمثال.
قال: [إِذَا يُجَرَّدُ مِنْ نَاصِبٍ وَجَازِمٍ] أي إذا يعرَّى من ناصب وجازم، فإذا لم يتقدم عليه ناصب أو جازم فهو مرفوع، والعامل فيه على الأصح عامل معنوي، وهو تجرده عن الناصب والجازم، نحو: يقوم زيد، يقوم فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم، لأن الفعل المعرَب إما أن يتقدم عليه جازم فيقتضي جزمه، وإما أن يتقدم عليه ناصب فيقتضي نصبه، وإما أن لا يتقدم عليه جازم ولا ناصب فيقتضي رفعه، وهذا هو العامل، وهو عامل معنوي لأنه لاحظ للسان فيه، وهذا هو الأصح وفيه أقوالٌ أخرى. [كَتَسْعَدُ] أي وذلك كتسعد، أي كقولك تسعد، أو مثل تسعد هند، أو تسعد أنت يا زيد، فتسعدُ: فعل مضارع مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم ورفعه ضمة ظاهرة على آخره.
الفعل المضارع له حالان: حال يعرب فيها وسبق بيانها، وحال يبنى فيها، وذلك إذا اتصل به نون الإناث، فيبنى حينئذ على السكون، كقوله تعالى:((وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ)[البقرة:233] يرضعن: فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون الإناث، ونون الإناث ضمير متصل مبني على الفتح في محل رفع فاعل، ولم يكن معرباً مع اتصاله بنون الإناث لأن المشابهة في باب الإعراب
وفي البناء وفي المنع من الصرف، مقيدة بأن لا يقترن بالفعل ما يبعده ويضعف شبهه بالمشبه به، لأن نون الإناث هذه تختص بالفعل، ولما أشبه الفعل المضارع الاسم فيما ذكرناه من وجه الشبه نقيده بما لم يتصل به ما هو من خصائص الأفعال، فإن اتصل به ما هو من خصائص الأفعال كنون الإناث - فإنها خاصة بالفعل - حينئذ نقول: ضعُف الشبه، فلما ضعف الشبه عاد إلى أصله وهو البناء. ويبنى على الفتح فيما إذا اتصل بالفعل المضارع نون التوكيد الثقيلة أو الخفيفة:((* كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ (4))) [الهمزة:4] لينبذن: فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد. إذاً الفعل المضارع له حالان: حال يبنى فيها: إما على السكون وذلك إذا اتصل به نون الإناث، وإما على الفتح وذلك إذا اتصل به نون التوكيد المباشرة، وحال يعرب فيها وإعرابه إما أن يكون بالنصب إذا تقدمه ناصب، أو بالجزم إذا تقدمه جازم، أو بالرفع إذا لم يتقدم عليه ناصب ولا جازم.
وإنما لم يذكر الناظم حالة البناء؛ لأنه لم يذكر البناء أصلاً، لأنه عنون للإعراب فقط، ومعلوم أن مبحث النحاة في البناء والإعراب، لأننا نبحث في الكلمات العربية من حيث الإعراب والبناء، أو تركه تبعًا للأصل، أو اختصارًا واكتفاءً، أو لأن البناء فيه نوع صعوبة على المبتدئ، أو لأن الأصل والأكثر الإعراب، والبناء قليل باعتبار الإعراب، وهو الذي تتبين به المعاني المختلفة، بخلاف البناء فإن أعرب يكون إعرابه محليًا، والإعراب المحلي لا يميز