الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ عَلَامَاتِ الجَزْمِ
أي هذا باب بيان علامات الجزم، وعلامات جمع علامة، وهو مضاف والجزم مضاف إليه، وعلى رأي الكوفيين الإضافة لامية، أي علامات للجزم، لأن العلامة غير الجزم عندهم، الجزم هو الإعراب وهو معنوي، والعلامة دليل الإعراب. وعلى رأي البصريين الإضافة بيانية، أي علاماتٌ هي الجزم، وفرق بين الإضافة البيانية والإضافة اللامية، فالإضافة البيانية ضابطها أن يصح جعل المضاف إليه خبراً عن المضاف، فيصح أن تقول: علامات هي الجزم، والإضافة اللامية تكون الإضافة على تقدير اللام، علامات للجزم.
وربَّع الناظم بالجزم لأنه النوع الرابع من أنواع الإعراب، وذكرنا أن الإعراب جنس تحته أنواع أربعة بالاستقراء والتتبع لكلام العرب وهي: الرفع والنصب والخفض والجزم، فالرفع والنصب يشترك فيه الاسم والفعل، وما كان مشتركا بين الاسم والفعل فحقه التقديم، ثم الخفض وهو مختص بالاسم قدمه على الجزم مع كون الجزم مختصاً بالفعل؛ لأن الجر متعلقه الاسم، وهو أشرف من الفعل، لأنه يكون مسنداً ومسنداً إليه، والفعل لا يكون إلا مسندا، فحينئذ صار الاسم لكونه يقع في طرفي الإسناد صار مرتفعاً على الفعل، إذاً ما اختص بالاسم وهو أشرف من الفعل
تقديمه أولى على ما اختص بالفعل، وعلة اختصاص الجر بالاسم دون العكس وهو أن يدخل على الفعل، واختصاص الجزم بالفعل دون دخوله على الاسم؛ لأن الاسم بسيط يعني مدلوله شيء واحد، لأن مدلول الاسم شيء واحد إما ذات كزيد، وإما معنى كعلم، فهو خفيف، والفعل ثقيل لأن مدلوله مركب من الحدث والزمن، والحركة التي هي الكسرة ثقيلة، والسكون الذي هو عدم الحركة خفيف، فطرداً لقاعدة التناسب والتعادل بين الأشياء = أُعطي الخفيفُ الثقيلَ فأعطي الاسم الذي هو خفيف الثقيل الذي هو الكسرة، وأعطي الثقيلُ الخفيفَ فأعطي الفعل الذي هو ثقيل الخفيف الذي هو الجزم وهو عدم الحركة. إذًا ربّع بباب علامات الجزم لأنه مختص بالأفعال، ورتبة الفعل متأخرة عن رتبة الاسم، أيضاً لا يوجد له مرتبة إلا التأخير فتعين حينئذ تأخيره.
[بَابُ عَلَامَاتِ الجَزْمِ] سيذكر أن للجزم علامتين وهما: السكون والحذف، علامتان لا ثالث لهما، وقد قال: باب علامات الجزم، وعلامات الجزم جمع، فلمَ جمع مع كون الجزم له علامتان فقط، وجوابه: أن الإضافة جنسية فحينئذ تبطل معنى الجمعية، وجوابٌ آخر: أنه من باب إطلاق الجمع على المثنى، فأقل الجمع ثلاثة، قال السيوطي في الكوكب الساطع:
وَفِي أَقَلِّ الجَمْعِ مَذْهَبَانِ
…
أَقْوَاهُمَا ثَلَاثَةٌ لَا اثْنَانِ
أقواهما ثلاثة لا اثنان، هذا هو الصحيح وهو مذهب الجمهور أن أقل الجمع ثلاثة، ومذهب مالك - عند المتأخرين- وإن نسب بعضهم إلى أن مالكًا يوافق الجمهور، قال في مراقي السعود:
أَقَلُّ مَعْنَى الجَمْعِ فِي المُشْتَهَرِ
…
الِاثْنَانِ فِي رَأْيِ الإمَامِ الحِمْيَرِي
فإذا قيل: أقل معنى الجمع اثنان، فعلامات هنا جمع، وأقله اثنان، فحينئذ لا إشكال في الترجمة مع قوله للجزم علامتان، أما إذا قلنا: أقل الجمع ثلاثة، فحينئذ يرد الإشكال أن الجزم له علامتان فكيف تقول: باب علامات الجزم؟ فإما أن تجعل الإضافة جنسية، فحينئذ تبطل معنى الجمعية، أي علامات الجزم الصادق بالواحد والاثنين فلا تعارض، وإما أن يقال: يتوسع في الجمع فيطلق على اثنين فصاعداً، فيكون إطلاق الجمع هنا على اثنين مجازاً وليس حقيقة.
[بَابُ عَلَامَاتِ الجَزْمِ] الجزم في اللغة: القطع، يقال: جزمت الحبل أي قطعته، وفي الاصطلاح: قطع الحركة أو الحرف من الفعل المستقبل. وإن شئت قل على مذهب الكوفيين: تغيير مخصوص علامته السكون وما ناب عنه، وعلى مذهب البصريين: نفس السكون وما ناب عنها، وهو الحذف، وعامل الجزم اثنان لفظيان لا ثالث لهما: الأول: الحرف، والثاني: الاسم على الأصح، فالحرف يجزم وذلك كلم نحو:((لَمْيَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3))) [الإخلاص:3]
لم يلد: لم حرف جزم ونفي وقلب، ويلد فعل مضارع مجزوم بلم، وهي حرف، وجزمه السكون الظاهر على آخره، ومثله ولم يولد، والاسم يجزم وذلك كأسماء الشرط:((وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2))) [الطلاق:2] من اسم شرط يجزم فعلين، ويتق فعل مضارع مجزوم بمن، وهي اسم، وجزمه حذف حرف العلة لأنه معتل الآخر. وقلنا: إن عامل الجزم هو الحرف والاسم على الصحيح؛ لأن بعضهم يرى أن الفعل قد يجزم، وهو في مثل هذا التركيب (ومن يتق الله يجعل) فيجعل فعل مضارع جواب الشرط مجزوم، هناك قول بأنه مجزوم بفعل الشرط، وهذا ضعيف، يعني العامل فيه يتق فحينئذ يتق هو مجزوم بمن وهو أيضاً عامل الجزم في يجعل، فحينئذ يكون الفعل جازماً ولكن هذا ليس بصحيح بل الصواب أن عوامل الجزم محصورة في اثنين لفظية الحرف والاسم، وأما الفعل فلا حظ له في الجزم، وأثبت بعضهم عاملا معنويا، وهو الطلب، فالطلب يكون جازماً وهذا قولٌ من قال به فلا إشكال فحينئذ يَثبت عامل معنوي، وذلك نحو:(قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ (151)) [الأنعام:151] أتل: فعل مضارع مجزوم، وجزمه حذف حرف العلة، وأصله أتلوا مثل أدعو، فحذف حرف العلة، وليس عندنا حرف، ولا اسم إذا جعلنا الجزم محصوراً في الحرف والاسم، فيرد السؤال (أتل) مجزوم ولا إشكال فأين عامله؟ قالوا: هذا واقع في جواب الطلب، (تعالوا) هذا أمر، وإذا وقع الفعل المضارع في جواب الطلب كالأمر أو النهي أو الدعاء -كما سيأتي- كان الطلب
عاملاً فيه الجزم، فحينئذ نقول: أتل فعل مضارع مجزوم لوقوعه في جواب الطلب، والجازم له هو الطلب وهو عامل معنوي، وهذا أثبته ابن هشام رحمه الله في شرح قطر الندى بأن الطلب يكون عاملاً الجزم فحينئذ لا إشكال في إثباته بخلاف القول بأن الفعل يجزم لقوة هذا القول، إذاً عامل الجزم اثنان لفظيان: الاسم والحرف، ولا بأس بزيادة عاملٍ معنوي وهو الطلب، وأما من لم يثبت الطلب في مثل:(قُلْ تَعَالَوْا) يقول: هو مجزوم بإن الشرطية مقدرة: ((قُلْتَعَالَوْا (((((()) تقديره: إن تأتوا أتل، إذاً وقع في جواب إن الشرطية، لكن يرد إشكال أن الحرف لا يعمل محذوفاً كحرف الجر، وإنما يعمل ملفوظاً به، ولهذا الإشكال نقول من زاد الطلب فلا بأس.
قال الناظم رحمه الله
إِنَّ السُّكَونَ يَا ذَوِي الأَذْهَانِ
…
وَالحَذْفَ لِلجَزْمِ عَلَامَتَانِ
[إِنَّ السُّكَونَ] يقال فيه ما قيل في قوله: [إِنَّ الكَلَامَ عِنْدَنَا فَلْتَسْتَمِعْ] لأن إن إنما يؤتى بها لتوكيد الكلام، وتوكيد الكلام إنما يكون لمن كان متردداً في الخبر أو شاكاً فيه أو منزلاً منزلة من هو متردد أو شاك في الخبر، أما خالي الذهن الذي هو لم يسبق له علم بالخبر فحينئذ لا نحتاج إلى توكيد الخبر وإلا صار في الكلام حشوٌ، والحشو هو الذي حذفه أولى من ذكره، ولذلك لا يدَّعى الحشو في أي كلام هكذا، وإنما يقال: حشو إذا ثبت بدليل بأن يكون خالف قاعدة واضحة بينة، وأما إذا لم يكن كذلك فحينئذ لا بد من الاعتذار، وهنا لما كان الكتاب للمبتدئ صعُب الاعتذار لأنه
مبتدئ ولا يعرف حد الكلام، هل هناك اضطراب عنده في الذهن في حد الكلام حتى يؤكد له الخبر، كذلك ليس عنده اضطراب في علامات الجزم، لو قيل في حد الكلام ثَمَّ اضطراب سابق على العلم بحده فقد يؤول، لكن علامة الجزم اثنتان لا ثالث لهما وهذا متفق عليه فأين الاضطراب؟! فلا اضطراب حينئذ ولا نحتاج إلى زيادة إنّ لأنها توكيد والتوكيد إنما يكون بمقتض ولا اقتضاء هنا. قوله:[إِنَّ السُّكَونَ] السكون مصدر سَكَنَ يَسْكُنُ سكوناً، وأما التسكين فهو مصدر سكَّن على وزن فعََّلَ؛ لأن فعَّل يأتي مصدره على التفعيل، والسكون مصدر سكن، وأل هنا للعهد الذهني أي السكون الذي عُهد عند النحاة، وهو ما كان مقتضى عامل الجزم، لأنه ليس كل سكون يكون علامة جزم، فنحو: جاء زيدْ، فهذا سكون لكنه سكون وقف، إذاً [إِنَّ السُّكَونَ] لا بد أن يكون مقيداً، وحينئذ تقييده يكون بالموقِّف وهو المدرس، فحينئذ تكون أل للعهد الذهني أي السكون الذي اقتضاه عامل الجزم، وأما السكون الذي اقتضاه الوقف مثلاً فهذا ليس داخلاً هنا، فلا يشمله قوله:[إِنَّ السُّكَونَ] لأن نحو قولك: زيد يقومْ لو قلنا: كل سكون علامة للجزم، معناه أن الفعل هنا مجزوم، فحينئذ يقومْ صار الفعل مجزوماً وليس كذلك بل هو فعل مضارع مرفوع ورفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بسكون الوقف. [إِنَّ السُّكَونَ] أي مسمى السكون، وليس لفظ السكون هو الذي يكون علامة للجزم. وقدمه لأنه علامة أصلية، السكون لغة: ضد الحركة،
واصطلاحاً: حذف الحركة. ولذلك يتساهل بعضهم فيقول: إن الحركات أربعة أنواع: الضمة والفتحة والكسرة والسكون، نقول: السكون هو عدم الحركة وحذف الحركة، فكيف عُبر عنه بأنه حركة؟! نقول: هذا من باب التوسع فقط في الألفاظ، وإلا السكون ليس بحركة، والحركات ثلاثة فقط، وليست بأربعة، وهي الضمة والفتحة والكسرة، وما عداها لا يقال إنه حركة. [يَا ذَوِي الأَذْهَانِ] هذه جملة معترضة، يا حرف ندا، وذوي منادى منصوب وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة لأنه ملحقٌ بجمع المذكر السالم، والياء التي هي علامة النصب محذوفة للتخلص من التقاء الساكنين، إذاً الإعراب بالياء هنا إعراب مقدر، وليس ظاهراً؛ لأن الإعراب التقديري يكون في الحركات، ويكون في الحروف، وليس مختصاً بالحركات. وذوي مضاف والأذهان مضاف إليه، والأذهان جمع ذهن، وهو قوة النفس المستعدة لاكتساب العلوم والآراء.
[وَالحَذْفَ] معطوف على السكون، والحذف لغة: الإسقاط والقطع، واصطلاحاً: سقوط حرف العلة أو النون للجازم، لا بد أن يكون السقوط هنا لا للتخلص من التقاء الساكنين، ولا لكراهة توالي الأمثال؛ لأن حرف العلة في الفعل المضارع قد يسقط للتخلص من التقاء الساكنين نحو قوله تعالى:((* سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18))) [العلق:18] سندعوا بالواو، وهو فعل مضارع مرفوع، ورفعه ضمة مقدرة على آخره وهو الواو المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين، تحذف في النطق وحذفت في القرآن خطاً، والرسم
العثماني سنة متبعة. فحذف الواو هنا ليس دليلاً على أن الفعل مجزوم، لأنه لا يلزم من حذف حرف العلة أن يكون دائماً مجزوماً بل قد يكون حذف حرف العلة للجازم وهو المراد هنا، وقد يكون لأمر آخر كالتخلص من التقاء الساكنين، كذلك حذف النون قد يكون لكراهة توالي الأمثال نحو: لتبلون هذا فعل مضارع مرفوع ورفعه ثبوت النون المحذوفة لكراهة توالي الأمثال، اتصلت به نون التوكيد ولم يُبن؛ لأنه لا بد أن تكون نون التوكيد مباشرة، وهذه ليست مباشرة لفصلها بالواو، ولذلك قيده ابن مالك بالمباشرة:
.............
…
وَأَعْرَبُوا مُضَارِعًا إِنْ عَرِيَا
مِنْ نُوْنِ تَوْكِيدٍ مُبَاشِرٍ
…
.......................
أما إذا لم تكن مباشرة فلا يبنى الفعل المضارع معها، فحذفت النون - نون الرفع- من لتبلون، والحذف لا للجازم، لأنه لا يلزم من حذف النون أن يكون دائماً للجازم بل قد يكون للجازم وقد يكون لغيره.
[إِنَّ السُّكَونَ] إن حرف توكيد ونصب، والسكون اسمها، والحذف معطوف على المنصوب، والمعطوف على المنصوب منصوب، و [لِلجَزْمِ عَلَامَتَانِ] للجزم جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم، وعلامتان مبتدأ مؤخر مرفوع بالألف لأنه مثنى، والجملة من المبتدأ المؤخر والخبر المقدم في محل رفع خبر إنّ.
فَاجْزِمْ بِتَسْكِينٍ مُضَارِعًا أَتَى صَحِيحَ الآخِرِ كَلَمْ يَقُمْ فَتَى
[فَاجْزِمْ] الفاء فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، وفصيحة فعيلة بمعنى مُفْعِلة أي بمعنى اسم الفاعل، مأخوذة من الإفصاح وهو البيان والإيضاح والإظهار؛ لأنه لما ذكر لك أن علامتي الجزم السكون والحذف كأنّ سائلاً قال له: فأين مواضع هاتين العلامتين؟ أو أنه قدّر هو سائلا كأنه قال: إذا أردت معرفة محل هاتين العلامتين فأقول لك اجزم، [فَاجْزِمْ] أيها النحوي، وهذا أمر والأمر يقتضي الوجوب، [فَاجْزِمْ بِتَسْكِينٍ] قال في الأول: إن السكون، ثم قال هنا: بتسكين، وهذا مصدر، وهل المراد المصدر أو أثر المصدر؟ أولاً: المصدر هو فعل الفاعل، يعبر عنه بأنه المعنى المصدري كالتكلم، والتكلم هو فعل الفاعل لإظهار الكلام، هذا هو المعنى المصدري، والكلام هو اللفظ، فالكلام الذي تسمعه هو أثر التكلم، وضبط هذا أن يقال الكلام يُدرك بالسمع، ولا يدرك بالبصر، وأنت ترى الإنسان يتحرك فمه لسانه وشفتيه لإخراج الحروف من مخارجها، وتأليف وتركيب الكلمات فالذي تراه بعينك ليس بكلام، وإنما هو تكلم، لأن الكلام لا يُدرك بالبصر، ولو كان الكلام يدرك بالبصر فما احتجنا أن نقول: الكلام هو اللفظ
…
واللفظ هو الصوت
…
والصوت يدرك بالسمع لا بالبصر، فحينئذ نقول: فرق بين التكلم والكلام، وكذلك التلفظ واللفظ، والتسكين والسكون، فالتسكين هو فعل الفاعل كونك لا تحرك الحرف الأخير فينتج عنه السكون، وهذا فعل الفاعل، وأثره السكون، فحينئذ [فَاجْزِمْ بِتَسْكِينٍ] أي بسكون، والتسكين هذا مصدر فحينئذ نقول:
قد ارتكب مجازاً مرسلا لأن عندهم إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول أو أثره مجاز مرسل، كقوله تعالى:((هَذَاخَلْقُ اللَّهِ (11))) [لقمان:11] أي مخلوقات الله، فحينئذ أطلق المصدر وأريد به اسم المفعول، وقد يطلق المصدر ويراد به أثره، وكلاهما مجاز مرسل. [مُضَارِعًا] أي فعلاً مضارعاً، فخص الفعل المضارع هنا بكونه يجزم؛ لأنه لا جزم إلا للفعل المضارع، لأن الجزم إعراب، والمعرب من الأفعال هو الفعل المضارع، وأما الفعل الماضي فمبني باتفاق، وفعل الأمر مبني على الراجح وهو مذهب البصريين، فحينئذ الذي يكون محلاًّ لظهور الجزم وهو إعراب هو الفعل المضارع فلذلك خصه هنا [فَاجْزِمْ بِتَسْكِينٍ مُضَارِعًا] أي فعلا مضارعا، سمي مضارعًا لأنه ضارع الاسم كما سيأتي، والمضارعة هي المشابهة، [مُضَارِعًا أَتَى] أتى فعل ماضٍ، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو يعود على مضارعاً، والجملة من الفعل والفاعل في محل نصب صفة لمضارعاً، [أَتَى صَحِيحَ الآخِرِ] صَحِيحَ منصوب على أنه حال من فاعل أتى، أي حالة كون الفعل المضارع صحيح الآخر، والحال قيد لعاملها وصف لصاحبها، فلها مفهوم وهو مفهوم المخالفة عند الأصوليين، فحينئذ إذا لم يكن صحيح الآخر فلا تجزمه بتسكين، أي بالسكون وإنما تجزمه بما سيأتي ذكره.
[صَحِيحَ الآخِرِ] صحيح فعيل صفة مشبهة، وهو لغة: السليم ضد المريض، وفي الاصطلاح يختلف حد الصحيح عند النحاة عنه عند الصرفيين، والأصل في الصحة والإعلال أنهما من مباحث
الصرفيين، والصحيح عند النحاة: ما ليست لامه واواً ولا ألفاً ولا ياءًا، يعني ما لم تكن لامه حرفاً من حروف العلة، أما الفاء والعين فلا نظر للنحوي فيها، فحينئذ يحكم بصحة الفعل ولو كانت فاؤه حرف علة، أو كانت عينه حرف علة، وإنما النظر يكون في اللام فقط، وحروف العلة ثلاثة، قال الحريري:
وَالوَاوُ وَاليَاءُ جَمِيعًا وَالأَلِفْ
…
هُنَّ حُرُوفُ الاِعْتِلَالِ المُكْتَنِفْ
فإن وقعت الواو مثلا لاماً للفعل سمي معتلا لا صحيحاً، فإن سلمت لامه من الواو والألف والياء سمي صحيحاً لا معتلاً، كيخشى، ويدعو، ويرمي، فهذه لاماتها حروف علة فليست صحيحة. ويضرب، ويعد، ويقوم هذه صحيحة لسلامة لامها من حروف العلة. والمعتل عندهم ما كانت لامه حرفاً من حروف العلة الثلاثة، إذاً الصحة والاعتلال عند النحاة باعتبار حرف واحد وهو اللام إن كانت اللام حرفاً من حروف العلة فحينئذ حكمنا عليه بأنه معتل، وإذا سلمت اللام من حروف العلة حكمنا عليه بأنه صحيح. وأما عند الصرفيين فيعممون الحكم، لأن نظرهم إلى الأوائل والأواسط والأواخر، فإذا سلمت فاء الفعل، وعينه، ولامه من حروف العلة فهو صحيح كيضرب، وإذا كانت فاؤه أو عينه أو لامه حرفًا من حروف العلة فهو معتل، قال النيساري في نظم الشافية:
مُعْتَلُّهُمْ مَا فِيهِ حَرْفُ عِلَّهْ
…
صَحِيحُهُمْ خِلَافُهُ مَحِلَّهْ
معتلهم أي الصرفيين: ما فيه حرف علة سواء كانت في مقابلة الفاء أو العين أو اللام، صحيحهم خلافه محله يعني ما سلمت فاؤه وعينه ولامه من حروف العلة.
فالفعل وَعَدَ هل هو صحيح أو معتل؟ هذا فيه تفصيل: أما عند الصرفيين فهو معتل لأن فاءه واو، وعند النحاة صحيح لأن لامه دال وليست من حروف العلة، والفعل قال عند الصرفيين معتل لأن عينه ألف منقلبة عن واو، وعند النحاة صحيح لأن لامه حرف صحيح، ويخشى ويدعو ويرمي معتلة عند الجميع، اتفقت كلمة الصرفيين والنحاة هنا، فكلُّ معتلٍ عند النحاة فهو معتلٌّ عند الصرفيين من غير عكس. إذا عرفنا أنّ الصحيح عند النحاة والمعتل هو باعتبار الآخر، فلا نظر لهم للأوائل ولا للأواسط، فحينئذٍ لماذا يقيدونه فيقولون: معتل الآخر، وصحيح الآخر؟ إذا كان الصحيح عند النحاة متعلقه الحرف الأخير فقط، ولا نظر لهم للفاء ولا للعين، فإذا عبروا عن الصحيح قيدوه قالوا: صحيح الآخر، جوابه: أن القيد هنا لبيان الواقع لا للاحتراز، لأن الصحيح عند النحاة لا يختص إلا بالآخر، فمبحث النحاة آخر الكلمة، ولا يبحثون عن الأوائل ولا الأواسط فإذا أُطلق الصحيح عندهم مرادهم به ما سلمت لامه من أحرف العلة وهو آخر، فحينئذ إذا قيل: صحيح الآخر نقول القيد ليس للاحتراز، وإنما هو لبيان الواقع، وكذلك إذا قيل: معتل الآخر نقول المعتل عندهم لا يختص إلا بما كانت لامه حرفاً من حروف العلة، فحينئذ تقييدهم معتل الآخر لا للاحتراز
وإنما هو لبيان الواقع. [صَحِيحَ الآخِرِ] الآخر: صفة لموصوف محذوف أي صحيح الحرف الآخر، [كَلَمْ يَقُمْ فَتَى] قيود النحاة دائماً في الأمثلة، فإذا لهم شروط وقيود قد لا يستطيعون أن ينصوا عليها وإنما يُذكر مثال مشتمل على هذا القيد أو القيود، فمثال الناظم: كلم يقم، هولم يقل إذا دخل عليه جازم، وإنما قال:
فَاجْزِمْ بِتَسْكِينٍ مُضَارِعًا أَتَى
…
صَحِيحَ الآخِرِ
…
لكن ما كان صحيح الآخر فجزمه بتسكين مطلقا نقول: لا، بل مقيَّد بما إذا دخل عليه جازم بدليل المثال، وقد يقال: إن هذا القيد معلوم من الباب أي من الترجمة لأن بحثنا في علامات الجزم، ومعلوم أن الجزم إنما يختص بالفعل المضارع، وذكرنا أن عوامل الجزم اثنان، إذاً لو ترك القيد هنا حينئذ يؤخذ من الترجمة، قال:[كَلَمْ يَقُمْ فَتَى] إذاً فعل مضارع صحيح الآخر دخل عليه حرف جزم وهو لم فجُزم بتسكين آخره، وإعرابه: لم: حرف جزم ونفي وقلب، حرف جزم لأنها تجزم الفعل المضارع وتختص به، ونفي لأنها تنفي وقوع الحدث، وقلب لأنها تقلب زمن المضارع من الحال إلى المضي، لم يقم في الماضي، فحينئذلم يقم هذا مدلوله نفي الحدث في الزمن الماضي، ويقم: فعل مضارع مجزوم بلم، وجزمه سكون آخره لأنه صحيح الآخر، كلم يقم: أصلها كلم يقومْ التقى ساكنان الواو والميم، ولا يمكن تحريك الأول، فحذف الساكن الأول، وذلك بعد تحقق الشرطين: كونه حرف علة، ووجود دليل يدل عليه من جنسه، وهو الضمة، هنا يقُم القاف مضمومة فهي دليل على أن ثم
حرفاً محذوفًا وهو الواو، وفتى: فاعل مرفوع ورفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها التعذر، وفتًى الألف محذوفة للتخلص من التقاء الساكنين وهذا في الوصل، وعند الوقف نقول: فتى هذه الألف هل هي الألف المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين، أو الألف التي تكون بدلا عن التنوين في الوقف؟ لأنه إذا حذف التنوين يعود الحرف الذي حذف لأجله، إذا قيل لم يقم فتىً بالتنوين نقول فتى هنا الألف محذوفة للتخلص من التقاء الساكنين، ولذلك تُكتب الفتحتان على التاء فتىً لأن الألف هذه محذوفة، فحينئذ تقول فتىً فاعل مرفوع ورفعه ضمة مقدرة على الألف المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين، لكن لو حذف التنوين رجعت الألف في الوقف، قال بعضهم هذه الألف ليست الألف المحذوفة للتخلص من التقاء الساكنين بل هي الألف المنقلبة عن التنوين، لكن هذا ليس بصحيح لأن الألف تكون منقلبة عن التنوين في حالة النصب فقط، وأما في حالة الرفع كالذي معنا فحينئذ تكون هذه الألف هي المحذوفة، قال في الملحة:
وَقِفْ عَلَى المَنْصُوبِ مِنْهُ بِالأَلِفْ كَمِثْلِ مَا تَكْتُبُهُ لَا يَخْتَلِفْ
تَقُولُ عَمْرٌو قَدْ أَضَافَ زَيدَا
…
وَخَالِدٌ صَادَ الغَدَاةَ صَيدَا
تقول: عمرو قد أضاف زيدا، زيداً مفعول به فإذا وقفت عليه حينئذ تقف عليه بالألف، كمثل ما تكتبه لا يختلف لأنك تكتب ألفًا في آخره، رأيت زيدا تقف عليه بالألف هذه الألف بدل عن التنوين، وهذا في لغة جمهور العرب بخلاف لغة ربيعة فإنها تُسوِّي
بين الرفع والجر والنصب، فيقال: جاء زيدْ، ومررت بزيدْ، واتفق العرب على هاتين الحالتين أنه يوقف بالسكون على المرفوع والمخفوض، أما رأيت زيدا فالجمهور على قلب التنوين ألفاً، والحجة السماع والنقل، ولغة ربيعة تلحق المنصوب بالمرفوع والمخفوض، فيقال: رأيت زيدْ في الوقف عليه بالسكون، ويختلف الإعراب فرأيت زيداً يكون مفعولاً به منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره، ورأيت زيدْ يكون مفعولاً به منصوب ونصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بسكون الوقف، هذه العلامة الأولى للجزم وهي السكون ومحله أنه يكون في الفعل المضارع صحيح الآخر. ثم قال في بيان العلامة الثانية للجزم:
واجْزِمْ بِحََذْفٍ مَا اكْتَسَى اعْتِلَالَا
…
آخِرُهُ وَالخَمْسَةَ الأَفْعَالَا
[واجْزِمْ] أيها النحوي [بِحََذْفٍ] أي بحذف نون، أو بحذف حرف علة، فالحذف هنا يكون شاملاً للنوعين؛ لأن الفعل المضارع المعرب إما أن يكون صحيح الآخر، وإما أن يكون معتل الآخر، وإما أن يكون من الأمثلة الخمسة، فإن كان صحيح الآخر قال: فاجزم بتسكينٍ صحيح الآخر، وإن كان معتل الآخر أو من الأمثلة الخمسة فحينئذٍ جزمه بحذف حرف العلة في المعتل الآخر، وبحذف النون في الأمثلة الخمسة، فذكر النوعين تحت قوله:[واجْزِمْ بِحََذْفٍ] التنوين نائب عن المضاف إليه، والتقدير واجزم بحذفِ نونٍ وحرف اعتلال، [مَا] أي فعلاً مضارعاً، [اكْتَسَى اعْتِلَالَا] اكتسى افتعل،
يقال: كسوتُه ثوباً كِسوة بالكسر فاكتسى، والكِساء واحد الأكسية، وتكسَّى بالكساء لبسه، وكسِيَ العُريان أي اكتسى. كأنه شبَّه الفعل المضارع بمن يلبس الرداء فكأنه قد ارتدى ولبس واكتسى حرف العلة، [اعْتِلَالَا] اعتَلَّ أي مرض فهو عليل، والمراد هنا أنه قد وجدت في لامه حرف من حروف العلة، [آخِرُهُ] فاعل اكتسى، أي إذا كان فعلاً مضارعاً معتل الآخر إما أن يكون مختوماً بالواو أو بالياء أو بالألف، فحينئذ يكون جزمه بحذف حرف العلة، نحو: لم يدع، ولم يخش، ولم يرم، فيدعو: فعل مضارع لامه واو، وهو حرف من حروف العلة، إذا سُلط عليه جازم حينئذ يجزم الفعل لدخول الجازم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة فيقال: لم يدعُ والضمة دليل على المحذوف، كذلك لم يخشَ لم حرف جزم، ويخش فعل مضارع مجزوم بلم وجزمه حذف الألف والفتحة دليل عليها، ولم يرم فعل مضارع مجزوم بلم وجزمه حذف حرف العلة وهو الياء والكسرة دليل عليها. هذا في الفعل المضارع معتل الآخر. ثم قال:[وَالخَمْسَةَ الأَفْعَالَا] الألف للإطلاق، أي واجزم بحذف ما أي فعلا مضارعاً، والخمسة معطوف على ما، وهي اسم موصول في محل نصب مفعول به، والمعطوف على المنصوب منصوب، [وَالخَمْسَةَ الأَفْعَالَا] والخمسة أل للعهد الذكري أي الأفعال الخمسة ففيه تقديم وتأخير، والمراد الأفعال الخمسة التي ترفع بثبوت النون، إذاً الأمثلة الخمسة تجزم بحذف النون، والناظم لم يبين هنا لكن قدرناه عند قوله: واجزم بحذفٍ أي حرف العلة، وحذف النون، فبين
الأول بقوله: [مَا اكْتَسَى اعْتِلَالَا آخِرُهُ] فهذا تبيين لبعض الحذف، وبين الثاني بقوله:[وَالخَمْسَةَ الأَفْعَالَا] وهذا تبيين للحذف الآخر، لأن الحذف حذف حرف أو حذف حركة، ولذلك بعضهم يقول: علامة الجزم واحدة وهي الحذف، ثم الحذف نوعان: حذف حركة وهو السكون، وحذف حرف، وهو نوعان: حذف حرف علة، وحذف النون.
[وَالخَمْسَةَ الأَفْعَالَا] أي واجزم بحذف النون في الأمثلة الخمسة، وهي كل فعل مضارع اتصل به ألف الاثنين أو واو الجماعة أو ياء المؤنثة المخاطبة، وذلك كقوله تعالى:((فَإِنْلَمْ تَفْعَلُوا (24))) [البقرة:24] تفعلوا أصله تفعلون من الأمثلة الخمسة فعل مضارع أُسند إلى واو الجماعة، فحينئذ يكون رفعه بثبوت النون وجزمه بحذف النون، فَإِنْلَمْ تَفْعَلُوا تفعلوا فعل مضارع مجزوم بلم وجزمه حذف النون نيابة عن السكون لأنه من الأمثلة الخمسة التي رفعها بثبات النون وجزمها ونصبها بحذف النون، والواو ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل، لأن الأصل السكون، وهو علامة أصلية، ولذلك قدمه ثم ثنى بالحذف لأنه علامة فرعية.
وبهذا الباب تكمل علامات أنواع الإعراب كلها، فيكون قد ذكر أربع علامات أصلية، وعشر علامات نائبة، والمجموع أربع عشرة علامة، أربعة أصلية وهي الضمة والفتحة والكسرة والسكون، وما عدا ذلك فهي فروع.