المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌بَابُ الاِسْتِثْنَاءِ أي من المنصوبات المستثنى، ولكن ليس مطلقا، ليس كل - فتح رب البرية في شرح نظم الآجرومية

[أحمد بن عمر الحازمي]

فهرس الكتاب

- ‌بَابُ الكَلَامِ

- ‌بَابُ الإِعْرَابِ

- ‌بَابُ عَلَامَاتِ الرَّفْعِ

- ‌بَابُ عَلَامَاتِ النَّصْبِ

- ‌بَابُ عَلَامَاتِ الخَفْضِ

- ‌بَابُ عَلَامَاتِ الجَزْمِ

- ‌بَابُ قِسْمَةِ الأَفْعَالِ وَأَحْكَامِهَا

- ‌ باب نواصب المضارع

- ‌بَابُ جَوَازِمِ المُضَارِعِ

- ‌المَرْفُوعَاتُ مِنَ الأَسْمَاءِ

- ‌بَابُ الفاعِلِ

- ‌باب النائب عن الفاعل

- ‌بَابُ المُبْتَدَا وَالخَبَرِ

- ‌بَابُ كَانَ وَأَخَوَاتِهَا

- ‌بَابَ إِنَّ وَأَخَوَاتِهَا

- ‌بَابُ ظَنَّ وَأَخَوَاتِهَا

- ‌التَّوَابِعُ

- ‌بَابُ النَّعْتِ

- ‌المَعْرِفَةُ وَالنَّكِرَةُ

- ‌بَابُ العَطْفِ

- ‌بَابُ التَّوكِيدِ

- ‌بَابُ البَدَلِ

- ‌المَنْصُوبَاتُ مِنَ الأَسْمَاءِ

- ‌بَابُ المَفْعُولِ بِهِ

- ‌بَابُ المَفْعُولِ المُطْلَقِ

- ‌بَابُ الظَّرْفِ

- ‌بَابُ الحَالِ

- ‌بَابُ التَّمْيِيزِ

- ‌بَابُ الاِسْتِثْنَاءِ

- ‌بَابُ لَا

- ‌بَابُ المُنَادَى

- ‌بَابُ المَفْعُولِ لأَجْلِهِ

- ‌بَابُ المَفْعُولِ مَعَهُ

- ‌المَخْفُوضَاتُ مِنَ الأَسْمَاءِ

- ‌بَابُ الإِضَافَةِ

- ‌خَاتِمَةٌ

الفصل: ‌ ‌بَابُ الاِسْتِثْنَاءِ أي من المنصوبات المستثنى، ولكن ليس مطلقا، ليس كل

‌بَابُ الاِسْتِثْنَاءِ

أي من المنصوبات المستثنى، ولكن ليس مطلقا، ليس كل مستثنىً يكون منصوبا، وإنما المستثنى يُنصب في بعض أحواله، إما وجوبًا وإما جوازًا، وقد يكون المستثنى مخفوضاً. والاستثناء استفعال من الثني، والسين والتاء زائدتان، وهو مصدر، كاستغفر يستغفر استغفاراً، واستثنى يَستثني استثناءًا، واستخرج يستخرج استخراجا، وإذا أُطلق المصدر هنا في مثل هذا الموضع فالمراد به اللفظ، ولا يمكن حمله على الاستثناء الذي هو المعنى المصدري لأنه معنىً من المعاني، والمعنى لا يُنصب، فالذي يرفع هو المبتدأ وليس الابتداء، والذي يُنصب هو المميِّز وليس التمييز، والذي يُنصب هو المستثنى وليس الاستثناء، لأن الاستثناء معنى من المعاني، والمعاني هذه غير قابلة للحركة.

إذاً الاستثناء مصدر لكنه من باب إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول، لأن عندنا استثناءًا، ومستثنِي، ومستثنَى. فالاستثناء: هو الإخراج على المشهور، وفيه نظركما سيأتي، والمستثنِي: هو فاعلُ الاستثناءِ، فالمتكلم هو الفاعل، والمستثنَى هو الواقع بعد إلا ونحوها من أدوات الاستثناء، إذاً المراد بالاستثناء هنا المستثنَى لأن الكلام في المنصوبات، والمنصوب هو المستثنى لا الاستثناء. قلنا: الاستثناء في اللغة مأخوذ من الثني، وهو العطف من قوله: ثنيتُ

ص: 553

الحبلَ أثنيه إذا عطفت بعضه على بعض. وقيل: إنَّ الثني هو الصرف يقال: ثنيته عن الشئ إذا صرفته عنه. وإن كان المشهور عند كثير من النحاة والأصوليين أن الاستثناء معناه لغة الإخراج، وهذا فيه نظر، بل الاستثناء لغة مأخوذ من الثني، وهو العطف من قولك: ثنيتُ الحبلَ أثنيه إذا عطفت بعضه على بعض، وقيل: إن الثني المراد به هنا الصرف، تقول: ثنيت زيداً عن كذا إذا صرفته عنه. وإن كان المشهور أنَّ معناه في اللغة هو الإخراج.

وأما في الاصطلاح فحدَّه كثير من النحاة وتبعهم كثير من الأصوليين بأنه الإخراج بإلا أو إحدى أخواتها ما لولاه لدخل في الكلام السابق. قوله: إخراجٌ بإلَاّ أو إحدى أخواتها، يعني أن الاستثناء له أدوات، وباستقراء كلام العرب له أدوات ثمانية يأتي ذكرها، وهذه الأدوات فائدتها ما لولاه أي لولا هذا الاستثناء ولولا هذه الأداة لدخل ما بعد إلَاّ فيما قبلها، فإذا قيل: قام القوم إلا زيداً، فقام فعل ماض، والقوم فاعل، وإلَاّ حرف استثناء، وزيداً مستثنى، لولا الاستثناء بإلا أي لولا مجيء إلا في هذا التركيب لدخل زيد في القوم، فلو حُذِفَتْ إلا، لكان حُكْمُ زيدٍ أنه داخل في القوم وثبت له القيام، فأُخرِجَ زيدٌ من المستثنى منه وهو القوم بإلا، فقيل: إلا زيداً، لولا إلا لدخل ما بعد إلا فيما قبلها، هذا حقيقة الاستثناء عند كثير من الأصوليين. والأصح أن يقال: الاستثناء قولٌ مُتَّصِلٌ يدُّلُ بإلا أو إحدى أخواتها على أنَّ المذكور معه غيرُ مرادٍ بالقول الأول. وهذا فيه فرار من القول بأنَّ الاستثناء لا بُدَّ وأن يكون فيه إخراج، لأننا لو قلنا بالإخراج لوقع نوعُ

ص: 554

تناقضٍ في الجملة، فإذا قيل: قام القوم إلا زيداً، على القول بالإخراج معناه أن زيداً حُكِمَ عليه أوَّلا بالقيام ثم بعد ذلك أُخرج فَحُكِم عليه بنقيض ما حُكِم على المستثنى منه، وهذا تناقض كأنه قال: قام زيد، زيد لم يقم، وهذا يلزم على القول بأن الاستثناء إخراج من المستثنى منه بإلا، يلزم عليه الحكم على المستثنى أوَّلاً بما حُكم به على المستثنى منه ثم بعد ذلك أُثبت للمستثنى نقيضُ الحكمِ الأوَّل، لأنَّ الاستثناء من النفي إثبات، ومن الإثبات نفي، فإذا قلت: قام القوم إلا زيدا، حكمت على زيد بنفي القيام عنه، وهو نقيض القيام المحكوم به على المستثنى منه، فحكمت أولاً بالقيام ثم حكمت بعد ذلك بنفي القيام، فإذا قيل: زيد داخل فيما سبق وهو المستثنى منه، حينئذٍ حكمت على زيد أوَّلا بالقيام ثم بعد ذلك حكمت بإخراجه من الحكم السابق وإثبات نقيضه له، وهذا تناقض، ولذلك ذهب بعض الأصوليين وبعضٌ من أهل اللغة إلى أن تعريف الاستثناء بالإخراج تعريف باطل، وقد نصَّ ابن القيم رحمه الله في البدائع على هذا فقال: مذهب سيبويه والمحققين من البصريين أن المستثنَى مُخْرَجٌ من المستثنى منه وحكمِه، يعني لم يدخل أصلاً في المستثنى منه، وهذا هو الصحيح عند سيبويه وجمهور البصريين، وإن شاع عند كثير من المتأخرين تعريف الاستثناء بأنه إخراج. وحينئذٍ المراد بقولهم: قول متصل الاستثناء بإلا، يدل هذا الاستثناء على أن المذكور معه - الذي هو المستثنى ما بعد إلا - غيرُ مرادٍ بالقول الأول، فإذا قيل: قام القوم إلا زيداً، نقول: إلا زيداً

ص: 555

هذا قرينة صارفة عن إرادة زيد بالحكم الأول وليس هو داخلاً حتى يحتاج إلى إخراج.

والفرق بين القولين: أن قولك: قام القوم إلا زيداً، زيداً دَخَلَ أوَّلاً ثم أخرجتَه، وهذا تناقضٌ، وبين أن تقول: إلا زيداً قرينة صارفة عن إرادة زيد بالقول الأول، إذاً لم يدخل أصلاً، فحينئذٍ لم يُنزَّل عليه الحكم.

ولذلك ألزم ابن القيم رحمه الله وغيره من الأصوليين أنَّ من قال بأن الاستثناء إخراج بقوله: لا إله إلا الله، إلزاماً لا محيص عنه، لو قيل: المستثنى وهو لفظ الجلالة دخل أوَّلاً في المستثنى منه، ثم أُخرج حينئذٍ قد نفيت الألوهية عن الله عز وجل، فلم تكن هذه الكلمة كلمة التوحيد! فصار تناقضٌ ينفيها بلا إله ثم يُثبت الألوهية لله عز وجل.

فإذا قيل: المستثنى الذي هو بعد إلا (الله) كان داخلاً في المستثنى منه وحكمِه حينئذٍ نُفيت عنه الألوهية وهذا كفر، ثم إلا الله هذا إثبات فكيف يجتمعان؟!

الاستثناء له أدوات، ولا نقول: حروف الاستثناء، لأن منها ما هو اسم، ومنها ما هو حرف، ومنها ما هو فعل، فالأداة تعم وليست خاصة بالحروف، وأدوات الاستثناء بمعنى الأدوات الدالة على الاستثناء.

ص: 556

إِلَاّ وَغَيرُ وَسِوَى سُوَىً سَوَا

خَلَا عَدَا وَحَاشَا الاِسْتِثْنَا حَوَى

أي الاستثناء حوى إلا وغير وسوى وخلا وعدا وحاشا، هذه ستة ذكرها الناظم، وبقي عليه اثنان وهما ليس ولا يكون.

هذه الأدوات الدالة على الاستثناء من حيث الحرفية والاسمية والفعلية على أربعة أقسام:

الأول: حرفان وهما إلَاّ عند الجميع، وحاشا عند سيبويه.

الثاني: فِعْلانِ وهما ليس على الأرجح، ولا يكون باتِّفاق.

الثالث: مُترددان بين الحرفية والفعلية يعني تارةً يكون حرفا، وتارة يكون فعلاً، وهي ثلاثة خلا عند الجميع، وعدا عند غير سيبويه، وحاشا عند سيبويهِ حرفٌ، وعند غيره مترددة بين الحرفية والفعلية.

الرابع: اسمان وهما غير وسوى بلغاتها.

[إِلَاّ وَغَيرُ وَسِوَى] و [سُوَىً] و [سَوَا] ء هذه ثلاث لغات، سِوى كرِضَا بكسر السين، وهذه اللغة الفصحى، ولذا بدأ بها، ثم سُوى كهُدَى، ثم سَواء بالمد وفتح السين كسَمَاء ثم سِواء بالمد وكسر السين كبِناء، هذه أربع لغات لسِوَى. [خَلَا عَدَا] أي وخلا وعدا، على إسقاط حرف العطف، [وَحَاشَا] ويقال فيها حَاشَ بحذف الألف الأخيرة مع فتح الشين، وحَشَا بحذف الألف الأولى، وحاشْ بحذف الألف الثانية مع إسكان الشين، ففيها أربع لغات.

ص: 557

[الاِسْتِثْنَا حَوَى] حوى على الشيء واستولى عليه، يعني الاستثناء حوى وجَمَع هذه الأدوات، والمراد به مطلق الاستثناء لأن هذه لا تجتمع في تركيب واحد، وإنما الاستثناء لا بد أن يكون جامعاً لهذه الأدوات بمجموعها لا جميعها.

إِذَا الكَلَامُ تَمَّ وَهْوَ مُوجَبُ

فَمَا أَتَى مِنْ بَعْدِ إِلَاّ يُنْصَبُ

بدأ بالاستثناء بإلا، ولذلك قدمها الناظم عند ذكر الأدوات، لأن إلَاّ أمُّ الباب يَثبُت لها من الأحوال ما لا يثبت لغيرها، فغير وسوى المستثنى بها يكون مجروراً، وليس ولا يكون الأصل فيها أنها من النواسخ، والاستثناء بها من جهة المعنى، ولذلك لا يُعرَب لفظاً أنه مستثنى، بخلاف إلا فإنها لا تكون إلا حرف استثناء، وقد تأتي بمعنى غير لكنه على قلة كقوله تعالى:(لَوْكَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا (22)) [الأنبياء:22] فإلا هنا بمعنى غير أي غيرُ اللهِ لفسدتا لكنَّ الفساد مُنتفٍ فانتفى تعدد الآلهة.

والمستثنى بإلَاّ يعني القول المذكور بعد إلَاّ قرينة على أنه غير داخل في المستثنى منه له ثلاث حالات:

الحال الأولى: وجوب نصبه أي المستثنى.

الحال الثانية: جواز نصبه راجحاً أو مرجوحاً.

الحال الثالثة: أن يكون بحسب العوامل الداخلة عليه.

ص: 558

شرع الناظم هنا في بيان الحالة الأولى وهي وجوب النصب، ولذلك يُترجَمُ لها متى يجب نصب المستثنى بإلا؟ حينئذٍ يأتي جواب الناظم:

إِذَا الكَلَامُ تَمَّ وَهْوَ مُوجَبُ

فَمَا أَتَى مِنْ بَعْدِ إِلَاّ يُنْصَبُ

تَقُولُ قَامَ القَومُ إِلَاّ عَمْرَا

وَقَدْ أَتَانِي النَّاسُ إِلَاّ بَكْرَا

يجب نصب المستثنى بإلا إذا الكلام تم، وهو موجب، هذه ثلاثة شروط أن يكون المستثنى بإلا، وأن يكون الكلام تاما، وأن يكون الكلام موجبا، متى ما وجدت هذه الشروط الثلاثة قال: ينصب أي المستثنى وجوباً مطلقاً سواء كان الاستثناء متصلاً أو منقطعاً.

[إِذَا الكَلَامُ] الكلام فاعل لفعل محذوف وجوباً؛ لأنه وقع بعد إذا الشرطية، وإذا لا يليها إلا فعل، وتقديره هنا إذا تَمَّ الكلامُ يفسره الفعل المذكور، فلذلك يُسمَّى مُفسِّرا، حينئذ تقول:[تَمَّ] فعل ماض، والفاعل ضمير مستتر جوازا تقديره هو، والجملة من الفعل والفاعل لا محلَّ لها من الإعراب لأنها مفسِّرة. [إِذَا الكَلَامُ تَمَّ] والمراد بتمام الكلام عند النحاة أن يكون المستثنى منه مذكوراً، نحو: قام القوم إلا زيداً، هذا كلام تام لأن المستثنى منه وهو القوم مذكور في الكلام، لأنه قد يُحذف وقد يُذكر، وذِكْره شرط في وجوب المستثنى بإلَاّ.

ص: 559

[وَهْوَ] أي الكلام [مُوجَبُ] من الإيجاب، والإيجاب والسلب متقابلان، وموجب اسم مفعول مِنْ أُوجِبَ يُوجَبُ فهو مُوجَب، وعندما يقول البيانيون وغيرهم: الإيجاب والسلب فمرادهم بهاتين الصفتين وصف الكلام، لأن الذي يُوصف بالإيجاب أو السلب، هو الجملة مطلقاً لا المبتدأ ولا الخبر ولا الفعل ولا فاعله وإنما مقصودهم بالإيجاب والسلب تسلط النفي على المفهوم من الجملة، والأصل في الجملة الإيجاب بدليل أنه لا يقال بالنفي إلا لدخول حرف أو فعل يدل على النفي، حينئذٍ ما افتقر إلى سببٍ يدل عليه فرعٌ عمَّا لا يفتقر، فالأصل في الجملة الاسمية والفعلية الإيجاب، أنها موجبة مثبتة بدليل أنها لا تحتاج إلى علامة، ومتى نقول الجملة منفية؟ الجواب: لا بُدَّ أن يسبقها ما يدل على النفي كلم أو ما النافية أو ليس وغيره، إذًا افتقرت إلى سبب، وما لا يفتقر إلى سبب أصل لما افتقر إلى سبب، فحكم بأن الأصل في الجملة الإيجاب وهو الإثبات. إذًا قوله:[وَهْوَ مُوجَبُ] احتراز مما لو سبقه نفي أو شبهه كما سيأتي، [فَمَا أَتَى مِنْ بَعْدِ إِلَاّ يُنْصَبُ] الفاء واقعة في جواب الشرط لأنه جملة اسمية، وإذا مضمَّنةٌ معنى الشرط، [فَمَا] ما اسم موصول بمعنى الذي يصدق على المستثنى [أَتَى مِنْ بَعْدِ إِلَاّ] فاعل أتى ضمير مستتر جوازا تقديره هو يعود على ما أي المستثنى، وقيَّده بإلا لأنه إذا كان تاليا لأداة استثناء غير إلا فله حكمٌ آخر، لذلك نجعل هذا شرطا في وجوب نصب المستثنى، أي يكون المستثنى تالياً لحرف الاستثناء وهو إلا، وأن يكون الكلام تامًّا ذُكر فيه المستثنى منه، وأن

ص: 560

يكون موجباً بحيث لم يسبق بنفي ولا شبه النفي [يُنْصَبُ] أي المستثنى، وهو فعل مضارع مغير الصيغة ونائب الفاعل ضمير مستتر جوازاً يعود إلى ما، فالذي أتى من بعد إلا يُنصب هو المستثنى، [يُنْصَبُ] بمجموع هذه الشروط الثلاثة، ونصبه حينئذٍ يكون واجباً مطلقاً سواء كان الاستثناء متصلاً أو منقطعاً، متصلا كقام القوم إلا زيداً، أو منقطعاً كقام القوم إلا حماراً.

والفرق بين الاستثناء المتصل والمنفصل أن المتصل ما كان من جنس المستثنى منه.

والمنقطع ما لم يكن من جنس المستثنى منه. فنحو: قام القوم إلا زيداً نحكم على الاستثناء هنا بأنه متصل لأن زيدا من جنس القوم، ونحو: قام القوم إلا حماراً نحكم على الاستثناء بأنه منقطع لأن الحمار ليس من جنس القوم، وهذا من باب التقريب وإلا ففيه بعض النظر.

[يُنْصَبُ] والعامل في المستثنى اختلف فيه على ثمانية أقوال، أقواها قولان:

الأول: أنَّ العامل إلا فقط، وهذا مذهب ابن مالك رحمه الله وهو ظاهر الألفية حيث قال:

مَا اسْتَثْنَتِ الَاّ مَعْ تَمَامٍ يَنْتَصِبْ

.......................

نَسَبَ النصب والاستثناء إلى إلا نفسها، حينئذ تقول: قام القوم إلا زيداً، فقام القوم فعل وفاعل، وإلا حرف استثناء، وزيدا

ص: 561

مستثنى منصوب بإلا ونصبه فتحة ظاهرة على آخره.

الثاني: وهو مذهب كثير من النحاة المتأخرين أنه منصوب بالفعل الذي قبله بواسطة إلَاّ، فتقول: قام القوم إلا زيداً، زيداً منصوب على الاستثناء والعامل فيه الفعل المتقدم، حينئذٍ نقول قام القوم قام فعل لازمٌ ولا ينصب مفعولاً به، وهل نقول: الفعل اللازم لا ينصب مطلقاً أو لا ينصب مفعولاً به؟ الجواب: لا ينصب مفعولاً به، ولا يُنفى عنه النصب مطلقاً، بل قد ينصب التمييز والحال والعامل فيهما فعل لازم، والذي معنا هنا أن المستثنى منصوب بالفعل اللازم لكن بواسطة إلا.

[فَما أتَى مِن بعْدِ إلَاّ يُنْصَبُ] وجوباً مع جميع هذه الشروط الثلاثة، والناصب له إلَاّ، الحرف وحده عند ابن مالك رحمه الله، وقيل: الفعل بواسطة إلا. [تَقُولُ قَامَ القَومُ إِلَاّ عَمْرَا] هذا مثال مستوفٍ للشروط الثلاثة، كلامٌ تامٌّ ذُكر فيه المستثنى منه وهو القوم، موجَب لم يتقدمه حرف سلب أو شبهه، والاستثناء واقع بعد إلَاّ، وهو استثناء متصل. [وَقَدْ أَتَانِي النَّاسُ إِلَاّ بَكْرَا] أتاني أتى فعل ماض، والناس فاعل، والياء ضمير متصل مبني على السكون في محل نصب مفعول به، وإلا حرف استثناء، وبكراً منصوب على الاستثناء، وحكم النصب هنا واجبٌ لاستيفاء الشروط الثلاثة: كونه تامًّا، كونه موجبًا، كونه مستثنى بإلا، وهذان مثالان للاستثناء المتصل، وهو ما كان المستثنى من جنس المستثنى منه، ومنه قوله تعالى:((فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ (249))) [البقرة:249] فشربوا

ص: 562

فعل ماضٍ، والواو فاعل وهو مستثنى منه، وقليلاً منصوب على الاستثناء لكونه مستثنى بإلا، والجملة مثبتة. وقوله:((فَسَجَدَالْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَاّ إِبْلِيْسَ)) [الحجر:30] هذا فيه تفصيل على القول بأن إبليس من الملائكة فهو استثناء متصل، وعلى القول بأنه ليس منهم فهو استثناء منقطع.

وَإِنْ بِنَفْيٍ وَتَمَامٍ حُلِّيَا

فَأَبْدِلَ اوْ بِالنَّصْبِ جِيءْ مُسْتَثْنِيَا

كَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ

الَاّ صَالِحُ

أَوْ صَالِحًا فَهْوَ

لِذَيْنِ صَالِحُ

الحال الثانية من أحوال المستثنى بإلا: جواز نصبه راجحاً أو مرجوحاً، وأشار إليها بقوله:[فَأَبْدِلَ اوْ بِالنَّصْبِ جِيءْ مُسْتَثْنِيَا] فأو للتخيير بين الإبدال والنصب، لذلك قلنا المستثنى بإلا في هذه الحالة الثانية جائزُ النصبِ سواء كان راجحاً أو مرجوحاً. قال رحمه الله:[وَإِنْ بِنَفْيٍ] أو نهي أو استفهام، فليس الحكم مختصا بالنفي فقط، [وَتَمَامٍ حُلِّيَا] الألف للإطلاق، والضمير يعود إلى الكلام، يقال: حلَّاها تحليةً ألبسها حَلْياً أي الحُلي أو وصفها ونعتها،، فكأنه جعل الأصل في الكلام الإيجاب ثم كُسي وأُلبس النفي، فدلَّ على أنه ليس موجبًا لأن الأصل الإيجاب، فإذا دخل عليه نفيٌ كأنه كُسي ثوباً أو حلية، [وَتَمَامٍ حُلِّيَا] التمام هو أن يكون الكلام تاماًّ بمعنى أن يُذكر المستثنى منه، إذاً الشرط الأول أن يكون الاستثناء بإلا، والشرط الثاني تمام الكلام، أن يكون المستثنى منه مذكوراً في الكلام، وهذان الشرطان في الحالة الثانية وفي الحالة الأولى أيضاً، والذي تخلَّف هو الإيجاب، وهذا هو الفرق بين المسألتين وجوب

ص: 563

النصب وعدم النصب أنه انتفى عن الحالة الثانية الإيجاب وكُسي النفي أو الاستفهام أو النهي، فحينئذٍ نقول: الكلام غير موجَبٍ هذا هو المراد هنا أن يكون الكلام غيرَ موجب مع بقية الشرطين المذكورين في الحالة الأولى. قال: [فَأَبْدِلَ اوْ بِالنَّصْبِ جِيءْ مُسْتَثْنِيَا] يعني ائتِ بالمستثنى مُبدَلاً مما قبله بدلَ بعضٍ من كل، أو ائت به منصوباً على الاستثناء على الأصل، ولكن النصب على الاستثناء هنا ليس بواجب بل هو جائز، ومع هذه الشروط الثلاثة فليس الحكم منصبا على الاستثناء مطلقا كما هو في الحالة الأولى، بل لابد من تفصيل في حالة الاستثناء، لأننا ذكرنا في الحالة الأولى أنه يجب النصب سواء كان الاستثناء متصلاً أو منفصلاً. وهنا الحكم يختلف، فننظر إلى نوع الاستثناء هل هو متصل أو منقطع؟ حينئذٍ إذا كان الكلام غيرَ موجب فنقول: لا يخلو الاستثناء من إحدى حالتين:

الأولى: أن يكون الاستثناء متصلا، فحينئذٍ يجوز في المستثنى وجهان:

الوجه الأول: الإتباع، أن يُجعل تابعًا للمستثنى منه، فيُعرب بدلا منه بدلَ بعضٍ من كل عند البصريين، أو عطف نسق عند الكوفيين.

الوجه الثاني: النصب على الاستثناء، لكنه جوازاً لا وجوباً، وهو محفوظ، ولكنَّ الأوَّل أجود منه، مثَّل هنا بقوله:[كَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ الَاّ صَالِحُ] لم حرف نفي وجزم وقلب، ويقم فعل مضارع مجزوم بلم

ص: 564

وجزمه سكون آخره، وأحدٌ فاعل وهو المستثنى منه، وهو مذكور، إذاً الكلام تام، وهو غير موجب، وإلا حرف استثناء، فالاستثناء بإلا، وصالح وهو المستثنى يجوز فيه وجهان، لأن الاستثناء هنا متصل، لأنَّ صالحا من جنس المستثنى منه وهو أحدٌ الذي أُثبت له القيام، حينئذٍ نقول: إلا صالحٌ على الإتباع، فيُعرب بدل بعض من كل، لأن أحد كل، وصالح بعض منه، كما قلنا في قوله:(((((((عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ (97))) [آل عمران:97] فالمستطيع بعض من الناس، حينئذٍ نحكم عليه بأنه مستثنى وحكمه الإتباع أُتبع ما قبله على أنه بدل بعض من كل. [أَوْ] أي وإن شئت قل: إلا [صَالِحًا] بالنصب، وهو وجه محفوظ في لغة العرب، ونصبه على الاستثناء على الأصل، وما جاء على الأصل لا يُسأل عنه.

والحاصل أن الاستثناء المتصل من كلام منفي فيه وجهان:

الإبدال والنصب على الاستثناء، والإتباع أجود من النصب على الاستثناء.

[فَهْوَ] أي المستثنى [لِذَيْنِ] أي النصب والإتباع [صَالِحُ] لها، لكن لا على السواء بل الأوَّل مُقدَّم، ولذلك قال:[فَأَبْدِلَ] قدم الإبدال على النصب، وإذا قُدِّم أمرٌ على أمر آخر فالأوَّل أرجحُ من الثاني.

الثانية: أن يكون الاستثناء منقطعاً، فأهل الحجاز يوجبون النصب، فيقولون: ما قام القوم إلا حماراً بالنصب وجوباً ولا يجوز

ص: 565

عندهم الإتباع، فلا يصح ما قام القوم إلا حمارٌ، لأنك لو قلت: إنه بدل بعض من كل لأنه جزءٌ منه وفي الحقيقة ليس جزءاً منه، ليس جزءاً من القوم فحينئذٍ وجب النصب، قال تعالى:((مَالَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ (157))) [النساء:157] بالنصب وجوبا لأن اتِّباع الظنِّ ليس من جنس العلم. وبنو تميم يجيزون الوجهين: الإتباع والنصب فيجوز عندهم: ما قام القوم إلا حماراً، وما قام القوم إلا حمارٌ.

وحاصل هذه الحالة: إذا كان الكلام تاما غير موجبٍ فإن كان الاستثناء متصلا جاز فيه وجهان: النصب على الاستثناء، والإتباع على أنه بدل بعض من كل، وإن كان منقطعاً فعند أهل الحجاز واجب النصب، وعند تميم يجوز فيه الوجهان.

إذًا التفرقة بين المتصل والمنقطع هذا على لغة أهل الحجاز. وعند تميم يجوز فيه الوجهان مطلقا يستوي عندهم الاستثناء المتصل والمنقطع.

ومثال النفي قوله تعالى: (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ (66))) [النساء:66] قرأ السبعة غير ابن عامر بالرفع على الإبدال من الواو في فعلوه، وقرأ ابن عامر وحده بالنصب على الاستثناء، إذًا ما فعلوه إلا قليلٌ منهم، إلا قليلا، بالنصب على الاستثناء وبالرفع على البدلية.

ص: 566

ومثال النهي قوله تعالى: (((وَلَايَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ (81))) [هود:81] ولا يلتفت هذا نهي، وقوله: إلا امرأتك قُرئ بالوجهين، قرأ أبو عمرو وابن كثير بالرفع على الإبدال من أحد إلا امرأتُك، وقرأ الباقون بالنصب على الاستثناء ويحتمل وجهين: إما أن يكون مستثنى من أهلك في أول الآيات قوله (((فَأسْرِ بأهلك بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ (81))) [هود:81] فيكون النصب واجباً، لأنه كلام تام موجب وذُكر المستثنى منه فحينئذٍ يجب النصب.

وإما أن يكون مستثنى من أحد فيكون جائز النصب، وقرأ الأكثر على الوجه المرجوح، لأن القرآءة سنة متبعة، ومرجعها الرواية لا الرأي. فيكون النصب جائزا لا واجباً.

ومثال الاستفهام قوله تعالى: (ومن يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56))) [الحجر:56] ومَن استفهام، وقوله: إلا الضالون استثناء، من حيث اللغة يجوز الوجهان: إلا الضالون، وإلا الضالين لأنه استثناء بإلا والكلام تام ولكنه غير موجب لسبْقه بالاستفهام. ومن يقنط الفاعل ضمير مستتر تقديره هو، وهو المستثنى منه، فهو مذكور في الكلام، إلا الضالون هذا مستثنى من الفاعل المستتر، فيجوز فيه الرفع على البدلية، ويجوز فيه النصب على الاستثناء، والقراءة سنة متَّبعة.

ص: 567

الحالة الثالثة من أحوال المستثنى بإلا: ما يُسمَّى بالاستثناء المفرَّغ، ولا يكون إلا من كلام منفي، ولم يذكر فيه المستثنى منه، لأنهم رتبوا الشروط على حسب الكلام فوجوب النصب مع استيفاء الشروط الثلاثة، وجوازه بإسقاط شرط الإيجاب فقط في الحالة الثانية، فصار منفياً، والذي بقي هو الاستثناء بإلا ولا بد أن يبقى معنا هذا الشرط، إذًا الذي بقي ويمكن إسقاطه هو شرط ذكر المستثنى منه، وهذا هو الاستثناء المفرَّغ ولا يكون إلا من كلام منفي لم يذكر فيه المستثنى منه.

أَوْ كَانَ نَاقِصًا فَأَعْرِبْهُ عَلَى

حَسَبِ مَا يَجِيءُ فِيهِ العَمَلَا

[أَوْ] للتنويع والتقسيم [كَانَ] هو أي الكلام [نَاقِصًا] هذا مقابل لقوله [إِذَا الكَلَامُ تَمَّ] لأن الكلام إما أن يكون تاماً وهذا بذكر المستثنى منه، وإما أن يكون غير تام وهذا يسمى الناقص، بأن يُسقط المستثنى منه، ولم يَذكر النفي أو الإيجاب لأنه لا يكون ناقصًا إلا إذا كان منفيا، فلا يكون ناقصًا وهو موجب لامتناعه، قالوا: يمتنع أن يقول: رأيت إلا زيداً، هذا مستحيل لا يمكن أن يقع، رأيت إلا زيداً، يعني رأيت كلَّ الناس إلا زيداً، وهذا لا يحصل لأنه يستحيل أن يكون رأى كل الناس واستثنى زيداً، لكن ما رأيت إلا زيداً، هذا ممكن أن تنفى الرؤية عن الناس كلهم، ولا تثبت إلا لزيد. ولا تقول أيضًا: ضربت إلا زيداً، معناه ضربتُ كلَّ الناسِ إلا زيداً، لم يقع عليه الضرب، هذا أيضاً مستحيل، استحالة ضربك جميع الناس غير زيدٍ. إذًا علمنا أنه غير تام لعدم ذكر المستثنى منه

ص: 568

وأنه لا يكون إلا منفياً، فما حكمه؟

قال: [فَأَعْرِبْهُ] وهذا أمر وهو للوجوب [عَلَى حَسَبِ مَا يَجِيءُ فِيهِ العَمَلَا] أي يُعطَى ما يستحقه - أي المستثنى الذي يقع بعد إلا- يُعطَى ما يستحقه لولم توجد إلَاّ، فإذا قال: ما قام إلَاّ زيدٌ، نقول: هذا استثناء مفرَّغ لعدم ذكر المستثنى منه، فننظر لما بعد إلَاّ كأنها لم توجد في الكلام، فتعربه فاعلا، فتقول: ما قام إلا زيدٌ، ما حرف نفي، وقام فعل ماض، وإلا حرف استثناء ملغاة، وزيدٌ فاعل، إذاً ما بعد إلَاّ تعربه كما لو لم تكن إلا موجودة، ولذلك سمي مفرغاً لأن ما قبل إلَاّ قد تفرغ لطلب ما بعدها. [فَأَعْرِبْهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَجِيءُ فِيهِ العَمَلَا] أي على حسب ما يطلبه العامل، إنْ طَلبه فاعلاً رَفعَه على الفاعلية، وإنْ طلبه مفعولاً به نصَبه على المفعولية، وإنْ طلبه مجروراً بحرف جر جُرَّ بحرف الجر، وسيمثل لها كلها، والاستثناء حينئذٍ يكون من لفظٍ عامٍ محذوف يعني لا بُدَّ من تقديره، وهذا مما يذكره النحاة من المواضع التي يجب فيها حذف الفاعل، فنحو: ما قام إلَاّ زيدٌ، من جهة المعنى لا بد من مراعاة الاستثناء؛ لأن إلَاّ أُلغيت من جهة العمل، وعندما نقول: إلَاّ ملغاة، إنما ألغيت من جهة العمل وأما من جهة المعنى فلا بُدَّ أن يكون للاستثناء أثر، فإذا قيل: ما قام إلَاّ زيدٌ، تقديره ما قام أحد إلا زيدٌ، فأحد هذا هو المستثنى منه المحذوف.

كَمَا هَدَى إِلَاّ مُحَمَّدٌ وَمَا

عَبَدتُّ إِلَاّ اللهَ فَاطِرَ السَّمَا

ص: 569

[كَمَا هَدَى إِلَاّ مُحَمَّدٌ] أي كقولك أو مثل قولك: ما هدى إلا محمد، يعني ما هدى هداية الإرشاد والدلالة في النصح والتوجيه والإخلاص إلا محمدٌ صلى الله عليه وسلم لأنها بَلَغَتِ الغاية، ولا يَعْدِلُه أو يساويه أحدٌ مهما كان، فما نافية، وهدى فعل ماض، وإلَاّ أداة استثناء ملغاة يعني من جهة العمل وأما المعنى فلها أثرها، ومحمدٌ فاعل لهدى، والتقدير: ما هدى أحد إلا محمدٌ، حينئذٍ يكون الاستثناء في المعنى من اسم عام محذوف واجب الحذف.

[وَمَا عَبَدتُّ إِلَاّ اللهَ فَاطِرَ السَّمَا] أي خالق السماء، فما حرف نفي، وعبدت فعل وفاعل، وهو يطلب مفعولاً، وإلا أداة استثناء ملغاة، ولفظ الجلالة منصوب على المفعولية، فنعربه مفعولاً به ولا نقول: مستثنى أو منصوب على الاستثناء، لأن الاستثناء هنا استثناء مفرَّغ بمعنى أنَّ العامل الذي قبل إلا قد تفرَّغ لطلب ما بعد إلَاّ فنصبه على أنه مفعول به له، وفاطر السماء بدل أو عطف بيان.

وَهَلْ يَلُوذُ العَبْدُ يَوْمَ الحَشْرِ

إِلَاّ بِأَحْمَدَ شَفِيْعِ البَشَرِ

[وَهَلْ يَلُوذُ] لاذ به لجأ إليه وعاذ به وبابه قال، [وَهَلْ يَلُوذُ العَبْدُ يَوْمَ الحَشْرِ إِلَاّ بِأَحْمَدَ شَفِيْعِ البَشَرِ] والمقصود هو الشفاعة العظمى، [وَهَلْ] استفهام، إذاً الكلام غير موجب، لأنَّ غير الموجب هنا ما سبقه نفي أو استفهام أو نهي، [إِلَاّ بِأَحْمَدَ] ما بعد إلَاّ سُلِّط عليه ما يتعدَّى به يلوذ، لأن يلوذ من لاذ به أي لجأ إليه، فلا يتعدى بالباء، وأحمد لما كان واقعًا بعد إلا في استثناء مفرَّغ سُلِّط عليه العامل يلوذ فدخل عليه حرف الجر وهو الباء، كأنه قال: يلوذ

ص: 570

بأحمد عليه الصلاة والسلام.

إذاً ذَكَر لك ثلاثة أمثلة رفعًا ونصبًا وجرًّا، لأن الاستثناء المفرَّغ أن يكون العامل الذي قبل إلَاّ مسلَّطا على ما بعد إلا، كأنَّ إلا لم تذكر أصلا ولذلك دخل حرف الجر هنا بعد إلا.

إذاً هذه ثلاثة أحوال للمستثنى بإلَاّ: وجوب النصب، وجواز النصب، وأن يُعطى المستثنى الذي بعد إلا على حسب ما يقتضيه العوامل.

ثم شرع في بقية الأدوات، وأدوات الاستثناء غير إلَاّ على ثلاثة أقسام:

الأول: ما يخفض دائماً يعني يَجُرُّ ما بعده، وهو غير وسوى، حينئذٍ يكون المستثنى مجروراً دائماً.

والثاني: ما ينصب دائماً، وهو ليس ولا يكون.

والثالث: ما يخفض تارة وينصب تارة أخرى، وهو عدا وحاشا وخلا.

وسيذكرها الناظم متتالية، قال رحمه الله:

وَحُكْمُ مَا اسْتَثْنَتْهُ غَيرُ وَسِوَى

سُوَى سَوَاءٌ أَنْ يُجَرَّ لَا سِوَى

[وَحُكْمُ] مبتدأ، و [أَنْ يُجَرَّ] أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر خبر المبتدأ. حكم ما استثنته يعني حكم المستثنى بغيرٍ وسوى أن يكون مجرورا، فما بعد غير وما بعد سوى هو المستثنى، تقول: قام

ص: 571

القوم غيرَ زيدٍ، فزيدٍ هو المستثنى، لأنك أخرجت زيدًا من القوم، أو جئت بغير وهو قول متصل للدلالة على أنَّ زيدًا غيرُ مراد بالقول الأول على القولين، وقام القوم كلام موجب تام، وغيرَ بالنصب على الحالية أو الاستثناء عند بعضهم، وهو مضاف وزيد بالخفض مضاف إليه، والمضاف إليه يكون دائمًا مخفوضًا، لذلك قال هنا:[وَحُكْمُ مَا اسْتَثْنَتْهُ غَيرُ] لأن غير من أدوات الاستثناء، [وَسِوَى] أي وما استثنته سوى، فهي من أدوات الاستثناء، [أَنْ يُجَرَّ] أي المستثنى، فالضمير يعود على المستثنى، ويجر بإضافة غيرٍٍ وسوى إليه، فتقول: قام القوم غيرَ زيدٍ، وقام القوم سِوى زيدٍ، وقد ذكرنا في أول الباب أن المستثنى من المنصوبات في بعض أحواله، وهذه الحالة التي يكون فيها المستثنى ليس منصوباً على الأصل، وإنما يكون مخفوضا، [لَا سِوَى] أي لا غيرُ، ليس له حالة أخرى، وإنما يكون دائما مخفوضا، هذا حكم المستثنى. وأما حكم غير وسوى فإنها تأخذ حكم ما بعد إلَاّ، وما بعد إلَاّ قد يكون واجب النصب، وقد يكون جائزَ النصب، وقد يكون بحسب العوامل، فحكم الذي يقع بعد إلا هو الذي يعطى للفظة غير وسوى، فإذا قلت: قام القوم غيرَ زيد، نقول: يجب نصب غير هنا، لأن الكلام تام موجب، وإذا كان الكلام تامًّا موجبًا فما بعد إلا يكون منصوباً، حينئذ نقول: قام القوم غيرَ .. بالنصب، وحكم نصب غير هنا واجب، لأننا نقابلها بما بعد إلَاّ فلو قلت: قام القوم إلا زيداً، فحكم زيد هنا واجب النصب، إذاً تأخذ هذا الحكم وتعطيه لغير، إذا كان الكلام تامًّا

ص: 572

موجباً، فتقول: قام القوم غيرَ زيدٍ. وإذا قلت: ما قام القوم غيرَ زيدٍ وغيرُ زيدٍ، يصح الوجهان، لأنَّ الكلام إذا كان تاما منفيا فما بعد إلَاّ له وجهان إذا كان الاستثناء متصلا: إما النصب على الاستثناء، وإما الإتباع لما قبله على أنه بدل بعض من كل، فحينئذٍ إذا وقعت غير في كلام تام غير موجب جاز فيها الوجهان، فتقول: ما قام القوم غيرَ زيد بالنصب على الحالية، وما قام القوم غيرُ بالرفع على البدلية، فيجوز فيه الوجهان، وتقول: ما قام القوم غيرَ حمارٍ، بالوجهين أيضًا على مذهب التميميين، وعلى مذهب الحجازيين غيرَ بالنصب وجوبًا.

وإذا قلت: ما قام غيرُ زيدٍ، فيجب رفع غير؛ لأنك تقول: ما قام إلا زيدٌ، فيجب رفع زيد، وما رأيت غيرَ زيدٍ فيجب نصب غير، وما مررت بغيرِ زيد، يتعين الجر بحرف الجر.

والحاصل: أن حكم غير في الإعراب حكم ما بعد إلا، وحكم ما بعد إلا له ثلاثة أحوال: وجوب النصب، وجواز النصب، وعلى حسب العوامل، تنظر للفظة غير فنعطيها حكم ما بعد إلا، وإعرابها إذا نصبْتها فالأصح أنك تعربها حال، وجوَّز بعضهم النصب على الاستثناء، وإذا رفعت تعربها بدل بعض من كل.

ولا نمثل بسوى لأن الإعراب لا يظهر على سوى، وحكم سوى حكم غير فتأخذ حكمها على الأصح على ما عليه الجمهور.

ص: 573

النوع الثاني: ولم يذكره الناظم وهو ما ينصب دائماً، وهو ليس ولا يكون، تقول: قام القومُ ليس زيداً، وقام القوم لا يكون زيداً، هذا واجب النصب دائما لا يكون إلا منصوباً، لأن المنصوب هنا خبر ليس، وخبر ليس دائما يكون منصوباً، والمنصوبُ بلا يكون خبرٌ لها وخبرها دائماً منصوب، ولذلك يُعرب خبرًا ولا يعرب مستثنى، والاستثناء هنا معنوي قام القوم ليس زيداً، قام القوم فعل وفاعل، وليس فعل ماض ناقص، واسمها ضمير مستتر وجوباً يعود على البعض المفهوم من الكل، وزيداً خبر ولا تقل مستثنى. وقام القوم لا يكون زيداً، قام القوم فعل وفاعل، ولا نافية، ويكون فعل مضارع ناسخ واسمه ضمير مستتر وجوباً تقديره هو يعود على البعض المفهوم من الكل السابق، وزيداً خبر يكون منصوب دائماً لا يجوز خفضه إلا إذا دخلت عليه الباء وهي حرف جر زائد فحينئذ يكون منصوباً تقديرا.

وَانْصِبْ أَوِ اجْرُرْ مَا بِحَاشَا وَعَدَا

خَلَا قَدِ اسْتَثْنَيْتَهُ مُعْتَقِدَا

فِي حَالَةِ النَّصْبِ بِهَا الفِعْلِيَّهْ

وَحَالَةِ الجَرِّ بِهَا

الحَرْفِيَّهْ

تَقُولُ قَامَ القَوْمُ حَاشَا جَعْفَرَا

أَوْ جَعْفَرٍ فَقِسْ لِكَيْمَا تَظْفَرَا

النوع الثالث: ما ينصب تارة ويخفض تارة أخرى، ولذلك قال:[وَانْصِبْ أَوِ اجْرُرْ] فجوَّز الوجهين، لأنه قال:[وَانْصِبْ] وهو فعل الأمر، والأصل فيه أنه يقتضي الوجوب ثم جَوَّز الوجه الثاني بقوله:[أَوِ اجْرُرْ] فجعله قرينة صارفة عن الوجوب، فالمراد به النصب لكن لا على جهة الوجوب، وأو للتنويع، لكن هذا الحكم

ص: 574

إذا لم يكن ثَمَّ مانع منه، وهو إذا لم تدخل عليه ما، فحينئذٍ يكون جائزاً. وأما إذا دخلت عليه ما فيتعين النصب. [مَا بِحَاشَا وَعَدَا خَلَا قَدِ اسْتَثْنَيْتَهُ] ما اسم موصول بمعنى الذي، وجملة قد استثنيته صلة الموصول، وبحاشا وما عطف عليه متعلق بقوله استثنيته، إذاً المستثنى يكون منصوباً إذا دخلت عليه حاشا وعدا وخلا، قال:[مُعْتَقِدَا] يعني حالة كونك معتقداً في حالة النصب [بِهَا الفِعْلِيَّهْ] بأن تعتقد أنَّ خلا وحاشا وعدا أفعال ماضية، وهذا يكون محلُّه القلب، فتقول: قام القوم عدا زيداً، معتقداً فعليَّة عدا، وقام القوم حاشا زيداً، معتقداً فعلية حاشا، وقام القوم خلا زيداً، معتقداً فعلية خلا، [وَحَالَةِ الجَرِّ بِهَا الحَرْفِيَّهْ] فكما يجوز النصب بها يجوز الخفض بها، فتقول: قام القوم عدا زيدٍ، وقام القوم خلا زيدٍ، وحاشا زيدٍ، إذاً نصبت وجررت بها واللفظ واحد.

والمشهور عند النحاة التفصيل في عدا وخلا وحاشا، وحاشا المشهور عندهم أنها لا تصحب أي لا تدخل عليها ما، فحينئذٍ يجوز فيها الوجهان مطلقا، تقول: قام القوم حاشا زيداً وحاشا زيدٍ. ولا تصحبها ما المصدرية، وإعرابه قام القوم فعل وفاعل، وحاشا فعل ماضٍ لأنك نصبت بها معتقداً فعليتها، فإذا نظرت إلى ما بعد حاشا إذا كان منصوباً فحينئذ كانت حاشا فعلاً ماضيًا، والفاعل ضمير مستتر وجوبًا تقديره هو يعود على البعض المفهوم من الكل السابق، وزيداً مفعول به ولا تقول مستثنى، ويجوز قام القوم حاشا زيدٍ بالخفض، فحاشا حرفُ جرٍّ مثل مِن وعن وإلى صارت حرف جر

ص: 575

بالنظر إلى ما بعدها لأنك جررت بها فإذا جررت بها فتعتقد حينئذ حرفيتها، فصارت حاشا حرف جر، وزيدٍ اسم مجرور بحاشا، ولا تقل مستثنى، لكن في المعنى في الحالتين نصبت أو جررت في المعنى ما بعدها يكون مستثنى مما قبله، هذا في حاشا.

وأما عدا وخلا فهذه قد تتقدمها ما المصدرية فتقول: قام القوم ما عدا زيدًا وما خلا زيدًا، فإذا سبقتها ما المصدرية تعينت فعليتها، ولا يجوز الجر بها إلا قليلا قال ابن مالك:

وانْجرارٌ قد يردْ .. فهو قليلٌ لكنَّه مسموع، والمشهور المقيس عليه أن ما إذا تقدمت على عدا وخلا وجب النصب، ولا يجوز الجر فلا يصح ما عدا زيدٍ ما خلا زيدٍ، لأن ما المصدرية لا تدخل إلَاّ على الأفعال ولا تدخل على الحروف، فإذا دخلت على عدا عينت أنها فعل، فنصب ما بعدها، وإذا دخلت على خلا عينت أنها فعل ونصب ما بعدها، ولا يجوز الجر على الأصح، وإذا لم يتقدمها ما صارت مثل حاشا وهي التي ذكرها الناظم هنا قد تنصب بها وتعتقد أنها فعل، وقد تخفض بها وتعتقد أنها حرف، لذلك التفصيل يكون في خلا وعدا دون حاشا.

وَانْصِبْ أَوِ اجْرُرْ مَا بِحَاشَا وَعَدَا

خَلَا قَدِ اسْتَثْنَيْتَهُ مُعْتَقِدَا

انصب أو اجرر ما قد استثنيته أي المستثنى بحاشا وعدا وخلا، ولم يذكر تعيَّن النصب فيما إذا تقدمت ما المصدرية على عدا وخلا، وهاتان الحالتان فيما إذا لم تتقدم ما المصدرية، وحاشا هذه قال بعضهم أنها قد تتقدمها ما المصدرية، فتقول: ما حاشا لكنه قليل،

ص: 576

وابن مالك قال: ولَا تَصْحَبُ مَا. وقوله: في حالة النصب متعلق بقوله معتقداً، وبها متعلق بقوله النصب، والفعلية مفعول به والعامل فيه معتقداً الفعلية أي فعليتها فأل نائبة عن المضاف إليه. أي معتقداً فعليتها في حالة النصب بها، ومعتقدا حرفيتها في حالة الجر بها،

إذاً مردُّها إلى القلب والاعتقاد. [تَقُولُ قَامَ القَوْمُ حَاشَا جَعْفَرَا أَوْ جَعْفَرٍ] حاشا جعفرا نَصَبَ بحاشا على أنها فعل، والدليل على أنها فعل ما بعدها، إذًا تحكُم على حاشا أو خلا أو عدا إذا لم تتقدمها ما تحكم عليها بما بعدها إن كان منصوباً فهي فعل؛ لأن الفعل هو الذي ينصب في الأصل، والفاعل حينئذٍ يكون ضميراً مستتراً واجب الاستتار يعود على البعض المفهوم مما سبق، فجعفراً مفعول به ولا تقل مستثنى، أو حاشا جعفرٍ بالخفض على أن حاشا حرف جر. [فَقِسْ] أي فقس على ما مضى، والقياس هو إلحاق فرع بأصل، والأصل هنا يكون هو القاعدة، والمثال يكون موضِّحًا لتلك القاعدة، فحينئذٍ إذا جاءك مثال فتلحق المثال بالمثال والنظير بالنظير [لِكَيْمَا تَظْفَرَا] تظفرا فعل مضارع، والألف للإطلاق، منصوب بكي، لأن اللام قد سبقتها لفظاً، فحينئذٍ كي نفسها هي الناصبة، إذاً المستثنى في بعض أحواله من المنصوبات.

ص: 577