الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
" 1 "
التقنين والإلزام
عرض ومناقشة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: فلما كانت نازلة
إلزام القضاة بقولٍ مقنن أو مذهب معين من النوازل* التي تستدعي بحثاً
وتوجب اهتماماً؛ لأسباب متكاثرة يجمعها أمران:
أولهما: لأنه على القضاء تدور المحافظة على حقوق العباد، ورعاية
حرماتهم، ورد الظلامات بينهم، وعمران مدنيتهم؛ متى ما سار التقاضي
على وحي السماء، وهدي الشريعة الغراء، الكامن في الوحيين الشريفين:
كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
إذْ أن حياة الأمة مرتبطة ثباتاً ونمواً وارتقاءاً، بقدر ما تحييه من العمل
بالوحيين الشريفين. ويكون نقصها واختلال موازين الحياة فيها بقدر الفوت
من ذلك.
ثانيهما: ولأن فلكة التقاضي وفصل الخصام بعد فهم الواقع
للخصومات، واستقطاب النظر فيها هو فهم الواجب في الواقع، وهو كامن
في تطبيق أحكام الشريعة المطهرة على ذلكم الواقع في كل قضية بعينها.
(*) يراد بالنوازل: الوقائع والمسائل المستجدة والحادثة المشهورة بلسان العصر
باسم: النظريات، والظواهر. وفي مقدمة كتاب " فقه النوازل " صنعت مقدمة رحيبة
الجناب واسعة الأطراف كشفت فيها عن مسالك البحث العلمي في نوازل الأقضية
والأحكام وأبنت سبب العدول عن لفظ " نظرية " ونحوها إلى لفظ " النوازل " وستتم
طباعتها بإذن الله تعالى بعد تكامل حلقات الجزء الأول من هذا المشروع المبارك
وبالله التوفيق.
وهذا من معاقد الإسلام؛ والحاكم بنقيضه أي على خلاف ما أنزل الرحمن
موصوف بالفسق، والظلم، والكفران فلا تستقر لعبدٍ إذاً قدم في الإسلام
إلا إذا عقد قلبه على تحكيم شرع الله ودينه في كل شئونه وعلاقاته.
وما أحسن ما قاله الإمام شمس الدين ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى
في فاتحة كتابه " الصواعق المنزلة على الجهمية والمعطلة " إذ يقول: (1)
(واعلم أنه لا يستقر للعبد قدم في الإسلام حتى يعقد قلبه على أن
الدين كله لله، وأن الهدى هدى الله وأن الحق دائر مع الرسول وجوداً
وعدماً، وأنه لا مطاع سواه، ولا متبوع غيره، وأن كلام غيره يعرض على
كلامه؛ فإن وافقه قبلناه، لا لأنه قاله. بل لأنه أخبر به عن الله ورسوله،
وإن خالفه رددناه، ولا يعرض كلامه صلى الله عليه وسلم على آراء القياسيين، ولا على
عقول الفلاسفة والمتكلمين، ولا أذواق المتزهدين، بل تعرض هذه كلها
على ما جاء به، عرض الدراهم المجهولة على أخبر الناقدين، فما حكم
بصحته فهو منها المقبول، وما حكم برده فهو المردود) .
فلما كانت هذه النازلة من الأهمية بهذه المنزلة لهجت ألسنة العلماء
في بحثها، وتناولتها أقلام الكاتبين بين القبول والرد؛ باحثين: هل يجوز
الإلزام بمذهب معين أو قول مقنن لمن يتولى القضاء الشرعي، أو بلسان
العصر: لمن يتولى منصب الحاكمية؟؟ .
وقد تكاثرت البحوث فيها تبعاً واستقلالاً، وقوةً وضعفاً. غير أنه قد
صار من الضغث على إبالة؛ أن بعض الأبحاث المعاصرة في هذه النازلة
إضافة إلى ضعف مادتها، أجرى عرض الخلاف على وجه ليس محلاً
للخلاف: بمعنى هل يجوز التقنين أو لا يجوز؟ .
(1) انظر: مختصر الصواعق 1 / 33 المطبوع بمصر بمطبعة الإمام.
وهذا خطأ صرف، وعدم وقوف على حقائق مسائل العلم، ومواطن
الخلاف. فإن التقنين حقيقته تأليف، والغلط وقع في النزوع عن
مصطلحات الشريعة، إذ أطلق هذا اللفظ عليه، فصار من آثاره السالبة مع
ذلك إبعاد الأفهام عن المعهود من الحقائق والمضامين في علوم الشريعة
وأحكامها.
ومهما كانت التسمية تقنيناً، أو تدويناً، أو تأليفاً، فإن هذا عَرْضٌ
مغلوط، ودائرة الخلاف إنما هي منحصرة في الإلزام جوازاً أو منعاً.
لهذا فقد رأيت بحثها وتقرير ما توصلت إليه فيها لتكون على طرف
الثمام أمام أهل الإسلام مشاركة مني في النصيحة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولأئمة
المسلمين، وعامتهم.
وقد أجريت الكلام فيما حررته مرتباً له في مطالب ثلاثة:
المطلب الأول: وفيه عرض لتاريخ نشوء هذه الفكرة؛ وهي حمل
القضاة على مذهب معين.
المطلب الثاني: في بيان أوجه القول بها مع بيان المصالح المترتبة
عليها، ثم إتباعها بمناقشتها.
المطلب الثالث: في بيان وجوه المنع منها مع بيان المضار المترتبة
على القول بها.
ولعل في ترتيب القول في هذه النازلة على هذا النمط والسياق تقريباً
للأفهام، ومزيداً من الوقوف بوضوح على القول الحق فيها.
وهذه هي الطريقة التي سلكها شيخا الإسلام ابن تيميه وابن القيم
رحمهما الله تعالى وأرشدا إليها، وبها أخذ أنصار الكتاب والسنة
المستضيؤون بنورهما إلى يومنا هذا.
ومنه قول ابن تيميه في ذلك ما يلي (1) :
(يجب أن يكون الخطاب في المسائل المشكلة بطريق ذكر كل قول،
ومعارضة الآخر له، حتى يتبين الحق بطريقه لمن يريد الله هدايته، فإن
الكلام بالتدريج مقاماً بعد مقام هو الذي يحصل به المقصود، وإلا فإذا
هجم على القلب الجزم بمقالات لم تحكم أدلتها وطرقها، والجواب عما
يعارضها كان إلى دفعها والتكذيب بها أقرب منه إلى التصديق بها) .
ويتحدث ابن القيم رحمه الله تعالى بإنعام الله عليه في هذه الطريقة
فيقول (2) :
"
…
ونحن نذكر مأخذ هذه الأقوال وما لكل قول وما عليه، وما هو
الصواب من ذلك الذي دل عليه الكتاب والسنة، على طريقتنا التي منَّ
الله بها وهو مرجو الإعانة والتوفيق ".
وأسأل الله تعالى التوفيق والإعانة والسداد. آمين.
المؤلف
بكر بن عبد الله أبو زيد
تحريراً في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم عام 1392 هـ، وأنا بها مجاور ثم تم
تبييضه في مدينة الرياض عام 1401 هـ. وأنا بها نزيل.
(1) بواسطة طريق الوصول ص / 170 للشيخ عبد الرحمن السعدي.
(2)
كتاب الروح ص / 93.