الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول
في أدلة المنع من الإلزام
وهي من الكتاب، والسنة، والإجماع، والقواعد الجوامع باختبار
النتيجة وغيرها من القواعد المألوفة، والأصول المعروفة. ومنها ما يلي:
أولاً: أن الله سبحانه وتعالى أمر عند التحاكم أن يحكم بالقسط فقال
لنبيه صلى الله عليه وسلم (1) : {فَإِنْ جَاؤُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ
فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
المُقْسِطِينَ} .
والقسط: العدل، والمقسطون: العادلون، فإذا كان القول الملزم به
قد ظهر للقاضي من وجهه الأدلة الشرعية، أن الصحيح مقابل ذلك القول
الملزم به: صار القسط والعدل في أن يحكم وفق معتقده لا بما أُلزم به
ولكل مجتهد أجر اجتهاده.
ثانياً: إن الله سبحانه بين المرجع عند التنازع وهو الرد إلى الله تعالى
وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (2) .
(1) الآية رقم 42 من سورة المائدة.
(2)
الآية رقم 56 من سورة النساء.
فالرد إلى الله: هو الرد إلى كتاب الله سبحانه، والرد إلى رسوله صلى الله عليه وسلم:
هو الرد إليه في حياته وإلى سنته بعد مماته.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى على هذه الآية (1) : (والله
سبحانه قد أمر في كتابه عند التنازع بالرد إلى الله والرسول، ولم يأمر عند
التنازع إلى شيء معين أصلاً) . انتهى.
وقال تلميذه ابن القيم رحمه الله تعالى (2) : (فمنعنا سبحانه من الرد
إلى غيره وغير رسوله، وهذا يبطل التقليد، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ
…
} .
وقوله: {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا المُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} .
ولا وليجة أعظم ممن جعل رجلاً بعينه مختاراً على كلام الله وكلام رسوله
وكلام سائر الأمة - يقدمه على ذلك كله.) انتهى.
وقال البيهقي رحمه الله تعالى في سننه (3) : (باب ما يقضي به القاضي
ويفتي به المفتي فإنه غير جائز له أن يقلد أحداً من أهل دهره، ولا أن
يحكم أو يفتي بالاستحسان) . ثم ساق رحمه الله الآية المتقدمة وقال:
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: فإن تنازعتم في شيء - والله أعلم -
هم وأمراؤهم الذين أمروا بطاعتهم، فردوه إلى الله والرسول؛ يعني والله
أعلم: إلى ما قاله الله والرسول. وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ
سُدًى} وقال الشافعي: فلم يختلف أهل العلم بالقرآن فيما علموا: أن
(1) كتاب محنة ابن تيمية، ص:10.
(2)
إعلام الموقعين، 2 / 170.
(3)
السنن الكبرى، 10 / 113.
السُّدى الذي لا يؤمر ولا ينهى. ومن أفتى أو حكم بما لم يؤمر به فقد أجاز
لنفسه أن يكون من معاني السدى) . انتهى.
وقال ابن حبان رحمه الله تعالى (1) : (الواجب على كل من ركب فيه
العلم: أن يرعى أوقاته على حفظ السنن رجاء اللحوق بمن دعا لهم النبي
صلى الله عليه وسلم، إذ الله جل وعلا أمر باتباع سنته وعند التنازع الرجوع إلى ملته حيث
قال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} . ثم نفى الإيمان
عمن لم يحكمه فيما شجر بينهم فقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ولم يقل حتى يحكموا فلاناً وفلاناً فيما شجر بينهم. ولا
قال: حرجاً مما قال فلانٌ وفلان.
فالحكم بين الله عز وجل وبين خلقه: رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط. فلا يجب
لمن أشعر الإيمان قَلْبَه أن يُقصر في حفظ السنن بما قدر عليه حتى يكون
رجوعه عند التنازع إلى قول من لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى
صلى الله عليه وسلم فجعلنا الله منهم بمنه) . انتهى.
وينتظم ما ذكره هؤلاء الأجلة من العلماء ما بسطه ابن القيم في تفسير
هذه الآية إذ يقول (2) : وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا
تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} فأمر باتباع المنزل منه خاصة:
واعْلَم أن من اتبع غيره فقد اتبع من دونه أولياء.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي
الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ
(1) كتاب: المجروحين 1 / 5.
(2)
إعلام الموقعين 1 / 48 - 51.
بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} . فأمر تعالى بطاعته وطاعة
رسوله، وأعاد الفعل إعلاماً بأن طاعة الرسول تجب استقلالاً من غير
عَرْضِ ما أمر به على الكتاب، بل إذا أمر وجَبَتْ طاعته مطلقاً، سواء كان
ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه، فإنه أوتي الكتابَ ومثلَه معه، ولم
يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالاً، بل حذف الفعل وجعل طاعتَهم في ضمن
طاعة الرسول، إيذاناً بأنهم إنما يُطاعون تبعاً لطاعة الرسول، فَمَنْ أمرَ
منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته، ومَنْ أمرَ بخلاف ما جاء به الرسول فلا
سَمْع له ولا طاعة كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية
الخالق ". وقال: " إنما الطاعة في المعروف " وقال في ولاة الأمر: " مَنْ
أمركم منهم بمعصية الله فلا سَمْعَ له ولا طاعة " وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن الذين
أرادوا دخولَ النار لما أمرهم أميرُهم بدخولها: " إنهم لو دَخلوا لما خَرَجوا
منها " مع أنهم إنما كانوا يدخلونها طاعة لأميرهم، وظناً أن ذلك واجب
عليهم، ولكن لما قَصَّروا في الاجتهاد وبادَرُوا إلى طاعة مَنْ أمَرَ بمعصية
الله وحَمَلوا عموم الأمر بالطاعة بما لم يُرِدْه الآمر صلى الله عليه وسلم وما قد علم من بينه
إرادةُ خلافِهِ، فقصَّروا في الاجتهاد وأقْدَمُوا على تعذيب أنفسهم وإهلاكها
من غير تثبُّت وتبيُّن هل فلا طاعة لله ورسوله أم لا، فما الظن بمنْ أطاع
غيرَه في صريح مخالفة ما بَعَث الله به رسولَه؟ ثم أمر تعالى برد ما تنازع
فيه المؤمنون إلى الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأخبرهم أن ذلك خير لهم
في العاجل وأحسن تأويلاً في العاقبة.
وفد تضمن هذا أموراً: منها أن أهلَ الإيمان قد يتنازعون في بعض
الأحكام ولا يخرجون بذلك عن الإيمان، وقد تنازع الصحابة في كثير من
مسائل الأحكام، وهم سادات المؤمنين وأكمل الأمة إيماناً، ولكن بحمد
الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال،
بل كلهم على إثبات ما نطق الكتابُ والسنة كلمةً واحدة، من أولهم إلى
آخرهم، لم يَسُوموها تأويلاً، ولم يُحَرِّفوها عن مواضعها تبديلاً، ولم يبدوا
لشيء منها إبطالاً، ولا ضربوا لها أمثالاً، ولم يَدْفَعُوا في صدورها
وأعجازها، ولهم يقل أحد منهم يجب صرْفها عن حقائقها وحملها على
مجازها، بل تَلَقَّوها بالقَبُول والتسليم، وقابلوها بالإيمان والتعظيم، وجعلوا
الأمر فيها كلها أمراً واحداً، وأجرَوْها على سَنن واحد، ولم يفعلوا كما فعل
أهل الأهواء والبدَع حيث جعلوها عِضين، وأقروا ببعضها وأنكروا بعضها من
غير فُرْقان مبين، مع أن اللازم لهم فيما أنكروه كاللازم فيما أقروا به
وأثبتوه.
والمقصود أن أهل الإِيمان لا يُخْرِجُهم تنازعُهم في بعض مسائل
الأحكام عن حقيقة الإيمان إذا رَدُّوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله كما
شرطه الله عليهم بقوله: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَاليَوْمِ الآخِرِ} ولا رَيْب أن الحكم المعلق على شرط ينتفي عند انتفائه.
ومنها: أن قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} نكرة في سياق الشرط تعم
كلَّ ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين دِقّّه وجِلِّه، جَلِيَه وخَفِيه، ولو
لم يكن في كتاب الله ورسوله بيانُ حكم ما تَنَازعوا فيه لم يأمر بالردّ إليه،
إذ من الممتنع أن يأمر تعالى بالرد عند النزاع إلى مَنْ لا يوجَد عنده فَصْلُ
النزاع.
ومنها: أن الناس أجمعوا أن الرد إلى الله سبحانه هو الرد إلى كتابه،
والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرد إليه نفسه في حياته وإلى سنته بعد وفاته.
ومنها: أنه جعل هذا الرد من موجِبَاتِ الإيمان ولوازمه، فإذا انْتَفى هذا
الرد انتفى الإيمان، ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه، ولا سيما التلازم
بين هذين الأمرين فإنه من الطرفين، كل منهما ينتفي بانتفاء الآخر، ثم
أخبرهم أن هذا الرد خيرٌ لهم، وأن عاقبته أحْسنُ عاقبة، ثم أخبر سبحانه
أن مَنْ تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسولُ صلى الله عليه وسلم فقد حكَّم الطاغوتَ
وتحاكم إليه، والطاغوت: كُلُّ ما تجاوز به العبدُ حدَّه من معبود أو متبوع
أو مُطَاعٍ، فطاغوتُ كل قوم مَنْ يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه
من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون
أنه طاعة الله، فهذه طواغيت العالم إذا تأملتَها وتأملت أحوالَ الناس معها
رأيت أكثرهم (عَدَلُوا) من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، وعن التحاكم إلى
الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت، وعن طاعته ومتابعة رسوله
إلى طاعة الطاغوت ومتابعته، وهؤلاء لم يسلكوا طريقَ الناجينَ الفائزين من
هذه الأمة - وهم الصحابة ومن تبعهم - ولا قَصدُوا قَصْدَهم، بل خالفوهم
في الطريق والقصد معاً.
ثم أخبر تعالى عن هؤلاء بأنهم إذا قيل لهم تَعَالوا إلى ما أنزل الله
وإلى الرسول أعْرَضوا عن ذلك، ولم يستجيبوا للداعي، ورَضُوا بحكم
غيره، ثم توعَّدهم بأنهم إذا أصابتهم مصيبة في عقولهم وأديانهم وبصائرهم
وأبدانهم وأموالهم بسبب إعراضهم عما جاء به الرسولُ وتحكيم غيره
والتحاكم إليه كما قال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ
بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} اعتذروا بأنهم إنما قصدوا الإحسان والتوفيق، أي بفعل ما
يرضي الفريقين ويوفق بينهما كما يفعله من يروم التوفيق بين ما جاء به
الرسول وبين ما خالفه، ويزعم أنه بذلك محسن قاصد الإصلاح والتوفيق،
والإيمان إنما يقتضي إلقاء الحرب بين ما جاء به الرسول وبين كل ما خالفه
من طريقة وحقيقة وعقيدة وسياسة ورأي، فمحض الإِيمان في هذه الحرب
لا في التوفيق، وبالله التوفيق.
ثم أقسم سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن العباد حتى يحَكِّمُوا
رسولَه في كل ما شَجَر بينهم من الدقيق والجليل، ولم يكتف في إيمانهم
بهذا التحكيم بمجرده حتى ينتفي عن صدورهم الحَرَجُ والضّيق عن قضائه
وحكمه، ولم يكتف منهم أيضاً بذلك حتى يسلموا تسليماً، وينقادوا
انقياداً.
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا
أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} فأخبر سبحانه أنه ليس لمؤمن أن يختار
بعد قضائه وقضاء رسوله، ومَنْ تخير بعد ذلك فقد ضَلَّ ضلالاً مبيناً.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي لا تقولوا حتى يقول، ولا تأمروا حتى
يأمر، ولا تُفتُوا حتى يفتي، ولا تقطعوا أمراً حتى يكون هو الذي يحكم فيه
ويُمْضِيه، روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: لا
تقولوا خِلافَ الكتاب والسنة، وروى العوفي عنه قال: نُهُوا أن يتكلموا بين
يدي كلامه.
والقول الجامع في معنى الآية لا تعجلوا بقول ولا فعل قبل أن يقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يفعل.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ
النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ
وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} فإذا كان رَفْعُ أصواتهم فوق صوته سبباً لحبوط أعمالهم
فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياساتهم ومعارفهم على ما جاء به
ورفعها عليه؟ أليس هذا أولى أن يكون مُحْبِطاً لأعمالهم؟ .
وقال تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ
عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} فإذا جعل من لوازم الإيمان أنهم
لا يذهبون مذهباً إذا كانوا معه إلا باستئذانه فأولى أن يكون من لوازمه أن
لا يذهبوا إلى قول ولا مذهب علمي إلا بعد استئذانه. اهـ.
فترتب من هذا الدليل أن الرد إلى قول مقنن أو مذهب معين ملزم به
هو رد إلى اجتهاد غير معصوم وبالتالي فلا يكون رداً محققاً إلى كتاب الله
تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فكيف يتأتى الإلزام به؟ .
ثالثاً: إن مبنى الشهادتين على تجريد الإخلاص لله تعالى وتجريد
المتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم وفي التقنين المُلْزم: توهين لتجريد توحيد الاتباع
وخدش لحماه، إذ أن حكم القاضي على خلاف ما يعتقده تقديم لقول
غير المعصوم على ما يعتقده عن المعصوم، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (1) ، ويقول سبحانه {يَوْمَ لَا
يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (2) . والقلب الذي يعقد
حكماً على غير مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم ليس بقلب سليم فهو على خطر عظيم
إذا قدم على الله تعالى وهو كذلك.
وفي ضوء هاتين الآيتين يوضح ابن القيم رحمه الله تعالى هذا المعنى
فيقول (3) :
(1) الآية رقم 1 من سورة الحجرات.
(2)
الآية رقم 88 من سورة الشعراء.
(3)
إغاثة اللهفان 1 / 7 - 8.
.. وقد اختلفت عبارات الناس في معنى القلب السليم، والأمر
الجامع: أنه الذي قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل
شبهة تعارض خبره فسلم من عبودية ما سواه، وسلم من تحكيم غير رسوله.
فسلم في محبة الله مع تحكيمه لرسوله، في خوفه ورجائه، والتوكل عليه،
والإنابة إليه، والذل وإيثار مرضاته في كل حال، والتباعد من سخطه بكل
طريق. وهذا هو حقيقة العبودية التي لا تصلح إلا لله وحده.
فالقلب السليم: هو الذي سلم من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه
ما، بل قد خلصت عبوديته لله تعالى: إرادة، ومحبة، وتوكلاً، وإنابة،
واخباتاً وخشية، ورجاء، وخلص عمله لله. فإن أحب أحب في الله، وإن
أبغض أبغض في الله، وإن أعطى أعطى لله، وإن منع منع لله.
ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكيم لكل من عدا رسوله
صلى الله عليه وسلم، فيعقد قلبه معه عقداً محكماً على الائتمام والاقتداء به وحده، دون
كل أحد في الأقوال والأعمال، من أقوال القلب: وهي العقائد، وأقوال
اللسان: وهي الخبر عما في القلب. وأعمال القلب: وهي الإرادة والمحبة
والكراهة وتوابعها. وأعمال الجوارح. فيكون الحاكم في ذلك كله دِقِّه
وجلِّه: هو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يتقدم بين يديه بعقيدة ولا قول ولا
عمل كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ} ، أي لا تقولوا حتى يقول، ولا تفعلوا حتى يأمر. قال بعض
السلف: ما من فعلة - وإن صغرت - إلا ينشر لها ديوانان: لِمَ؟ وكيف؟
أي: لم فعلت؟
…
وكيف فعلت؟ .
فالأول: سؤال عن علة الفعل وباعثه وداعيه: هل هو حظ عاجل من
حظوظ العامل، وغرض من أغراض الدنيا في محبة المدح من الناس أو
خوف ذمهم، أو استجلاب محبوب عاجل، أو دفع مكروه عاجل. أم
الباعث على الفعل: القيام بحق العبودية، وطلب التودد والتقرب إلى الرب
سبحانه وتعالى، وابتغاء الوسيلة إليه.
ومحل هذا السؤال: أنه هل كان عليك أن تفعل هذا الفعل لمولاك،
أم فعلته لحظك وهواك؟
والثاني: سؤال عن متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام في ذلك
التعبد، أي هل كان ذلك العمل مما شرعته لك على لسان رسولي، أم
كان عملاً لم أشرعه ولم أرضه؟ .
فالأول سؤال عن الإخلاص، والثاني عن المتابعة، فإن الله سبحانه
لا يقبل عملاً إلا بهما.
فطريق التخلص من السؤال الأول: بتجريد الإخلاص. وطريق
التخلص من السؤال الثاني: بتحقيق المتابعة، وسلامة القلب من إرادة
تعارض الإخلاص، وهوىً يعارض الاتباع. فهذا حقيقة سلامة القلب الذي
ضمنت له النجاة والسعادة. انتهى.
رابعاً: أن الله سبحانه وتعالى قد قطع الخيرة في أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم
فقال تعالى (1) : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ
يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} .
وعليه فإن التقنين الملزم به وهو من اجتهاد غير معصوم - فيه قطع
للخيرة فيه. وهذا إلحاق مقدوح فيه بالقادح المسمى بفساد الاعتبار وهو
(1) الآية رقم 36 من سورة الأحزاب.
الإلحاق مع الفارق - فبطل الإلزام إذاً لوجود الخيرة فيه.
وقد كشف عن هذا العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى في
تفسيره لهذه الآية فقال (1) : (فقطع سبحانه وتعالى التخيير بعد أمره وأمر
رسوله صلى الله عليه وسلم، فليس لمؤمن أن يختار شيئاً بعد أمره صلى الله عليه وسلم، بل إذا أمر فأمره
حتم، وإنما الخيرة في قول غيره إذا خفي أمره. وكان ذلك الغير من أهل
العلم به وبسنته، فبهذه الشروط يكون قول غيره سائغ الاتباع لا واجب
الاتباع. فلا يجب على أحد اتباع قول أحد سواه، بل غايته أنه يسوغ له
اتباعه، ولو ترك الأخذ بقول غيره، لم يكن عاصياً لله ورسوله، فأين هذا
ممن يجب على جميع المكلفين اتباعه ويحرم عليهم مخالفته، ويجب
عليهم ترك كل قول لقوله، فلا حكم لأحد معه ولا قول لأحد معه كما لا
تشريع لأحد معه، وكل من سواه فإنما يجب اتباعه على قوله: هذا أمر بما
أمر به، ونهى عما نهى عنه، فكان مبلغاً محصناً ومخبراً لا منشئاً ومؤسساً،
فمن أنشأ أقوالاً وأسس قواعد بحسب فهمه وتأويله، لم يجب على الأمة
اتباعها ولا التحاكم إليها حتى تعرض على ما جاء به، فإن طابقته ووافقته
وشهد لها بالصحة قبلت حينئذٍ، وإن خالفته وجب ردها واطراحها. وإن لم
يتبين فيها أحد الأمرين جعلت موقوفة. وكان أحسن أحوالها: أن يجوز
الحكم والاقتداء بها وتركه، وأما أنه يجب ويتعين فكلَاّ ولمَّا) .
خامساً: ما رواه الأربعة والحاكم من حديث بريدة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة.
وفيه: رجل عرف الحق فلم يقض به وجار في الحكم فهو في النار "
الحديث.
(1) زاد المعاد 1 / 4 - 5.
ففيه بيان الوعيد للقاضي إذا حكم على خلاف ما يعتقده حقاً لأنه
عمل محرم. ولا خلاف في تحريمه عند أهل العلم. قال شيخ الإسلام
ابن تيميه رحمه الله تعالى: (ويجب على القاضي أن يعمل بموجب اعتقاده
فيما له وعليه إجماعاً) انتهى.
وعلى هذا فالحاكم إذا استبان له رجحان مقابل قول ملزم به فحكم
به على خلاف معتقده دخل في الوعيد. والله أعلم.
وقال ابن عبد البر رحمه الله تعالى (1) : (قال الشافعي: وإذا قاس من
له القياس واختلفوا وسع كلاً أن يقول بمبلغ اجتهاده فلم يسعه اتباع غيره
فيما أداه إليه اجتهاده) . انتهى.
سادساً: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن، وسأله كيف يقضي
قال: بكتاب الله، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:" فإن لم يكن في كتاب الله "
قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:" فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم "
قال: اجتهد رأيي ولا آلوا، قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " الحمد لله
الذي وفق رسولَ رسولِ الله إلى ما يرضي رسول الله ".
فلم يرد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم معاذاً عن طريق الاجتهاد، بل أقره على سلوك
طريق الاجتهاد. والاجتهاد يكون بالمقايسة الجليه، والرجوع إلى القواعد
الشرعية، وهذا النوع الذي مناط الخلاف فيه: هو الاجتهاد الذي تقدم
حكاية الإجماع فيه أنه لا يجوز نقضه بحال ويأتي أيضا حكاية الإجماع
في منع الإلزام به. ماذا كان الأمر كذلك فإن الإلزام بمذهب معين فيه رد
لشيء معين سوى الكتاب والسنة، والرسول صلى الله عليه وسلم أيد معاذاً بالرجوع إلى
(1) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2 / 60.
الاجتهاد بعدهما والتباين في هذا من الظهور بمكان، قال الخطابي في
شرح السنن (1) : (وفيه دليل على أنه ليس للحاكم أن يقلد غيره فيما يريد
أن يحكم به وإن كان المقلد أعلم منه وأفقه حتى يجتهد فيما يسعه منه،
فإن وافق رأيه واجتهاده أمضاه وألا توقف عنه لأن التقليد خارج عن هذه
الأقسام المذكورة في الحديث) . انتهى.
سابعاً: إن هذا الحجر والإلزام بقول مقنن أو رأي معين لم يسبق
الحمل عليه في صدر الإسلام ولا في القرون المفضلة، فلا يعلم من
هدي الصحابة رضوان الله عليهم مع مشاركتهم في العلم والمشاورة مع
بعضهم لبعض إلزام واحد منهم للآخر بقوله، بل المعروف المعهود بالنقل
عنهم خلافه. قال أبو عمر بن عبد البر في جامعه (2) وعن عمر رضي الله
عنه أنه لقي رجلاً فقال ما صنعت، فقال قضى عليّ وزيد بكذا فقال: لو
كنت أنا لقضيت بكذا قال: فما يمنعك والأمر إليك؟ قال: لو كنت أردك
إلى كتاب الله أو إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لفعلت ولكني أردك إلى رأي
والرأي مشترك، قال ابن عبد البر فلم ينقض ما قال علي وزيد وهذا كثير
لا يحصى. انتهى.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله (3) : (وعمر بن الخطاب رضي
الله عنه قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنه قد كان قبلكم في الأمم محدثون فإن يكن
أحد في أمتي فعمر " وروى أنه ضرب الحق على لسانه وقلبه وقال: " لو
لم أبعث فيكم لبعث عمر " ومع هذا فما كان يلزم أحداً بقوله ولا يحكم
(1) معالم السنن 5 / 212.
(2)
جامع بيان العلم وفضله 2 / 59.
(3)
مجموع الفتاوى 35 / 384.
في الأمور العامة، بل كان يشاور الصحابة ويراجع، فتارة يقول قولاً فترده
عليه امرأة فيرجع إليها وذكر القصة. ثم قال وكان في مسائل النزاع مثل
مسائل الفرائض والطلاق يرى رأياً ويرى علي بن أبي طاب رأياً ويرى
عبد الله بن مسعود رأياً ويرى زيد بن ثابت رأياً، فلم يلزم أحداً أن يأخذ
بقوله، بل كان منهم يفتي بقوله وعمر رضي الله عنه أمام الأمة كلها
وأعلمهم وأدينهم وأفضلهم، فكيف يكون واحد من الحكام خيراً من عمر) .
انتهى.
وقال ابن القيم في الإعلام (1) في معرض رده على المقلدة، وأيضاً فإنا
نعلم أنه لم يكن في عصر الصحابة رجل واحد اتخذ رجلاً منهم يقلده في
جميع أقواله فلم يسقط منها شيئاً وأسقط أقوال غيره، فلم يأخذ منها شيئاً،
ونعلم بالضرورة أن هذا لم يكن في عصر التابعين ولا تابعي التابعين
إلخ
…
وقال أيضاً (2) .
وأما هدي الصحابة فمن المعلوم بالضرورة أنه لم يكن منهم شخص
واحد يقلد رجلاً واحداً في جميع أقواله ويخالف من عداه من الصحابة
بحيث لا يرد من أقواله شيئاً ولا يقبل من أقوالهم شيئاً وهذا من أعظم البدع
إلخ
…
.
وقال أيضا (3) : (ومن المعلوم بالضرورة أن الصحابة لم يكونوا يعرضون
ما يسمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أقوال علمائهم، بل لم يكن لعلمائهم
(1) إعلام الموقعين 2 / 189.
(2)
إعلام الموقعين 2 / 209.
(3)
إعلام الموقعين 2 / 211.
قول غير قوله ولم يكن أحد منهم يتوقف في قبول ما سمعه منه على موافقة
موافق أو رأي ذي رأي أصلاً، وكان هذا هو الواجب الذي لا يتم الإيمان
ألا به وهو بعينه الواجب علينا وعلى سائر المكلفين إلى يوم القيامة. ومعلوم
أن هذا الواجب لم ينسخ بعد موته، ولا هو مختص بالصحابة فمن خرج
عن ذلك فقد خرج عن نفس ما أوجبه الله ورسوله) . انتهى.
وقال أيضاً في معرض رده على المقلدة (1) : (وأيضاً فإنا نعلم أنه لم
يكن في عصر الصحابة رضي الله عنهم رجل واحد اتخذ رجلاً منهم يقلده
في جميع أقواله فلم يسقط منها شيئاً، وأسقط أقوال غيره فلم يأخذ منها
شيئاً. ونعلم بالضرورة أن هذا لم يكن في عصر التابعين ولا تابعي
التابعين، فليكذبنا المقلدون برجل واحد سلك سبيلهم الوخيمة في القرون
الفضيلة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما حدثت هذه البدعة في القرن
الرابع المذموم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمقلدون لمتبوعهم في جميع
ما قالوا يبيحون به الفروج والدماء والأموال، ويحرمونها ولا يدرون إذ ذلك
صواب أم خطأ - على خطر عظيم، ولهم بين يدي الله موقف شديد يعلم
فيه من قال على الله ما لا يعلم أنه لم يكن على شيء) .
وقد أفاض ابن القيم رحمه الله تعالى في الرد على المقلدة من واحد
وثمانين وجهاً في نحو تسعين صحيفة من كتاب: " إعلام الموقعين "(2) .
وهي بجملتها تنسحب على مطلب إقامة الأدلة على المنع من إلزام
القاضي بمذهب معين أو قول مقنن. ومما قاله في ذلك رحمه الله
(1) إعلام الموقعين 2 / 189.
(2)
2 / 189 - 265.
تعالى (1) : (هل تقول إذا أفتيت أو حكمت بقول من قلدته: إن هذا هو
دين الله الذي أرسل به رسوله وأنزل به كتابه وشرعه لعباده ولا دين له سواه؟
أو تقول: إن دين الله الذي شرعه لعباده خلافه؟ .
أو تقول: لا أدري؟ .
ولا بدَّ لك من قول من هذه الأقوال، ولا سبيل لك إلى الأول قطعاً،
فإن دين الله الذي لا دين له سواه لا تسوغ مخالفته، وأقل درجات مخالِفه
أن يكون من الآثمين. والثاني لا تدعيه، فليس لك ملجأ إلا الثالث فيالله
العجب! كيف تستباح الفروج والدماء والأموال والحقوق وتحلل وتحرم بأمر
أحسن أحواله وأفضلها: لا أدري؟
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة
…
وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم (2) .
اهـ.
ثامناً: إنه وقعت نازلة في خلافة معاوية رضي الله عنه فكتب بها
معاوية رضي الله عنه إلى عامله أسيد بن حضير، فمانعه أسيد فيها ووقف
كل عند ما علمه.
وذلك فيما رواه النسائي (3) ، والحاكم (4) ، وأحمد (5) ، بأسانيدهم عن
ابن جريج قال: (ولقد أخبرني عكرمة بن خالد أن أسيد بن حضير
(1) إعلام الموقعين 2 / 191.
(2)
وانظر في هذا المبحث: إعلام الموقعين 4 / 377، وبدائع الفوائد 3 / 156.
(3)
سنن النسائي 2 / 233.
(4)
المستدرك 2 / 36.
(5)
المسند 4 / 226.
الأنصاري - ثم أحد بني حارثة - أخبره أنه كان عاملاً على اليمامة، وأن
مروان كتب إليه، إن معاوية كتب إليه: أنه أيما رجل سرق منه سرقة فهو
أحق بها حيث وجدها، ثم كتب بذلك مروان إليَّ. وكتبت إلى مروان أن
النبي صلى الله عليه وسلم قضى بأنه إذا كان الذي ابتاعها (يعني السرقة) من الذي سرقها
غير متهم، يخير سيدها، فإن شاء أخذ الذي سرق منه بثمنها، وإن شاء
اتبع سارقه. ثم قضى بذلك أبو بكر وعمر وعثمان. فبعث مروان بكتابي
إلى معاوية، وكتب معاوية إلى مروان: إنك لست أنت ولا أسيد تقضيان
عليّ ولكن أقضي فيما وليت عليكما، فأنفذ لما أمرتك به. فبعث مروان
بكتاب معاوية، فقلت: لا أقضي به ما وليت أي - بما قال معاوية)
انتهى (1) .
تاسعاً: وكما أن هذا هو هَدي السلف وعمل القرون المفضلة من
عدم إلزام الناس بقول واحد وحملهم عليه، فقد صرح بحكاية الإجماع
عليه غير واحد منهم شيخ الإسلام ابن تيميه في مواضع: كما في مجموع
الفتاوى 35 / 357، 360، 365، 372، 373، وجلد
27 / 296 - 297. وجلد 30 / 79.
وتلميذه العلامة ابن القيم في " إعلام الموقعين 2 / 217 ".
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى لما سئل عمن ولي أمراً من أمور
المسلمين ومذهبه لا يجوز شركة الأبدان فهل يجوز له منع الناس؟ .
فأجاب: ليس له منع الناس من مثل ذلك ولا من نظائره مما يسوغ
فيه الاجتهاد، وليس معه بالمنع نص من كتاب ولا سنة، ولا إجماع، ولا
(1) السلسلة الصحيحة للألباني 2 / 164.
ما هو في معنى ذلك.. إلخ) (1) .
وقال أيضاً (2) : (ولي الأمر إن عرف ما جاء به الكتاب والسنة حكم بين
الناس به، وإن لم يعرفه وأمكنه أن يعلم ما يقول هذا، وما يقول هذا،
حتى يعرف الحق حكم به، وإن لم يمكنه لا هذا ولا هذا ترك المسلمين
على ما هم عليه كل يعبد الله حسب اجتهاده، وليس له أن يلزم أحداً
بقبول قول غيره وأن كان حاكماً.
وإذا خرج ولاة الأمور عن هذا فقد حكموا بغير ما أنزل الله ووقع
بأسهم بينهم.. وهذا من أعظم أسباب تغير الدول، كما قد جرى مثل هذا
مرة بعد مرة في زماننا وغير زماننا. ومن أراد الله سعادته جعله يعتبر بما
أصاب غيره، فيسلك مسلك من أيده الله ونصره، ويجتنب من خذله الله
وأهانه.. إلخ) .
وقال أيضاً رحمه الله تعالى (3) : (الأمور المشتركة بين الأمة لا يحكم
فيها إلا الكتاب والسنة، ليس لأحد أن يلزم الناس بقول عالم ولا أمير ولا
شيخ ولا ملك، وحكام المسلمين يحكمون في الأمور المعينة لا يحكمون
في الأمور الكلية، وإذا حكموا بالمعينات فعليهم أن يحكموا بما في كتاب
الله فإن لم يكن فبما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يجدوا اجتهد الحاكم
رأيه) . انتهى.
وقال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى في معرض نعيه على من قدم
(1) مجموع الفتاوى 30 / 79.
(2)
مجموع الفتاوى 35 / 387 - 388.
(3)
انظره بواسطة: طريق الوصول للشيخ عبد الرحمن السعدي ص: 209.
أقوال المتأخرين على أقوال الصحابة رضي الله عنهم، وألزم بها (1) .
لا يدري ما عذره غداً عند الله إذا سَوَّى بين أقوال أولئك وفتاويهم
وأقوال هؤلاء وفتاويهم، فكيف إذا رجحها عليها؟
فكيف إذا عيَّن الأخذ بها حكماً وإفتاء، وضع الأخذ بقول الصحابة،
واستجاز عقوبة من خالف المتأخرين لها، وشهد عليه بالبدعة والضلالة
ومخالفة أهل العلم وأنه يكيد الإسلام؟
تالله لقد أخذ بالمثل المشهور: " رمتني بدائها وانْسَلَّت " وسمى ورثة
الرسول باسمه هو، وكساهم أثوابه، ورماهم بدائه، وكثير من هؤلاء يصرخ
ويصيح ويقول ويعلن: أنه يجب على الأمة كلهم الأخذ بقول من قلدناه
ديننا، ولا يجوز الأخذ بقول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من
الصحابة.
هذا كلامٌ من أَخَذَ به وتقلَّده ولاه الله ما تولَّى. ويجزيه عليه يوم القيامة
الجزاء الأوفى. والذي ندين الله به ضد هذا القول والرد عليه
…
) (2) .
عاشراً: لا خلاف في أنه لا يجوز أن يقلد القضاء لواحد على أن
يحكم بمذهب معين قال ابن قدامة رحمه الله تعالى (3) :
(فصل: ولا يجوز أن يقلد القضاء لواحد على أن يحكم بمذهب بعينه
وهذا مذهب الشافعي ولا أعلم فيه خلافاً لأن الله تعالى قال: {فَاحْكُمْ
(1) إعلام الموقعين 4 / 118 - 119.
(2)
وانظر أيضاً إعلام الموقعين 2 / 363.
(3)
المغني 9 / 106.
بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ} . والحق لا يتعين في مذهب، وقد يظهر له الحق في
غير ذلك المذهب، فإن قلده على هذا الشرط بطل الشرط، وفي فساد
التولية وجهان بناء على الشروط الفاسدة في البيع) . انتهى.
وحكى الخلاف بنحوه الماوردي الشافعي في " الأحكام السلطانية "(1)
والقاضي أبو يعلى الحنبلي في " الأحكام السلطانية "(2) وقال:
(ويجوز لمن يعتقد مذهب أحمد أن يقلد القضاء من يعتقد مذهب
الشافعي لأن للقاضي أن يجتهد رأيه في قضائه، ولا يلزمه أن يقلد (*) في
النوازل والأحكام من اعتزى إلى مذهبه) . انتهى.
ومعنى هذا أن من وُلِّي على أن لا يحكم إلا بقول مقنن فإنه لا يجوز
له تنفيذ هذا الشرط سواء بسواء، بل ذهب المحققون من أهل العلم إلى
بطلان شرط الواقف إذا شرط وقفه على من أخذ بقول فقيه معين وفي بيان
بطلان شرط الوقف وتولية القاضي على هذا الشرط يقول ابن القيم رحمه
الله تعالى (3) :
(ومن هذا أن يشترط أنه لا يستحق الوقف إلا من ترك الواجب عليه،
من طلب النصوص ومعرفتها، والتفقه في متونها، والتمسك بها إلى الأخذ
بقول فقيه معين يترك لقوله قول من سواه، بل يترك النصوص لقوله، فهذا
شرط من أبطل الشروط.
وقد صرح أصحاب الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى بأن الإمام إذا
(1) ص: 78.
(2)
ص: 47.
(3)
إعلام الموقعين 4 / 185.
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: في الأصل: [ولا يلزمه أن يقلده] والتصويب من "الأحكام السلطانية" للماوردي
شرط على القاضي أن لا يقضي إلا بمذهب معين بطل الشرط ولم يجز
له التزامه. وفي بطلان التولية قولان مبنيان على بطلان العقود بالشروط
الفاسدة.
وطَرْدُ هذا أن المفتي متى شرط عليه ألا يفتي إلا بمذهب معين بطل
الشرط.
وطرده أيضاً أن الواقف متى شرط على الفقيه أن لا ينظر ولا يشتغل
إلا بمذهب معين بحيث يهجر كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفتاوي الصحابة
ومذاهب العلماء، لم يصح هذا الشرط قطعاً. ولا يجب التزامه. بل ولا
يسوغ) .
وقال أيضاً في " جلاء الأفهام "(1) :
(روى أبو داود في مراسيله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى بيد بعض أصحابه
قطعة من التوراة فقال: " كفى بقوم ضلالة أن يتبعوا كتاباً غير كتابهم أنزل
على غير نبيهم) . فأنزل الله عز وجل تصديق ذلك: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا
أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
فهذا حال من أخذ دينه عن كتاب منزل على غير النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بمن
أخذه عن عقل فلان وفلان. وقدمه على كلام الله ورسوله؟) .
وقال رحمه الله تعالى في معرض بيان الفروق الشرعية من كتابه
الروح (2) :
(1) ص: 98.
(2)
ص: 276، 277.
والفرق بين الحكم المنزل الواجب الاتباع والحكم المؤول الذي غايته
أن يكون جائز الاتباع أن الحكم المنزل هو الذي أنزله الله على رسوله
وحكم به بين عباده وهو حكمه الذي لا حكم له سواه.
وأما الحكم المؤول فهو أقوال المجتهدين المختلفة التي لا يجب
اتباعها ولا يكفر ولا يفسق من خالفها فإن أصحابها لم يقولوا هذا حكم
الله ورسوله، بل قالوا اجتهدنا برأينا فمن شاء قبله ومن شاء لم يقبله، ولم
يلزموا به الأمة قال أبو حنيفة هذا رأيي فمن جاءني بخير منه قبلناه. ولو
كان هو عين حكم الله لما ساغ لأبي يوسف ومحمد وغيرهما مخالفته فيه،
وكذلك مالك استشاره الرشيد أن يحمل الناس على ما في الموطأ، فمنعه
من ذلك، وأنه قد تفرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاد وصار عند كل
قوم علم غير ما عند الآخرين، وهذا الشافعي ينهى أصحابه عن تقليده
ويوصيهم بترك قوله إذا جاء الحديث بخلافه، وهذا الإمام أحمد ينكر على
من كتب فتاواه ودونها ويقول لا تقلدني ولا تقلد فلاناً ولا فلاناً وخذ من
حيث أخذوا ولو علموا رضي الله عنهم أن أقوالهم يجب اتباعها لحرموا على
أصحابهم مخالفتهم ولما ساغ لأصحابهم أن يفتوا بخلافهم في شيء، ولما
كان أحدهم يقول القول ثم يفتي بخلافه فيروى عنه في المسألة القولان
والثلاثة وأكثر من ذلك فالرأي والاجتهاد أحسن أحواله أن يسوغ اتباعه،
والحكم المنزل لا يحل لمسلم أن يخالفه ولا يخرج عنه.
وأما الحكم المبدل وهو الحكم بغير ما أنزل الله فلا يحل تنفيذه ولا
العمل به ولا يسوغ اتباعه وصاحبه بين الكفر والفسوق والظلم.
والمقصود التنبيه على بعض أحوال النفس المطمئنة واللوامة والأمارة
وما تشترك فيه النفوس الثلاثة وما يتميز به بعضها من بعض وأفعال كل
واحدة منها واختلافها ومقاصدها ونياتها وفي ذلك تنبيه على ما وراءه، وهي
نفس واحدة تكون أمارة تارة ولوامة أخرى ومطمئنة أخرى، وأكثر الناس
الغالب عليهم الأمارة، وأما المطمئنة فهي أقل النفوس البشرية عدداً
وأعظمها عند الله قدراً وهي التي يقال لها: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً
مَرْضِيَّةً. فَادْخُلِي فِي عِبَادِي. وَادْخُلِي جَنَّتِي} .
والله سبحانه وتعالى المسؤول المرجو الإجابة أن يجعل نفوسنا مطمئنة
إليه عاكفة بهمتها عليه راهبة منه راغبة فيما لديه وأن يعيذنا من شرور أنفسنا
وسيئات أعمالنا وأن لا يجعلنا ممن أغفل قلبه عن ذكره واتبع هواه وكان
أمره فرطاً ولا يجعلنا من الأخسرين أعمالاً: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} إنه سميع الدعاء وأهل الرجاء
وهو حسبنا ونعم الوكيل. انتهى.
الحادي عشر: وهو أن التقنين أو المذهب الملزم به سواء كان بعمل
واحد أو باختيار جماعة، لا بد أن يقع فيه خطأ، إذ العصمة لا تتحقق
إلا للأنبياء فالإلزام بها إلزام بما يعتقد أنه بمجموعة ليس صواباً بل لا بد
فيه من وقوع خطأ. وقد قال الشافعي رحمه الله تعالى: أجمع المسلمون
على أنه من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس له أن يدعها لقول أحد
سواه.
وحصر ذلك بالدليل الأصولي العظيم: وهو دليل السبر والتقسيم أن
يقال: إنه بالتقسيم لهذا تبين انحصاره في ثلاثة أوجه، وتبين بسبر أوصافه
أن اثنين منها سلبيان وواحد إيجابي ولا بد فيقال:
1-
إن أحكام التقنين الملزم به كلها صواب لا خطأ فيها.
2-
إن أحكام التقنين الملزم به كلها خطأ لا صواب فيها.
3-
إن أحكام التقنين الملزم به كلها فيها خطأ وصواب.
أما الأول فمتعذر لأنه تأليف عالم أو علماء والعالم قد يزل ولا بد إذ
ليس بمعصوم ومن ليس بمعصوم لا يلزم قبول كل ما يقوله. هذا
بالإجماع.
وأما الثاني: فلا يصح فهذان وجهان سلبيان.
وأما الثالث: فهو الإيجابي، وهل هما متساويان أم أحدهما مغالب
للآخر كل ذلك محتمل وقد علم أن العصمة غير متحققة لانقطاعها مع
عالم النبوة والأنبياء، وما كتب الله العصمة لكتاب سوى كتابه {وَلَوْ كَانَ
مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} فلا بد إذاً من وجود خطأ في
الأحكام الاجتهادية الملزم بها بالخطأ خلاف الحق وما هو خلاف الحق
لا يجوز قبوله ومالا يجوز قبوله حرم الأخذ به وما حرم الأخذ به فيحرم
الإلزام به من باب أولى فوجب منع فرضه إذاً. والله أعلم. قال ابن القيم
رحمه الله تعالى في أعلام الموقعين (1) بعد نقول كثيرة نقلها عن ابن عبد
البر قلت: والمصنفون في السنة قد جمعوا بين فساد التقليد وإبطاله وبيان
زلة العالم ليبينوا فساد التقليد وأن العالم قد يزل إذ ليس بمعصوم فلا يجوز
قبول كل ما يقول وينزل قوله منزلة قول المعصوم فهذا الذي ذمه كل عالم
على وجه الأرض وحرموه وذموا أهله. وهو أصل بلاء المقلدين وفتنتهم
فإنهم يقلدون العالم فيما زل فيه وفيما لم يزل فيه وليس لهم تمييز بين
ذلك. فيأخذون الدين بالخطأ ولا بد، فيحللون ما حرَّم الله، ويحرمون ما
أحل الله، ويشرعون ما لم يشرع، ولا بد لهم من ذلك. وإذا كانت
(1) 2 / 172.
العصمة منتفية عمن قلدوه فالخطأ واقع فيه ولا بد - ثم ذكر حديثين عند
البيهقي - منها حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" أشد ما أتخوف على أمتي ثلاث، زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا
تقطع أعناقكم " قال: ومن المعلوم أن الخوف في زلة العالم تقليده، إذ لولا
التقليد لم يخف من زلة العالم على غيره، فإذا عرف أنها زلة لم يجز له
أن يتبعها باتفاق المسلمين.. ثم قال:
قال أبو عمر: وإذا ثبت أن العالم يزل ويخطىء، لم يجز لأحد أن
يفتي ويدين بقول لا يعرف وجهه) . انتهى باختصار والله أعلم.
ومن أدلة المنع ما يأتي في الفصل بعده: