المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث السابعفي تاريخ الأسباب الإسلامية ونشأة المصطلحات الشرعية - فقه النوازل - جـ ١

[بكر أبو زيد]

فهرس الكتاب

- ‌التقنين والإلزام

- ‌إيقاظ

- ‌المطْلَبُ الأوّل: عرَضُ تاريخِ نُشُوء هذه الفكرة

- ‌المطْلَبُ الثاني:في بَيَان أوجُه القول بالإلزام مَع بيَان المصالحالمترتّبة عَليْه ثمَّ اتباعِها بمُناقشتها

- ‌الفصل الأولفي أوجه القول بالإلزام

- ‌الفصل الثانيفيما يترتب على الإلزام من مصَالحويندفع به من مفاسد

- ‌الفصل الثالثفي مناقشة أوجه الإِلزام على لسان الممانع

- ‌المطْلَبُ الثَّالثفي أدلة المنع من الإلزاممع بيان المضار المترتبة على القول بالإلزام

- ‌الفصل الأولفي أدلة المنع من الإلزام

- ‌الفصل الثانيفي معرفة ما يترتب على الإلزام

- ‌خلاصَة البَحْث

- ‌المواضعة في الاصطلاح على خلاف الشريعةوأفصح اللغى

- ‌المبحث الأولفي مصادر الأسباب الإسلامية والمصطلحات العلمية

- ‌المبحث الثانيفي ألقاب هذا الفن

- ‌المبحث الثالثفي حقيقة الاصطلاح لغة واصطلاحاً

- ‌المبحث الرابعفي العلاقة بين المعنيين اللغوي والاصطلاحي

- ‌المبحث الخامسفي أن المواضعات سنة لأهل كل فن

- ‌المبحث السادسفي الاجتهاد اللغوي

- ‌المبحث السابعفي تاريخ الأسباب الإسلامية ونشأة المصطلحات الشرعية

- ‌المبحث الثامنفي أنواع المصطلحات

- ‌المبحث التاسعفي طرق المواضعة

- ‌المبحث الحادي عشرفي فوائد الاصطلاح العلمي

- ‌المبحث الثالث عشرفي أن تغيير مصطلحات الشريعةمن ضراوة المخالفين لها

- ‌المبحث الرابع عشرفي العدوان على مصطلحات الشريعة

- ‌المبحث السادس عشرفي تقسيم التشريع إلى أصول وفروع

- ‌المبحث السابع عشرفي ذكر أمثلة لتغييرالمصطلحات في الديار الإسلامية

- ‌خطاب الضمان

- ‌المبحث الأولخطاب الضمان

- ‌المبحث الثانيالفقه الشرعي لخطاب الضمان

- ‌جهاز الإنعاش وعلامة الوفاةبين الأطباء والفقهاء

- ‌المبحث الأولالتصور لأجهزة الإنعاش

- ‌المبحث الثانيعلامة الموت عند الأطباء أو نازلة موت الدماغ

- ‌المبحث الثالثفي حقيقة الموت عند الفقهاء وعلاماته

- ‌المبحث الرابعحالات المريض تحت جهاز الإنعاش

- ‌المبحث الخامسالتكييف الفقهي لهذه النازلة

- ‌طرق الإنجاب في الطب الحديث وحكمها الشرعي

- ‌المبحث الأولبيان ما كتب في هذه النازلة تبعاً أو استقلالاً

- ‌المبحث الثانيقواعد شرعية أمام البحث

- ‌المبحث الثالثفي تفسير مصطلحات طبية ونحوها

- ‌المبحث الرابعتاريخ نشوء هذه النازلة زماناً ومكاناً

- ‌المبحث الخامسولائدها

- ‌المبحث السادسفي صور هذه النازلة

- ‌المبحث السابعفي تنزيل الحكم الشرعي على هذه النازلة

الفصل: ‌المبحث السابعفي تاريخ الأسباب الإسلامية ونشأة المصطلحات الشرعية

‌المبحث السابع

في تاريخ الأسباب الإسلامية ونشأة المصطلحات الشرعية

للأسماء شأن كبير في الإسلام، ولهذا قال الله سبحانه ممتناً على آدم

عليه السلام: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} .

فالاسم بداية العلم، والعلم به مفتاح للعلم بالمسمى. وعصر النبي

صلى الله عليه وسلم هو عصر التشريع بآية من القرآن الكريم أو سنة من حديثه الشريف،

وكان صلى الله عليه وسلم بحكم نبؤته ورسالته، وسلطانه في البيان كما في قوله تعالى:

{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ، بين للصحابة رضي الله

عنهم الحقائق الشرعية من الألفاظ اللغوية التشريعية بياناً شافياً بأقواله

وأفعاله وتقريراته صلى الله عليه وسلم.

كما في لفظ " الصلاة " في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا

الصَّلَاةَ} الآية، فليست الصلاة ما يعرفه العربي من معناها أنه مطلق

" الدعاء " بل هي عبارة مخصوصة في أوقات مخصوصة تشتمل على أقوال

وأفعال مخصوصة بيَّنها صلى الله عليه وسلم غاية البيان وأدقه في قوله: " صلوا كما رأيتموني

أصلي ".

وكذا في بيانه صلى الله عليه وسلم للزكاة، والصيام، والحج، وجميع أحكام التشريع

في الأمر والنهي في قوالبه الشرعية فسبحان من نقل أفهام العرب وهداها

إلى هذه المعاني التشريعية المقصودة من تلك الألفاظ العربية التي أريد

ص: 130

بها غير ما وضعت له.

وفي هذا يقول العلامة ابن فارس رحمه الله تعالى في كتابه الصاحبي

ص 78 - 86 باب الأسباب الإسلامية ثم ساق ما نصه:

(كانت العربُ في جاهليتها على إرْثٍ من إرْث آبائهم في لُغاتهم

وآدابهم ونسائِكهم وقَرَابينهم. فلما جاءَ الله جلّ ثناؤه بالإسلام حالت أحْوَالٌ،

ونُسِخَت دِيانات، وأُبطلت أمورٌ، ونُقِلت من اللغة ألفاظ عن مواضعَ إلى

مواضع أخر بزيادات زِيدَت، وشرائع شُرِعت، وشرائط شُرِطت. فعَفّى

الآخرُ الأوّلَ، وشُغل القوم - بعد المُغَاوَرَات والتِّجارات وتَطَّلُّب الأرباح

والكَدْحِ للمعاش في رحلة الشِّتاء والصَّيف، وبعد الإغْرَام بالصَّيد

والمُيَاسَرة - بتلاوة الكتاب العزيز الذي {لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ

خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} وبالتَّفقّه في دين الله عز وجل، وحفظ سنن

رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع اجتهادهم في مُجَاهَدَةِ أعداء الإسلام.

فصار الذي نَشأَ عليه آباؤهم ونَشَؤُوا [هم] عليه كأن لم يكن، وحتى

تكلَّموا في دقائق الفقه، وغوامض أبواب المواريث، وغيرها من علم

الشريعة وتأويل الوحي بما دُوِّن وحُفِظ حتى الآن.

فصاروا - بعد ما ذكرناه - إلى أن يُسئل إمامٌ من الأئمة وهو يخطب

على منبره عن فريضة فَيُفْتي وَيحْسُبُ بثلاث كلمات. وذلك قول أمير

المؤمنين عليٍّ صلوات الله عليه حين سُئل عن ابنتين وأبوين وامرأة (صار

ثُمْنُها تُسْعاً) فسميت (المِنْبريَّة) .

والى أن يقول هو صلوات الله عليه على منبره والمهاجرون والأنصار

متوافرون: " سلوني فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار، أم

ص: 131

في سهل أم في جبل؟ " وحتى قال صلوات الله عليه - وأشار إلى ابنيه -

" يا قوم، استنبطوا مني ومِن هذين عِلْمَ ما مضى وما يكون! " وإلى أن

يتكلم هو وغيره في دقائق العلوم بالمشهور من مسائلهم في الفَرْض وَحده،

كالمُشْتَركَة، ومسألة المُباهَلَة والغَرَّاء، وأُمّ الفُروخ، وأمّ الأرَامل، ومسئلة

الامتحان، ومسئلة ابن مسعود، والأكْدَرِيَّة. ومُخْتَصَرَةُ زَيْد، والخَرْقاء،

وغيرها ممّا هو أغْمَضُ وأدقُّّ.

فسبحان من نقل أولئك في الزمن القريب بتوفيقه عمّا ألفوه ونشؤوا

عليه وغذُوا به، إلى مثل هذا الذي ذكرناه.

وكل ذلك دليل على حقّ الإيمان، وصِحَّةِ نُبوةِ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

فكان مما جاء في الإسلام - ذكر المؤمن والمسلم والكافر والفاسق.

وأنَّ العرب إنِّما عَرَفت المؤمن من الأمان والإيمان وهو التصديق. ثم زادت

الشريعة شَرَائِطَ وأوصافاً بها سُمِّيَ المؤمن بالإطلاق مُؤْمِناً، وكذلك الإسلام

والمسلم، إنَّما عَرَفت منه إسلامَ الشيء، ثم جاء في الشَّرع مِن أوصافه

ما جاء. وكذلك كانت لا تعرِف من الكُفر إلا الغِطاء والسَّتْر.

فأما المنافق فاسمٌ جاء به الإسلام لقوم أبْطَنُوا غير ما أظهروه، وكان

الأصل من نَافِقَاءِ اليَرْبُوع.

ولم يعرفوا في الفِسْق إلا قولهم: " فَفَسَقَتِ الرُّطَبَةُ " إذا خرجت من قِشْرِها،

وجاء الشرع بأن الفِسق: الإفحاش في الخروج عن طاعة الله جل ثَناؤه.

وما جاء في الشرع الصّلاة، وأصله في لغتهم: الدُّعاء. وقد كانوا

عَرَفوا الركوعَ والسجودَ، وإن لم يكن على هذه الهيئة، فقالوا:

أوْ دُرَّةٍ صَدَفِيةٍ غَوَّاصُها

بَهِجٌ، مَتَى يَرَها يُهِلَّ وَيَسْجُد

ص: 132

وقال الأعشى:

يُراوِحُ من صلوات المَلِيكِ

طَوْراً سُجُوداً، وطَوْراً، جُؤراً

والذي عرفوه منه أيضاً: ما أخبرنا به عليٌّ عن علي بن عبد العزيز، عن

أبي عُبَيد قال: قال أبو عمرو: " أسْجدَ الرجلُ: طأطأ [رأسه] وانْحَنَى ". قال

حُمَيْدُ بن ثَوْر:

فُضُولُ أزِمِّتها أَسْجَدَتْ

سُجُود النَّصارى لأَرْبَابِهَا

وأنشد:

فقُلْنَ له: أسْجِدْ لِلَيْلَى، فأسْجَدَا

يعني البعير إذا طأطأ رأسه لِترْكَبَهُ.

وهذا وإن كان كذا، فإن العرب لم تعرِفه بمثل ما أتَت به الشريعة من

الأعدادِ، والمواقيت، والتَّحريم للصلاة، والتحليل منها.

وكذلك الصِّيَامُ، أصله عندهم: الإمساكُ، ويقول شاعرهم:

خيلٌ صيام، وأُخْرَى غيرُ صَائمةٍ

تَحْتَ العَجَاج، وأخْرى تَعْلكُ الُّلجُمَا

ثم زادت الشريعة النيَّةَ، وحَظَرَت الأكلَ والمُبَاشرَةَ، وغير ذلك من

شرائع الصوم.

وكذلك الحَجُّ، لم يكن عندهم فيه غير القصد، وسَبْوُ الجِرَاح. من

ذلك قولهم:

وأَشْهَدُ مِنْ عَوْفٍ حُلُولاً كثيرةً

يَحجُّون سِبَّ الزِّبرِقانِ المُزَعْفَرَا

ص: 133

ثم زادت الشريعة ما زادته من شرائط الحج وشعائره. وكذلك الزَّكاة،

لم تكن العرب تعرفها إلا من ناحية النَّماءِ وزاد الشرع ما زاره فيها مما لا

وجه لإطالة الباب بذكره.

وعلى هذا سائر ما تركنا ذِكرَه من العُمْرةِ والجهاد، وسائر أبواب الفقه.

فالوجه في هذا إذا سُئِل الإِنسان عنه أن يقول: في الصلاة اسمان

لُغويٌّ وشرعيٌّ، ويذكر ما كانت العرب تعرفه، ثم ما جاءَ الإسلام به.

وهو قياسُ ما تركنا ذكرَه من سائر العلوم، كالنحو والعروض والشِّعر:

كل ذلك له اسمان لُغوي وصِناعيُّ) اهـ.

ويقول الرازي في كتاب الزينة 1 / 146 - 152 ما يلي:

فالإسلام هو اسم لم يكن قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك أسماء كثيرة

مثل " الآذان " و " الصلوات " و " الركوع " و " السجود " لم تعرفها العرب إلى على

غير هذه الأصول، لأن الأفعال التي كانت هذه الأسماء لها لم تكن فيهم.

وإنما سَنَّها النبي صلى الله عليه وسلم [60] وعلَّمها الله إيَّاه. فكانوا يعرفون " الصلوات " أنها

الدعاء. قال الأعشى في صفة الخمر:

فإن ذُبِحَتْ صلَّي عليها وزَمْزَمَا

أي دعا لها. وعلى هَذا كانت سائر الأسامي.

وقد كانت الصلاة والصيام وغير ذلك في اليهود والنصارى، وقد

كانت اليهودية والنصرانية في العرب.

ويقال إن المجوسية لم تكن فيهم على ما ذكره الرواة. ورووا أن أول

من تمجَّسَ من العرب حَاجب بن زُرَارَة الدارمي هو وأهل بيته، ولم

ص: 134

يتمجَّس منهم أحد قبله قالوا: سَمَّى ابنته دُخْتِنُوس باسم ابنة كِسْرَى،

وتَزَوَّجَها؛ فعُير بذلك. فقال: أو ليست لي حلالاً في ديني؟ ثم ندم على

ذلك وأنْشَأ يقول:

لَحا الله دِينَك من أَغْلَفٍ

يُحلُّ البَنَاتِ لَنا والخَوَاتِ

أَحَشْتُ على أسْرَتي سَوْءَةً

وطَوَّقْتُ جِيليَ بالمُخْزِيَاتِ

وأَبْقَيْتُ في عَقِبي سُبَّةً

مَشَاتِمَ يَحْيَيْنَ بعد المَمَاتِ

وروى عن أبي عمرو بن العلاء أن نَسْراً كان صنماً لبعض حِمْيَر،

وكانوا فيما يزعمون مجوساً. وهم الذين [ذُكِروا] في كتاب الله عز وجل:

{وَجَدْتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} . ويقال: إن بقايا

المجوس الذين كانوا باليمن والبحرين منهم.

ونقول: إن الأعمال التي هي في شريعة الإسلام قد كان مثلها في

اليهود والنصارى، ولكن لم يكونوا يُسَمُّونها بهذه الأسماء، لأن شرائعهم لم

تكن بلسان العرب فلما جاء الله بالإسلام وبيَّن هذه الأسماء اقْتدَوا بأهل

الإسلام، وصاروا عيالاً عليهم فيها، وقد عرفيا فضيلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن

كانوا كاتِمين لما كانوا قد عرفوه، كافرين بنعمة الله عليهم حسداً وعناداً.

هذا مع قبولهم وقبول سائر الأمم معهم آيات مُحْكَمَاتٍ وكلمات [61]

بَيِّنَات أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الشريعة لم تعرفها الأمم. فلمَّا وردت

عليهم قبلوها قبولاً اضطرارياً مع إنكارهم نبَّوته عليه السلام، فجبلهم الله

على المعرفة بأحكامها، وصرف قلوبهم إلى قبولها والاقتداء بها والإقرار

بفضلها.

فأول ذلك كلمة الإخلاص، وهو قول:" لا إله إلا الله "، هذه كلمة

جعلها مركزاً لدين الإسلام وقطْباً له ولم تكن الأمم السالفة تقولها على هذا

ص: 135

اللفظ، وبهذا الاختصار، مع ما فيها من الحكمة البالغة، واشتمالها على

نَفْي الكفر، وإثبات التوحيد، وإزالة الشرك، ووجوب الإيمان. فلما قالها

صلى الله عليه وسلم، ودعا الناس إليها، استعظمت العرب ذلك، لأنهم يُسَمُّون أصْنَامهم

آلِهَة، فقال الله عز وجل حكاية عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ

إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ. وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ. بَلْ جَاءَ بِالحَقِّ

وَصَدَّقَ المُرْسَلِينَ} يعني جاء بها وهي الحق. وهي تشتمل على هذه

المعاني التي ذكرناها، وإلى ذلك دعا المُرسَلون، ولكن لم يوردها على

هذا اللفظ بهذا الكمال والاختصار مشتملة على هذه المعاني. فلما قالها

صلى الله عليه وسلم قَبِلَها أهل الكتاب من اليهود والنصارى والمجوس، وجامَعوه على

الإقرار بها، وبايَنُوه على الكلمة المقرونة بها:" محمد رسول الله " فكانوا

على الإقرار بالأولى مؤمنين بالله، وعلى إنكارهم الثانية مشركين. قال الله

تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} .

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} :

هي أية أنزلها الله على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعلها فاتِحَة كتابه

وفاتحة كل سورة، فصار ذلك قُدْوَة لجميع الأمم قد تَرَاضَوْا بها، واتبعوا

رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، فجعلوها فاتحة كتبهم مُصَدَّرة في صَدْر [62]

كل كتاب مُسْتَحْسَنَة عندهم. قد أقَرُّوا بفَضْلها حتى إن كل كتاب لم يفْتَتح

بها هو عندهم ناقِصٌ مَبْتُور، مَسْلوبُ البَهَاء مَهجور ولم يكن ذلك لسائر

الأمم ولا عرفوها إلا ما ذكره الله عز وجل في كتابه أن سليمان عليه السلام

كتب بها إلى بلْقيس ولم يُدَوِّنها هذا التدوين، ولا زَيَّنُوا بها كُتبهم هذا

التزيين، ولا عرفوا لها الفَضْل المُبِين، حتى جاءَ الله بالإسلام، وأحْكَمَها

على لِسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فقَبِلتْهَا الأمم أحسن قبول، وصار فَصْلها في

كتبهم أفضل فُصُول.

ص: 136

هذا إلى كلمات غيرها، مثل قوله:{الحَمْدُ للَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} . وقد

كان فيما قد تَقدَّم من الكتب المُنَزَّلة تحْميد وتمجيد، ولكن لم يكن على

هذا الاختصار بهذا اللفظ، ولم يُدَوَّن هذا التدوين، وقوله: {لا حول ولا

قُوَّة إلا بالله العلي العظيم} . وقوله: {تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ} . وقوله: {السلام

عليكم} . لم تكن هذه التحيَّة للأمم الماضية، وهي تحية أهل الجنّة قال

الله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} . وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:

" أُعْطِيت أمَّتي ثلاث خِصال لم يُعْطها أحد قبلهم، صُفُوف الصلاة، وتحيَّة

أهل الجنَّة، وآمين، إلا ما كان من موسى وهارون، فقد روى أن موسى

كان يدعو وهارون يُؤمِّن ". وقوله: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} . وقوله: {ما

شَاءَ الله كان} .

قال أبو عبيدة: حدَّثنا مَرْوان بن مُعاوية عن سُفْيان بن زياد، قال:

سمعت [63] سعيد بن جبير يقول: ما أعطى {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}

و {مَا شَاءَ الله كان} إلا النبي صلى الله عليه وسلم. ولو أوتيه أحد لأوتيه يعقوب حين

يقول: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ}

فهذه الكلمة كلُّها ظهرت في الإسلام على لسان محمد صلى الله عليه وسلم بلسان

عربيٍّ، ولم تكن لسائر الأمم على هذا النظم العجيب والاختصار الحسن.

فلما وردت عليهم اضطرُّوا إلى قبولها وتدوينها، والإقرار بفضلهم، ولفظوا

بها عند وجوب الشكر، وطلب الصبر، وفي وقت الاتِّكال والتسليم لأمر الله

عز وجل، وعند فاتحة كلامهم وخاتمته، وعند كلِّ حادِث نِعْمة، أو نازِل

مُلمة. وإن كان الأنبياء الماضون صلوات الله عليهم أجمعين ومن دَرَج من

الصالحين عرفوا معانيها، فإنهم لم يرْسموها لأممهم على هذا الرَّسْم على

هذا الكمال والإحكام. وادَّخَرَها الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم تفضيلاً له

ص: 137

وتشريفاً لمنزلته ورفعة لدرجته، وأبرزَها على لسانه، فَنَطَقَ بها باللسان

العربي المُبين، وأحْكَمَهَا في كتابه، وجَعَلَها فَضَائِلَ له وَمَناقب لأمته،

وألْهَمَ جميع الأمم الاقتداء به واتِّباعه عليه) . اهـ.

وللرافعي في كتابه: " تاريخ الآداب

" بحث نفيس عن

المصطلحات في الجزء الأول منه.

هذا هو مجمل الأسباب الإسلامية في عصر النبوة، وفي عصر الخلفاء

الراشدين التزام الأثر الشريف، والحفاوة بمنهجه المنيف.

فاللبنات الأساس، والمحاور التقعيدية للتعاريف والاصطلاحات من

حيث المقاصد كامنة في دور التشريع إلا أنه لصفاء أذهان الصحابة رضي

الله عنهم، وثاقب فهمهم وسلامة لغتهم، وسرعة طاعتهم وانقيادهم للخير،

ومتابعتهم لنبيه صلى الله عليه وسلم ما كانوا يحتاجون إلى الاستفصال في كثير من مواطن

الإجمال، فلما شرع الله الصلاة خمس مرات في اليوم والليلة و (الصلاة)

عندهم الدعاء، عرفوا المراد من التشريع بسماع التنزيل، ومشاهدة التطبيق

من النبي صلى الله عليه وسلم لها بأعدادها وأقوالها وأفعالها، وتروكها فعرفوا الواجب من

المسنون، والمحرم من المكروه، وهكذا في وقائع التشريع ولغته.

ثم بعد انتقال العلم إلى الأمصار، وكثرة الداخلين في دين الإسلام

على اختلاف الأجناس واللغات والبلدان أخذ حفاظ الشريعة يقربونها

للناس، ويجمعون متفرق الأحكام في قواعد كلية، وتعريفات جامعة

مانعة، فبدأت الصيغ العلمية للتعاريف مستوحاة من نور التشريع جارية

على قواعد اللغة وسننها، وهم على اختلاف تعاريفهم لا تجدهم يختلفون

في قاعدة التعريف ومحوره، وإنما من حيث بعض التعريفات، ودخولها في

مشمول المعرف من عدمه، وبجانب هذا أخذوا أيضاً في قسمة هذه

ص: 138

التشريعات على أحكام خمسة حسب واقع نصوصها من الدلالة والمفهوم.

وهذا ما دل عليه استقراؤهم بتقسيمها إلى تكليفي (1) وهو هذه، وإلى وضعي

وهو ما يشمل: السبب والشرط، والمانع.

(1) فائدة: من المنتشر في كلام أهل العلم تسمية أوامر الدين تكليفاً. إذ دين الله

تعالى: أمر ونهي، والأمر نوعان: أحدهما: مقصود لنفسه، والثاني: وسيلة إلى

المقصود. والنهي نوعان: أحدهما: ما يكون النهي عنه مفسدة في نفسه، والثاني:

ما يكون وسيلة إلى المفسدة. والتكليفي: ينقسم خمسة أقسام واجب ومندوب

إلخ. والتكليف قسيم للوضعي وهو ما قُسِّم إلى سبب وشرط ومانع.. وهكذا.

وابن القيم رحمه الله تعالى. وإن كان أطلق هذه العبارة " التكليف "، " الحكم

التكليفي " في مدارج كلامه من بعض كتبه كالإعلام، وطريق الهجرتين لكنا نجده

في مواضع من إغاثة اللهفان 1 / 31 - 32، ومدارج السالكين 1 / 91، وشفاء العليل

ص: 475، لا يرتضي هذه التسمية ويقرر أن الله سبحانه لم يسم أوامره ووصاياه

وشرائعه تكليفاً قط، بل سماها: روحاً ونوراً، وشفاء، وهدى ورحمة، وحياةً

وعهداً، ووصية، ونحو ذلك وأنه لم تأت تسميتها تكليفاً إلا في مجال النفي كما

في قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} . وقوله: {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا

وُسْعَهَا} ويقرر أيضاً أن تسميتها تكليفاً في مجال الإثبات أنما كان هذا نتيجة

لمذهب نفاة الحكمة والتعليل الذين يردون الأمر إلى محض المشيئة، وصرف

الإرادة وأن القيام بالمأمورات ليس إلا لمجرد الأمر من غير أن تكون سبباً للنجاة

في المعاش والمعاد، فليس للأمر صفة اقتضت حسن الأمر به كما أن النهي ليس

النهي عنه لصفة اقتضت النهي عنه. لهذا سموا الأوامر تكليفاً أي قد كلفوا بها.

فهذا الاصطلاح إذاً يكون في إطلاقه مجاراة لأهل البدع في أهوائهم

واصطلاحاتهم. هذا ما يمكن على حد ما قرره الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى.

وهو بحاجة إلى مزيد من التأمل والبحث فنلفت إليه الأنظار. ولينظر المبحث

السادس عشر. والله أعلم.

ص: 139

وهكذا أخذت تنمو وتتطور بتطور الأزمان والأفكار، ومهما حصل من

التضاد الصوري في إبرازها اصطلاحاً فإن الحقيقة هي كما أنزل الله تعالى

وبين رسوله صلى الله عليه وسلم، وصنعة الكلمات لا تخرج في صورتها عن لغة العرب

وسننها في كلامها.

فكانت خدمة جليلة من علماء الإسلام للإسلام، شكر الله سعيهم،

وأعظم مثوبتهم وأجرهم.

وقد صاحبت هذه اللغة (لغة العلم) التدوين تنمو بنموه وتتسع دائرتها

بانتشاره، وقد بدأت التعاريف الاصطلاحية في القرن الثالث فما بعده،

وذلك حسبما يظهر في كل باب من أبواب الفقه، وفي كل مبحث من

مباحث أصوله وهكذا في سائر العلوم الشرعية.

ومما تقدم يعلم أن لغة الشريعة لم تتكون دفعة واحدة، بل مرت بأدوار

متعددة، وأن نشأتها مصاحبة للتنزيل. ثم أخذت في نطاق التوسع والنمو

بتطور التفريع الفقهي في الفقهيات مثلاً ونموه، وهذا يدل على تقدم

الذهن البشري في محيط الزمن، وأن الشريعة لا تضيق بواردها وقد أكسب

هذا الارتقاء للمواضعات سمة الظهور في جميع العلوم، بل وأفردت

بالتأليف والتدوين.

وما زال العلماء على هذا النحو في المواضعات وهم يرمون من قوس

واحدة في أصالة الاصطلاح وملاقاته للشريعة واللغة. وربما دخل بعد في

اصطلاحهم ألفاظ غير عربية تلقيباً لبعض الواقعات، لأن وقوعها كان في

أقاليم العجم ويظهر هذا في الفقهيات كالسفتجة (1) في كتاب البيوع،

(1) السفتجة: لفظ فارسي، والمراد به إقراض شخص مالاً لآخر ليسلمه المقترض

في بلد آخر إلى إنسان آخر وغرضه أن يأمن خطر الطريق.

ص: 140

والكدك (1) في باب الإجارة.

لكن تكاثر هذه الظاهرة يكون في مصطلحات العلوم الأخرى كالفلسفة

والاجتماع، والكيمياء والطب، ونحوها، لأن هذه العلوم لما ترجمت بعض

كتبها كان المترجمون من مستعربة الأعاجم، فهو لعجمتهم وضعف

عربيتهم ترجموا كيفما اتفق لا كيفما يجب أن يكون، فعمت البلوى

باستعمال هذه الدوال، وتداولها بين العلماء وفي مؤلفاتهم.

ولهذا عيب على صاحب القاموس نقله لكثير من أسماء النبات

والحيوان، والعقاقير بالأعجمية.

لكن لا ترى هذا يزيل لقباً شرعياً اصطلح عليه وهكذا على هذا النهج

والتدرج من التطور من التأليف والتفنن في الصياغة والتقريب، وتتابع

النوازل والواقعات تكاثرت الاصطلاحات، والتعاريف حتى مثلت ظاهرة

إغناء للعلوم الشرعية، بما تستحق أن تحمل بعد اسم (الاصطلاح

الشرعي) .

ومن هنا فإن الناهضين برد الاصطلاح إلى منحاه الشرعي لن يجدوا

ضيقاً ولا حرجاً في إيجاد البديل له من الشريعة واللغة. والله المستعان.

(1) الكدك: هو ما يحدثه المستأجر في العين المستأجرة من بناء وغيره على وجه

القرار.

ص: 141