المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثانيفي معرفة ما يترتب على الإلزام - فقه النوازل - جـ ١

[بكر أبو زيد]

فهرس الكتاب

- ‌التقنين والإلزام

- ‌إيقاظ

- ‌المطْلَبُ الأوّل: عرَضُ تاريخِ نُشُوء هذه الفكرة

- ‌المطْلَبُ الثاني:في بَيَان أوجُه القول بالإلزام مَع بيَان المصالحالمترتّبة عَليْه ثمَّ اتباعِها بمُناقشتها

- ‌الفصل الأولفي أوجه القول بالإلزام

- ‌الفصل الثانيفيما يترتب على الإلزام من مصَالحويندفع به من مفاسد

- ‌الفصل الثالثفي مناقشة أوجه الإِلزام على لسان الممانع

- ‌المطْلَبُ الثَّالثفي أدلة المنع من الإلزاممع بيان المضار المترتبة على القول بالإلزام

- ‌الفصل الأولفي أدلة المنع من الإلزام

- ‌الفصل الثانيفي معرفة ما يترتب على الإلزام

- ‌خلاصَة البَحْث

- ‌المواضعة في الاصطلاح على خلاف الشريعةوأفصح اللغى

- ‌المبحث الأولفي مصادر الأسباب الإسلامية والمصطلحات العلمية

- ‌المبحث الثانيفي ألقاب هذا الفن

- ‌المبحث الثالثفي حقيقة الاصطلاح لغة واصطلاحاً

- ‌المبحث الرابعفي العلاقة بين المعنيين اللغوي والاصطلاحي

- ‌المبحث الخامسفي أن المواضعات سنة لأهل كل فن

- ‌المبحث السادسفي الاجتهاد اللغوي

- ‌المبحث السابعفي تاريخ الأسباب الإسلامية ونشأة المصطلحات الشرعية

- ‌المبحث الثامنفي أنواع المصطلحات

- ‌المبحث التاسعفي طرق المواضعة

- ‌المبحث الحادي عشرفي فوائد الاصطلاح العلمي

- ‌المبحث الثالث عشرفي أن تغيير مصطلحات الشريعةمن ضراوة المخالفين لها

- ‌المبحث الرابع عشرفي العدوان على مصطلحات الشريعة

- ‌المبحث السادس عشرفي تقسيم التشريع إلى أصول وفروع

- ‌المبحث السابع عشرفي ذكر أمثلة لتغييرالمصطلحات في الديار الإسلامية

- ‌خطاب الضمان

- ‌المبحث الأولخطاب الضمان

- ‌المبحث الثانيالفقه الشرعي لخطاب الضمان

- ‌جهاز الإنعاش وعلامة الوفاةبين الأطباء والفقهاء

- ‌المبحث الأولالتصور لأجهزة الإنعاش

- ‌المبحث الثانيعلامة الموت عند الأطباء أو نازلة موت الدماغ

- ‌المبحث الثالثفي حقيقة الموت عند الفقهاء وعلاماته

- ‌المبحث الرابعحالات المريض تحت جهاز الإنعاش

- ‌المبحث الخامسالتكييف الفقهي لهذه النازلة

- ‌طرق الإنجاب في الطب الحديث وحكمها الشرعي

- ‌المبحث الأولبيان ما كتب في هذه النازلة تبعاً أو استقلالاً

- ‌المبحث الثانيقواعد شرعية أمام البحث

- ‌المبحث الثالثفي تفسير مصطلحات طبية ونحوها

- ‌المبحث الرابعتاريخ نشوء هذه النازلة زماناً ومكاناً

- ‌المبحث الخامسولائدها

- ‌المبحث السادسفي صور هذه النازلة

- ‌المبحث السابعفي تنزيل الحكم الشرعي على هذه النازلة

الفصل: ‌الفصل الثانيفي معرفة ما يترتب على الإلزام

‌الفصل الثاني

في معرفة ما يترتب على الإلزام

الثاني عشر: ثم يقال إن من القواعد الشرعية المطبق عليها عند علماء

الإسلام أن سد الذرائع الموصلة إلى المحرم واجب محتم. قال الناظم:

سد الذرائع إلى المحرم

حتم كفتحها إلى المنحتم

وإنه بدراسة التقنين المُلزم في ماضيه، وبالنظر يوماً يترتب عليه في

المستقبل يظهر أن هناك أشياء تترتب على الإلزام بقول مقنن أو مذهب

معين البعض منها مغالب لكل مصلحة ذكرت مترتبة على التقنين الملزم

به فكيف بها جميعها، وذلك لتسلط هذه المخاطر على روح الشريعة

وجوهرها قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيميه رحمه الله تعالى (1) :

إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات يجب ترجيح

الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارضت المصالح

والمفاسد ويجب احتمال أدنى المفسدتين لدفع أكبرهما، وذلك بميزان

الشريعة فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد

برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقل من تعوز النصوص من يكون خبيراً بها

ولدلالتها على الأحكام. انتهى.

ومن المضار المترتبة على التقنين الملزم به ما يلي:

(1) بواسطة: طريق الوصول للشيخ عبد الرحمن السعدي، ص:25.

ص: 82

1-

بدراسة حال التقنين الملزم به في الزمن القريب فإنه لم يثبت على

وتيرة واحدة، بل صار يدخله التغيير والتبديل والمد حيناً والجزر أحياناً حتى

صار الحال إلى ما صار إليه، وهذه فلكة المغزل ومحور المسألة.

2-

العمل به على خلاف الإجماع فقد حكى الشافعي رحمه الله قال:

أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس له أن يدعها

لقول أحد سواه. انتهى.

فمن استبان له صحة حديث قيل بتضعيفه، أو عكسه، أو استنباط

حكم فقهي من كتاب أو سنة، فإنه لا يستطيع الحكم به إذا خالف القول

الملزم به، ففي هذا الإلزام إضعاف لحرمة الإجماع، ووقوع فيما انعقد

عليه المنع (1) ؟

3-

إن في هذا الإلزام إعمالاً لأحد القولين أو أحد الأقوال، وحضراً

لما سواها من الأقوال. والإجماع محكي على المنع من ذلك كما حكاه

الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى في كتابه " الفقيه والمتفقه "(2) . إذاً ففي

هذا خرق لهذا الإجماع.

4-

إذا رأى القاضي أن حكم المسألة مثلاً - وهو كذا كالشفعة رآها

على الفور لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: " لا ضرر ولا ضرار "، ثم صار في التقنين

الملزم به: أن الشفعة على التراخي، لأنه لم يثبت حديث يفيد فوريتها،

أو كان بالعكس. والقاضي لم يتبين له بدليل يجب الرجوع إليه ما يثنيه

عن رأيه، ومعلوم أن خلاف الصواب هو الخطأ، والحق في واحد من

الأقوال، فإن عدل عن رأيه لا لمرجع ولكن لأنه ملزم به صار حاكماً بغير

(1) انظر الصواعق المرسلة 1 / 33.

(2)

1 / 173.

ص: 83

ما يراه صواباً. وبالتالي يكون الحكم بما لا يعتقده ديناً ولا شرعاً. وإن

لم يعدل عن رأيه فماذا يكون؟

ومنه الوجه الآتي

5-

إن هذا مطرد في فروع الشريعة وجزئياتها في حق كل من اعترض

له شيء من ذلك، وفروعه لا تحصى كثرة. ومنه على سبيل المثال لا

الحصر: الشهادة على العقود، قال ابن تيميه رحمه الله تعالى (1) : (الشهادة

على العقود المحرمة على وجه الإعانة عليها حرام، وأما الشهادة في العقود

المختلف فيها التي يسوغ فيها الخلاف فيجوز لمن اعتقد حلها) .

ومنها دعاوي العقود كالأنكحة والبيوع وغيرها، فلا بد من ذكر شروط

العقد المدعى به، وذلك من أجل الاختلاف فيها. وبمعرفة الحال يعرف

القاضي كيف يحكم: إذ أن العقد ربما كان صحيحاً عند غيره باطلاً

عنده، والقضاء على خلاف معتقده ممتنع شرعاً، وقد نص العلماء رحمهم

الله على ذلك في أحكام تحرير الدعوى من كتاب القضاء. والله أعلم.

6-

إن من تبين له الحق في أحد القولين أو الأقوال ثم تعداه إلى غيره

لا لمرجح، فهو ظالم لنفسه ولمن تعدى إليه حكمه. قال ابن تيميه رحمه

الله تعالى (2) :

(والظالم يكون ظالماً بترك ما تبين له من الحق، واتباع ما تبين له أنه

باطل، والكلام بلا علم. فإذا ظهر له الحق فعدل عنه كان ظالماً، وذلك

مثل الألد في الخصام) . انتهى.

(1) بواسطة: طريق الوصول للشيخ عبد الرحمن السعدي، ص:117.

(2)

وبواسطة: طريق الوصول للسعدي، ص:117.

ص: 84

ومعلوم أن حال المُلْزَم لا تخرج عن ذلك والله أعلم. ويزيد هذا

وضوحاً ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى في الفائدة الخامسة عشرة من

الفوائد والإرشادات للمفتي إذ يقول (1) :

(ليحذر المفتي الذي يخاف مقامه بين يدي الله سبحانه أن يفتي

السائل بمذهبه الذي يقلده، وهو يعلم أن مذهب غيره في تلك المسألة

أرجح من مذهبه وأصح دليلاً، فتحمله الرياسة على أن يقتحم الفتوى بما

يغلب على ظنه أن الصواب في خلافه فيكون خائناً لله ولرسوله وللسائل

وغاشاً له، والله لا يهدي كيد الخائنين، وحرم الجنة على من لقيه وهو

غاشٌ للإسلام وأهله، والدين النصيحة والغش مضاد للدين كمضادة

الكذب للصدق، والباطل للحق. وكثيراً ما ترد المسألة نعتقد فيها خلاف

المذهب فلا يسعنا أن نفتي بخلاف ما نعتقده فنحكي المذهب الراجح

ونرجحه، ونقول: هذا هو الصواب. وهو أولى أن يؤخذ به وبالله التوفيق) .

انتهى.

7-

وفي حديث الصحيفة عند البخاري أن رجلاً قال لعلي رضي الله

عنه: هل ترك لكم نبيكم شيئاً غير القرآن، قال: " لا، إلا ما في هذه

الصحيفة أو فهماً يعطيه الله رجلاً في كتابه " فكان في هذا الإلزام منع

لتجدد الفهم والاستنباط من كتاب الله، وأن من استبان له حكم من كتاب

الله فليس له حق التعويل عليه إذا خالف القول الملزم به.

8-

إن الحوادث متكاثرة والوقائع متجددة، فإذا وقع شيء من ذلك

لدى قاضٍ ما فإذا؟ هل يكون إرجاء الحكم حتى يلقن الحكم من لجنة

(1) إعلام الموقعين 4 / 177.

ص: 85

الاختيار أم ماذا؟ . أم يسير على هدي الشريعة ودلها فيعمل رأيه في

استظهار الحكم.

9-

إن القاضي واحد من اثنين، مجتهد أو مقلد (والإجتهاد قابل

للتجزيء والانقسام فيكون الرجل مجتهداً في مسألة أو صنف من العلم

دون غيره) . كما قرره شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى (1) .

فالمجتهد لا يمكن قبوله للإلزام بما يخالف اجتهاده للنص والإجماع

على منعه من الإلزام. والمقلد لا يعتقد إلا تقليد إمامه الذي قلده وأخذ

بمذهبه. وهو من أئمة القرون المفضلة والمُقَنَّنة ليست كذلك فلا يمكن

أخذه بها. إذاً فإن المآل هو التخلي من المؤهلين للقضاء عن ولايتهم

القضاء والله المستعان.

10-

إن في التقنين الملزم به حجراً على الأحكام الاجتهادية، إذ يمنع

مثلاً تغير الفتوى بتغير الزمان. ومن المعلوم أن من قواعد الشريعة: تغير

الفتوى بتغير الأزمنة والأحوال (2) . ومنه الوجه بعده:

11-

إن من الأمور القضائية ما لا يحصى كثرة يرجع فيها القضاء إلى

قاعدة الشريعة: في تحكيم العرف والعادة - للبلد التي فيها التقاضي.

وبهذا قال العلماء: إنه لا يجوز للقاضي إجراء الخصومات فيما سيبله

كذلك إلا بعد معرفة عادات الناس وأعرافهم. ومن المعلوم أيضاً أن العرف

في بلد لا يكون مطرداً في بلد آخر بل قد يختلف ذلك باختلاف البلدان،

(1) بواسطة: طريق الوصول للسعدي ص: 189، وبسطه ابن القيم في إعلام

الموقعين 4 / 216 - 217.

(2)

انظر: إعلام الموقعين 3 / 14 - 107 حيث بسط الكلام على هذه القاعدة.

ص: 86

فهذا أمر إذاً لا يمكن تقنين جزئياته والإلزام بها. ثم العرف أيضاً قد يتغير

من زمان لآخر، لهذا فقد نص العلماء رحمهم الله تعالى على أن المسائل

التي حصل فيها الكلام في مدوناتهم بناءً على العرف، أن الأصل فيها

بناؤها على العرف، والتفصيل بناءً على عرف زمانهم آنذاك، فيتغير ذلك

بتغيره، كما في أحكام إحياء الموات وغيره. وقد فصل أحكام العرف:

ابن عابدين في رسالته: " نشر العَرف في بناء بعض الأحكام والتصرفات

على العُرْف " (1) .

والنتيجة، أن هذا مما لا يمكن تقنينه إلزاماً به بحال. وتقنينه بإرجاع

كل قاض إلى عرف بلده تحصيل حاصل. إذاً فماذا صنع التقنين الملزم

به في جل مادة مواده؟ .

يقول الأستاذ علال الفاسي في كتابه " دفاع عن الشريعة "(2) : (فإذا

اعتبرنا هذا الرأي الذي ساد في المذاهب الفقهية من علم وتقنية القانون

الإيجابي، عرفنا سلامة الطرق الإسلامية التي اتبعت في الصدر الأول:

وهي التدوين مع عدم اعتباره كقانون إيجابي، بل اعتبار مصادر التشريع

التي استمد منها على أنها مجموعة مصادر ومبادئ أساسية ينكشف منها

المجهول.. عن طريق الاجتهاد الذي ظل مفتوحاً أمام المفتي والقاضي.

هذا الاجتهاد الذي يعتبر العرف، والظروف الاجتماعية، وتقلبات الحياة

الإنسانية، ويراعى مصالح الفرد والجماعة) . انتهى.

12-

إنه في البلدان التي يحكم فيها بالقوانين الوضعية والتي قيل فيها

(1) مطبوعة ضمن مجموع رسائل ابن عابدين.

(2)

ص: 264.

ص: 87

إنها ذات مواد يمكن الرجوع إليها بسهولة ويسر. لم تزل المواد التفسيرية

ترد من حين لآخر على تلك المواد المؤصّلة، وذلك للخلاف القائم بين

مفاهيم الحكام في تفسير النصوص وفي تطبيقها على القواعد العملية وعلى

القضايا التي ترد إليهم إلى غير ذلك من أسباب ورود المواد التفسيرية وهو

من لوازم العجز البشري الملازم لطبيعة الإنسان، وهذا شيء بحكم

المستفيض المشهور. وأخباره مدونة في كثير من كتب الصعيدين الشرقي

والغربي، إذاً فالقانون في المواد لم يخلص الناس قضاة ومتقاضين من

ورطة الخلاف، وإمكان إيراد عدة مفاهيم على نص واحد يمكن الحكم

في كل مرة بمفهوم منها.

ونتيجة لهذا (فالفرنسيون ومن حذا حذوهم تركوا للمحاكم حق

الاجتهاد في تفسير النصوص وفي تطبيقها على القواعد العملية وعلى

القضايا التي تعرض عليهم) (1) :

فما دام أن هذه الحقيقة المرة ماثلة أمامنا، فكيف نلجأ إليها، وبالتالي

نستثمر مساوئها. فاللهم إنا نضرع إليك من أصابع التصنع.

قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه تعالى (2) : (من خرج عن الطريق

النبوي الشرعي المحمدي الذي عليه الكتاب والسنة احتاج أن يضع نظاماً

آخر متناقضاً يرده العقل والدين. ولكن من كان مجتهداً في طاعة الله

ورسوله، فإن الله يثيبه على اجتهاده، ويغفر له خطأه {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا

وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} . انتهى مختصراً.

(1) انظر مقدمة في إحياء علوم الدين للمحامي المحمصاني ص: 100.

(2)

بواسطة طريق الوصول للسعدي ص: 172.

ص: 88

13-

إن مسائل الخلاف الفرعية لا يجوز إجماعاً أن يثرب فيها أحد

على أحد إذا أخذ بأحد القولين أو الأجيال مجتهداً متحرياً الحق. ومعنى

هذا الإلزام أن من حكم بقول سوى الملزم به فهو مخطئ غير مأجور ولا

يحسب حكمه نافذاً.

14-

إنه ليس هناك شخص ولا أشخاص يجب اتباعهم بعينهم في كل ما

قالوا سوى نبينا ورسولنا خاتمة المعصومين محمد صلى الله عليه وسلم وفي هذا الإلزام جعل

شخص آخر مماثل له صلى الله عليه وسلم والتفريق بين اتباع المعصوم وغير المعصوم

واجب.

15-

إن من شرط تولية القضاء الاجتهاد والتقنين الملزم به فيه منع

للاجتهاد بالقول أو بقوة القول، بل يصبح القاضي أشبه بالآلة.

16-

إن القاضي الذي توجد فيه روح الاجتهاد ولو في مسألة تعرض

له في الإلزام تقييد لروحه وإذابة لعلومه. وبالتالي فيه قضاء على العلم

وخدمة العلم وإحيائه. ومن المعلوم صحة التجزئة في الاجتهاد لدى

المحققين من أهل العلم.

17-

إن القاضي الذي توجد فيه روح البحث والتحري للحق والاجتهاد

في تطبيق حكم شرعي يراه راجحاً على قضية ما، في الإلزام غض بعلمه

وقسر لفهمه وبالتالي قضاء على علومه وعلمه.

18-

إن الشكوى من قلة المجتهدين، لكن في هذا الإلزام قضاء على

هذه القلة لقطع طريق العلم والحرمان من استقلال النظر.

19-

إن في هذا الإلزام هجراً للمكتبة الإسلامية وتضييعاً لجهود

علمائها ورجالها وسداً لطرق الدلائل والاستنباط لكن عدم الإلزام يقضي

ص: 89

على تلك الأشياء في مخدعها.

20-

قالوا من الممكن أن الانحباس داخل جدار الإلزام يورث

خلافات خارجية إذ أن هذا الملزم به لا يكون نافذاً ولا جارياً إلى على

رقعة الولاية فإذا أحدثت عقود في ديار الإسلام الأخرى على وفق اجتهاد

أو مذهب على خلاف ما صار به الإلزام فما العمل وما الحل؟ .

إن هذا الإلزام لن يقتصر على القضاة فحسب، بل سينفذ إلى المفتين

والمدرسين ومعاهد التعليم إذ لو كانت الفتوى على خلاف ذلك لحصل

التباين وما على معاهد التعليم إلا فهم مواد التقنين الملزم به، وبدراسة

الخلاف وأدلته ودعم لروح الاجتهاد وترويض للنفس عليه وهذا مع الإلزام

برأي معين لا حاجة إليه.

22-

إن القانون المصنوع المختلق الموضوع يتكون من صورة وحقيقة

فصورته على هيئة مواد وذات أرقام وتغيرها بالمادة الأخرى وغير ذلك من

عبارات اصطبغ بها وهي وإن كانت في أصلها معلومة.. إلا أنها أصبحت

عند الإطلاق تنصرف إلى ذلك انصرافاً أولياً كانصراف كلمة (قانون) إلى

تلك الأحكام الوضعية وإن كانت من قبل موجودة لدى بعض الفلاسفة كابن

سيناء ولدى بعض فقهاء الإسلام كابن جزي. قالوا فكما أن الإلزام بأحكام

مناطها الاجتهاد ممتنع بعامة وجوه الأدلة. فإنا كذلك نمانع في الأصل من

هذه التسمية (تقنين) وعلى هذه الهيئة والشكل، لأنه يخشى من وجود

الصورة والشكل أن ينفخ فيه روح أصله في الأجيال المتعاقبة وإن كان ذلك

في حكم المستحيل إن شاء الله، إلا أنه يجب أخذ الحيطة والحذر، حتى

نمشي عليها بيضاء نقية ونتركها لمن بعدنا كذلك إن شاء الله.

ص: 90

قال ابن تيميه رحمه الله تعالى (1) (ولا يحل امتحان الناس بأسماء

ليست بالكتاب والسنة، فإن هذا خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهو

محدث للفتن والتفريق بين الأمة

) .

وقد بسط ابن القيم رحمه الله تعالى ذلك في آداب المفتي من كتابه

" إعلام الموقعين "(2) فقال:

الفائدة التاسعة: ينبغي للمفتي أن يأتي بلفظ النص مهما أمكنه، فإنه

يتضمن الحكم والدليل مع البيان التام، فهو حكم مضمون له الصواب،

متضمن للدليل عليه في أحسن بيان، وقول الفقيه المعين ليس كذلك،

وقد كان الصحابة والتابعون والأئمة الذين سلكوا على منهاجهم يتحرون

ذلك غاية التحري، حتى خلفت من بعدهم خُلُوف رَغِبوا عن النصوص،

واشتقوا لهم ألفاظاً غير ألفاظ النصوص، فأوجب ذلك هجر النصوص،

ومعلوم أن تلك الألفاظ لا تفي بما تفي به النصوص من الحكم والدليل

وحسن البيان، فتولد من هجران ألفاظ النصوص والإقبال على الألفاظ

الحادثة وتعليق الأحكام بها على الأمة من الفساد ما لا يعلمه إلا الله،

فألفاظ النصوص عصمة وحجة بريئة من الخطأ والتناقض والتعقيد

والاضطراب، ولما كانت هي عصمة عهدة الصحابة وأصولهم التي إليها

يرجعون كانت علومهم أصح من علوم مَنْ بعدهم، وخطؤهم فيما اختلفوا

فيه أقل من خطأ مَنْ بعدهم، ثم التابعون بالنسبة إلى مَنْ بعدهم كذلك،

وهلم جرا، ولما استحكم هجران النصوص عند أكثر أهل الأهواء والبِدَع

(1) سياسة طريق الوصول للسعدي ص: 167.

(2)

4 / 170 - 172.

ص: 91

كانت علومهم في مسائلهم وأدلتهم في غاية الفساد والاضطراب والتناقض،

وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُئلوا عن مسألة يقولون: قال الله كذا،

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو فعل [رسول] الله كذا، ولا يعدلون عن ذلك

ما وجدوا إليه سبيلاً قط، فمن تأمل أجوبتهم وجدها شفاء لما في الصدور،

فلما طال العهد وبَعُد الناس من نور النبوة صار هذا عيباً عند المتأخرين

أن يذكروا في أصول دينهم وفروعه قال الله، وقال رسول الله.

أما أصول دينهم فصرحوا في كتبهم أن قول الله ورسوله لا يفيدُ اليقينَ

في مسائل أصول الدين، وإنما يحتج بكلام الله ورسوله فيها الحشوية

والمجسِّمة والمشبهة، وأما فروعهم فقنعوا بتقليد من اختصر لهم بعض

المختصرات التي لا يذكر فيها نص عن الله ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن

الإمام الذي زعموا أنهم قلدوه بينهم، بل عمدتهم فيما يفتون ويقضون به

وينقلون به الحقوق ويبيحون به الفروج والدماء والأموال على قول ذلك

المصنف، وأجلهم عند نفسه وزعيمُهم عند بني جنسه مَنْ يستحضر لفظ

الكتاب، ويقول: هكذا قال، وهذا لفظه، فالحلال ما أحله ذلك الكتاب،

والحرام ما حرَّمه، والواجب ما أوجبه، والباطل ما أبطله، والصحيح ما

صححه. هذا، وأنَّى لنا بهؤلاء في مثل هذه الأزمان، فقد دفعنا إلى أمر تضج

منه الحقوق إلى الله ضجيجاً، وتعج منه الفروج والأموال والدماء إلى ربها

عجيجاً، تبدل فيه (1) الأحكام، ويقلب فيه الحلال بالحرام، ويجعل

المعروف فيه أعلى مراتب المنكرات، والذي لم يشرعه الله ورسوله من

أفضل القربات، الحقُّ فيه غريبٌ، وأغرب منه من يعرفه، وأغرب منهما

من يدعو إليه وينصح به نفسه والناس، قد فلق بهم فالق الإصباح صُبْحَه

(1) في نسخة " تستبدل فيه الأحكام، ويغلب - إلخ ".

ص: 92

عن غياهب الظلمات وأبان طريقه المستقيم من بين تلك الطرق الجائرات،

وأراه بعين قلبه ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع ما عليه أكثر الخلق

من البِدَع المضلات، رفع له علم الهداية فشمر إليه، ووضح له الصراط

المستقيم فقام واستقام عليه، وطوبى له من وحيد على كثرة السكان،

غريب على كثرة الجيران، بين أقوام رؤيتهم قذَى العيون، وشَجَى

الحلوق، وكرب النفوس، وحُمَّى الأرواح وغم الصدور، ومرض القلوب،

وإن أنصفتهم لم تقبل طبيعتهم الإنصاف، وإن طلبته منهم فأين الثريّا من

يد الملتمس، قد انتكست قلوبهم، وعمي عليهم مطلوبهم، رَضُوا

بالأماني، وابتلوا بالحظوظ، وحصلوا على الحرمان، وخاضوا بحار العلم

لكن بالدعاوي الباطلة وشقائق الهذيان، ولا والله ما ابتلت من وَشَلِهِ

أقدامُهم، ولا زكت به عقولهم وأحلامهم، ولا ابيضت به لياليهم وأشرقت

بنوره أيامهم، ولا ضحكت بالهوى والحق من وجوه الدفاتر إذ بُلّتْ بمداده

أقلامهم، أنْفَقُوا في غير نفائس الأنفاس، وأتعبوا أنفسهم وحيروا من خلفهم

من الناس، ضيعوا الأصول، فحرموا الوصول، وأعرضوا عن الرسالة،

فوقعوا في مَهَامه الحيرة وبيداء الضلالة.

والمقصود أن العصمة مضمونة في ألفاظ النصوص ومعانيها في أتم

بيان وأحسن تفسير، ومَنْ رام إدراك الهدى ودين الحق من غير مِشْكَاتها فهو

عليه عسير غير يسير ". انتهى.

هذا من حيث المحذور من تشابك المعاني، أما من حيث وضعها

اللغوي فهي مشتقة من " القانون " وهو كلمة دخيلة كما في كتب اللغة من

القاموس والمحيط وغيرهما.

ولهذا فإن بعض من جهدوا في بحث هذه النازلة وسموها بلفظ

ص: 93

" التدوين " أو " تدوين الأحكام الشرعية " بدلاً من " التقنين ". وفيها يقول

بعض المعاصرين في محاضرة له بذلك (1) :

التدوين: كلمة سأستعملها بمعنى صياغة الأحكام الشرعية في عبارات

إلزامية لأجل تنفيذها والعمل بموجبها، وقد استعمل بعض الزملاء في

الأقطار العربية الأخرى كلمة " التقنين " بدلاً منها، ولكن فضلت عليها

الكلمة العربية " التدوين " من فِعل: دون، تدويناً، ومدونة، لأن التقنين

مشتق من القانون، وهو كلمة دخيلة كما تعلمون، أخذها العرب عن طريق

السريانية من كلمة " كانون " اليونانية. انتهى.

وقال أيضاً: في أوائل كتابه " فلسفة التشريع ".

" إن كلمة " القانون " يونانية الأصل، دخلت إلى العربية عن طريق

السريانية وكان استعمالها في الأصل بمعنى " المسطرة "، ثم صار بمعنى

" القاعدة " وهي اليوم تستعمل في اللغات الأوروبية بمعنى " الشريعة

الكنسية ".. انتهى.

فصارت النتيجة أن التقنين الملزم كما هو ممتنع شرعاً فتسميته " تقنيناً "

مرفوضة لغة وإنما هو تأليف أو تصنيف أو نحوهما من الألفاظ والإطلاقات

الأصيلة المعهودة والله المستعان.

ويتعلق بهذه وبعامة موضوع البحث كلام عظيم لشيخنا محمد الأمين

رحمه الله وذكره في جوابه على المذكرة الإيضاحية أذكره هنا بنصه قال

رحمه الله تعالى: (ومن المهمات التي من أجلها أردنا بيان المصالح

(1) هو الأستاذ صبحي المحمصاني في المحاضرة الخامسة من كتابه مقدمة في إحياء

علم الشريعة.

ص: 94

والمفاسد في المذكرة أن المصلحة أو المفسدة إذا عين أصلها وبينت

مرتبتها أمكن البحث فيها بتفصيل واضح يتضح معه الحق فتمكن المناقشة

نفسها هل هي مصلحة أو مفسدة أو ليست بمصلحة ولا مفسدة، وبيان

مرتبتها ونوعها يمكن الترجيح بينهما وبين ما عارضها من المفاسد أو

المصالح، فلو شخصت المفسدة الناشئة عن اختلاف أحكام القضاة في

المسألة الواحدة بين هل هي من جنس الضروريات أو الحاجيات وإن قيل

أنها من جنس الضروريات بين النوع الذي ترجع إليه من الضروريات هل

هو ديني أو نفسي أو عقلي أو نسبي أو مالي أو عرضي، وإن قيل إنها من

جنس الحاجيات بينت الحاجة الداعية إليها بياناً واضحاً لكان ذلك معيناً

على إعطاء البحث حقه من النظر والإمعان، لأن دفع مفسدة ذلك الخلاف

بالتدوين قد يقال: إنه مستلزم مفسدة أعظم من مفسدة اختلاف القضاة في

المسألة الواحدة ولو كانت من أوكد الضروريات، ولا خلاف بين العلماء

في تخفيف الشر بارتكاب أخف الضررين فالمخالف قد يقول:

إن هذا التدوين الذي يريدون به درء مفسدة اختلاف القضاة يستلزم

مفسدة أعظم من ذلك، لأنه خطوة إيجابية إلى الانتقال عن النظام الشرعي

إلى النظام الوضعي وإيضاح ذلك أن النظام الوضعي تتركب حقيقته من

شيئين: أحدها: صورته التي هي شكله وهيئته في ترتيب مواده والحرص

على تقريب معانيها وضبطها بالأرقام، والثانية: حقيقة روحه التي هي

مشابكة لذلك الهيكل والصورة كمشابكة الروح للبدن، وتلك الروح هي

حكم الطاغوت فصار التدوين مشتملاً على أحدهما والواحد نصف الاثنين

ومما يظن ظناً قوياً ويخشى خشية شديدة أن وضع شكل وصورة النظام

الوضعي بالتدوين وضع حجر أساس لنفتح روح هذا الهيكل الأصلية فيه،

ولا شك أن الظروف الراهنة ومخايل الظروف المستقبلة تؤكد أن تيارات

ص: 95

الإلحاد الجارفة في أقطار المعمورة الناظرة إلى الإسلام بعين الحط

والإزدراء يغلب على الظن ويخاف خوفاً شديداً أنها بقوة مغناطيسها الجذابة

التي جذبت غير هذه البلاد من الأقطار من نظامها الإسلامي التي توارثته

عشرات القرون إلى النظام الوضعي الذي شرعه الشيطان على ألسنة أوليائه

ستجذب هذه البلاد يوماً ما إلى ما جذبت إليه غيرها من الأقطار التي فيها

مئات العلماء كمصر لضعف الوازع الديني في الأغلبية الساحقة من شباب

المسلمين وكون الثقافة المعاصرة من أعظم الأسباب للانتقال إلى القوانين

الوضعية فجميع الملابسات العالمية معينة على الشر المحذور إلا ما شاء

الله ولا سيما إن كنت هيئة كبار العلماء قد يقال أنها ابتدأت وضع الحجر

الأساسي لذلك بالرضا بالانتقال عما توارثته الأمة جيلاً بعد جيل إلى وضع

نظام شرعي ديني في مسلاخ نظام وضعي بشري شيطاني وليس هذا من

الأمور الدنيوية البحتة التي تؤخذ عن الكفار لأنه أمر قد يقال: إنه ذريعة

إلى أعظم فساد ديني مع أن اختلاف بعض القضاة في بعض المسائل

المتماثلة أمر موجود من عهد الصحابة إلى اليوم ولم يستلزم مفسدة عظيمة،

والقضاة المختلفون في المسألة الواحدة في هذه البلاد يلزم رفع اختلافهم

إلى هيئة تمييز من أمثل من يوثق بعلمه وعدالته وربما رفع بعد ذلك إلى

هيئة قضائية عليا، فالمفاسد اللازمة له في النظر الصادق قد تكون أقل شيئاً

مما يقال، وقد يقول المخالف أيضاً:

إن التدوين المذكور سن به فاعلوه التغيير لمن يأتي بعدهم لأنهم

بتدوينهم ألفوا أقوال أهل العلم المخالفة لما دونوا وذلك يدعو لصرف النظر

عن أصولها ومداركها الشرعية، فالذين يأتون بعدهم يوشك أن يقولوا:

هؤلاء الذين دونوا تركوا أقوالاً قالها من هو أعلم منهم وأقدم زماناً، وسنفعل

معهم مثل ما فعلوا مع غيرهم فسيكون ذلك طريقاً إلى التغيير والتعديل،

ص: 96

ويوشك أن ينهي ذلك إلى التبديل الكلي - نرجو الله أن لا يقدر ذلك -

والأمتان اللتان دونتا بعض الأحكام الشرعية أعني الأتراك والمصريين انتهى

أمرهما إلى التبديل الكلي، فهذه المفاسد التي قد يقول المخالف أنها

يخشى أن تنشأ من التدوين هي أعظم المفاسد لأن فيها القضاء على أصل

الدين ومثل هذا لا يصح أن يعارض شيء من المفاسد الأخرى أو

المصالح.. انتهى.

ص: 97