الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
في مناقشة أوجه الإِلزام على لسان الممانع
هذا وللمانعين من الإلزام مناقشات وإيرادات على هذه الأوجه،
وتبيانها على ما يلي:
أولاً: أما الاستدلال بالآية فإنه لا يتجه لما يلي: وهو أن الله سبحانه
أمر بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وحذف الفعل في طاعة أولي الأمر، لأن
طاعتهم إنما تكون فيما فيه طاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم قاله غير واحد من علماء
التفسير. وكما أن مرد التنازع في الأمر هو إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم كما
في أخر هذه الآية، فكذلك الطاعة. وقد جاءت السنة المطهرة تحدد ذلك
وتبينه من أن الطاعة لولي الأمر إنما تكون بالمعروف وفيما فيه معروف،
وهو ما جاءت به الشريعة لا غير. ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: " على
المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر
بمعصية فلا سمع ولا طاعة ".
وهذه الجمل الشريفة من معتقد أهل السنة والجماعة كما عقدها
الطحاوي في العقيدة فقال: (1)
(ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وأن جاروا، ولا ندعوا عليهم
(1) الطحاوية مع شرحها ص: 428.
ولا ننزع يداً من طاعتهم. ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضةً ما
لم يأمروا بمعصية. وندعو لهم بالصلاح والمعافاة) . انتهى.
لهذا فإن ولي الأمر إذا أمر وألزم بما فيه طاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم كجباية
الزكوات مثلاً - وجبت طاعته ولم تجز مخالفته إذ هذا معروف تجب
طاعته فيه - ولو فرض أن ثمة تنازعاً لوجب رد أمر ذلك التنازع إلى أمر
الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فما وافقهما فهو الطاعة في المعروف لا يجوز خلافه.
وفي موضع بحثنا هذا لو أمر الإمام وأوجب على القضاة الحكم بأحد
القولين أو الأقوال في أحكام مناطها الاجتهاد. وذلك المأمور المتأهل يعتقد
ديناً وشرعاً متحرياً الصواب أن الصحيح مقابل ما أُلزِمَ به. فهل يجوز فيمن
سبيله كذلك الحكم بما أُلزم به وترك ما يعتقده؟
قال محمد بني إدريس الشافعي رحمه الله تعالى: (أجمع الناس على
أنه من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس له أن يدعها لقول غيره) .
انتهى.
وسيأتي إن شاء الله تعالى زيادة بيان لهذا عند ذكر احتجاج المانعين
بهذه الآية. والله أعلم.
ثانياً: أما أن عثمان رضي الله عنه جمع الناس على قراءة واحدة
وأحرق باقي القراءات
…
إلخ، فلا بد أولاً من تصحيح الدليل، ثم يكون
الدفع، فمن المعلوم أن القرآن كان مكتوباً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه
كان مفرقاً في العسب واللخاف. ثم إن أبا بكر رضي الله عنه جمعه في
صحف، هذا أمر مشهورة أخباره في الصحاح وغيرها.
وقد ذكر الطحاوي في العقيدة (1) ، أن مذهب أهل السنة عدم الجدال
في القرآن وذكر الشارح من معانيه
…
إنا لا نحاول في القراءة الثابتة، بل
نقرؤه بكل ما ثبت وصح، وذكر حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند
البخاري في قصة رجل قرأ آية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها وفيه قال
ابن مسعود فأخذت بيده فانطلقت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت فعرفت في
وجهه الكراهية وقال: " كلاكما محسن لا تختلفوا فإن من كان قبلكم
اختلفوا فهلكوا " قال الشارح: فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاختلاف الذي فيه
جحد كل واحد من المختلفين ما مع صاحبه من الحق.. ولهذا قال حذيفة
رضي الله عنه لعثمان رضي الله عنه:
أدرك هذه الأمة لا تختلف كما اختلفت الأمم قبلهم، فجمع الناس
على حرف واحد اجتماعاً سائغا وهم معصومون أن يجتمعوا على ضلالة
ولم يكن في ذلك ترك لواجب، إذ كانت قراءة القران على سبعة أحرف
جائزة لا واجبة رخصةً من الله تعالى وقد جعل الاختيار إليهم في أي حرف
اختاروه) . انتهى.
فتبين من هذا أن عثمان رضي الله عن إنما جمع الناس على حرف
واحد لا على قراءة واحدة، والإجماع منعقد على جواز الأخذ بالقراءة بكل
قناعة سبعية كما هو معلوم.
قال أبو شامة (2) ظن قوم أن القراءات السبع الموجودة الآن هي التي
أريدت في الحديث وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة.
(1) ص: 290.
(2)
انظر: فتح الباري لابن حجر:
9 /30.
وقال بعض المحققين: المراد بكون عثمان رضي الله عنه جمع الناس
على حرف واحد هي وحدة جنسية لا نوعية، أي لا أنه أخذ حرفاً واحداً
وترك بقية الحروف والله أعلم.
وأما إحراق عثمان رضي الله عنه بقية المصاحف فقد قال الزركشي (1) :
وفي الجملة: إنه أي عثمان رضي الله عنه إمام عدل غير معاند ولا
طاعن في التنزيل، ولم يحرق إلا ما يجب إحراقه، ولهذا لم ينكر عليه أحد
ذلك، بل رضوه وعدوه من مناقبه، حتى قال علي رضي الله عنه: لَوْ وَليت
ما ولى عثمان لعملت بالمصاحف ما عمل. انتهى.
ومن هذا العرض الموجز لجمع عثمان رضي الله عنه
…
يتبين
التصحيح لما عمله عثمان رضي الله عنه، أما الاستدلال به فهو قياس مع
وجود عدة فوارق منها ما يلي:
1-
إن هذا الجمع الذي جمعه عثمان رضي الله عنه أجمع الصحابة
رضي الله عنهم عليه فأمضوه، وأما الإلزام برأي أو مذهب معين فعامة
أقوالهم وما وقع لهم من الحوادث والاختلاف فيها تفيد منع ذلك. وسيأتي
بيان طرف من أقوالهم إن شاء الله تعالى في مقام أدلة المنع.
2-
إن عامة القراءات الصحيحة التي لم تنسخ لا خلاف في وجوب
العمل بها كالقراءة المعتبرة في المصحف، أما التقنين أو التدوين للأحكام
الملزم بها - فلا يجوز عند من ألزم بها العمل بما عدا هذا القول الملزم
به، والإجماع على خلاف ذلك. قال الخطيب البغدادي (2) :
(1) البرهان في علوم القرآن 1 / 240.
(2)
الفقيه والمتفقه 1 / 173.
(باب القول في أنه يجب اتباع ما سنه أئمة السلف من الإجماع
والخلاف وأنه لا يجوز الخروج عنه.. إذا اختلف الصحابة رضي الله عنهم
في مسألة على قولين، وانقرض العصر عليه لم يجز للتابعين أن يتفقوا على
أحد القولين، فإن فعلوا ذلك لم يترك خلاف الصحابة. والدليل عليه: أن
الصحابة أجمعت على جواز الأخذ بكل واحد من القولين، وعلى بطلان
ما عدا ذلك، فإذا صار التابعون إلى القول بتحريم أحدهما لم يجز ذلك
وكان خرقاً للإجماع) . انتهى.
3-
إن المصحف الذي جمع عثمان الناس عليه هو صواب 100%
لا خطأ فيه وحق لا شك فيه فمن أنكره أو شيئاً منه فهو كافر بإجماع
المسلمين، وأما الأحكام الاجتهادية الملزم بها فلا شك في وجود خطأ فيها
لأنها من اجتهاد غير معصوم والخطأ فيها متحتم كما هو معلوم.
4-
إن هذا الذي جمع عثمان الناس عليه هو من جنس خصال الكفارة
من أن الإنسان مخير في واحدة منها فاقتصر على قراءة بحرف واحد كمن
اقتصر فيمن لزمه كفارة على خصلة واحدة منها. وهذا خلاف الإلزام هنا
فهو في أحد القولين أو الأقوال في مسألة الحق فيها في أحد القولين أو
الأقوال. وقد أفصح عن ذلك الحافظ ابن حجر فقال (1) :
(والحق أن الذي جمع في المصحف هو المتفق على إنزاله المقطوع
به المكتوب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.. وما عدا ذلك من القراءات فمما كانت القراءة
جوزت به توسعة على الناس وتسهيلاً عليهم فلما آل الحال إلى ما وقع من
الاختلاف في زمن عثمان رضي الله عنه، وكفر بعضهم بعضاً، اختاروا
(1) فتح الباري 9 / 30.
الاقتصار على اللفظ المأذون في كتابته وتركوا الباقي. قال الطبري: وصار
ما اتفق عليه الصحابة من الاقتصار كمن اقتصر مما خُير فيه على خصلة
واحدة.. وقد قرر ذلك الطبري وأطنب فيه وَوَهَّى من خالفه) . انتهى.
ثالثاً: أما أن الأصل في الشريعة أن تكون معلومة لتكون ملزمة..
إلخ. فإن صاحب " أضواء البيان " شيخنا محمد الأمين رحمه الله تعالى أورد
ذلك في مذكرة له فقال في الجواب عنه:
(هذا فيه إجمال مانع من فهم المراد منه، فيقال: ما هو المراد بهذا
العلم؟ الأصل في الشريعة أن تكون معلومة به لتكون ملزمة عند
علماء الأصول، فإن كان المراد به ما هو مشهور عندهم: من أن المطلوب
بالتكليف قصد إيقاع الفعل المأمور به على وجه الامتثال. وأن ذلك يتوقف
على العلم بما هو مكلف به، ودون العلم به لا يكون ملزماً به، لأن
التكليف بالمجهول لا يصح، فهذا صحيح، ولكن لا علاقة بينه وبين
موضوع البحث، لأن المكلف بالقضاء الحاكم وهو عالم أو في حكم
العالم بما هو مكلف به من القضاء.
وإن كان المراد أن الخصوم لا يلزمهم حكم الحاكم حتى يعلموا ما
كلفهم به الحاكم بعد الحكم عليهم، فهذا صحيح أيضاً، ولكنه أجنبي
من الموضوع.
وإن كان المراد أن حكم الحاكم بالشريعة يشترط في إلزامه أن يكون
ما يحكم به الحاكم معلوماً عند جميع الخصوم قبل التحاكم، فهذا من
موضوع البحث ولكنا لم نفهم وجهه، ولم نسمع به عند أحد من أهل
الأصل ولا غيرهم، ولذلك احتجنا لإيضاح المراد به، لأن اشتراط علم
السواد الأعظم بتفاصيل الأحكام التي يحكم لهم وعليهم بها قبل التحاكم
في الإلزام بالحكم يحتاج إلى إيضاح وجهه بالدليل.
وبإيضاح وجه هذا يتضح وَجْهُ أعظم الدواعي للتدوين مع العلم بأن
بعض أهل العلم يمنع هذا النوع من التعليم، فلا يجيزون للقضاة الفتوى
للناس في شيء من الأحكام التي من شأنها أن تعرض بين يدي الحكام
لأجل التحاكم فيها معللين ذلك بأن معرفتهم لما عند الحكام قبل التحاكم
عون لهم على الفجور والحيل، لأن الخصم إذا عرف ما يحكم به الحاكم
للخصم وما يحكم به عليه، أعانه ذلك على التوصل إلى الحكم بالباطل
والحيل، وهذا هو مذهب مالك ونقل عنه غير واحد أنه ممنوع. وقيل عنه:
إنه مكروه، وسوى بعضهم بين المنع والكراهة. ولم نعلم أحداً روى عن
مالك جواز هذا النوع من التعليم. ولم نعلم أحداً من أصحابه أجازه إلا
ابن عبد الحكم. وحمل بعضهم قول خليل في " مختصره ": ولم يفت في
خصومه على الكراهة مع اعترافه بأن ظاهر كلامه المنع. وهو الذي جزم
به ابن عاصم الغرناطي في " تحفته " بقوله:
ومنع الإِفتاء للحكام
…
في كل ما يرجع للخصام
وقال شارحه التاودي في شرحه المسمى " مجلي المعاصم لبنت فكر
ابن عاصم " ما نصه:
(أي منع إفتاء الحكام في كل ما من شأنه أن يرجع للخصام من أبواب
المعاملات لما فيه من تعليم الخصوم وإعانتهم على الفجور لا في أبواب
العبادات أو لمتفقه) . انتهى.
وعبارة غيره: ولا يفتى في الخصومة، وهو لمالك وسحنون. وقال ابن
عبد الحكم: لا بأس به، وبه العمل. وظاهر المصنف المنع، وأنه على
التحريم، ويحتمل الكراهة، وعليه حملوا قول خليل: ولم يفت في
خصومة. وحصل الحطاب في المسألة ثلاثة أقوال: المنع، والكراهة،
والجواز
…
انتهى منه.
وقال التسولي في شرحه للتحفة المسمى بالبهجة، ممزوجاً في قول
ابن عاصم: في كل ما يرجع للخصام ما نصه: في كل ما: أي شيء يرجع
للخصام فيه بين يديه من أبواب المعاملات، لأن الخصم إذا عرف مذهبهم
تحيل للوصول إليه أو الانتقال عنه. انتهى محل الغرض منه بلفظه.
وما ذكر بعد هذا من تفصيل فقد تبع فيه بعض المتأخرين وليس
معروفاً في أصل المذهب، وإنما المعروف في مذهب مالك ما ذكرنا،
وليس غرضنا مناقشة الأقوال في منع ذلك أو كراهته، أو جوازه، وإنما
الغرض عندنا أن كل كلامهم على كل تقدير، مُصَرِّحٌ بأن ذلك النوع من
التعليم لا مصلحة فيه البتة، فضلاً عن كون العلم بذلك قبل التحاكم
شرطاً لكون الشريعة ملزمة) . انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
وفي تحرير حكم إفتاء القاضي للناس يقول ابن القيم رحمه الله
تعالى (1) :
(الفائدة السادسة والثلاثون: لا فرق بين القاضي وغيره في جواز
الإفتاء بما تجوز الفتيا به، ووجوبها إذا تعينت، ولم يزل أمر السلف
والخلف على هذا، فإن منصب الفتيا داخل في ضمن منصب القضاء عند
الجمهور.
فالقاضي مفتٍ ومثبتٌ ومنفذ لما أفتى به.
(1) إعلام الموقعين 4 / 220.
وذهب بعض الفقهاء من أصحاب الإمام أحمد والشافعي إلى أنه يكره
للقاضي أن يفتي في مسائل الأحكام المتعلقة به، دون الطهارة والصلاة
والزكاة ونحوها، واحتج أرباب هذا القول بأن فتياه تصير كالحكم منه على
الخصم، ولا يمكن نقضه وقت المحاكمة. قالوا: ولأنه قد يتغير اجتهاده
وقت الحكومة أو تظهر له قرائن لم تظهر له عند الإفتاء فإن أصر على فتياه
والحكم بموجبها حكم بخلاف ما يعتقد صحته. وإن حكم بخلافها طرق
الخصم إلى تهمته والتشنيع عليه بأنه يحكم بخلاف ما يعتقده ويفتي به،
ولهذا قال شريح: أنا أقضي لكم ولا أفتي، حكاه ابن المنذر، واختار
كراهية الفتوى في مسائل الأحكام. وقال الشيخ أبو حامد الإسفرائيني:
لأصحابنا في فتواه - أي القاضي - في مسائل الأحكام جوابان؛ أحدهما:
أنه ليس له أن يفتي فيها، لأن لكلام الناس عليه مجالاً، ولأحد الخصمين
عليه مقالاً. والثاني: له ذلك؛ لأنه أهل له) . انتهى.
رابعاً: أما أن التقنين الملزم به يكون اختيار أحكامه باتفاق أكثر
مجتهدي العصر فيكتسب الإجماع فيقال: إن الإجماع لا ينعقد بقول
الأكثرين من أهل العصر في قول جمهور أهل العلم. قال ابن قدامه رحمه
الله تعالى (1) :
فصل: ولا ينعقد الإجماع بقول الأكثرين من أهل العصر في قول
الجمهور، وقال محمد بن جرير وأبو بكر الرازي وقد أومأ إليه أحمد رحمه
الله تعالى.
ووجهه: أن مخالفة الواحد شذوذ، وقد نهى عن الشذوذ، وقال عليه
(1) روضة الناظر، ص:71.
السلام: " عليكم بالسواد الأعظم "(1) وقال: " الشيطان مع الواحد، وهو من
الاثنين أبعد ". ولنا: أن العصمة إنما تثبت للأمة بكليتها وليس هذا إجماع
الجميع، بل هو مختلف فيه، وقد قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ} . وقال تعالى:
{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} . انتهى.
ويقال أيضاً: هذه مجالس أهل العلم وطلابه ينعقد الاجتماع فيها
لدراسة بعض من مباحث العلم ومطالبه، ثم ينقضي الاجتماع وهم
مختلفون غالباً فكيف يمكن اجتماع طائفة منهم على تدوين مئات
المسائل، بل الالآف منها ويكون الرأي فيها واحداً بالإجماع منهم، وهذا
متعذر بالإجماع في مجمع علمي يحمل ممثلوه الشروط والسمات التي
تؤهلهم لذلك، مبعدين لعامل المجاملة وانطواء الضعيف تحت سلطان
القوي والله المستعان (2) .
خامساً: أما أنه ليس للمانعين دليل يقضي برد الإلزام. فسيأتي إن شاء
(1) هذا الحديث: عليكم بالسواد الأعظم. رواه ابن ماجه من حديث أنس رضي الله
عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن أمتي لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم
اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم " وفي الزوائد (.. في إسناده: أبو خلف الأعمى
واسمه: حازم بن عطاء، وهو ضعيف. وقد جاء الحديث بطرق في كلها نظر، قاله
شيخنا العراقي في تخريج أحاديث البيضاوي) .
وقد رواه أحمد في مسنده موقوفاً من قول أبي أمامة رضي الله عنه 4 / 278 وموقوفاً
أيضاً من قول عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه 4 / 382.
(2)
ووازن بهذا المبحث ما ذكره العلامة محمد سعيد الباني في كتابه (عمدة التحقيق
في التقليد والتلفيق، ص: 44 - 46 فهو مهم) .
الله تعالى في ذكر أدلة المانعين ما يفيد لهم المنع من عامة طرق الأدلة.
أما حديث: ما رآه المسلمون حسناً.. الحديث. فإنه لا يثبت مرفوعاً
إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال العجلوني (1) : رواه أحمد في كتاب " السنة " وليس في
مسنده كما وُهم. انتهى.
والعجلوني رحمه الله تعالى هو الواهم فإن الحديث في مسند أحمد
أيضاً (2) . والذي عليه عامة حفاظ الأثر أن هذا الحديث إنما يصح موقوفاً
من قول ابن مسعود رضي الله عنه. قال ابن القيم رحمه الله تعالى (3) : (وهو
ثابت موقوفاً على ابن مسعود رضي الله عنه انتهى.
وقال أيضاً (4) : (إن هذا الحديث ليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما
يضيفه في كلامه من لا علم له في الحديث، وإنما هو ثابت عن ابن
مسعود قوله. ذكره الإِمام أحمد وغيره، موقوفاً، ثم ذكر الحديث) . انتهى.
وإذا لم يصح مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلا يصح الاستدلال به مرفوعاً.
والله أعلم.
سادساً: لما ذكر أنه بالتقنين تتحقق مصالح وتندفع مفاسد فمناقشتها
على ترتيبها المتقدم على ما يلي:
أ - أما عن الأولى.. فإنه من المعلوم لدى الخاص والعام أن دين
(1) كشف الخفاء: (2 / 245) ورقم الحديث: 2214.
(2)
المسند، 1 / 379.
(3)
إعلام الموقعين.
(4)
الفروسية، ص:60.
الله دين الإسلام صالح لكل زمان ومكان وأنه مر على الإسلام عصور
مختلفة وأطوار متباينة، منها عصور تطور واتساع حتى كانت الدولة العباسية
تشمل القارات الثلاث وكانت أبواب الحكومات الفقهية كلها نافذة وأمرها
راشد وهكذا في سائر عصوره وأدواره ومع ذلك فقد تحققت العدالة بتحكيم
الشريعة، وانتشر اليسر وارتفع الحرج والعسر، وفي هذه الأجيال المختلفة
المتعاقبة وأمام تلك الاختلافات والتطورات والزيادة والنقص لا يعرف عن
واحد من الأئمة المعتبرين وجوب إلزام القضاة في أحكامهم بمذهب أو
رأي معين، بل لما أدلى بها بعض الخلفاء العباسيين ولعله من تأثير بعض
الأدباء فامتنع إمام دار الهجرة من الإجابة إليها وحاشاه أن يوقع الناس في
ضيق على حد قولهم، وهو يجد له في الشريعة مدفعاً. وهذا التعليل هو
ما أبداه ابن المقفع فلا يقال إنه احتجاج جديد أو مصلحة تجددت ولن
يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح أولها.
هذا وإن لنا من واقع غيرنا المشاهد دليلاً ونظراً وهو أن البلاد الغربية
التي تسير أحكامها على أساس القانون الوضعي لم ترتفع شقة الخلاف
فيها وهكذا في البلدان التي قننت فيها الأحوال الشخصية وحددت موادها
وأحكامها لم يرتفع ذلك عنها وهذه مجلات المحاماة ودوائر النقض والإبرام
تعاني من ذلك الشيء الكثير. فماذا صنع التقنين. إذاً فما طريق تحقيق
تلك المصلحة لعل في الجواب عن الفقرة الرابعة بعدُ بياناً لهذا.
ب - أما الجواب عن الفقرة (ب) فقد أورد هذا الاعتراض العلامة
شيخنا محمد الأمين رحمه الله تعالى في جوابه على المذكرة الإيضاحية
في ذلك وأجاب عليه وأنا أذكر هنا كلامه بطوله لنفاسته وغزارة مادته، قال
رحمه الله: (فإنا لم نفهم من هذا الكلام شيئاً يشوه سمعة البلاد، لأنا نرى
أن المتبادر منه هو الثناء العظيم والمدح البليغ لهذه البلاد، لأنه لا شك
أن مرادهم بالعدل الذي ليس بمضمون فيها هو التحاكم إلى الطاغوت كما
أوضحوا ذلك بقولهم: على نحو ما هو معهود في جميع العالم، لأن
المعهود في جميع العالم لا يخرج حرف واحد منه البتة عن حكم
الطاغوت، وذلك الذي سموه عدلاً ونفوا ضمانه في هذه البلاد الذي هو
التحاكم إلى الطاغوت هو عين الكفر وأعظم أنواع الظلم والجور والحيف.
والحقائق لا تتغير بتغيير العناوين.
والسعودية وكل مسلم قد أمرهم ربهم في كتابه بالكفر بما سماه أولئك
عدلاً لما قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ
يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} . وقد جعل الله تعالى
الكفر به شرطاً في الاستمساك بالعروة الوثقى، قال: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ
وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
ومفهومه أن من لم يكفر بالطاغوت لم يستمسك بالعروة الوثقى وهو
كذلك فأي تشويه للسمعة في كون الكفر والجور والحيف الذي عبروا عنه
باسم العدل ليس مضموناً في المحاكم السعودية أعاذها الله من ذلك
العدل، فنفيه عنها في الحقيقة مدح وثناء.
وهو في الواقع حلقة من السلسلة المشهورة عند الأوربيين ومن سار
في ركابهم من الطعن في هذه البلاد بسبب بقائها وحدها معلنة التمسك
بنور السماء، كالرجعية والتأخر والجمود والوحشية وكبت الحرية ونحو ذلك.
ولا شك أن من هذا النوع قول هؤلاء المتحاكمين إلى محاكم باريس
(إن العدل غير مضمون في المحاكم السعودية) ومن المعلوم أنه ليس
مرادهم بالعدل معناه الحقيقي ولا مجرد التدوين، لأنهم لا يرون في شرع
الإسلام إنصافاً أصلاً ولو كانوا يرونه فيه لاتبعوه، ولما سموا إقامة الحدود
وحشية ولا سموا المنع من الفوضى الخلقية والعمالية والإباحية على ضوء
الدين السماوي كبت حرية كما هو واضح، ولا يعقل كون التدوين وحده
عدلاً بقطع النظر عن ما هو مدون كما لا يخفى، وبالجملة فإن العدل
المذكور إنما لم يكن مضموناً في محاكم هذه البلاد، لأن الكفر به من
أصول دينها.
ومما يوضح أنهم ليس مرادهم بالعدل مجرد التدوين إيضاحاً لا لبس
فيه أن كل إنسان يعتقد نظاماً من الأنظمة جوراً وظلماً لا يقتنع بمجرد حسن
عبارات ذلك النظام وإيضاحها وسهولة منهجها وحسن ترتيبها وهذا
ضروري، ولا شك معه أن العبرة بنفس المدون لا ينضبط، وحسن التدوين
وعلى كل حال فمما لا مجال للشك فيه أن هؤلاء الذين فروا من المحاكم
الإسلامية بدعوى أن العدل ليس مضموناً فيها، وذهبوا يطلبون العدل
المضمون في محاكم باريس أنهم لا يريدون إلا النظام الوضعي الذي هو
زبالات أذهان الكفرة، وقد أوضحوا ذلك غاية الإيضاح في قولهم: على
نحو ما هو معهود في جميع العالم.
ولهذا لم نفهم وجه كون كلامهم هذا تشويهاً لسمعة الإسلام أو
المسلمين حتى يكون ذلك داعياً إلى معالجته بالتدوين، ورضي الله عن
حسان بن ثابت في الرد على ذم الكفار للمسلمين:
ما أبالي أنب بالحزن تيس
…
أم لحاني عن ظهر غيب لئيم
ومما لا مجال للشك فيه أيضاً أن الذين يعلنون التحاكم إلى وحي الله
الذي أنزله على رسوله متسببون بذلك في توجيه أنواع الشتائم وفنون الأذى
من كل من يتحاكمون إلى الطاغوت وهم سكان المعمورة في جميع
نواحيها إلا من شاء الله، فهم جديرون جداً بالاستعداد الكامل للصبر
الجميل الذي لا تزعزعه عواصف الباطل ولهم بذلك أعظم الأجر عند الله
وأحسن الأسوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في صبرهم على أذى المشركين
واليهود كما قال تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ
الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}
…
وإن كان أولئك الباريزيون قالوا إن محاكم فرنسا أعدل من محاكم
المسلمين، فللمسلمين أسوة حسنة في النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين قال اليهود
إن كفار مكة المكرمة أهدى منهم سبيلاً وأنزل الله في ذلك قوله تعالى:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ
وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا. أُولَئِكَ الَّذِينَ
لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} .
والواقع يشهد بكذب دعوى هؤلاء المتحاكمين إلى محاكم باريس كما
يشهد به جميع من لم يكتم الحق في جميع نواحي المعمورة، لأن بلاد
هذه المحاكم التي نفوا ضمان العدل عنها يوجد فيها من العدالة والطمأنينة
الكاملة على حفظ الأنفس والعقول والأنساب والأموال والأعراض ما لا
يوجد معشار عشره في باريس ولا في غيرها، وفي كل موسم حج تأتي وفود
الحجيج من جميع أقطار الدنيا، وكثرة أعدادهم الهائلة لا يخفى، فيسعهم
جميعاً العدل والإنصاف والرخاء والطمأنينة، وحفظ جميع ما يهمهم، وذلك
كلّه بفضل الله ثم بعدالة هذا النظام السماوي الذي تسير عليه هذه البلاد
التي زعم الباريزيون أن العدل أقرب في محاكم باريس منه في محاكمها.
انتهى.
وقال الأستاذ علَاّل الفاسي، في معرض بيانه أن خوف المسلمين من
انتقاد الأجانب والمثقفين - في تحكيم الشريعة - وهمٌ موروث. قال (1) :
(وهي هزة يجب أن لا نفزع منها، بل يجب أن نعتبرها بمثابة خفقة
القلب التي تحصل لمن يخرج وحده في الظلام أحياناً؛ عبارة عن ضعف
الأعصاب وعدم الإرادة، سرعان ما تزول إذا تذكر الخائف أن الليل والنهار
سيان بالنسبة لحركة الإنسان وسكونه، وأنه ليس هنالك كما يعلم هو يقيناً
طارئ ولا تشكل من الكائنات، إن هي إلا أوهام وخزعبلات، وكما
يشتد عزم ذلك الخائف. فيتحدى أوهامه، كذلك يجب أن يشتد عزم
الذين يضعفون خوف الاتهام بالرجعية، فيعلمون أن ذلك مجرد خزعبلات
موروثة عن الاستعمار ومن إيحاء رجاله) . انتهى.
جـ - أما الفقرة الثالثة التي مفادها عدم بلوغ كثير من القضاة رتبة
الاجتهاد ولو في مذهب إمامه فيقال ليعلم أولاً أن مذهب الجمهور منهم
مالك والشافعي وأحمد والظاهرية وبعض الحنفية هو شرطية توفر الاجتهاد
فيمن يولى للقضاء (2) وذلك بأن يكون عارفاً بالأصول التي ترجع الأحكام
إليها لا أن يكون عالماً حكم كل قضية بعينها. انتهى. ثم أن أهل العلم
قدروا حالة ضعف ذلك مثلاً فقرروا أن ما يشترط في القاضي من الاجتهاد
والعدالة يجب تولية من وجدت فيه دون سواه.
وهكذا يولي الأمثل فالأمثل ومن توفرت فيه الشروط على من دونه ولم
يذكروا اللجوء إلى الإلزام برأي أو مذهب معين لا يجوز تعديه ولو كان
(1) انظر كتابه: دفاع عن الشريعة، ص:255.
(2)
انظر: المغني 11 / 382، والمحلى 9 / 442.
ذلك في صالح البشر في أي زمان أو مكان وهو الأمر المهم الذي يتعلق
بتحكيم الشريعة في دماء الناس وأموالهم لبيَّنه الله سبحانه المحيط علمه
بكل شيء. بل من رأفته قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} .
وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} . وأمثالها كثير من الآيات، قال شيخ
الإسلام ابن تيميه رحمه الله (1) : وكذلك ما يشترط في القضاة والولاة يجب
فعله بحسب الإمكان، بل وسائر العبادات من الصلاة والجهاد وغير ذلك،
فكل ذلك واجب مع القدرة فأما مع العجز فإن الله لا يكلف نفساً إلا
وسعها إلى آخر كلامه رحمه الله.
ثم إنه من واقع هذه البلاد إنه يتخرج في كل عام عدد غير قليل من
كليات العلوم الشرعية التي فيها تدرس جملة العلوم الشرعية من الكتاب
والسنة وعلومهما والفقه وأصوله مما لو طبق على ما ذكره الأئمة في شرطية
الاجتهاد وبيانه لوجد ذلك مطابقاً أو مقارباً. وإنه وإن أصاب البعض قصور
علمي فهو نتيجة للعجز البشري وما يكون في البعض فلا يسري حكمه
على الكل. والعجز البشري أمر ملازم في غالب الناس معهود في تعلم
سائر العلوم الإسلامية سوء كان الدارسون مسلمين أم غير مسلمين، وهذا
مما يدل على أن كمال القوى والقدر لا يتصف بها إلا واهبها سبحانه،
لكن الذي ينبغي بل يتحتم هو حسن الاختيار والاجتهاد فيه وتولية الاختيار
إلى أهله المدركين الناصحين لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولأئمة المسلمين وعامتهم.
وهكذا يكون علاج ذلك عن طريق السنة واقتفاء الأثر والترسم لما كان عليه
الصدر الأول والتابعون لهم بإحسان، ثم يقال على سبيل التنزل: إذا جاز
هذا في حق من ذكرت حاله فما العمل في من هو أهل للاجتهاد، فهل
(1) مجموع الفتاوى 28 / 388.
يلزم الجميع أم يجري التمييز بين من يلزم من غيره أم ماذا؟ .. ثم إن
تطبيق الحكم الشرعي على الكثير الأغلب من الخصومات والقضايا يعد من
أوائل المعلومات الشرعية بوجود نص قطعي على أنه متى وردت مشكلة
قضائية وجب بذل الوسع والطاقة من البحث والاستشارة متحرياً الصواب ثم
يكون إجراء الحكومة. وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله ذلك فقال (1) :
(ومتى أمكن في الحوادث المشكلة معرفة ما دل عليه الكتاب والسنة كان
هو الواجب، وإن لم يمكن ذلك لضيق الوقت أو عجز الطالب أو تكافؤ
الأدلة عنده أو غير ذلك فله أن يقلد من يرتضي علمه ودينه هذا أقوى
الأقوال، وقد قيل ليس له التقليد بكل حال، وقيل له التقليد بكل حال
والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد وغيره) انتهى.
د - وأما أن في الإلزام بمذهب معين دفعاً للحكم بالتشهي: فيقال إن
من شرط تولية القاضي للقضاء العدالة عند جماهير العلماء، بل حكى
اتفاق الأئمة عليه شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله (2) قال: وسئل بعض
العلماء إذا لم يوجد من يولى القضاء إلا عالم فاسق أو جاهل فأيهما
يقدم؟ فقال: إن كانت الحاجة إلى الدين أكثر لغلبة الفساد قدم الدين،
وإن كانت الحاجة إلى العلم أكثر لخفاء الحكومات قدم العالم. وأكثر
العلماء يقدمون الدين، فإن الأئمة متفقون على أنه لا بد في المتولي أن
يكون عدلاً أهلاً للشهادة، واختلفوا في اشتراط العلم وذكره) . انتهى.
ومن المعلوم أن حكم القاضي في قضية هو في تلك فلا يعم حكمه
فيها جميع العالمين. ومن المعلوم أن حكم الحاكم ينفذ ظاهراً لا باطناً،
(1) مجموع الفتاوى، 28 / 388.
(2)
مجموع الفتوى، 28 / 259.
لأن القاضي عرضة للخطأ وهو مأجور على كلا الحالين، وهذا سيد الأولين
والآخرين يقول إنكم تختصمون إلي
…
الحديث، فالقاضي إذا حكم في
خصومة لديه بحكم اجتهادي على أحد القولين أو الأقوال. وفي قضية
أخرى حكم بالقول الثاني فيها مُبيناً وجه عدوله عن القول الأول، فلا ينبغي
علينا التثريب عليه، فإن حكمه الأول هو لتلك القضية فلا يسري على
غيرها وحكمه في كلا القضيتين نافذ ظاهراً والله أعلم.
قال الموفق رحمه الله (1) : (وروى أن عمر حكم في المشركة بإسقاط
الإخوة من الأبوين ثم شرك بينهم بعد وقال تلك على ما قضينا، وهذه على
ما نقضي وقضى بالجد بقضايا مختلفة ولم يرد الأولى، ولأنه يؤدي إلى نقض
الحكم بمثله، وهذا يؤدي إلى ألا يثبت الحكم أصلاً، لأن الحكم الثاني
يخالف الذي قبله والثالث يخالف الثاني فلا يثبت حكمه) . انتهى.
وقال البيهقي في سننه (2) باب من اجتهد من الحكام ثم تغير اجتهاده
أو اجتهاد غيره فيما يسوغ فيه الاجتهاد ولم يرد ما قضى به، وذكر آثاراً منها
أثر عمر المتقدم ذكره.
هذا ما ينبغي أمام من صار فيه شيء من ذلك على فرض وقوعه، فإنه
ظاهراً مجتهد في عين ذلك الحكم متحر للحق والله تعالى يتولى بواطن
الأمور، والكل مؤمن حق الإيمان بالمراحل الإنسانية وما فيها من الوعد لمن
أطاع والوعيد لمن عصى وحكم بالهوى، وفي الحديث الصحيح عن بريدة
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد
في الجنة " وفيه " رجل عرف الحق فلم يقض به وجار في الحكم فهو في
(1) المغني 9 / 57.
(2)
السنن الكبرى 10 / 120.
النار ". الحديث رواه الأربعة والحاكم وصححه. ونحن نضرع إلى الله أن
يوجد بين علماء المسلمين من هذه حاله وصفته قال شيخ الإسلام ابن
تيميه رحمه الله (1) : (فالمفتي والجندي والعامي إذا تكلموا بالشيء بحسب
اجتهادهم اجتهاداً أو تقليداً - قاصدين لاتباع الرسول بمبلغ علمهم لا
يستحقون العقوبة بإجماع المسلمين وإن كانوا قد أخطئوا خطأً مجمعاً
عليه، وإذا قالوا إنا قلنا الحق واستدلوا بالأدلة الشرعية لم يكن لأحد من
الحكام أن يلزمهم بمجرد قوله ولا يحكم بأن الذي قاله هو الحق دون
قولهم.. كالمسائل التي تقع يتنازع فيها أهل المذاهب لا يقول أحد أنه
يجب على صاحب مذهب أن يتبع مذهب غيره لكونه حاكماً فإن هذا
ينقلب فقد يصير الآخر حاكماً فيحكم بأن قوله هو الصواب إلى آخر كلامه
رحمه الله تعالى.
هـ - أما وجود قضيتين متماثلتين واختلاف حكمهما فيقال إنه يكون
هناك قضيتان متماثلتان ظاهراً لا عند قاضيين فحسب، بل عند قاضٍ واحد
فيختلف الحكم فيهما اختلافاً جوهرياً عكسياً فيبدوا لمن هو بعيد عن
مجرى تلك الحكومتين أن هذا من الظلم لكن من تذوق القضاء وتروى
بمعرفة ملابسات الخصومات وما يحيط بها أبدى التوقف عند ذلك. إذ لا
تكون القضيتان متماثلتين من كل وجه، بل يكون توفر في هذه من الوجوه
والدلائل ما يقضي بأن يكون حكمها على خلاف تلك القضية التي يظن
مشابهتها بها من كل وجه. وخلاصة ما يظن منه وجود تضارب في القضاء
هو منحصر في واحد من الوجوه الأربعة التالية:
1-
قضيتان مماثلتان في الظاهر لكن أحاط بكل واحدة منهما ما
(1) مجموع الفتاوى، 25 / 379.
يوجب أن يكون الحكم على خلاف الظاهر فاختلفتا حكماً فهذا عين
العدل.
2-
قضيتان متماثلتان من كل وجه عند قاضي واحد فقضى فيهما بآن
واحد بحكمين مختلفين فهذا ممتنع شرعاً وواقعاً. ولو فرض وقوعه فالعدالة
تأخذ مجراها في الحاكم وحكمه.
3-
قضيتان متماثلتان عند قاضي واحد وقضى فيهما بزمنين بحكمين
مختلفين عن اجتهاد ونظر أوضحه في حكمه وبرهن عليه حيث اقتضى فيه
الرجوع عن رأيه الأول إلى الرأي المقابل، فهذا سائغ شرعاً كما وقع في
ذلك عدة قضايا لعمر وغيره من الصحابة رضي الله عنهم فلا تثريب إذاً.
4-
قضيتان متماثلتان من كل وجه فقضى بهما قاضيان في بلدين مع
الاختلاف في الحكم، فهذا لا مانع منه ما دام أن كل واحد أخذ برأي
مأثور مجتهداً فيه متحرياً الحق، وهذا هو الذي منع الإمام مالك من العمل
على خلافه وقال في مقاله ابن كثير وهذا من تمام علمه واتصافه
بالإنصاف (1) .
1-
أما أن يقع تجاذب بين القاضي وهيئة تمييز الأحكام: فيقال إن
التجاذب في ذلك غالباً ما يكون في فهم واقع القضية، فهذا الأخذ والرد
فيما لم يمحص حتى يجري تمحيصه وتصحيح المفاهيم فيه وهذا النوع
هو الأغلب الأكثر ولا سلطان للبحث فيه هنا. وأما الاختلاف في الفهم
للرأي المختار فقهاً في تطبيقه على قضية ما فإن ذلك الحكم أمام جهة
النقض والإبرام على أنواع.
(1) الباعث الحثيث، ص:30.
منها: أن يكون الحكم على وفق نص قطعي الثبوت والدلالة فهذا لا
يجوز نقضه بحال.
منها: أن يكون الحكم على خلاف ذلك فهذا يجب نقضه ولا يجوز
إبرامه بحال.
ومنها: أن يكون الحكم مسرحاً للاجتهاد فهذا لا يجوز نقضه إذ يؤدي
نقضه إلى الدور والاضطراب وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد منهم
الخطيب في الفقه والمتفقه (1) والآمدي في الأحكام (2) ، والقرافي في
الإحكام (3)، قال الآمدي المسألة الثامنة: اتفقوا على أن حكم الحاكم لا
يجوز نقضه في المسائل الاجتهادية لمصلحة الحكم، فإنه لو جاز نقض
حكمه إما بتغير اجتهاده أو بحكم حاكم آخر لأمكن نقض الحكم بالنقض،
ونقض النقض إلى غير نهاية، ويلزم من ذلك اضطراب الأحكام وعدم
الوقوف بحكم الحاكم وهو خلاف المصلحة التي نصب الحاكم لها إلى
آخر كلامه رحمه الله. وقال الخطيب: ولأن في نقض الحكم فساداً لكونه
ذريعة إلى تسليط الحكام بعضهم على بعض فلا يشاء حاكم يكون في
قلبه على حاكم شيء إلا تعقب حكمه بنقض فلا يستقر حكمه، ولا يصح
لأحد ملك، وفي ذلك فساد عظيم. انتهى. والله أعلم.
(1) جزء 2، ص:65.
(2)
4 / 203.
(3)
ص: 66، 67.