الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
في حقيقة الموت عند الفقهاء وعلاماته
حقيقة الموت عند الفقهاء:
الموت يراد به: الوفاة، المنية، المنون، الأجل، الحمام، السام،
ونحوها كانقطاع الوتين، وانقطاع الأبهر. جميعها أسماء لمسمى واحد هو:
مفارقة الروح البدن.
وهذه هي حقيقة الوفاة عد الفقهاء وتكاد كلمتهم تتوارد على هذا،
ولم يتم الوقوف على خلافه في كلامهم من أنه مفارقة الروح البدن، بل
هو حقيقة شرعية لا يعلم فيها خلاف.
والروح قال الله تعالى في شأنها: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ
مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} فأوقف العقل عند حده وأتي
عن الروح بخبر لا يمكن نقضه، هذا على أحد التفسيرين للآية.
ولهذا قال البعض لا يجوز الكلام في الروح، لأنه مما استأثر الله
بعلمه كما في هذه الآية. والذي عليه الأكثرون الجواز فقالوا الروح جسم
نوراني لطيف مشتبك بالبدن اشتباك الماء بالعود الأخضر. قال الله تعالى:
{فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} وفي أخرى {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} . والنفخ
لا يتحقق إلا في جسم لطيف كما في كتاب: أصول الدين للبزدوي
ص / 222.
وقد جاء حديث عظيم النفع جليل القدر وهو حديث: البراء بن عازب
رضي الله عنه الطويل المشهور بطوله في مسند أحمد رحمه الله تعالى،
والذي جمع طرقه: الدارقطني في جزء مفرد، وبسط ابن القيم القول فيه
سنداً ومتناً في كتاب " الروح ".
قال البراء رضي الله عنه: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل
من الأنصار فانتهينا إلى القبر إلى أن قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن
قبض روح المؤمن " فتخرج نفسه تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء
فيأخذها ملك الموت ". الحديث. وأما الكافر فقال: " فينتزعها كما ينتزع
السفود من الصوف المبلول فيأخذها "
…
الحديث.
وفي سورة الحاقة قال الله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ.
لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِاليَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِينَ} قال المفسرون: " الوتين: نياط
القلب، أي لأهلكناه وهو: عرق يتعلق به القلب إذا انقطع مات صاحبه،
قاله ابن عباس وأكثر الناس ". اهـ من تفسير القرطبي 18 / 276 وذكر أقوالاً
بمعناه.
وفي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته من صحيح البخاري في كتاب
المغازي 8 / 131.
" قالت عائشة رضي الله عنها كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات
فيه: " يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان
انقطاع أبهري من ذلك السم " اهـ.
قال الحافظ ابن حجر في: الفتح 8 / 131: (قال أهل اللغة: الأبهر،
عرق مستبطن بالظهر متصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه. وقال
الخطابي: يقال أن القلب متصل به) . اهـ.
والأبهر في اصطلاح الطب الحديث باسم " الأورطي " وهو شريان يندفع
منه الدم إلى الدماغ وبقية أعضاء الجسم كما في بحث: البار، ص / 8،
وفي إحياء علم الدين للغزالي 4 / 493 نص مهم ترجمه بقوله: الباب
السابع: في حقيقة الموت، وما يلقاه الميت في القبر إلى نفخة الصور،
ثم قال: بيان حقيقة الموت:
(اعلم أن للناس في حقيقة الموت ظنوناً كاذبة قد أخطئوا فيها - فذكرها
وأبطلها ثم قال: وكل هذه ظنون فاسدة ومائلة عن الحق، بل الذي تشهد
له طرق الاعتبار وتنطق به الآيات والأخبار أن الموت معناه: تغير حال
فقط، وأن الروح باقية بعد مفارقة الجسد، إما معذبة وإما منعمة.
ومعنى مفارقتها للجسد: انقطاع تصرفها عنه بخروج الجسد من طاعتها
فإن الأعضاء آلات للروح تستعملها حتى إنها لتبطش باليد.. إلى قوله:
والموت عبارة عن استعصاء الأعضاء كلها، وكل الأعضاء آلات والروح
مستعملة لها - إلى أن قال: نعم لا يمكن كشف الغطاء عن كنه حقيقة
الموت من لا يعرف الحياة) . اهـ.
وعند قول الطحاوي في عقيدته ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض
أرواح العالمين (قال شارحها ص / 446 في مبحث: هل تموت الروح
أو لا؟) والصواب أن يقال: (موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها
منها..) . اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية 4 / 223: (قد استفاضت الأحاديث عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الأرواح تقبض وتنعم وتعذب، ويقال لها اخرجي أيتها
الروح الطيبة) . اهـ.
الخلاصة:
فمن مجموع ما تقدم نستخلص ما يلي:
1-
إن حقيقة الوفاة هي: مفارقة الروح البدن.
2-
وأن حقيقة المفارقة: خلوص الأعضاء كلها عن الروح، بحيث لا
يبقى جهاز من أجهزة البدن فيه صفة حياتية.
أمارات الوفاة عند الفقهاء
ثبت في صحيح مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: " إن الروح إذا قبض أتبعه البصر ".
وفي حديث شداد بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا
حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر فإن البصر يتبع الروح، وقولوا خيراً فإنه
يؤمن على ما يقول أهل الميت " رواه أحمد.
فشخوص بصر المحتضر علامة ظاهرة على قبض روحه ومفارقتها
لجسده.
والفقهاء رحمهم الله تعالى يذكرون العلامات والأمارات الظاهرة التي
بموجبها يحكم بموت المحتضر كما في حاشية ابن عابدين 1 / 189،
والفتاوى الهندية 1 / 154، ومختصر خليل 1 / 37، وروضة الطالبين
2 / 98، وشرح المنهاج 1 / 322، والمغني 2 / 452، ومنتهى الإرادات
1 / 323.
وجماع ما ذكروه من العلامات هي (1) :
1-
انقطاع النفس.
2-
استرخاء القدمين مع عدم انتصابهما.
3-
انفصال الكفين.
4-
ميل الأنف.
(1) وانظر بحوثاً في كتاب: الحياة الإنسانية ص / 430، 475 - 476.
5-
امتداد جلدة الوجه.
6-
انخساف الصدغين.
7-
تقلص خصيتيه إلى فوق مع تدلي الجلدة.
8-
برودة البدن.
وبالجملة فالحكم بالموت بانعدام جميع أمارات الحياة.
والملحوظ في هذه الأمارات أنها أدلة وظواهر تدرك بالمشاهدة والحس
ويشترك في معرفتها عموم الناس.
تنبيه:
ويضيف النووي في روضة الطالبين عن الرافعي 2 / 98 نصاً مهماً عند
الشك فيقول: (فإن شك بأن لا يكون به علة، واحتمل أن يكون به سكتة،
أو ظهرت أمارات فزع أو غيره، أخر إلى اليقين بتغير الرائحة أو غيره) . اهـ.
الخلاصة الجامعة للأبحاث المتقدمة:
1-
إن أجهزة الإنعاش: إنجاز طبي مهم في حياة الإنسان.
2-
إن حقيقة الموت عند الفقهاء هي: مفارقة الروح البدن.
3-
إن علامة الموت عند الأطباء هي: موت جذع الدماغ بتعطل جميع
وظائفه وأخذه في التحلل، لا موت الدماغ كما هو رأي لبعضهم.
4-
إن علامة الموت عند الفقهاء: توقف القلب والتنفس توقفا تاماً لا
رجعة فيه. وهي كذلك عند الأطباء فيما لا يدخل تحت جهاز الإنعاش.
5-
إن لهذه العلامات عند الفقهاء وعند الأطباء أمارات، وأن هذه من
الجائز تخلفها عند الفقهاء وعند الأطباء.
واعلم أن الأطباء مع الفقهاء في الحكم على عامة الوفيات بالوفاة
بمفارقة الروح البدن فالتقت الحقيقة الطبية مع الحقيقة الشرعية. والبحث
لدى الأطباء بالحكم بنهاية الحياة الإنسانية بموت " جذع الدماغ " هو في
الحالات التي تدخل تحت جهاز الإنعاش، لهذا فإن البحث يعني في
حدود حالات ضيقة وهي: ما يدخل تحت جهاز الإنعاش " لا غير، فإلى
بيانها: