المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الرابع: الحياة العقلية عند عرب الحجاز في العصر الجاهلي - قصة الأدب في الحجاز

[عبد الله عبد الجبار]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات:

- ‌تمهيد: وصف عام للحجاز وبيئته الطبيعية والبشرية

- ‌القسم الأول: العوامل المؤثرة في الأدب الحجازي

- ‌الباب الأول: الحياة السياسية-توطئة الجاهلية وتحديد العصر الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: أهمية الحجاز في العصر القديم

- ‌الفصل الثاني: تاريخ الحجاز السياسي

- ‌الفصل الثالث: طبيعة الحكم في الحجاز في العصر الجاهلي

- ‌الباب الثاني: الحياة الاجتماعية لعرب الحجاز في العصر الجاهلي

- ‌الفصل الثالث: اللغة العربية في الحجاز

- ‌الباب الثالث: الحياة الدينية

- ‌الفصل الأول: معبودات الحجازيين وعاداتهم الدينية

- ‌الفصل الثاني: أشهر الأصنام في الحجاز

- ‌الباب الرابع: الحياة العقلية عند عرب الحجاز في العصر الجاهلي

- ‌الباب الخامس: شخصيات حجازية في العصر الجاهلي

- ‌القسم الثاني: الحياة الأدبية في الحجاز في العصر الجاهلي، النثر

- ‌الباب الأول: صورة عامة للنثر الحجازي في العصر الجاهلي

- ‌الباب الثاني: فنون النثر الحجازي في العصر الجاهلي

- ‌الفصل الأول: الحكم والأمثال

- ‌الفصل الثاني: الخطب والوصايا

- ‌الفصل الثالث: المحاورات والمفاخرات والمنافرات وسجع الكهان

- ‌الحياة الأدبية في الحجاز في العصر الجاهلي، الشعر:

- ‌الباب الأول: فكرة عامة عن الشعر الحجازي في العصر الجاهلي

- ‌الفصل الأول: نماذج هذا الشعر

- ‌الفصل الثاني: لمحة عامة عن الشعر الجاهلي

- ‌الباب الثاني: الشعر الحجازي بين الصحة والوضع

- ‌مدخل

- ‌ الشعر الحجازي في الميزان:

- ‌استدراكات ابن هشام على بن إسحاق

- ‌لامية تأبط شرا:

- ‌شعر أمية بن أبي الصلت الديني

- ‌دواوين القبائل الحجازية:

- ‌ديوان الهذليين:

- ‌طبعة دار الكتب:

- ‌الداواوين المفردة

- ‌ رواية ديوان النابغة:

- ‌رواية ديوان زهير:

- ‌الباب الثالث: فنون الشعر الحجازي في العصر الجاهلي

- ‌الفصل الأول: الشعر السياسي

- ‌أولا" أيام الحجازيين في الجاهلية:

- ‌ثانيا: صميم الشعر السياسي

- ‌الفصل الثاني: الشعر الحماسي

- ‌الفصل الثالث: الشعر اجتماعي

- ‌الفصل الرابع: الشعر الديني

- ‌الفصل الخامس: الشعر الغزلي

- ‌الفصل السادس: الشعر الهجائي

- ‌الفصل السابع: فنون شعرية أخرى

الفصل: ‌الباب الرابع: الحياة العقلية عند عرب الحجاز في العصر الجاهلي

‌الباب الرابع: الحياة العقلية عند عرب الحجاز في العصر الجاهلي

1-

الحياة العقلية لأية أمة من الأمم، أو شعب من الشعوب، يقصد بها مدى ما بلغته هذه الأمة في الميدان الثقافي والعلمي والفكري؛ هذا الميدان الذي يؤثر تأثيرا خطيرا في عقل الأمة وتفكيرها وازدهار النهضة فيها.

ومن العجيب أن يكون أكثر سكان الحجاز في العصر الجاهلي بدوا لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، فضلا عن أن يعرفوا علما أو ثقافة، ومع ذلك فقد كان لهؤلاء البدو لون من ألوان الثقافة الشعبية المستمدة من البيئة والتجارب والاقتباس من قريش؛ حكام مكة، وزعماء الحجاز في العصر الجاهلي.

أما مدن الحجاز وفي مقدمتها: مكة، والمدينة، والطائف، فكان لها طابع آخر، إذ كان الكثير من أهلها مثقفين ثقافة خاصة بتأثير البيئة والاختلاط والرحلات ومواسم الحج وأسواق العرب، فقد كان الحارث بن كلدة وابنه النضر بن الحارث مثقفين بثقافة فارسية واسعة، وكان بنو عبد مناف يرحلون إلى كسرى وقيصر وإلى اليمن في متاجرهم، ويتزودون بقسط من ثقافات هذه الأمم المجاورة لهم.

كما كان عمارة بن الوليد المخزومي وعمرو بن العاص -كلاهما- تاجرين،

ص: 213

خرجا إلى النجاشي، وكانت أرض الحبشة لقريش متجرا ووجها1، وكان أبو رافع يلقب تاجر أهل الحجاز2.

وكان بمكة طبقة مثقفة تدعى طبقة الحكام، يفصلون في كل المشكلات، وتعرض عليهم شتى الخصومات فيقضون فيها. ومن الحكام بمكة من قريش من بني هاشم: عبد المطلب، والزبير، وأبو طالب، ومن بني أمية: حرب بن أمية، وأبو سفيان بن حرب، ومن بني زهرة: العلاء الثقفي حليف بني زهرة، ومن بني مخزوم: العدل، وهو الوليد بن المغيرة، ومن بني سهم: قيس بن عدي، والعاص بن وائل، ومن بني عدي: كعب بن نفيل3.

ولا شك أن هذه الطبقة كانت مظهرا لثقافة أصيلة، وهي لا ريب كانت عاملا مهما في تطور الحياة العقلية عند عرب الحجاز في العصر الجاهلي. وقد يقال: إن هذه الطبقة نشأت على الحكمة نشأة الفطرة والطبع كما ذهب إليه الشهرستاني في الملل والنحل، ولكننا ننفي ذلك، فلا يمكن أن يكون مثلا هذا النظام السياسي الذي وضعه قصي وبنوه لحكم مكة في العصر الجاهلي أثرا من آثار الفطرة والطبع، إنما هو مظهر لثقافة سياسية ربى أبناء قصي عليها رحلاتهم ومشاهداتهم في الأمم التي كانوا يذهبون بقوافل التجارة إليها.

ثم إنه قد كان يعيش في مكة والمدينة طبقة أخرى من الحكماء الذين تأثروا بالديانات السماوية القديمة التي كان لها بعض الآثار في مكة والمدينة والطائف، ومن هؤلاء مثلا: ورقة بن نوفل، وكان كما ورد في كتاب بدء الوحي في صحيح البخاري "امرأ قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب" ومنهم كذلك زيد بن عمرو بن نفيل، وأمية بن أبي الصلت، وكان قد نظر في الكتب وقرأها وهو أول من قال: باسمك اللهم، وسواهم. ولا شك أن هؤلاء كان لهم أثر على الحياة العقلية عند عرب الحجاز في هذا العصر.

1 الأغاني: 8/ 52.

2 5/ 138 صحيح البخاري.

3 راجع ص108 جـ2 شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام.

ص: 214

ومهما كان، فإن تفكير العربي في العصر الجاهلي لم يكن موسوما بالتفكير العلمي المبني على ربط المسببات بالأسباب ربطا محكما نتيجة للدراسة والبحث والتمحيص، وإنما كان في أغلبه يعتمد على البديهة وحدّة الخاطر وكثرة التجارب، وعلى التقليد والكهانة والعرافة والعيافة وزجر الطير، وما إلى ذلك من مقومات التفكير في المجتمعات القديمة البعيدة عن مناهل العلم والمعرفة.

ومن مظاهر هذه العقلية، ما ورد في سيرة ابن هشام من أن حيا من ثقيف "فزعوا للرمي بالنجوم، فجاءوا إلى رجل منهم يقال له: عمرو بن أمية أحد بني علاج، وكان أدهى العرب وأمكرها رأيا، فقالوا له: يا عمرو، ألم تر ما حدث في السماء من القذف بهذه النجوم؟ قال: بلى، فانظروا إن كانت معالم النجوم التي يهتدى بها في البر والبحر، وتعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء لما يصلح الناس في معايشهم هي التي يرمى بها، فهو والله طي الدنيا وهلاك هذا الخلق الذي فيها، وإن كانت نجوما غيرها وهي ثابتة على حالها، فهذا لأمر أراد الله بهذا الخلق".

فهذه الدقة العقلية لا يصح أن نجعلها أثرا لدراسة أو ثقافة، إنما هي أثر لنضج عقل العربي المتأثر بحياة البادية والصحراء، والذي تكثر تجاربه فيها.

ونحن مع ذلك لا نوافق الذين يرمون العقل العربي بالبلادة والضعف وانعدام النظرة الشاملة إلى العالم1.

ولا شك أن البيئة الطبيعية والاجتماعية كان لها أثرها في حياة عرب الحجاز في العصر الجاهلي، هذه البيئة التي استمد العرب منها ثقافتهم في العصر الجاهلي.

1 راجع ص29 وما بعدها من كتاب فجر الإسلام لأحمد أمين.

ص: 215

2-

ومظاهر الحياة العقلية لعرب الحجاز في هذا العصر الجاهلي تتجلى لنا في أشعارهم وأمثالهم وقصصهم التي شهروا بها في العهد البعيد، وبعبارة أوضح: تتجلى في بلاغاتهم التي هي مستمدة من منابع الوجدان والشعور والعاطفة، وهذه البلاغات تحمل طابعا واضحا من التفكير في شئون الحياة والإحساس والوجدان، وكانت هذه البلاغات هي شهرة العرب في العصر الجاهلي ولا سيما عرب الحجاز الذين صفت لغتهم، ورقّ وجدانهم، وأرهفت أذواقهم، وذاعت فصاحتهم، وسمت أساليبهم، حتى كانت لغتهم هي اللغة المختارة التي نزل بها الذكر الحكيم، الذي يعتبر إعجاز البلاغة العربية وتاجها. كما تتضح مظاهر حياتهم العقلية في معارفهم وثقافتهم العامة التي تتحدث عنها مصادر الثقافة العربية القديمة.

ولعرب الحجاز ثقافات وتجارب في الحياة، وأهم هذه المعارف هي:

1-

الأخبار: ليس غريبا أن يكون العرب رواة حفاظا؛ لأنهم كانوا أميين يعتمدون على حافظتهم، وكانوا -إلى ذلك- قليلي الأعمال، يحبون السمر والحديث، فرووا أخبارا كثيرة اعتمد عليها المؤرخون في عصر التدوين، ولم يقتصروا فيما رووه على أخبار العرب، بل رووا الكثير من أخبار الأمم المجاورة لهم. فمن سكن مكة أحاط بأخبار العرب العاربة وأخبار أهل الكتاب والأمم التي كانت قريش تتجر معها. ومن سكن الحيرة، خبر بأخبار العجم؛ لمجاورته لهم، وأخبار حمير. ومن سكن الشام خبر بأخبار الروم واليونان. ومن سكن البحرين وعمان، خبر بأخبار السند وفارس. ومن سكن اليمن أخبر بأخبار أمم كثيرة. وكان النضر بن الحارث يروي أخبار الفرس والأكاسرة ويعارض بذلك ما يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن1.

1 يروى أن النضر كان من شياطين قريش، وكان قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس ورستم وإسفنديار، فكان إذا جلس رسول الله مجلسا فذكر بالله، خلفه في مجلسه إذا قام، وقال: إنا والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه، فهلم إليَّ أحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس وغيرهم، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثا مني؟ ابن هشام 1: جـ190 من الروض الأنف.

ص: 216

ولكن ما ورد من هذه الأخبار لم يسلم من الدسّ والتحريف والمبالغات كما حدث لغيرهم من الأمم، إلا ما تضافرت الروايات على صدقه، كقصة الفيل ونحوها.

2-

الأنساب: وكانوا من أحفظ الأمم، وأشدها عناية بحفظ أنسابهم؛ لأنها مناط فخرهم وعزّهم ومدار منافراتهم، وهم إليها محتاجون في حروبهم للتناصر والتساند، فكان أحدهم إذا سُئل عن نسبه، ذكر عددا كبيرا من آبائه. وكان في كل قبيلة نَسَّابة يعرف من أنساب العرب وقبائلهم وبطونهم وأفخاذهم ومفاخرهم ومثالبهم وأيامهم ووقائعهم ما يستوجب العجب والدهشة، ويستطيع أن يلحق الفرع بأصله وينفي عن القبيلة من ليس من أبنائها.

وكان من أشهر النسابين في العصر الجاهلي وما بعده: أبو بكر الصديق، وينسب إليه كثير من ألوان الحذق في معرفة النسب العربي ومفاخره ومغامزه، حتى إن حسان بن ثابت لما أراد هجاء قريش بعث به الرسول -صلوات الله عليه- إلى أبي بكر؛ ليعلمه نسبهم وما يمكن القدح من جهته وما لا يمكن. ولما سمع أبو سفيان قصيدة حسان في هجائه التي يقول منها:

وإن سنام المجد من آل هاشم

بنو بنت مخزوم ووالدك العبد

ومن ولدت أبناء زهرة منهم

كرام ولم يقرب عجائزك المجد

قال: هذا الشعر لم يغب عنه ابن أبي قحافة.

ولما هجا حسان قريشا، قال له رسول الله صلوات الله عليه:"كيف تهجوهم وأنا منهم؟ وكيف تهجو أبا سفيان وهو ابن عمي "؟ فقال: والله لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين، فقال له:"ايت أبا بكر؛ فإنه أعلم بأنساب القوم منك" فكان يمضي إلى أبي بكر ليقفه على أنسابهم، فكان يقول له: كف عن فلانة وفلانة واذكر فلانة وفلانة، فلما سمعت قريش شعر حسان قالوا: إن هذا الشعر ما غاب عنه ابن أبي قحافة. وأبو بكر هو صاحب المثل المشهور: "إن البلاء موكل بالمنطق".

وطبقات الأنساب عندهم: الشعب، فالقبيلة، فالعمارة، فالبطن، فالفخذ، فالفصيلة.

ص: 217

فالشعب: النسب الأبعد، كعدنان وقحطان. والقبيلة: ما انقسم فيه الشعب، كربيعة ومضر. والعمارة: ما انقسمت فيه القبائل، كقريش وكنانة. والبطن: ما انقسمت فيه العمارة، كبني عبد مناف وبني مخزوم. والفخذ: ما انقسم فيه البطن، كهاشم وبني أمية. والفصيلة: ما انقسم فيه الفخذ، كبني أبي طالب وبني العباس.

فالفخذ يجمع الفصائل، والبطن يجمع الأفخاذ، والعمارة تجمع البطون، والقبيلة تجمع العمائر، والشعب يجمع القبائل.

وإذا تباعدت الأنساب، صارت القبائل شعوبا والعمائر قبائل.

3-

النجوم: وكان لهم معرفة بأسماء النجوم، وطلوعها وغروبها. دعاهم إلى ذلك اعتمادهم عليها في سيرهم برا وبحرا، وساعدهم على ذلك: صفاء جوهم، ومعرفة خلطائهم من الكلدانيين "الصابئة" الذين كانوا كثيرين ببلاد العرب، وقد عرفوا السيارات السبع.

كما عرفوا البروج المجموعة في قول الشاعر:

حمل الثور جوزة السرطان

ورعى الليث سنبل الميزان

ورمى عقرب بقوس لجدي

نزح الدلو بركة الحيتان1

وإن تشابه أسماء السيارات والأبراج أو اتحادها في العربية والكلدانية، لدليل على اعتماد العرب في هذه المعارف على الصابئة.

4-

المطر والرياح: وكان لهم بالأمطار والرياح عناية كبيرة؛ لاعتمادهم عليها في حياتهم، فاستطاعوا بتجاربهم أن يعرفوا السحاب الممطر والكهام والبرق الخلب والصادق2 ودلالة الرعد على قرب المطر أو بعده، والسحب

1 قسم العرب الفلك "مدار الشمس" إلى اثني عشر قسما، كل منها يسمى برجا، وهي منطقة يجتمع فيها عدد من كواكب ثابتة تضمها خطوط موهومة، وتعطي صورة معينة للشيء من الأشياء التي ذكرت في البيتين.

2 وفي سمط اللآلئ: البرق الذي يستطير في السحاب من طرفها إلى طرفها لا شك في مطره، والذي في أسافلها لا يكاد يصدق. قال رجل من العرب لابنه وقد كبر، وكان في داخل بيته تحت السماء: كيف تراها يا بني؟ قال: أراها قد تبهرت "أضاءت" أورى برقها أسافلها. قال: أخلفت يا بني.

ص: 218

التي أمطرت، وفي أي مكان سقط مطرها، والسحب التي لم تمطر، ومتى تمطر، ولا يزال في الكثير من البداة مثل هذه الفراسة. وفي كتب الأدب من الأخبار في ذلك الشيء الكثير، روى صاحب الأغاني: أن أعرابيا مكفوف البصر خرج ومعه ابنة عم له ترعى غنما لها، فقال لها: أجد ريح النسيم قد دنا، فارفعي رأسك فانظري. فقالت: كأنها بغال دهم1 تجر جلالها. فقال: ارعي واحذري. ثم مكث ساعة، وقال: إني لأجد ريح النسيم قد دنا، فانظري. قالت: هي كما قال الشاعر:

دان مسف، فويق الأرض هيدبه2

يكاد يدفعه من قام بالراح

كأنما بين أعلاه وأسفله

ريط منشرة أو ضوء مصباح3

فقال: انجي، لا أبا لك، فما انقضى كلامه حتى هطلت السماء.

وأما الرياح فقد عرفوا صفاتها وأنواعها، ومنها: الصبا والقبول والدبور والنعامى والشمال والجنوب والنكباء والسوافي والحواصب والصرصر والعاصف والسماء والمعصرات والأعاصير وغير ذلك.

5-

الملاحة: وكانت جدة هي ميناء الحجاز، وكانت السفن تخرج منه إلى البحر للصيد والتجارة شأن عرب اليمن والبحرين، وكان عرب الحجاز القريبون من سيف البحر يشاهدون المراكب غادية ورائحة، فاحتاجوا إلى ألفاظ لها ولأجزائها، فقالوا: سفينة وشراع وقارب ومجداف وسكان وجؤجؤ وربان

إلخ.

6-

الطب، وكان لهم منه نصيب مكتسب بالتجارب، أو منقول عن غيرهم من الأمم المجاورة، يتوارثونه عن مشايخهم وعجائزهم، وكانوا يعالجون مرضاهم بخلاصة النبات، أو بالعسل، أو بالكي، وأحيانا بالبتر وبالحجامة. وكثير منهم كان يعالج المرضى بالرقى والعزائم. وأخذ بعضهم الطب عن الروم

1 الدهم: جمع أدهم، وهو الأسود.

2 الهيدب: ذيل السحاب المتدلي.

3 الريطة: الملاءة.

ص: 219

والفرس قبيل الإسلام، ومن أشهر أطبائهم: الحارث بن كلدة الثقفي المتوفى عام 43هـ، وهو من ثقيف ورحل إلى فارس، وتعاطى الطب هناك، ثم عاد إلى بلاده، وأدرك عصر الرسول، وعاش حتى أدرك عهد معاوية، وكان الرسول -صلوات الله عليه- يشير على من به علة أن يستوصفه، ومن حكمه:"البطنة بيت الداء، والحمية رأس الدواء".

ويؤخذ مما حوته اللغة العربية من أسماء العلل والأمراض والعقاقير أنهم عرفوا كثيرا من الأمراض وأنواع علاجها، كما أن الناظر في كتب فقه اللغة، يتبين من ذكرهم أعضاء الجسم الإنساني كلها، ما ظهر منها وما بطن -من الرأس إلى القدم والعروق- أنهم كانوا يعرفون التشريح.

وقد عرفوا أيضا محاسن الخيل وعيوبها، وأمراضها وعلاجها مما يسمى الآن "الطب البيطري" "بيطر الدابة: عالجها، فهو مبيطر وبيطار، وصنعته البيطرة".

7-

القيافة: ومن أهم معارفهم قيافة الأثر؛ وهي تتبع آثار الأقدام والأخفاف والحوافر والاستدلال بها على ذويها، وبذلك تعرف النعم الضالة والمسروقة، ومسالك اللصوص والفارين

وقد مهروا في ذلك حتى كانوا يميزون بين قدم الشاب والشيخ، والرجل والمرأة، والبكر والثيب، وتعتمد الحكومة المصرية إلى الآن على فريق من العرب في تعقب اللصوص والسفاكين والمهربين.

وقيافة البشر، وهي الاستدلال بهيئة الإنسان وملامحه وأعضائه على نسبه. وقد روي أن قائفا دخل فرأى أسامة بن يزيد وزيدا، وعليهما قطيفة قد غطيا بها رءوسهما وبدت أقدامهما، فنظر إليها وقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فسُرّ بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.

8-

الفِراسة: وكان لهم نصيب كبير أيضا من الفراسة، وهي الاستدلال بهيئة الشخص وشكله ولونه وكلامه على أخلاقه وفضائله ورذائله، ومرجعها إلى العقل، فكلما كان أكمل كانت أقوى.

يحكى أن أولاد نزار: مضر، وربيعة، وإيادا، وأنمارا، ساروا إلى الأفعى الجرهمي ليحكم بينهم في ميراث، فرأوا كلأ مرعيا، فقال مضر: إن البعير الذي

ص: 220

رعاه أعور، وقال ربيعة: هو أزور، وقال إياد: هو أبتر، وقال أنمار: هو شرود، فصادفهم صاحبه، فسألهم عنه فوصفوه له، فتعلق بهم وسألهم إياه، فأقسموا ما رأوه، فقال: كيف وقد وصفتموه؟! قال مضر: رأيته يرعى جانبا دون جانب فعرفت أنه أعور، وقال ربيعة: رأيت إحدى يديه ثابتة الأثر والأخرى فاسدة الأثر فعرفت أنه أزور، وقال إياد: رأيت بعره مجتمعا فعرفت أنه أبتر، وقال أنمار: رأيته يرعى المكان الملتف ثم يجوز إلى غيره فعرفت أنه شرود. فقال لهم الجرهمي: اطلب بعيرك من غيرهم.

وعرب اليمن أوفر حظا من غيرهم في الفراسة، ويقال: إن الإمام الشافعي رضي الله عنه أخذها عنهم، فكان له منها نصيب كبير.

ومن الفراسة الريافة، وهي معرفة مواطن الماء في الأرض ببعض الأمارات؛ كشم التراب والنبات، ويقال: إن في الحجاز ونجد من يعرف ذلك إلى الآن.

9-

الكهانة والعرافة1: قيل: هما شيء واحد وهو الإخبار عن المغيبات، ماضية أو مستقبلة أو حالية، اعتمادا على القرائن، أو على النجوم، أو على الحصى، أو الجن في زعمهم، أو بقياس المستقبل على الماضي. وقيل: إن الكهانة الإخبار عن الماضي والمستقبل، والعرافة الإخبار عن الماضي فقط. وقيل: إن الكهانة خاصة بالمستقبل، والعرافة خاصة بالماضي. وكانت الكهانة فاشية في العرب قبل الإسلام، فكانوا يفزعون إلى كهنتهم في تعرف الحوادث والفصل في الخصومات وعلاج المرضى ومعرفة المستقبل وتعبير الرؤى، كما كان الحال عند غيرها من الأمم القديمة، كمصر وبابل وغيرهما، حتى جاءت الشريعة الإسلامية فأبطلتها2 ونهت عن الاعتماد عليها؛ لكثرة الكذب فيها، وحماية للعامة من أن يفتنوا بهم فيضلوا عن الدين الحنيف.

1 الكهانة والعرافة، بكسر أولهما، ويجوز في الأولى الفتح على المصدر، وفعلها كمنع وكرم ونصر، وفعل الثانية كنصر.

2 ورد: "من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد".

ص: 221

ويظن بعضهم أن الكهانة نقلت إلى العرب على يد الصابئة مع المعارف النجومية الآنفة، مستدلا بأن العرب يسمون الكاهن جازيا وهو لفظ كلداني، معناه: الناظر أو البصير، ويدل عندهم على الحكيم والنبي. فكان الكهنة ببلاد العرب من الصابئة أولا، ثم من اليهود، وبعد ذلك ظهرت في العرب، وادعاها منهم رجال ونساء كثيرون، سيأتي الكلام عليهم في السجع.

ص: 222