المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني: تاريخ الحجاز السياسي - قصة الأدب في الحجاز

[عبد الله عبد الجبار]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات:

- ‌تمهيد: وصف عام للحجاز وبيئته الطبيعية والبشرية

- ‌القسم الأول: العوامل المؤثرة في الأدب الحجازي

- ‌الباب الأول: الحياة السياسية-توطئة الجاهلية وتحديد العصر الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: أهمية الحجاز في العصر القديم

- ‌الفصل الثاني: تاريخ الحجاز السياسي

- ‌الفصل الثالث: طبيعة الحكم في الحجاز في العصر الجاهلي

- ‌الباب الثاني: الحياة الاجتماعية لعرب الحجاز في العصر الجاهلي

- ‌الفصل الثالث: اللغة العربية في الحجاز

- ‌الباب الثالث: الحياة الدينية

- ‌الفصل الأول: معبودات الحجازيين وعاداتهم الدينية

- ‌الفصل الثاني: أشهر الأصنام في الحجاز

- ‌الباب الرابع: الحياة العقلية عند عرب الحجاز في العصر الجاهلي

- ‌الباب الخامس: شخصيات حجازية في العصر الجاهلي

- ‌القسم الثاني: الحياة الأدبية في الحجاز في العصر الجاهلي، النثر

- ‌الباب الأول: صورة عامة للنثر الحجازي في العصر الجاهلي

- ‌الباب الثاني: فنون النثر الحجازي في العصر الجاهلي

- ‌الفصل الأول: الحكم والأمثال

- ‌الفصل الثاني: الخطب والوصايا

- ‌الفصل الثالث: المحاورات والمفاخرات والمنافرات وسجع الكهان

- ‌الحياة الأدبية في الحجاز في العصر الجاهلي، الشعر:

- ‌الباب الأول: فكرة عامة عن الشعر الحجازي في العصر الجاهلي

- ‌الفصل الأول: نماذج هذا الشعر

- ‌الفصل الثاني: لمحة عامة عن الشعر الجاهلي

- ‌الباب الثاني: الشعر الحجازي بين الصحة والوضع

- ‌مدخل

- ‌ الشعر الحجازي في الميزان:

- ‌استدراكات ابن هشام على بن إسحاق

- ‌لامية تأبط شرا:

- ‌شعر أمية بن أبي الصلت الديني

- ‌دواوين القبائل الحجازية:

- ‌ديوان الهذليين:

- ‌طبعة دار الكتب:

- ‌الداواوين المفردة

- ‌ رواية ديوان النابغة:

- ‌رواية ديوان زهير:

- ‌الباب الثالث: فنون الشعر الحجازي في العصر الجاهلي

- ‌الفصل الأول: الشعر السياسي

- ‌أولا" أيام الحجازيين في الجاهلية:

- ‌ثانيا: صميم الشعر السياسي

- ‌الفصل الثاني: الشعر الحماسي

- ‌الفصل الثالث: الشعر اجتماعي

- ‌الفصل الرابع: الشعر الديني

- ‌الفصل الخامس: الشعر الغزلي

- ‌الفصل السادس: الشعر الهجائي

- ‌الفصل السابع: فنون شعرية أخرى

الفصل: ‌الفصل الثاني: تاريخ الحجاز السياسي

‌الفصل الثاني: تاريخ الحجاز السياسي

"أولا" في مكة

أشرنا فيما مضى إلى حكم العمالقة لمكة، وأنه كان طورا من أطوار التاريخ القديم لها، إلا أن التاريخ الموثوق به يبدأ من هجرة إبراهيم بإسماعيل عليهما السلام إلى مكة، وسنفصل الحديث في ذلك بقدر ما يتسع له المقام.

هجرة إبراهيم بإسماعيل إلى مكة:

يشير القرآن الكريم إلى أن إبراهيم هبط مكة بابنه إسماعيل عليهما السلام ثم بنيا الكعبة، وجعلت أفئدة الناس تهوي إليها.

وتدل الروايات -تفصيلا لهذا الحادث- على أن إبراهيم حينما وضع إسماعيل وأمه هاجر بمكة، وتركهما بهذا القفر لم يضعهما الله، إذ حدث ظمأ إسماعيل، فانطلقت أمه هاجر، حتى صعدت جبل الصفا لتنظر هل ترى شيئا فلم تر شيئا، فانحدرت إلى الوادي، فسمعت حتى أتت المروة، فاستشرفت لعلها ترى شيئا، فلم تر شيئا، فعلت ذلك سبع مرات، ثم عادت إلى إسماعيل وهو يدحض الحجر بقدميه، والماء يتفجر من الأرض، فجعلت تفحص الأرض بيدها عن الماء حتى لا يضيع في الرمال، وهي تقول: زم زم، فسميت لذلك زمزم.

وحومت الطير حول الماء، وكانت جرهم بوادٍ قريب من مكة، فلما رأت الطير قصدت نحوها، فوجدوا هاجر وابنها إسماعيل، فقالوا لها: لو شئت فكنا معك وآنسناك والماء لك، فقالت: نعم، فكانوا معها حتى شَبَّ إسماعيل وماتت هاجر، فتزوج إسماعيل فتاة منهم، وتعلم منهم العربية، وأنجب نسلا كثيرا هم العرب المستعربة.

ص: 122

وينفي "وليم موير" هذه القصة، ويرى أنها بعض "إسرائيليات" ابتكرها اليهود قبل الإسلام؛ ليربطوا بينهم وبين العرب بالاشتراك في أبوة "إبراهيم" لهم جميعا -إن كان "إسحاق" أبا اليهود- فإذا كان "إسماعيل" أبا للعرب، فهم إذًا أبناء عمومة توجب على العرب حسن معاملة النازلين بينهم من اليهود، وتيسير تجارة اليهود في شبه الجزيرة.

ويستند "موير" في رأيه هذا، إلى أن أوضاع العبادة في بلاد العرب لا صلة بينها وبين دين إبراهيم؛ لأنها وثنية مغرقة في الوثنية، وكان إبراهيم "حنيفا مسلما".

ويقول "الدكتور هيكل": إن تعليل "موير" ليس كافيا لنفي واقعة تاريخية، وإن وثنية العرب، بعد موت إبراهيم وإسماعيل بقرون كثيرة، لا تدل على أنهم كانوا كذلك حين جاء إبراهيم إلى الحجاز، وحين اشترك إبراهيم وإسماعيل في بناء الكعبة، وأنه لا يوجد ما يمنع أن يدعو إبراهيم إلى الوحدانية، فلا يستمع العرب لدعائه، فقد سبق أن دعا إليها في فلسطين، فلم ينجح1.

أجمع المؤرخون على قصة إبراهيم وإسماعيل في جملتها وإن اختلفوا في التفصيل، وسندهم في هذا، ما جاء به القرآن الكريم:{مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} ، وكذلك السنة النبوية التي كادت تبلغ حد التواتر، وهذه القصة من الأمور الممكنة التي لا يحيل العقل وقوعها، فإن حدوث هجرات من مكان إلى آخر أمر جائز وواقع إلى الآن، وحجة "وليم موير" أنه ليست لديه مصادر تؤيدها، ولو كان منصفا لاعتبر الكتب السماوية أصح المصارد التي يركن إليها الإنسان على الأقل عند فقد النقوش؛ فقد أثبتت الآثار المكتشفة حديثا صدق روايتها في كثير من الحوادث التاريخية، كما جاء في تاريخ عاد وثمود وسبأ، وإن كثيرا من الأخبار لا يزال مطمورا لم يكشف عنه بعد، مع أن من غير المعقول أن هذه الكتب السماوية تكون صادقة في البعض، وكاذبة في البعض الآخر، فالمؤرخ المنصف ينبغي أن يصدق ما جاء

1 راجع "حياة محمد" للدكتور هيكل ص89 و90.

ص: 123

بها، أو على الأقل يتريث ولا يحكم عليها بأنها أسطورة، إلا إذا كشف البحث والتنقيب عن حقائق صحيحة تصادم ما قررته هذه الكتب، وهيهات أن يحدث ذلك في كتاب {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} !.

ومن البعيد جدا أن يكون اليهود اخترعوا هذه القصة قبل الإسلام، لأغراض سياسية أو اقتصادية، ويرى محمد عليه السلام المصلحة في ذلك فيقرهم عليها كما يزعمون.

بعيد هذا الزعم؛ لأنه لو صح لنقل إلينا، وبخاصة عندما اشتدت الخصومة بين اليهود والرسول، على أثر إجلائهم عن المدينة، بعد حروب طال أمدها، ودماء مسفوكة من الجانبين، فإن هذا كان ظرفا مناسبا، دافعا أيضا لأن يطعن كل منهم في نسب الآخر، ويعتبره دخيلا عليه.

أما وأن هذا لم يحدث، فإن صحة نسب العرب العدنانيين إلى إسماعيل وإبراهيم وهجرتهما إلى مكة، وبناءهما البيت، لا يصح التردد فيها بحال.

ويشير القرآن الكريم، والتوراة، إلى أن الله أراد أن يمتحن إبراهيم؛ فأمره في منامه أن يذبح ولده، فأخذ إبراهيم الغلام، وألقاه على جبينه، وهمّ بذبحه؛ امتثالا لأمر الله، فافتداه الله بذبح عظيم.

لم يصرح القرآن باسم الذبيح، أهو إسماعيل أم إسحاق؟ ولم يذكر الموضع الذي حدثت فيه الحادثة، أكان بفلسطين أم بالحجاز؟ وقد اختلف من أجل ذلك المؤرخون. فاليهود يرون أن الذبيح هو إسحاق؛ حرصا منهم على أن يكون أبوهم هو المفدى، الذي استعد للتضحية بنفسه، وينسب هذا الرأي أيضا إلى جماعة من المسلمين، منهم الطبري وابن خلدون، ولعل حجتهم في ذلك هو ما ورد في التوراة من قوله:"خذ ابنك وحيدك الذي تحبه "إسحاق"، واذهب إلى أرض الموديا1

إلخ".

1 راجع الإصحاح الثاني والعشرين من سفر التكوين، الآيات 1-14.

ص: 124

والمحققون يرون أن الذبيح هو إسماعيل، بدليل ما في سورة الصافات في قصة الذبيح، فإنه بعد أن ذكر قصة الذبيح، قال تعالى:{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ، وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} ، فالتبشير بإسحاق بعد ذكر قصة الذبح والفداء، دليل على أن الله حفظ له ولده الموجود -وهو إسماعيل- وبشره بوجود وارث من "سارة" هو "إسحاق" وعود الضمير في {عَلَيْهِ} على الغلام الذبيح، وذكر "إسحاق" معه صريحا يقتضي المغايرة. وقد نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أنا ابن الذبيحين" أي: إسماعيل، وعبد الله.

والتوراة تذكر أن الذبيح كان وحيد إبراهيم، ولا ينطبق هذا إلا على إسماعيل الأكبر؛ لأنه كان وحيد أبيه قبل ميلاد إسحاق.

ويقول الشيخ عبد الوهاب النجار: إن لفظ "إسحاق" الذي ورد في آية التوراة السابقة، إنما حشر حشرا بيد اليهود؛ حرصا منهم على أن يكون أبوهم هو الذبيح1.

بناء البيت:

وكان نزول إسماعيل وأمه هاجر بمكة بموضع عند البيت الحرام، إذ لم يكن البيت إذ ذاك قد بُني، وإنما كان ربوة حمراء مشرفة على ما حولها، وتقول التوراة: إن نزول إسماعيل كان في برية فاران، وفاران: اسم جبال مكة، ثم أمر الله خليله ببناء البيت الحرام، فبناه بمساعدة ولده إسماعيل عليهما السلام. ولما ارتفع البنيان وعجز إبراهيم عن رفع الحجارة، قام على حجر هو "مقام إبراهيم"، واستمر يبني حتى فرغ من البناء، فأمره الله تعالى بالأذان بالحج، فصعد إبراهيم على جبل أبي قبيس، وأذن في الناس بالحج كما أمر الله، ثم رجع إلى قرية الخليل بفلسطين، ويقال: إن إبراهيم عليه السلام قد دفن بها.

1 راجع "قصص الأنبياء""قصة إسماعيل".

ص: 125

بعد إسماعيل حكم الجراهمة:

ومن هذه الأحداث نعلم أن إسماعيل صار زعيم العرب الحجازيين، فلما مات إسماعيل تولى الجراهمة بعده أمر الكعبة، وظلت في أيديهم مدة طويلة من الزمن، ولم ينازعهم أبناء إسماعيل لأن الجراهمة أخوالهم، ويقال: إن ولاية الكعبة كانت في ذرية إسماعيل، وكان يعاونهم أخوالهم من الجراهمة.

والراجح أن جرهما توّجوا أحد أولاد إسماعيل ملكا عليهم، أما سدانة الكعبة ومفاتيحها، فكانت في ولد إسماعيل بلا خلاف. حتى انتهت إلى "نابت" فانتزعها منه بنو جرهم، وبقيت فيهم إلى أن بغوا واستحلوا حرمة البيت، وظلموا من دخل مكة من الحجاج وغيرهم، وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى إليها، وفشت فيهم الرذائل، وما زال أمرهم في ضعف وانحلال حتى سلط الله عليهم خزاعة، فتمكنت من قهرهم، وتغلبت عليهم، واستولت على مكة، واستأثرت بولاية البيت وسدانة الكعبة.

وقبل أن يبرح آخر حكامهم "مضاض بن عمرو" مكة، عمد إلى بئر زمزم، فأعمق حفرها، وأودع في قاعها ما كان بالكعبة من تحف وذخائر وأموال، ومن بينها غزالتان من الذهب وسيف ودروع أخرى، ثم طم عليها الرمال.

حكم خزاعة:

استولى الخزاعيون على أمر الكعبة بعد أن أجلوا الجراهمة عنها، ويقال: إن خزاعة أصلها قبائل من اليمن، هاجرت منها بعد سيل العرم، ونزلت بمكة وبقيت بها حتى لاحت لها فرصة القضاء على الجراهمة، حوالي القرن الثالث الميلادي. وقد سادت مكة زهاء قرنين من الزمان، يجمعون في يدهم السلطة الزمنية "السياسية" والدينية معا، ولم يتركوا لأهل مكة من الوظائف إلا أقلها.

ومن أشهر الخزاعيين: "عمرو بن لحي" الذي يقال: إنه أول من أدخل عبادة الأصنام في مكة، وآخر من ولي من الخزاعيين "حليل بن حبشية"، وهو

ص: 126

الذي ظهر في أيامه "قصي بن كلاب"، الأب الخامس للرسول عليه السلام.

وقد عهد حليل إلى ابنته "حبى" بولاية البيت، فقالت: إنها لا تقدر على فتح الباب وإغلاقه.

عودة الحكم إلى أبناء إسماعيل:

سلالة إسماعيل:

لا نعرف عن ذرية إسماعيل كثيرا خلال هذه الفترة الطويلة، ويبتدئ التاريخ المسلم بصحته من عدنان، الجد الأعلى للعدنانيين، ووارث إسماعيل جده الأعلى.

ويختلف النسابون فيمن كان بين إسماعيل وعدنان من الآباء، فيقدره بعضهم بأربعين، ويقدره آخرون بعشرين، وسواهم بخمسة عشر أبا. ويرى آخرون أنه يستحيل تقديرهم بهذا العدد؛ لطول الزمن بين إسماعيل وعدنان1، ويقال: إن والد عدنان هو أدد2، وقيل: اسمه مقوم. وقد ولد عدنان عددا من الأولاد، من أشهرهم: معد، وعك.

وموطن العدنانيين من تهامة -ومكة من تهامة- ولكن ظروفا قاهرة اضطروا من أجلها إلى الهجرة والتفرق. فظعنت قضاعة بن معد بن عدنان إلى اليمن، بسبب خصومات وقعت بينها وبين نزار، فخرجت قضاعة متفرقين3، وتلا ذلك هجرات أخرى للعدنانيين، فانتشروا في مناطق واسعة من شبه جزيرة العرب، حتى وصلوا العراق والشام، فهاجرت عبد القيس وهي من رنيعة، وبطون من بكر إلى البحرين، وخرجت بنو حنيفة إلى اليمامة، وأقامت سائر بكر في اليمامة، أقامت تغلب بالجزيرة الفراتية، وسكنت ثقيف الطائف، وهوازن في شرقي مكة بنواحي أوطاس وهي على الجادة بين مكة والبصرة،

1 الطبري 2، 191، سيرة ابن هشام 1/ 3، مروج الذهب 1/ 394، طبقات ابن سعد، القسم الأول من الجزء الأول 28، 29، ابن خلدون 2/ 198، وراجع كتاب "شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام" للفاسي.

2 الطبقات 1، 1 ص28، تاج العروس 9/ 275.

3 الأغاني 11/ 154، ابن خلدون 2/ 240.

ص: 127

وسكنت بنو أسد شرقي تيماء وغربي الكوفة، وسكنت ذبيان بالقرب من تيماء إلى حوران، وبقي بتهامة بطون كنانة، وأقامت بطون قريش بمكة وضواحيها.

ولمعد أربعة أولاد: نزار، وقضاعة، وإياد، وقنص1. ونزار هو جد القبائل النزارية، وتتألف القبائل العدنانية من: ربيعة، ومضر، وإياد، وأنمار2.

ومن نسل مضر، إلياس، وخلف إلياس مدركة، ومن أبناء مدركة خزيمة، ونسل خزيمة كنانة، وخلف كنانة النضر وهو قريش في أحد الآراء، ومن بني النضر مالك وولد مالك فهرا، وهو قريش في رأي آخرين، ثم سارت سلسلة النسب النبوي إلى عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر، راجع جدولي النسب إلى عدنان وإلى قصي.

قصي:

ولقصي ذكر ذائع في التاريخ الحجازي القديم3، فقد مات والده كلاب وقصي لا يزال طفلا في المهد، فتزوجت أمه ربيعة بن خزام، ورحل بها إلى الشام حيث شب قصي بين آل ربيعة بعيدا عن أهله4. ولما بلغ أشده رحل عن بني ربيعة إلى مكة موطن آبائه وأجداده، وكان النفوذ الديني والمدني في أيدي خزاعة، وحاكمهم إذ ذاك "حليل بن حبشية".

وعَزَّ على قصي أن يرى قومه تحت سلطان الأجانب من خزاعة، فصمم على أن ينزع منهم الأمر والسلطان، وبدأ ينفذ خطته بالتدريج، فدأب على السعي والتجارة حتى كثر ماله وعظم شرفه وتزوج من "حبي" بنة حليل بن حبشية؛ أملا في أن يرث عنه امتيازاته، وحدث أن "حبى" حينما عرض أبوها

1 ابن هشام 1/ 7.

2 ابن خدلون 2/ 300 ، ابن حزم ص9.

3 راجع كتاب "شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام" للفاسي.

4 ولهذا سمي قصيا، وكان اسمه في الأصل زيدا.

ص: 128

عليها ولاية البيت زهدت فيها وتنحت عن تسلم المفاتيح، فسلم "حليل" المفاتيح لرجل آخر من خزاعة يسمى أبا غبشان، فابتدأ قصي يحتال على أبي غبشان، حتى اشترى منه مفاتيح الكعبة.

كان قصي يعلم ما سيكون، فاتخذ للحرب عدتها من قبل، وما كادت خزاعة تعلم بذلك حتى هاجت وماجت، وادعى أبو غبشان أنه لم يبع المفاتيح، بل كان ما حدث بطريق الرهن، وامتشق قصي الحسام، ومن ورائه قومه من بني إسماعيل ودافع عن الكعبة وهزم خزاعة وأجلاهم عن مكة، وصار الأمر كله فيها لقصي، فكان رئيسا دينيا يخصه العرب بالإجلال والتعظيم.

وقد جمع قصي قريشا من نواحٍ متعددة إلى وادي مكة، ولقب من أجل ذلك "مجمعا"؛ وذلك ليكون منهم عصبية بالقرابة، وجعل قصي لكل بطن حيا خاصا على مقربة من الكعبة، وكان الناس قبل ذلك لا يجرءون على البناء بجوار الكعبة مبالغة في تقديسها، وكانت حجة قصي في ذلك أن يقيم على مقربة من البيت حماة له يتعهدونه بالصيانة ويدفعون عنه الخطر، ولم يترك بين الكعبة والبيوت التي بنتها بطون قريش إلا بمقدار ما يسمح بالطواف، فكانت البيوت كالحصون حول الكعبة من جميع نواحيها.

وبنى قصي دار الندوة، وجعل بابها يؤدي إلى الكعبة مباشرة، وكان قصي يتولى رئاسة هذه الدار التي جعل من اختصاصها حسم المشاكل، وحل المعضلات، وكان لا يدخلها إلا من بلغ الأربعين من عمره، وكانوا يزوجون فيها بناتهم. وإذا بلغت الجارية مبلغ النساء ألبست الدرع في تلك الدار، وكانوا يعقدون فيها لواء الحرب، وقد انتهى أمرها قبل مجيء الإسلام.

وكان في يده اللواء وهو راية الحرب، فكانت لا تعقد إلا بيده، ثم انتهى أمرها إلى بني أمية من ذريته.

وأسندت إليه الحجابة، وهي سدانة البيت، يفتح بابه ويغلقه حسب الحاجة، ويتولى خدمة الكعبة، ويكون عنده مفتاحها، ثم استقرت بعده في بني شيبة.

ص: 129

وعلى الجملة، فقد جمع قصي كل مفاخر العرب ومظاهر الشرف والسيادة والمجد فيها، من سقاية ورفادة وقيادة، وتولى كذلك أمر المشورة والسفارة والحكومة في الخصومات، وبذلك جمع قصي في يده كل السلطات الدينية والسياسية فكان زعميم العرب، ورئيسها الديني، وقائدها العسكري، وزعيم قريش سادة العرب

وهكذا كانت مكة -وهي أهم مدن الحجاز- على نصيب كبير من الثقافة والحضارة والرقي السياسي والاجتماعي؛ لاشتغال أهلها بالتجارة وترددهم في رحلاتهم على الممالك المتحضرة كفارس والروم ومصر، وأصبح في مكة نوع من الحكومة المنظمة، وضع أساسه قصي في القرن الخامس الميلادي، إذ جدد بناء الكعبة، وابتنى -كما ذكرنا- دار الندوة؛ ليجتمع فيها الرؤساء فيتشاوروا ويعقدوا أنكحتهم وألويتهم، ويفصلوا في خصوماتهم ويختنوا غلمانهم.

توارث أمجاد قصي بعد وفاته:

وورث أبناء قصي هذه المناقب بعده إلى أن وصل الحكم إلى هاشم، ثم إلى عبد المطلب سنة 520م، وكان الذي تولى بعد قصي هو ابنه عبد الدار، وبعد خصومات كثيرة بين سلالة قصي وزعت السلطات الدينية والسياسية في مكة على بطون قريش؛ منعا للتنازع والشحناء، وها هي ذي1:

1-

السدانة: خدمة الكعبة وحجابتها، وبيد صاحبها مفتاح الكعبة، ولها المقام الأول عندهم، وكانت لبني عبد الله.

2-

السقاية: وهي سقي الحجاج بجلب الماء على الإبل من الآبار العذبة حتى بعثت زمزم، وكانت السقاية في بني هاشم.

3-

الرفادة: وهي ما كانوا يخرجون عنه من أموالهم؛ ليرفد به من ليس ذا سعة ولا مال، وكانت في بني نوفل، وقد سن هذه السنة قصي قائلا: يا معشر قريش، إنكم جيران الله وأهل بيته، والحجاج ضيوف الله وزوار

1 راجع بلوغ الأرب للألوسي، التمدن الإسلامي، محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري بك جـ1 ص50 وما بعدها.

ص: 130

بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج حتى يصدروا عنكم، ففعلوا، وقيل: أول من أقامها عبد المطلب1.

4-

العقاب2: وهي راية قريش، ويخرجها من هي عنده وقت الحرب، فإن اتفقوا على واحد حملها وإلا رأسوا صاحبها، وكانت في بني أمية.

5-

الندوة: الإشراف على دار الندوة، وكانت في بني عبد الدار.

6-

المشورة3: وصاحبها يُستشار في الأمور الهامة، وكانت قريش لا تقر أمرا حتى تعرضه عليه، فإن أقره وإلا تخير، وكانوا له أعوانا، وكانت في بني أسد.

7-

الأشناق: وهي الديات والمغارم، وصاحبها إذا احتمل دية أو مغرما أُعين عليه، وإذا احتمله غيره خذل، وكانت في بني تيم، وآخر من تولاها أبو بكر رضي الله عنه.

8-

القبة: وهي الخيمة التي تودع فيها أدوات الحرب، وكانت في بني مخزوم.

9-

الأعنة: وهي تولي أمر الخيل وقت الحرب وإدارة شئونها، وكانت في بني عدي.

10-

السفارة: وهي التوسط بين قريش وغيرها عند الحرب، والسعي في الصلح، والقيام عنهم بالمنافرة، وكانت في بني عدي أيضا، وعمر آخر سفرائهم في الجاهلية.

11-

الأيسار: وهي تولي أمر الأزلام، وكانت في بني جمع4.

12-

الحكومة والأموال المحجرة: أي: الفصل بين المتخاصمين وحفظ الأموال التي كانوا يسمونها لآلهتهم، وكانت في بني سهم5.

1 المستطرف للأبشيهي.

2 بوزان فعال كغراب.

3 بوزان مفعلة كمعونة.

4 بوزن فعل كعمر.

5 بوزن فعل كنصر.

ص: 131

13-

العمارة1: وهي الإشراف على المسجد الحرام، ومنع الجالسين فيه من الرفث، ورفع الصوت، وكانت في بني هاشم.

ومن نوع النظام الحكومي في مكة: حلف الفضول، وحلف المطيبين، وسنتكلم عنهما فيما بعد.

عبد مناف وذريته:

ساد عبد مناف بن قصي قومه، وارتفع إلى مرتبة الشرف والرياسة باذا في ذلك أخاه عبد الدار أكبر أولاد قصي، غير أن عبد مناف لم ينازع أخاه عبد الدار احتراما لوصية أبيه.

واستمرت الرياسة في يد عبد الدار إلى أن مات، وانتقلت إلى أولاده، فنازع بنو عبد مناف بني عبد الدار، واحتدمت بينهم الخصومة، وانقسمت بطون قريش وحلفاؤهم وجيرانهم فريقين: ففريق يعاضد بني عبد مناف، وفريق يعاضد بني عبد الدار. وعقد كل فريق حلفا مؤكدا على ألا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا، وأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا ووضعوها عند الكعبة، وتحالفوا وجعلوا أيديهم فيها، فسمي هذا الحلف لذلك "حلف المطيبين"، وسنشير إليه بالتفصيل.

وتعاقد بنو عبد الدار ومن معهم وتحالفوا، فسموا لذلك "الأحلاف" ثم تجمع الفريقان للقتال، وباتت مكة على شفا حرب أهلية لا يعلم مدى خطرها إلا الله.

ولكن حرص قريش على بقاء الوحدة القومية، وضنهم بالحرم أن تسال فيه الدماء، جعلهم يتداعون إلى الصلح على وجه ينال به كل من الفريقين حظا من ذلك الشرف الموروث. فكان لبني عبد مناف: السقاية، والرفادة، والقيادة، والندوة، ولبني عبد الدار: الحجابة، واللواء، على نحو ما أسلفنا. ثم حكم بنو عبد مناف القرعة في تقسيم نصيبهم، فكانت السقاية والرفادة لهاشم، والقيادة والندوة لعبد

1 بوزن فعالة كتجارة.

ص: 132

شمس. ثم انتقلت منهم الندوة بعد ذلك لبني عبد الدار. ويلاحظ في التقسيم أن ما أفاده بنو عبد مناف أكسبهم ذكرا ومجدا خارج قريش، في حين أن ما أفاده بنو عبد الدار أكسبهم نفوذا وسلطانا في مكة نفسها.

وقد انقسم بنو عبد مناف إلى فرعين: بيت هاشم وبيت أخيه عبد شمس، وقد نال الهاشميون منصبي الرفادة والسقاية، ونال عبد شمس منصب القيادة في الحرب.

هاشم بن عبد مناف:

كان هاشم بن عبد مناف قد احتفظ بمنصبي الرفادة والسقاية، وكان رجلا شجاعا ذا لسان ومقام رفيع بين قومه، ولم تكن شجاعته أقل من كرمه، فقد دعا قومه إلى إخراج قسط من أموالهم كل عام، يتولى إنفاقه في إطعام الحاج أثناء المواسم، ولم يقتصر كرمه على الحجيج، فقد أمد أهل مكة نفسها بكثير من الميرة حين أصابتهم سنة مجدبة، فزادت بذلك مكانته بين العرب، وكان هو أول من سنّ رحلة الشتاء والصيف إلى اليمن والشام؛ لتنظيم التجارة، والاتصال بين البلدين.

وقد كان لهذه السنة أثر عظيم في ازدهار مكة، حتى لم تكن بين البلاد العربية مدينة تفوقها، فقد غدت قبلة أنظار العرب جميعا.

لم تكن أيام هاشم خالية من المتاعب، فقد نغّص عليه صفو الحياة ما قام به أمية ابن أخيه عبد شمس من حركة تمرد وتطاول عليه؛ لما كان يتمتع به من شهرة وكثرة في المال والولد، وظن أمية أنه سينال بقوته ما بيد عمه من شارات الشرف. وحض الناس هاشما على التمسك على ما بيده، إذ هو وهو شيخ كبير أحق الناس بميراث قصي، وكادت الحرب تنشب بين هاشم وابن أخيه، غير أن الأمر استقر أخيرا على أن يتحاكما إلى الكاهن الخزاعي بعسفان على خمسين ناقة تذبح بالحرم، وخروج من يحكم عليه من مكة إلى بلد بعيد عشر سنوات، وخرج كل من هاشم وأمية في جماعة من أنصارهما حتى وصلوا إلى الكاهن، فقضى الكاهن

ص: 133

لهاشم1، ولم يجد أمية بدا من تنفيذ ما عاهد عليه، فخرج من مكة مكرها بعد أن نحر الإبل، ومكث بالشام المدة، وهذه أول العداوة بين هاشم وأمية وأولادهما.

وعلى الرغم من تقدم هاشم في السن، فقد ظل محافظا على الغدو والرواح إلى الشام وإلى اليمن، وإنه لفي رحلته يوما عائدا من الشام، إذ عرج على يثرب مع جماعة من قريش، فاسترعى نظره فتاة تشرف على قوم يتجرون، فأعجب بها، وزادت رغبته إليها حينما علم أنها ابنة عمرو الخزرجي، إذ كان ذا شرف في قومه، وكانت تسمى"سلمى" فتقدم هاشم لخطبتها، فقبلته زوجا لها.

وانتقلت معه إلى مكة، ثم رجعت إلى يثرب حيث ولدت لهاشم غلاما سمته شيبة الحمد، بقي في حضانتها في حياة هاشم وبعد موته.

ومات هاشم بغزة أثناء إحدى رحلاته، فقام بأعباء الملك من بعده أخوه المطلب، وجمع في يده منصب الرفادة والسقاية، وكان يسمى "الفيض" لسماحته وكرمه.

عبد المطلب:

وقد فكر المطلب يوما في شيبة الحمد ابن أخيه هاشم، فذهب إلى يثرب وطلب إلى سلمى بنة عمرو الخزرجية أن تسلم إليه الفتى، ففعلت، وأردفه المطلب على بعيره، ودخل به مكة، فظن الناس أنه عبد اشتراه المطلب، وصاحوا: هذا عبد المطلب، فصاح بهم المطلب: إنه شيبة الحمد ابن أخي هاشم قدمت به من يثرب، ولكن على الرغم من هذا غلب هذا الاسم على شيبة الحمد، حتى صار يدعى "عبد المطلب".

1 قال الكاهن: والقمر الباهر، والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجو من طائر، وما اهتدى بعلم مسافر، من منجد وغائر، لقد سبق هاشم أمية إلى المفاخر "ابن الأثير ج2 ص10، والنزاع والتخاصم بين بني أمية وهاشم للمقريزي، ص2 وما بعدها".

ص: 134

وأراد المطلب أن يعطي ابن أخيه مال أبيه هاشم، فأبى عليه ذلك أخوه نوفل، ووضع يده على ذلك المال، ولما كبر شيبة الحمد واشتد ساعده -بعد وفاة المطلب- لجأ عبد المطلب إلى أهل مكة، فرفضوا أن يدخلوا بين العم وابن أخيه، فكتب بعد ذلك إلى أخواله بني النجار في يثرب فنصروه، واضطر نوفل إلى رد ماله إليه قسرا، وقام عبد المطلب في مناصب هاشم من السقاية والرفادة، لكنه لقي في القيام بها مشقة، وبخاصة السقاية؛ لأن سقاية الحاج كانت تجمع من آبار عدة مبعثرة حول مكة، ولم يكن لعبد المطلب من يساعده غير ولده الحارث، وشغل هذا الأمر بال عبد المطلب، وتمنى لو أن زمزم لا زالت باقية، وأن مضاض بن الحارث الجرهمي لم يكن قد طمّها في القرون الخالية، وظل عبد المطلب يعاني المتاعب في سقاية الحاج وحده، فهو منشغل بأمر السقاية، وبينما هو في منامه، إذ ناداه هاتف: أن احفر زمزم. فقال: وما زمزم؟ فقال الهاتف: بين الفرث والدم عند نقرة الأعصم، وما زال الهاتف يأتيه، حتى اهتدى عبد المطلب إلى مكان زمزم1.

شمر عبد المطلب عن ساعد الجد، وجعل يحفر، وابنه الحارث ينقل التراب والرمال حتى نبع الماء، وظهرت النفائس من الذهب والأسياف والدروع، التي كان قد خبأها الملك مضاض الجرهمي، فعزّ على قريش أن تترك ذلك لعبد المطلب، فنازعوه على البئر وما وجد فيها، ولم يكن للمطلب من الأولاد عدد يستمد منهم ومن قوتهم حولا وسلطانا، ولم يستطع أن يمنع نفسه من قريش؛ فرضخ للاحتكام إلى الأقداح لدى هبل في جوف الكعبة، وضربت الأقداح، فوقعت النفائس من نصيب عبد المطلب والكعبة.

وكان من بينها غزالتان وألواح كلها من الذهب، تنازل عنها عبد المطلب وضربها ألواحا للكعبة، وحليا لأبواب البيت الحرام.

ولكن المسألة تركت أثرا في نفس عبد المطلب، ذلك أنه شعر بهوانه

1 على هامش السيرة للدكتور طه حسين، ومكان زمزم بين "إساف ونائلة".

ص: 135

على قومه وضعفه بينهم وقهره على أن يرضخ لحكم القداح. ولم يكن له من الأولاد ما يجد بهم نصرة، فنذر لئن بلغ ولده عشرة بنين يراهم قادرين على منعه من مثل ما لقي حين حفر زمزم، لينحرن أحدهم قربانا إلى الله عند باب الكعبة، وكرّت الأعوام، وألفى عبد المطلب حوله بنين عشرة، كلهم أشداء، قد بلغوا من القوة ما حسب عبد المطلب معه أنهم قادرون على منعه من مثل ما لقي حين حفر زمزم.

فدعا عبد المطلب أبناءه للوفاء بنذره، فأجابوه إلى ما طلب، فاقتادهم إلى جوف الكعبة لدى هبل، وكتب كل واحد من الأولاد اسمه على قدح، ثم أديرت الأقداح في جمع من قريش، فخرج القدح على عبد الله، أصغر أولاد عبد المطلب وأحبهم إليه.

واقتاد عبد المطلب ولده عبد الله إلى ما بين إساف ونائلة، حيث كانت تنحر العرب أنعامها. فبكت بنات عبد المطلب، وتعلقن بأخيهن، ورأت قريش في نحر عبد الله شدة وقسوة، فتوسلت إلى عبد المطلب أن يكف عن النحر، وأن يلتمس العذر على عدم الذبح عند هبل، ولم يشأ عبد المطلب أن ينزل عن مراده حتى توجد وسيلة لإرضاء الله، فتشاور القوم. وأخيرا قرّ رأيهم على استشارة عرافة بيثرب، فأشارت بتقريب عشرة من الإبل تضرب عليها وعلى عبد الله القداح، فإذا خرجت القداح على عبد الله، زِيد في الإبل عشرة، وضربت الأقداح ثانية، وهكذا حتى ترضى الآلهة، وفعلوا وجعلت الأقداح تخرج على عبد الله فيزيد في الإبل عشرة، حتى بلغت مائة والناس يشهدون عند الكعبة. ثم ضربوا فخرجت القداح على الإبل، فقال الناس: قد رضي ربك، وقال عبد المطلب: لا، حتى أضرب عليها ثلاثا فتخرج على الإبل، فضرب ثلاثا فخرجت عليها، فنحرت الإبل، ثم تركت لا يصد عنها إنسان، ولا طير، ولا وحش1.

وفي عهد عبد المطلب كانت واقعة الفيل، بين أصحاب الفيل من طغاة الأحباش

1 الكامل لابن الأثير ص2، 3.

ص: 136

الذين كانوا قد زحفوا على اليمن، فاستعمروا البلاد، ثم ما لبث أبرهة قائدهم أن صمّم على الاستيلاء على مكة، وحاول صرف العرب عن الكعبة بهدمها، وبإنشاء كعبة أخرى مماثلة لها في اليمن، وقد أهلك الله أبرهة وجيشه بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول. وقد احتفل الشعراء الحجازيون بهزيمة الحبشة في الحجاز، ونظموا قصائد طويلة يصورون فيها هذا النصر الكبير، وتجد بعض هذه القصائد في كتاب بلوغ الأرب للألوسي1، وهذا الشعر ينفي ما ذهب إليه ابن سلام، في كتاب "طبقات الشعراء"، من قلة الشعر الحجازي في العصر الجاهلي؛ لعدم الحروب والملاحم2.

حلف المطيبين:

دفعت الضرورة القبائل الحجازية العربية إلى تكوين الأحلاف؛ للمحافظة على الأمن، والدفاع عن مصالحها المشتركة.

ومن هذه الأحلاف: حلف المطيبين الذي عقد في مكة، بعد اختلاف بني عبد مناف وهاشم والمطلب ونوفل مع بني عبد الدار بن قصي، وإجماعهم على أخذ ما بأيدي بني عبد الدار مما كان قصي قد جعله فيهم من الحجابة واللواء والسقاية والرفادة، فعقد كل قوم على أمرهم حلفا مؤكدا، على ألا يتخاذلوا، ولا يسلم بعضهم بعضا، ما بل بحر صوفة، فأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا، قيل: إن بعض نساء بني عبد مناف أخرجتها لهم، فوضعوها لأحلافهم في المسجد عند الكعبة، ثم غمس القوم أيديهم فيها، فتعاقدوا وتعاهدوا هم وحلفاؤهم، ثم مسحوا الكعبة بأيديهم؛ توكيدا على أنفسهم، فسموا المطيبين، وتعاقد بنو عبد الدار وتعاهدوا هم وحلفاؤهم عند الكعبة حلفا مؤكدا على ألا يتخاذلوا، ولا يسلم بعضهم بعضا، فسموا الأحلاف3.

1 بلوغ الأرب 1/ 251-262.

2 طبقات الشعراء 21.

3 ابن هشام 1/ 431، ابن الأثير 1/ 183، الطبري 1/ 138، لسان العرب 10/ 400.

ص: 137

حلف الفضول:

دعت إليه قبائل قريش، فتعاهدوا وتعاقدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس، إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه، حتى ترد عنه مظلمته، وسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، وكان أول اجتماع لقبائل قريش -من بني هاشم وأسد وزهرة وتيم- في دار عبد الله بن جدعان، حيث صنع لهم طعاما كثيرا، ثم عمدوا إلى ماء من بئر زمزم، فجعلوه في جفنة، ثم بعثوا به إلى البيت، فغسلت به أركانه، ثم أوتوا به فشربوه، وتعاقدوا وتعاهدوا بالله المنتقم، ليكونن مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقه، ما بل بحر صوفة. وقد حضر هذا الحلف رسول الله -صلوات الله عليه- وقال فيه:"لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار ابن جدعان، ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت"1.

معاهدات مع الأمم المجاورة:

وقد عقد القرشيون سادة مكة معاهدات على جانب كبير من الخطورة في العصر الجاهلي مع الأمم التي تجاورهم، وهي معاهدات اقتصادية تحمي حرية التجارة، وينتشر في ظلالها نفوذ العرب في كل مكان. ويروي صاحب الأمالي في كتابه ذيل الأمالي والنوادر ما نصه2:

"كانت قريش تجارا، وكانت تجارتهم لا تعدو مكة، إنما تقدم عليهم الأعاجم بالسلع فيشترونها منهم، ثم يتبايعونها بينهم ويبيعونها على من حولهم من العرب، فكانوا كذلك حتى ركب هاشم بن عبد مناف إلى الشام، فنزل بقيصر، فكان يذبح كل يوم شاة، ويضع جفنة ثريد، ويجمع من حوله فيأكلون، وكان هاشم من أجمل الناس وأتمهم، فذكر ذلك لقيصر، فقيل له: ههنا رجل من قريش يهشم الخبز ثم يصب عليه المرق ويفرغ عليه اللحم،

1 ابن هشام 1/ 145، الأغاني 16/ 61، الاشتقاق لابن دريد ص111، العقد الفريد 12/ 4، اللسان 10/ 199 و1/ 90 محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية للخضري.

2 ذيل الأمالي ص199.

ص: 138

وإنما كانت العجم تصب المرق في الصحاف ثم تأتدم بالخبز، فدعا به قيصر، فلما رآه وكلمه أعجب به، فكان يبعث إليه في كل يوم فيدخل عليه ويحادثه، فلما رأى نفسه تمكن عنده قال له: أيها الملك، إن قومي تجار العرب، فإن رأيت أن تكتب لي كتابا تؤمن تجارتهم، فيقدموا عليك بما يستطرف من أدم الحجاز وثيابه فتباع عندكم فهو أرخص عليكم، فكتب له كتاب أمان لمن يقدم منهم، فأقبل هاشم بذلك الكتاب، فجعل كلما مر بحي من العرب بطريق الشام أخذ من أشرافهم إيلافا، والإيلاف: أن يأمنوا عندهم في أرضهم بغير حلف، إنما هو أمان الطريق، وعلى أن قريشا تحمل لهم بضائع فيكفونهم حملانها، ويؤدون إليهم رءوس أموالهم وربحهم، فأصلح هاشم ذلك الإيلاف بينهم وبين أهل الشام، حتى قدم مكة، فأتاهم بأعظم شيء أتوا به بركة، فخرجوا بتجارة عظيمة، وخرج هاشم معهم يجوزهم، يوفيهم إيلافهم الذي أخذ لهم من العرب، حتى أوردهم الشام وأحلهم قراها، ومات في ذلك السفر بغزة، وخرج المطلب بن عبد مناف إلى اليمن، فأخذ من ملوكهم عهدا لمن تجر إليهم من قريش، وأخذ الإيلاف كفعل هاشم، وكان أكبر أولاد عبد مناف، وكان يسمى الفيض، وهلك بردمان من اليمن، وخرج عبد شمس بن عبد مناف إلى الحبشة، فأخذ إيلافا كفعل هاشم والمطلب، وهلك عبد شمس بمكة، فقبره بالحجون، وخرج نوفل بن عبد مناف وكان أصغر ولد أبيه، فأخذ عهدا من كسرى لتجار قريش، وإيلافا ممن مر به من العرب، ثم قدم مكة ورجع إلى العراق، فمات بسلمان. واتسعت قريش في التجارة، وكثرت أموالها، فبنو عبد مناف أعظم قريش على قريش منة في الجاهلية والإسلام".

ص: 139

"ثانيا" المدينة:

تاريخ المدينة السياسي قبل الإسلام:

"كان ساكنو المدينة -في أول الدهر قبل بني إسرائيل- قوما من الأمم الساحقة، يقال لهم: "العماليق". وكانوا قد تفرقوا في البلاد، وكانوا أهل غزو وبغي شديد، فكان ملك الحجاز منهم يقال له: الأرقم، ينزل ما بين تيماء وفدك، وكانوا قد ملئوا المدينة ولهم بها نخل كثير وزرع، وكان موسى بن عمران قد بعث الجنود إلى الجبابرة من أهل القرى يغزونهم، فبعث موسى إلى العماليق جيشا من بني إسرائيل، وأمرهم أن يقتلوهم جميعا ولا يستبقوا منهم أحدا، فقدم الجيش الحجاز فأظهرهم الله على العماليق، فقتلوهم أجمعين إلا ابنا للأرقم كان وضيئا جميلا، فضنوا به على القتل، وقالوا: نذهب به إلى موسى فيرى رأيه فيه، فرجعوا إلى الشام فوجدوا موسى قد توفي، فقال لهم بنو إسرائيل: ما صنعتم؟ فقالوا: أظهرنا الله عليهم فقتلناهم، ولم يبق منهم أحد غير فلان كان شابا جميلا، فنفسنا به على القتل، وقلنا: نأتي به موسى فيرى فيه رأيه، فقالوا لهم: هذه معصية، قد أمرتم ألا تستبقوا منهم وألا تدخلوا علينا الشام أبدا. فلما صنعوا ذلك قالوا: ما كان خيرا لنا من منازل القوم الذين قتلناهم بالحجاز، نرجع إليهم فنقيم بها، فرجعوا على حاميتهم فنزلوها، فكان ذلك الجيش أول سكنى اليهود بالمدينة1. ويشك ابن خلدون في صحة هذه الرواية؛ لأنها لم توجد عند اليهود، ولأن اليهود لا يعرفون هذه القصة.

ولكن من الراجح أن اليهود نزحوا إلى الحجاز في بعض النكبات التي أصابتهم، وإن كان نزوحهم ثابتا لما هدم بختنصر بيت المقدس، وأجلى من أجلى، وسبى من سبى من بني إسرائيل، ففر قوم منهم إلى الحجاز، ونزلوا وادي القرى ويثرب وتيماء2. ثم لحق بهؤلاء إخوان لهم فرارا من بومبي، ومن تيطس، ومن هادريان.

1 الأغاني ج11.

2 تاريخ الطبري 1/ 281، وفتوح البلدان للبلاذري 21-23.

ص: 140

والحقيقة أن جموعا من اليهود المضطهدين كانوا يبحثون لهم عن ملجأ كلما حزبهم الأمر، وكان هذا الملجأ هو الحجاز1، ومن المحتمل أن الأنباط حين غزوا فلسطين أسروا كثيرا من اليهود، وأن هؤلاء الأسرى وغيرهم يمّموا شطر الجنوب موغلين2.

على أن عددهم بالحجاز قبل الميلاد بقرن، كان ضئيلا؛ لأن جريزل Grayzel نشر خريطة دقيقة لمواطن اليهود في العالم القديم في القرن الأول قبل الميلاد، وسجل فيها عددهم في كل موطن، وليس بها إشارة إلى اليهود بالحجاز أو باليمن3.

وفي الحجاز أقام اليهود، وبنوا الحصون، وثمروا الأموال، وزرعوا الأرض4، وبتطاول الزمن صارت لهم في الحجاز مستعمرات عدة، منها: خيبر، وفدك، ووادي القرى، وتيما، ومقنا. وكانت قرى كثيرة شمالي يثرب آهلة باليهود، وهي والمستعمرات اليهودية تصور مبلغ كثرتهم وانتشارهم بالحجاز5.

وكثر اليهود بالحجاز، واختلطوا بالعرب؛ لأن الأوس والخزرج نزلوا يثرب ووجدوا بها عدة قبائل من بني إسرائيل، هم: بنو عكرمة، وبنو ثعلبة، وبنو محمر، وبنو زغوار، وبنو قينقاع، وبنو زيد، وبنو النضير، وبنو قريظة، وبنو بهدل، وبنو عوف، وبنو الفصيص. وكان هنالك بنو ضخم، وبنو ماسكة، وبنو القممة، وبنو زيد اللات، وبنو حجر، وبنو زهرة، وبنو زبالة، وبنو ناغضة، وبنو عكوة، وبنو مزاية، حتى لقد نيّفت قبائلهم على العشرين، وزادت آطامهم وآطام من نزل معهم من العرب على السبعين6.

وكانت معهم بطون من العرب، منهم: بنو الحرمان -حي من اليمن- وبنو مرثد -حي من بلي- وبنو نيف -من بلي- وبنو معاوية

1 Deperceval p. 642.

2 تاريخ اليهود لجريزل، صفحة 244.

3 تاريخ اليهود لجريزل، صفحة 244.

4 خلاصة الوفاء للسمهودي ص79.

5 معجم البلدان 7/ 428.

6 خلاصة الوفا 79.

ص: 141

-من بني سليم- وبنو الشيظة -من غسان- وبنو مزيد -من بلي- وبنو الجذمى "الجذماء" من اليمن.

ثم بعد سيل العرم وفد إليهم الأوس والخزرج، واستوطنوا المدينة، وأقام بعضهم بين القرى اليهودية، وأقام آخرون مع اليهود في قراهم، ونزل بعضهم وحده لا مع اليهود، ولا مع العرب الذين كانوا قد تألفوا إلى اليهود1.

والأوس: ينتسبون إلى أوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن عبد الله بن الأزد، وينقسمون إلى بطون، منهم: عوف، والنيبت، وجشم، ومرة، وامرؤ القيس.

وأما الخزرج: فهم إخوة الأوس، فالخزرج شقيق أوس، وهم بطون، أشهرها: بنو النجار وينتسبون إلى تيم الله بن ثعلبة، والحارث، وجشم، وعوف، وكعب

وكان للخزرج رئيس منهم هو عمرو بن الإطنابة، وقد حكم الحجاز في أيام النعمان بن المنذر، وقتله الحارث بن ظالم قاتل خالد بن جعفر بن كلاب.

والأوس والخزرج يدعون ببني "قيلة"، وهي: قيلة بنت الأرقم بن عمرو بن جفنة على الراجح. وقضى الأوس والخزرج ردحا من الزمن في ضيق؛ لأن الخيرات كانت في قبضة اليهود، ثم تحالفوا وتعاملوا، وظلوا على ذلك زمنا طويلا2 حتى قدم أبو جبيلة الغساني إلى يثرب، فآزر الأوس والخزرج، وأفنى كثيرا من اليهود.

وقد أشاد الشعراء بأبي جبيلة وافتخروا به، وكان أبو جبيلة من الخزرج الذين نزحوا إلى سوريا، واندمج في الغساسنة، فمن الطبيعي أن يستجيب لنصرة قومه. ثم نكل مالك بن العجلان مرة أخرى باليهود، فنقموا منه ولعنوه في بِيَعهم وكنائسهم.

ولكنهم بعد ذلك ذُلوا وتخوّفوا بطش العرب، وجعلوا كلما هاجمهم أحد من الأوس والخزرج بشيء يكرهونه، لم يمش بعضهم إلى بعض كما كانوا يفعلون،

1 المرجع السابق 82.

2 الأغاني 19/ 96.

ص: 142

بل يذهب اليهودي إلى جيرانه الذين يعيش بين أظهرهم؛ لأن كل قوم من يهود قد لجئوا إلى بطن من الأوس والخزرج يتعززون بهم1.

ثم دبّ دبيب الخلاف بين الأوس والخزرج، وتنازعوا السلطان، فجرت بينهم الوقائع، وكانت بينهم حروب طويلة، أشهرها: الأيام المعروفة بيوم سمير، ويوم السرارة، ويوم حاطب، ويوم بعاث.

وما زال الخلاف قائما بين الأوس والخزرج، يستعين فيه بعضهم ببعض قبائل اليهود على بعض؛ حتى كان اعتناقهم للإسلام، وهجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم سنة 622م، حيث آخى بينهم، وتناسوا ما كان بينهم من عداوة وأحقاد كادت أن تأتي عليهم2.

1 الأغاني 91/ 97، والمرأة في الشعر الجاهلي.

2 عصر ما قبل الإسلام ص178 لمحمد مبروك نافع، وراجع الدرة الثمينة في تاريخ المدينة لابن النجار.

ص: 143