الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الداواوين المفردة
…
الدواوين المفردة:
وأما الدواوين المفردة فتعتبر أهم المصادر التي يجب أن يعتمد عليها الباحث في دراسة الشعر الجاهلي، بعد تصفيتها وتنقيتها واستخلاص ما أجمع عليه الرواة من ديوان كل شاعر.
ولعل الطريقة المثلى لدراسة هذه الدواوين -كما يراها بعض الباحثين- هي:
1-
أن ندرس الروايات المختلفة لديوان الشاعر دراسة مقارنة.
2-
ثم نفرد القدر الذي اتفق عليه العلماء الرواة جميعهم واشتركوا في روايته؛ لنتخذه أصلا معتمدا لديوان الشاعر.
3-
وبعد ذلك ندرس هذا القدر المشترك دراسة دقيقة، تكشف عن خصائص الشاعر الفنية التي تميز شخصيته الأدبية.
4-
ثم نتخذ هذا المقياس الفني الذي نستخرجه محكا نعرض عليه القصائد المتفرقة التي انفرد كل عالم راوية بروايتها، فما استقام منها مع هذا المقياس ترجحت صحته وضممناه إلى الديوان، وما لم يستقم رجحنا أنه مما اختلطت نسبته على ذلك الراوية العالم.
هذه الطريقة إن لم تنته بنا إلى يقين نقطع به، فستنتهي بنا إلى شبه يقين نطمئن إليه1.
وما أجدر الباحث في الشعر الحجازي الجاهلي أن يتخذ له من هذا المنهج القويم نبراسا يضيء له السبيل لدراسة الدواوين والمجموعات الشعرية الحجازية؛ كديوان حسان، وقيس بن الخطيم، والنابغة، والخنساء، وأمية بن أبي الصلت، ودريد بن الصمة، وغيرهم، يستقصي مخطوطات كل ديوان ورواياته المختلفة، ثم يوازن بينها ويستخلص القدر المشترك، ثم يدرسه دراسة فنية تكشف عن شخصية الشاعر، ثم يضيف من الروايات المختلف عليها ما يشاكل روح هذه الشخصية. وكنا نود القيام بهذا لولا أن هذا العمل يحتاج إلى مجهود خاص ودراسة خاصة ليس هذا الكتاب مجالها. ومع هذا فسنطبق هذا المنهج إلى حد ما على بعض الشعراء الحجازيين -على سبيل المثال- مستعينين بمن سبقنا من الباحثين.
ومن المجموعات الشعرية التي رويت في القرن الثاني الهجري، تلك المجموعة التي تضم شعر امرئ القيس، والنابغة، وزهير، وطرفة، وعلقمة، وعنترة؛ لأن هؤلاء الشعراء منذ عهد طويل، هم في المرتبة الأولى عند كثير من نقاد الأدب العربي، وقد أخملوا كثيرا من شعراء زمانهم، ولم يلحقهم من أتى بعدهم، وكان لهم تأثير قوي على الأدب العربي.
وكان هؤلاء الشعراء الذين ضمت هذه المجموعة دواوينهم في الصدارة من ثبت
1 مصادر الشعر الجاهلي 514.
الشعراء الجاهليين، بل شعراء العربية قاطبة؛ وذلك لأنهم -فضلا عما تقدم- لم تكن حياتهم محدودة راكدة ليس فيها إلا حوادث البادية المألوفة كما كان حال غيرهم من الشعراء، بل شهدوا حوادث لها أثر في تاريخ الأمة العربية، وذات أثر فعال في مقومات شخصيتها، واتصلوا بأشخاص لهم وزنهم في التاريخ، وبذلك كان شعرهم موضع اهتمام منذ قيل، ووجد فيه علماء اللغة وطلاب الأدب والمعاني جل طلباتهم، فعكفوا على درس شعرهم منذ جمع قبيل منتصف القرن الثاني للهجرة، في كل صقع حل به العرب، وشرح شعرهم عشرات من العلماء، وليس بصحيح ما قيل من أن الاهتمام بشعرهم كان وقفا على أهل المغرب، وربما نجم هذا الظن من كثرة المخطوطات التي عثر عليها بخط مغربي، فإن ثمة نسخا أخرى وجدت بالخط النسخي، كما أن المشارقة عنوا جد العناية بشرح شعرهم1، وقد نشر هذه المجموعة وليم بن الورد البروسي W. Ahlwardt سنة 1870م بلندن، وكتب لها مقدمة قيمة بعد أن راجع عدة مخطوطات، وقد جاء في مقدمته: "إن هذه المجموعة رواها أبو الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى، المعروف بالأعلم الشنتمري النحوي اللغوي 410-470هـ، وله عليها شرح كامل وقد قال في مقدمتها: إنه اعتمد القصائد التي رواها الأصمعي وعدها صحيحة، وأضاف إلى كل شاعر ما رآه بعض الرواة الثقات غير الأصمعي صحيحا، وقد كان الأصمعي يعرف هذه القصائد كذلك، بيد أنه شك فيها أو رآها منحولة.
ويظهر أن الأصمعي كان له شرح على هذه المجموعة، يدل على ذلك أن الأعلم الشنتمري كثيرا ما يرجع إلى تفسير الأصمعي فيقول:"الأصمعي يفسر هذه الكلمة بكذا"، و"الأصمعي لا يعترف بهذا البيت"، وغير ذلك من التعليقات التي اعتمد فيها على الأصمعي.
1 من مقدمة وليم بن الورد البروسي على هذه المجموعة، ترجمها نيكلسون إلى الإنجليزية عن الألمانية.
وثمة نسخ أخرى تضم دواوين بعض شعراء هذه المجموعة، مثال ذلك: شعر زهير بن أبي سلمى فقد رواه ثعلب، وقد روى أبو بكر محمد بن القاسم -المعروف بابن الأنباري- ديواني زهير والنابغة وشرحهما.
وجمع السكري دواوين امرئ القيس، وزهير، والنابغة، وإن كان يلوح أن "الأعلم الشنتمري" لم ينتفع بمجهودات من سبقه، إذ لم يشر إليهم قط. أما القصائد التي شك فيها الأصمعي، فقد أثبتها "الأعلم" بناء على أدلة ظهرت له، وقد اعتمد في شعر النابغة ما رواه الطوسي عن ابن الأعرابي.
وقد وجد "وليم بن الورد" كثيرا من الأبيات منسوبة إلى هؤلاء الشعراء في مختلف كتب الأدب، فاسترعى ذلك نظره، وأخذ يتساءل: هل كل هذه الأبيات مزورة، ولماذ؟ فصارت هذه الأسئلة تلح عليه ردحا طويلا من الزمن، وهو يرى هذه الأبيات تتردد في كتب أخرى منسوبة إلى هؤلاء الشعراء أنفسهم، مما قوي عنده أنها ليست مزورة، وأن الأعلم رفضها عن غير قصد؛ لأنها ليست مما رواه الأصمعي، وقد تكون من مرويات غيره.
ورأى من جهة أخرى أن استشهادات ابن قتيبة في "الشعر والشعراء"، وأبي الفرج في "الأغاني"، والجوهري في "الصحاح" لا تقتصر على ما اعتمده الأعلم الشنتمري من رواية الأصمعي.
ويستدرك ابن الورد، فيقول:"إن بعض هذه الأبيات مشكوك فيه لا ريب في ذلك، وبعضها جاء من اختلاط الأسماء"، ويضرب على ذلك مثلا كلمة "بجل"؛ فالجوهري يستشهد على تفسيرها ببيتين من الشعر وينسبهما إلى زهير، فيتبادر إلى الذهن أنه زهير بن أبي سلمى، ولكن ابن قتيبة ينسبها إلى زهير بن جناب، ويقع هذا التشابه في اسم النابغة، ففي نسخة باريس من هذه المجموعة تجد البيتين الآتيين منسوبين إلى النابغة الذبياني:
فتى تم فيه ما يسر صديقه
…
على أن فيه ما يسوء الأعاديا
فتى كملت أخلاقه غير أنه
…
جواد فما يبقي من المال باقيا
وهما للنابغة الجعدي.
وقد يكون التزوير ناجما عن خطأ في الرواية، فالبيت الآتي لا شك أنه من شعر الحطيئة، ولكنه منسوب للنابغة:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره
…
تجد خير نار عندها خير موقد
ولكن معظم الأبيات صحيحة، ونسبتها إلى قائليها نسبة لا ريب فيها. وقد اعتمد ابن الورد في إخراج هذه المجموعة على عشر مخطوطات.
وقد بذل ابن الورد مجهودات في إخراج هذه المجموعة التي تضم ما رواه الأصمعي من أشعار هؤلاء الفحول الستة، ولكنه لم ينشر معها شرح الأعلم الشنتمري عليها، وبعد أن فرغ من تدوين ما رواه الأصمعي ألحق به ما عثر عليه في كتب الأدب، لكل شاعر من هؤلاء الشعراء، تحت عنوان "الشعر المنحول"، وقد لا يكون كل هذا الشعر منحولا كما مر بنا، ولكنها رواية غير الأصمعي، ثم أشار في ملحق آخر إلى اختلاف النسخ، وكذلك ترتيب الأبيات في القصائد مشيرا إلى كل مخطوطة، وفي ملحق ثالث أثبت ما رواه الأعلم الشنتمري وغيره من مقدمات القصائد التي تلقي ضوءا على مناسباتها، والأسباب التي دعت إلى قولها.