الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الثاني: الحياة الأدبية في الحجاز في العصر الجاهلي، النثر
الباب الأول: صورة عامة للنثر الحجازي في العصر الجاهلي
تمهيد:
كانت العرب أمة صناعتها الكلام، ومفخرتها البيان، وكان أهل الحجاز من بينهم خاصة أهل لسن وفصاحة، يزدهيهم القول، وتأخذ بألبابهم البلاغة، وقد أثر لهم من جوامع الكلم، ونوابغ الحكم، وروائع الأساليب، ما يعد على وجه الزمان من مآثرهم الخالدة، ومناقبهم الباقية. ولا غرو فقد كان الحجازيون من أبلغ العرب لسانا، وأفصحهم بيانا، اجتمع لهم من الخطابة، والفصاحة، والبيان العجيب، والقول المصيب، والكلام الغريب، والمنطق الساحر، ما روته أسفار الأدب، وازدانت به لغة العرب.
والبلاغة العربية الحجازية تتبدى في مظهرين:
1-
الشعر الذي يعتمد على الإيقاع والموسيقى والوزن والقافية، وعلى الخيال والعاطفة.
2-
النثر، وهو لون من الكلام لا تحده في الغالب قيود الوزن والقافية، بل هو أساليب سلسة، ينطقون بها عند المشاجرة والخصام، وعندما تقتضي الدواعي المتباينة منهم الكلام، فتفيض بها بديهة حاضرة، وقريحة مواتية، وطبيعة طيعة مستجيبة.
النثر الحجازي الجاهلي:
1-
كان للحجازيين نثر فني صِيغ في قالب أدبي يثير المشاعر ويحرك العواطف؛ لأنهم كانوا ينطقون باللغة كما صنعوها على أعينهم، نقية من الشوائب، فقد عاشوا في جزيرتهم بعيدين عن المؤثرات التي تضعف الملكات، ومن ثم فقد كان نثرهم منخولا ينزع عن قوس الإجادة ويصدر عن وحي الطبع والملكة السليمة، وليس من شك أيضا أن هذا النثر كان لا منتدح منه في جميع شئونهم، وأمور حياتهم، يتحدثون به في معاشهم وتبين به شفاههم لتصوير ما يعتلج بنفوسهم ويختلج بأفئدتهم، وكان ملحمة لقراع الألسنة ومباراة للبلغاء في مضمار البيان والأسواق الأدبية، ولم يكن للعرب عند تفاقم الفتن ولا للأبطال في معمعة الحروب ولا للأمهات عند إهداء بناتهن، مناص من كلام يستأصلون به شأفة الفتن، ويحمسون به النفوس، ويصيبون به مقاطع الرأي.
ولا نكاد نهتدي إلى صورة جلية تمثل هذا النثر الجاهلي الحجازي؛ فكل ما وصل إلينا قل من كثر، وغيض من فيض، ولقد ذكر الرواة أن ما وصلنا من أدب ليس إلا أقله، ولكن ما وصل إلينا من النثر كان أقل شأنا من الشعر، ومرد ذلك إلى:
1-
أن العرب في الجاهلية كانوا أميين لا يكادون يقرءون أو يكتبون، فكانوا يعتمدون في رواية الأدب من نثر وشعر على المشافهة والاستظهار، والذاكرة أقدر على حفظ الشعر وروايته من حفظ النثر وروايته.
فإن ما للشعر من أوزان راقصة، ونغمات موسيقية، وقوافٍ متزاوجة، وجرس عذب مثير، يعين على استذكاره واستظهاره، والنثر ليس بهذه المثابة، فالنثر إذن يتطلب معرفة الكتابة وهي اختراع متأخر.
2-
لم يستطع النثر منذ أن أطل برأسه إلى الحياة أن يباري الشعر في عهد الجاهلية، وأن يقوى على معالجة الموضوعات التي عالجها الشعر، فقد كان
الشعر ديوان العرب؛ سجلوا فيه حروبهم وأخبارهم وعاداتهم وعقليتهم، ودَوَّن فيه الشاعر ما رأى وما شعر، ومزج فيه الحياة التي حوله بمشاعره، وكان الشاعر لا منتدح منه للقبيلة يعلن مناقبها ويذود عن حياضها وينافح عن شرفها ويحمي حماها، وكان الشعر في الحرب كموسيقى الجيش تثير في النفوس الميل للقتال وتبعث على الاستبسال، أما موضوعات النثر فلم تك بهذه المثابة، فعني الناس بحفظ الشعر ولم يعنوا بحفظ النثر.
3-
النثر وليد العقل وسعة الثقافة، والشعر وليد الخيال، والأمة في بادئ أمرها خيالها أكبر من عقلها.
ويمتاز النثر الحجازي بمساوقته للطبع وجريانه على الفطرة، فليس فيه تكلف ولا تطرف ولا غلوّ، ينزع عن قوس البادية، ويمتح من ينابيع البيئة، ومن ثم فقد جاء قوي اللفظ متين العبارات فحل الأسلوب قصير الفقرات قريب الإشارة.
2-
وإنما نعني بالنثر ههنا: النثر الفني الذي يحتفل به قائله، ويجود فيه، ويهذب من حواشيه، ويعنى بصياغته صياغة فنية مؤثرة، يعبر به عن أجمل ما في نفسه وخواطره من معانٍ وأفكار.
ولا نقصد به ما يجري على ألسنة الناس في شئون الحياة العادية، مما نسميه "لغة التخاطب" التي لا يقصد فيها إلى جمال فني، ولا النثر العلمي؛ لأنه لم يكن للحجازيين في الجاهلية نثر علمي، وإنما جَدّ ذلك المظهر في أواخر عصر بني أمية وأوائل عصر دولة بني العباس، فالنثر العلمي ليس لونا من ألوان الأدب، وإن كان الأدب يعنى به؛ لأنه من آثار العقلية التي تنشئ الأدب، إذ هو مغذي الثقافة العقلية والأدبية، ثم هو مما يصقل مواهب الأديب، ويمده بزاخر المعاني والأفكار والموضوعات، وقد يكون النثر العلمي في بعض الأحايين أدبا إذا حرص صاحبه فيه على أداء الحقائق بأسلوب بليغ، وكلام رصين مختار.
والنثر الفني الحجازي ألوان متعددة:
1-
فمنه الكلام المرسل الذي لم تقيد فقراته بوزن أو قافية، كخطبة هاشم بن عبد مناف القرشي التي يقول منها: "يا معشر قريش: إنكم سادة العرب أحسنها وجوها وأعظمها أحلاما، وأوسطها أنسابا. يا معشر قريش: إنكم جيران بيت الله، أكرمكم الله بولايته، وخصكم بجواره، دون بني إسماعيل1
…
إلخ". ويسمى هذا النوع نثرا مرسلا.
2-
ومنه ما يجيء من الكلام المنثور متحدا في فواصله2 في الوزن دون اتفاق في القافية؛ ويسمى هذا اللون من النثر مزدوجا، والإتيان به كذلك ازدواجا، وقد يسميه البديعيون "موازنة".
3-
ومنه الكلام المسجوع الذي تتحد فواصله في الحرف الأخير، وهو ما يسمى بالقافية، مثل وصية أبي طالب لوجوه قريش حين حضرته الوفاة:"يا معشر قريش، فيكم السيد المطاع، وفيكم المقدام الشجاع، لم تتركوا للعرب في المآثر نصيبا إلا أحرزتموه، ولا شرفا إلا أدركتموه، فلكم بذلك على الناس الفضيلة، ولهم به إليكم الوسيلة، والناس لكم حرب، وعلى حربكم ألب"3 ويسمى مثل ذلك سجعا، وقد يسمى ما اتفقت الفواصل فيه في الوزن والقافية سجعا أو ازدواجا، مثل كلام أبي طلاب السابق، ومثل قول الحكم في المنافرة بين هشام بن عبد مناف وأمية بن عبد شمس:"والقمر الباهر، والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجو من طائر، لقد سبق هاشم أمية إلى المفاخر"4، ويغلب السجع في كلام الكهان، وبعض علماء البلاغة لا يمنعون أن يسمى ما جاء في القرآن من ذلك سجعا، ومنهم أبو هلال وابن سنان وابن الأثير، خلافا للباقلاني وأنصاره، الذين يرون تسمية الجمل القرآنية فواصل، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} وهذا منع لتبادر الفهم إلى أن القرآن يشبهه شيء من الآثار الأدبية، وإكبار له عن أن يقال له: سجع.
1 222/ 1 بلوغ الأرب للألوسي.
2 الفاصلة: الكلمة الأخيرة من الجملة من الكلام.
3 327/ 1 بلوغ الأرب.
4 308/ 1 بلوغ الأرب.
حظ الأدب الحجازي من النثر الفني في العصر الجاهلي:
1-
يختلف الأدباء في النثر الفني: هل وجد في العصر الجاهلي، أم لم يوجد إلا بعده؟
أما أدباء العربية المتقدمون، والكثير من الأدباء المعاصرين أيضا، فيؤمنون بأن العصر الجاهلي عرف النثر الفني معرفة كبيرة، وكان للعرب عامة وللحجازيين خاصة في ذلك العهد، صور من النثر نستطيع أن نسميها إلى حد كبير نثرا فنيا، وكانوا يجيدون هذا الفن الأدبي إجادة بالغة.
ودليلهم على وجود النثر الفني في الجاهلية هو:
1-
كان عند كثير من الأمم القديمة كالفرس والهنود وقدماء المصريين نثر فني قبل الميلاد بقرون كثيرة، فلِمَ لا يكون للعرب نثر فني بعد الميلاد بخمسة قرون؟
2-
نزول القرآن الكريم يوجب الحكم بأن العرب في جاهليتهم كان لهم نثر فني، وكانوا يجيدونه ويبلغون فيه غاية البيان والفصاحة، وإلا فكيف يتحداهم الله عز وجل بفن من البيان لم يعرفوه؟
3-
بقاء بعض صور من النثر الفني للعرب الجاهليين في مصادر الأدب العربي وأمهات كتبه، من خطابة جيدة، ونصائح بليغة، وإن كان الكثير من النثر الجاهلي قد ضاع لعدم تدوينه بالكتابة، والنثر أحوج إلى التدوين بالكتابة من الشعر، الذي يسهل حفظه في الصدور، وتعين القافية والوزن على تصحيحه وروايته. أما النثر فيشق حفظه ويصعب تناقله. ولم تكن الكتابة معروفة في الجاهلية إلا للقليل من الناس، الذين كانوا يستخدمونها لأغراض سياسية
وتجارية لا لأغراض أدبية1. والسبب في ذلك أمية العرب وبداوتها، وأنها لم تكن أمة ذات حضارة أو ثقافة فكرية واسعة؛ ولذلك كان أكثر أدبها ارتجالا، أو ما يشبه الارتجال.
يقول الجاحظ: وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام. وليست هناك معاناة ولا مكابدة ولا إجالة فكرة، وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام، وإلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني أرسالا، وتنثال عليه الألفاظ انثيالا. وكان الكلام الجيد عندهم أظهر، وهم عليه أقدر وأقهر، وكل واحد في نفسه أنطق، ومكانه من البيان أرفع، وخطباؤهم أوجز، والكلام عليهم أسهل، وهو عليهم أيسر2.
4-
والدليل الرابع على وجود النثر الفني في العصر الجاهلي هو وجود صحائف من الكتب الدينية عند بعض طبقات العرب، من اليهود والنصارى ودعاة الحنيفية دين إبراهيم وإسماعيل.
أما المستشرقون فيرون أن النثر الفني لم يعرفه عرب الجاهلية، ولم يشهده عصر صدر الإسلام، وإنما نشأ على يد ابن المقفع المتوفى عام 143هـ في صدر العصر العباسي الأول، وممن ذهب إلى ذلك المسيو مرسيه الفرنسي3، والمستشرق جب الإنجليزي، وغيرهما.
ويؤيد ذلك بعض الباحثين المعاصرين4 كالدكتور طه حسين، ويدعمون ذلك بأدلة منها:
1 ص5 الفن ومذاهبه في النثر العربي، لشوقي ضيف.
2 21 جـ3 البيان والتبيين للجاحظ، الطبعة الثانية.
3 راجع ص23 جـ1 النثر الفني لزكي مبارك.
4 يتفق هؤلاء مع المستشرقين في إنكار وجود النثر الفني عند العرب في الجاهلية، ولكنهم يختلفون معهم في تحديد مبدأ نشأة النثر الفني في الأدب العربي، فليس ابن المقفع هو أول من ظهر النثر الفني على يديه كما يرى المستشرقون، وإنما عرفه الأدب العربي في أول القرن الثاني الهجري، كما يرى هؤلاء المعاصرون من أدباء العربية.
1-
أن عيشة العرب الأولين لم تكن توجد النثر الفني؛ لأنه لغة العقل، على حين سمحت بالشعر؛ لأنه لغة العاطفة والخيال.
2-
عدم انتشار الكتابة في العصر الجاهلي، وهي عماد النثر الفني.
3-
والقرآن -الذي يستدلون به على معرفة الجاهليين للنثر الفني، ووجوده عندهم- لا يصح عده من النثر كما لا يصح جعله شعرا؛ لأنه نمط أدبي مستقل ليس له شبيه في الآثار الأدبية.
يقول الدكتور طه: "والواقع أننا لا نستطيع بحال من الأحوال -مهما نحرص على أن نكون من أنصار العصر الجاهلي- أن نطمئن إلى أن هذا العصر كان له نثر فني1. فالعصر الجاهلي لم يكن له نثر بالمعنى الذي حددته، ومع ذلك فقد كان له نثر خاص لم يصل إلينا؛ لضعف الذاكرة، وخلوه من الوزن، وهذا النثر هو الخطابة2، فأول القرن الثاني للهجرة هو الذي شهد ظهور الحياة العقلية، وهو الذي شهد مظهر الحياة العقلية وهو نشأة النثر الفني3".
2-
والحق أنه كان للعرب قبل الإسلام، وخاصة الحجازيين منهم، نثر فني يتناسب مع صفاء أذهانهم وحدة تفكيرهم، ولكنه ضاع لأسباب منها: شيوع الأمية، وقلة التدوين، وبعد ذلك النثر عن الحياة الجديدة التي جاء بها الإسلام. والقرآن الكريم شاهد صدق على وجود النثر الفني قبل الإسلام، ويعطي فكرة عامة عن ازدهاره وقوته في هذا العصر الجاهلي، وما يقال من أنه ليس نثرا مغالطة لا تجوز على عقل.
وأغلب الظن أن هؤلاء الذين يجعلون نشأة النثر الفني على يدي ابن المقفع إنما يريدون إسناد ذلك الفضل لأثر وراثاته الفارسية، وأن أدبنا العربي مدين في ذلك للعقلية الفارسية، وهذه شعوبية حديثة نرى مظهرها واضحا في إنكار،
1 30 و31 من حديث الشعر والنثر لطه حسين.
2 ص32 المرجع نفسه.
3 ص49 المرجع نفسه.
فضل العرب، ونسبة كل مكرمة أدبية أو غير أدبية لغيرهم من العناصر الأجنبية. ثم إن الكتابة إنما يحتاج إليها النثر الفني في تدوينه لا في نشأته كما يسلم بذلك العقل.
ونخلص من ذلك كله إلى إثبات رأينا الذي رأيناه، وهو أن النثر الفني قد وجد قبل الإسلام وقبل اتصال العرب الثقافي بالفرس واليونان بأمد طويل.
3-
ولنوضح أخيرا موقف الدكتور طه من النثر الجاهلي، يرى الدكتور:
1-
أنه لم يعرف الجاهليون النثر الفني، وإنما عرفوا ألوانا أخرى من النثر، من: أسجاع، وأمثال، وخطابة لم تكن شيئا ذا غناء1، وسجع كهان2، وهذه بينها وبين النثر الفني بون بعيد.
2-
ويرفض الدكتور قبول ما ينسب لعرب الجنوب من نثر، من شتى هذه الأنواع النثرية المروية؛ لأن النثر إنما جاء بلغة قريش التي لم يكن لعرب الجنوب بها علم، ولأنهم كان لهم لغة معروفة كتبوها وتركوا لنا فيها نصوصا منثورة كشفها المستشرقون وهي لا توافق لغة قريش في شيء. فكل ما يضاف إلى اليمنيين من نثر مرسل أو مسجوع أو خطابة في الجاهلية عند الدكتور منتحل. أما عرب الشمال فيرى رفض ما يضاف إلى ربيعة وغيرها من عرب العراق والبحرين والجزيرة من نثر، ويتردد فيما ينسب منه إلى مضر، ويرى أن الكثير منه منتحل3.
ونحن لا نوافق الدكتور على ما ذهب إليه: من إنكار وجود النثر الفني في الجاهلية، ولا من التهوين من شأن الخطابة الجاهلية، وإن كنا نسلم معه بأن بعض النصوص الأدبية من النثر الجاهلي قد انتحل بعد الإسلام.
1 يرى الدكتور أن الخطابة فن إسلامي خالص، ويقول: لا تصدق أنه قد كانت للعرب في الجاهلية خطابة ممتازة، إنما استحدثت الخطابة في الإسلام "ص374 الأدب الجاهلي".
2 راجع 372-375 الأدب الجاهلي لطه حسين طـ 1927.
3 راجع ص269 من الأدب الجاهلي وما بعدها.
مأثورات من النثر الحجازي 1:
1-
من حديث أم معبد، الذي حدث به حبيش بن خالد رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من مكة مهاجرا إلى المدينة هو وأبو بكر، ومولى أبي بكر عامر بن فهيرة رضي الله عنهما ودليلهما الليثي عبد الله بن الأريقط، مروا على خيمة أم معبد الخزاعية، وكانت امرأة برزة2 جلدة، تختبئ بفناء قبتها ثم تسقي وتطعم، فسألوها تمرا ولحما ليشتروا منها، فلم يصيبوا عندها شيئا من ذلك، وكان القوم مرملين مسنتين3، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة فقال:"ما هذه الشاة يا أم معبد؟ " قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم. قال: "هل لها من لبن؟ " قالت: هي أجهد من ذلك. قال: "أتأذنين لي أن أحلبها؟ "، قالت: نعم بأبي أنت وأمي، إن رأيت بها حلبا فاحلبها. فدعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسح بيده ضرعها وسمى الله تعالى ودعا لها في شاتها، فتفاجت4 عليه ودرّت واجترت، ودعا بإناء يربض الرهط5، فحلب فيه ثجا6 حتى علاه البهاء ثم سقاها حتى رويت وسقى أصحابه حتى رووا وشرب آخرهم ثم أراضوا، ثم حلب فيه ثانيا بعد بدء حتى امتلأ الإناء ثم غادره
1 نعد هذا نثرا جاهليا؛ لأنه قبل تمام الهجرة، وصاحبة هذا النثر لم تكن أسلمت أو تأثرت بالقرآن الكريم.
2 برزة هي من النساء الجليلة التي تظهر للناس، ويجلس إليها القوم، وأيضا هي الموثوق برأيها وعفافها.
3 مرملين أي: نفد زادهم، وأصله من الرمل، كأنهم لصقوا به، كما قيل للفقير الترب. ومسنتين أي: مجدبين أصابتهم السنة، وهي القحط.
4 فتفاجت، التفاج: المبالغة في تفريج ما بين الرجلين، وضمير عليه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
5 يربض الرهط، أي: إنه يرويهم حتى يثقلهم، فيربضوا: فيناموا لكثرة اللبن الذي شربوه، ويمتدوا على الأرض، من ربض بالمكان يربض: إذا لصق به وقام ملازما له.
6-
ثجا أي: لبنا سائلا كثيرا. والبهاء يريد به بهاء اللبن وهو وبيص رغوته، وبهاء اللبن ممدود غير مهموز لأنه من البهى.
عندها وبايعها وارتحلوا عنها. فقلما لبثت1 حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا تساوك هزالا مخاخهن قليل2، فلما رأى أبو معبد اللبن عجب، وقال: من أين لك هذا اللبن يا أم معبد، والشاء عازب حيال3، ولا حلوب في البيت؟ قالت: لا والله، إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا. قال: صفيه لي يا أم معبد. قالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة4، أبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة5 ولم تزر به صعلة6، وسيما قسيما، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي عنقه سطع، وفي صوته صحل، وفي لحيته كثاثة. أزج أقرن7، إن صمت فعليه الوقار وإن تكلم سماه وعلاه البهاء، فهو أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنهم وأجملهم من قريب، حلو المنطق، فصل لا نزر ولا هذر8، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، ربعة، لا يأس من طول9 ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا
1 لبثت، أي: مكثت.
2 عجافا: جمع عجفاء وهي المهزولة. وتساوك هزالا أي: تتمايل من الهزال والضعف في مشيها. وقوله: مخاخهن قليل جمع: مخ، مثل: حباب وحب وكمام وكم، وإنما لم يقل: قليلة؛ لأنه أراد أن مخاخهن شيء قليل. قال الشاعر:
إلى الله أشكو ما أرى بجيادنا
…
تساوك هزلى مخهن قليل
3 عازب أي: بعيدة المرعى، لا تأوي إلى المنزل إلا في الليل. والحيال جمع: حائل، وهي التي لم تحمل.
4 الوضاءة: الحسن والبهجة.
5 الخلق: السجية، والثجلة: عظم البطن وسعته.
6 الصعلة: صغر الرأس، ولم تزر به أي: لم تعبه.
7 الدعج والدعجة: السواد في العين وغيرها، تريد: أن سواد عينيه كان شديدا. والوطف: طول في هدب أشفار العينين. والسطع: طول العنق. والصحل كالبحة وألا يكون حادا. والزجج: دقة في الحاجبين وطول. وأقرن أي: مقرونهما.
8 فصل، لا نزر ولا هزر أي: ليس بقليل ولا بكثير فاسد.
9 لا يأس من طول أي: إنه لا يؤيس من طوله؛ لأنه كان إلى الطول أقرب منه إلى القصر.
وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به1، إن قال أنصتوا لقوله وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود لا عابس ولا مفند2. قال أبو معبد: هو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة، ولقد هممت بأن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا.
2-
ومن خطبة هاشم بن عبد مناف، حين تنافرت قريش وخزاعة إليه:
أيها الناس:
نحن آل إبراهيم، وذرية إسماعيل، وبنو النضر بن كنانة، وبنو قصي بن كلاب، وأرباب مكة، وسكان الحرم، لنا ذروة الحسب، ومعدن المجد، ولكل في كل حلف يجب عليه نصرته، وإجابة دعوته، إلا ما دعا إلى عقوق عشيرة، وقطع رحم.
يا بني قصي:
أنتم كغصني شجرة، أيهما كسر أوحش صاحبه، والسيف لا يصان إلا بغمده، ورامي العشيرة يصيبه سهمه، ومن أمحكه3 اللجاج أخرجه إلى البغي.
أيها الناس:
الحلم شرف، والصبر ظفر، والمعروف كنز، والجود سؤدد، والجهل سفه، والأيام دول، والدهر ذو غير، والمرء منسوب إلى فعله ومأخوذ بعمله، فاصطنعوا المعروف تكسبوا الحمد ودعوا الفضول تجانبكم السفهاء، وأكرموا الجليس يعمر ناديكم، وحاموا الخليط يرغب في جواركم، وأنصفوا من أنفسكم يوثق بكم. وعليكم بمكارم الأخلاق فإنها رفعة، وإياكم والأخلاق الدنية فإنها تضيع الشرف وتهدم المجد، وإن نهنهة الجاهل أهون من جريرته، ورأس العشيرة يحمل أثقالها، ومقام الحليم عظة لمن انتفع به. فقالت قريش: رضينا بك أبا نضلة4.
1 يحفون به أي: يبالغون في بِرّه والسؤال عن حاله.
2 محفود محشود أي: إن أصحابه يخدمونه ويجتمعون عليه. والعابس: الكريه الجهم المحيا. والمفند: الذي لا فائدة في كلامه لكبر أصابه.
3 أي: أغضبه.
4 هي كنية هاشم.
3-
ومن أمثلة المحاورات، ما يروى من أنه اجتمع عامر بن الظرب العدواني وحممة بن رافع الدوسي1 عند ملك من ملوك حمير، فقال: تساءلا حتى أسمع ما تقولان.
فقال عامر بن الظرب لحممة بن رافع: أين يجب أن تكون أياديك؟ قال: عند ذي الرئية العديم، وذي الخلة الكريم، والمعسر الغريم، والمستضعف الهضيم، قال: من أحق الناس بالمقت؟ قال: الفقير المختال، والضعيف الصوال، والعيي القوال، قال: فمن أحق بالمنع؟ قال: الحريص الكائد، والمستميح الحاسد، والملحف الواجد، قال: فمن أجدر الناس بالصنيعة؟ قال: من إذا أعطي شكر، وإذا منع عذر، وإذا مُوطِل صبر، وإذا قدم العهد ذكر. قال: من أكرم الناس عشرة؟ قال: من إن قرب منح، وإن بعد مدح، وإن ظلم صفح، وإن ضُويق سمح، قال: من ألأم الناس؟ قال: من إذا سأل خضع، وإذا سئل منع، وإذا ملك كنع، ظاهره جشع، وباطنه طمع، قال: فمن أحلم الناس؟ قال: من عفا إذا قدر، وأجمل إذا انتصر، ولم تطغه عزة الظفر، قال: فمن أحزم الناس؟ قال: من أخذ رقاب الأمور بيديه، وجعل العواقب نصب عينيه، ونبذ التهيب، وبرئ من ذنبه، قال: فمن أحذق الناس؟ قال: من ركب الخطار، واعتسف العثار، وأسرع في البدار قبل الاقتدار، قال: فمن أجود الناس؟ قال: من بذل المجهود، ولم يأس على المعهود، قال: فمن أبلغ الناس؟ قال: من جلّى المعنى المزيز باللفظ الوجيز، وطبق المفصل قبل التحزيز، قال: فمن أنعم الناس عيشا؟ قال: من تحلى بالعفاف، ورضي بالكفاف، وتجاوز ما يخاف، قال: فمن أشقى الناس؟ قال: من حسد على النعم وتسخط على القسم، واستشعر الندم على فوت ما لم يحتم، قال: من أغنى الناس؟ قال: من استشعر الناس، وأبدى التجمل للناس، واستكثر قليل النعم، ولم يسخط على القسم، قال: فمن أحكم الناس؟ قال:
1 عامر بن الظرب وحممة بن رافع: حكيمان من حكماء العرب في الجاهلية الذين تفرغوا لصناعة الكلام والمساجلة بالبيان وقوة البديهة والقدرة على ارتجال الحكم والغوص على درر المعاني ولألئها، واصطياد شوارد الأفكار وأوابدها.
من صمت فادّكر، ونظر فاعتبر، ووعظ فازدجر، قال: من أجهل الناس؟ قال: من رأى الخرق مغنما، والتجاوز مغرما.
وفي هذا الحوار رأى ابن رافع أن يجيب صاحبه عن هذه الأسئلة كلها أجوبة سداها الحكمة والقول الفصل والآيات البينات والأفكار الرائعات، تراه يقول له: إن أجدر الناس بالصنيعة ذو الخلق الكريم من إذا أعطي شكر، وإذا منع عذر، وأولى الناس بالمنع الحريص الكائد، وأكرم الناس عشرة من إذا ظلم صفح، وألأمهم من إذا سأل أراق ماء وجهه وإذا سئل بخل، وأحلم الناس وأحزمهم من عفا عند المقدرة وفكر في العواقب، وإن أخرق الناس من لم يعد للشيء عدته قبل الإقدام عليه، وأجودهم من جاد بالمجهود، وأبلغهم من عرض المعنى الغزير في اللفظ الوجيز، وأنعم الناس عيشا من تحلى بالعفاف، وأشقاهم من لم يرض بما وهب الله له وحسد الناس على آلائهم، وأحكم الناس المفكر المعتبر، وأجهلهم من ركب متن الشطط وأسرج أفراس هواه.
ويؤخذ على هذه الحكم كثرة التكرار في المعنى الواحد، وعرضه في مواطن متفرقة؛ وقد كان خليقا أن تذكر الحكمة مع الحكمة التي تتجاور معها وتتزاوج فترى فيها تساؤلا عن الأيادي وعن الصنيعة، والمراد منهما شيء واحد وعن الحزم والحكمة وعن الكرم والجود وعن الخرق والجهل، وكلها معانٍ تدور في فلك واحد، ومع ذلك لم تجئ منسقة ولم تنبؤ أن كل حكمة مقعدها إلى جانب الحكمة التي تلائمها وتتسق معها مشربا وروحا.
أما الأسلوب فيتجلى فيه ذلك الطابع العام للنثر الجاهلي من جزالة اللفظ ومتانة التركيب وقوة العبارة وإحكام النسج وقصر الفقرات والجنوح إلى الإيجاز وقلة الروابط بين الجمل، بحيث ترى الحكمة قد اطردت من غير مناسبة قوية، حتى إننا نستطيع أن نقدم ونؤخر في العبارات، ولا يتأثر المعنى ولا تضطرب الفكرة ولا يختل النظم، كما يتجلى في السجع الذي يغلب على الحكم والخطب والوصايا وتخرصات الكهان.
هذه الحكم نفسها هي أكبر مظهر للعقلية العربية، والعرب لم يمتحوا من
ينابيع الثقافة ولم ينهلوا من موارد العلوم، ولكن تجاربهم الجمَّة أتاحت لهم ألوانا من الأفكار الرائعة، والخلجات الناصعة، والمعاني العميقة، والتأملات الدقيقة، ما مكنهم من صوغ الحكمة وإبراز معالمها، فهم وإن لم يكن لهم علوم منظمة ينتفعون بها، فقد كان لهم من خبرتهم وقوة مداركهم وحدة ذكائهم وصدق حسهم ومخالطتهم أحيانا ببعض الأمم التي تتاخمهم ما جعلهم ينظمون الحكم عقودا براقة، من جمان الأفكار، وعقيان المعاني.
ثم نرى المعاني التي عرضت لها هذه الحكم صورة واضحة لخلجات العقل العربي وتأملاته وإدراكاته، فالكرم والبخل والعفة والقناعة والصبر والرضا والبلاغة والحكمة كلها معانٍ تحتل المكانة الأولى من العقلية العربية، وتتسم بها أفهامهم ومداركهم.