الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: الشعر الحماسي
1-
تحتل الحماسة مكانا بارزا في الشعر العربي عامة والشعر الجاهلي خاصة، حتى إن أبا تمام حين جمع مختاراته المشهورة وضمنها الأبواب العشرة الآتية: الحماسة، والمراثي، والأدب، والنسيب والهجاء، والأضياف والمديح، والصفات، والسير والنعاس، والملح، ومذمة النساء، أطلق عليها اسم "ديوان الحماسة" باسم أول باب فيها، وهو "الحماسة" الذي يستغرق نحوا من نصف الكتاب تقريبا، وليس ذلك محض مصادفة بل لأهمية الحماسة التي تشير إلى الفضائل التي يفخر بها العرب؛ كالشجاعة في المعركة، والصبر عند المصيبة، وصد القوي، والسعي الكادح لنيل المراد، وعدم الاستسلام أو الخضوع لما يوجب الذلة والامتهان.
وقد قال معاوية بن أبي سفيان: اجعلوا الشعر أكبر همكم وأكثر أدبكم، فلقد رأيتني ليلة الهرير بصفين، وقد أتيت بفرس أغر محجل بعيد البطن من الأرض، أريد الهرب من شدة البلوى، فما حملني على الإقامة إلا أبيات عمرو بن الإطنابة "وهو شاعر حجازي من شعراء الخزرج الجاهليين":
أبت لي همتي وأبى بلائي
…
وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإقحامي على المكروه نفسي
…
وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كما جشأت وجاشت
…
مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحات
…
وأحمي بعد عن عرض صحيح
والشعر الحماسي هو الذي يصور تلك المعاني السالفة من شجاعة، ونجدة، وبأس، وقوة، وصبر عند اللقاء، وإقدام على الموت، وحماية للجار، ومنع
للحريم، وما إلى ذلك من الصفات التي يعتزّ بها العربي، وقد ذكرنا في فصل الشعر السياسي طائفة من هذا الشعر، إلا أن مكانة الحماسة في الشعر الحجازي تجعلنا نفرد لها هذا الفصل.
وقد عرف الأدب الحجازي الجاهلي طائفة من الشعراء الأشراف، وأخرى من الشعراء الفرسان الذين جمعوا بين الشجاعة والبطولة وبين الموهبة الشعرية الفائقة، وثالثة من الصعاليك الفاتكين؛ فمن السادة: الحصين بن الحمام المري، وأبو قيس بن الأسلت الأوسي، وعمرو بن الإطنابة الخزرجي، ومن الفرسان: قيس بن الخطيم، وأبو محجن الثقفي الذي أدرك الإسلام، ومن الصعاليك: الشنفرى، وتأبط شرا.
2-
وكان للحجازيين في هذا اللون من الشعر باع طويل، حتى إنهم كانوا يرون الموت على الفراش سبة وعارا، أما في ميادين الحرب وتحت ظلال القنا والسيوف فشرف، أي شرف.
قال السموءل بن عادياء:
وإنا لقوم ما نرى القتل سبة
…
إذا ما رأته عامر وسلول
يقرب حب الموت آجالا لنا
…
وتكرهه آجالهم فتطول
وما مات منا سيد حتف أنفه
…
ولا طل منا حيث كان قتيل
تسيل على حد الظبات نفوسنا
…
وليست على غير الظبات تسيل1
وأيقن بعض الشعراء الحجازيين أن الإقدام على الردى هو الحياة، والفرار من المعركة هو الموت. قال الحصين بن الحمام المري:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد
…
لنفسي حياة مثل أن أتقدما
فلسنا على الأقدام تدمى كلومنا
…
ولكن على أقدامنا تقطر الدما2
1 الحماسة 1/ 38.
2 الحماسة 1/ 97.
وكان الحجازيون يخوضون غمار الحرب، ولا يبالون بالموت، يقول العباس بن مرداس:
أشد على الكتيبة لا أبالي
…
أحتفي كان فيها أم سواها
بل إن منهم من يطلب الموت، ولا يريد بقاء النفس، يقول قيس بن الخطيم:
وإني في الحرب الضروس موكل
…
بإقدام نفس ما أريد بقاءها
وهم يأبون الموت إلا في ساحة الوغى، فكأنهم في معركة مع الثأر لا تنتهي؛ إما أن يقتصوا لأنفسهم أو يثأر منهم. وهذه عندهم هي الشجاعة وأولئك هم الشجعان
…
والأبيات اللاحقة التي هتف بها الشاعر دريد بن الصمة تصور ذلك وتشيد بثباتهم وشجاعتهم، فهم يهجمون حين يتهيب الأبطال أن يهجموا، ويتنافسون على الإقدام في حلبة الموت الزؤام، ويفخرون بكثرة من قتلوا من الأعداء:
أبى القتل إلا آل صمة إنهم
…
أبوا غيره والقدر يجري إلى القدر
فإما ترينا لا تزال دماؤنا
…
لدى واتر يسعى بها آخر الدهر
فإنا نلحم السيف غير نكيرة
…
ونلحمه حينا وليس بذي نكر
يغار علينا واترين فيشتفى
…
بنا إن أصبنا، أو نغير على وتر
قسمنا بذاك الدهر شطرين بيننا
…
فما ينقضي إلا ونحن على شطر1
3-
وكانوا لا يتجاوزون الحق والإنصاف إذا دارت دائرة الحرب بينهم وبين أعدائهم؛ فهم يذكرون لهم صدق بلائهم وشجاعة أبطالهم، كما أنهم لا يفتئون يذكون نار الحماسة في قومهم، حتى ينالوا النصر. فكلا الفريقين قد عاد مثخنا بجراحه، مكسرة رماحه، منحنية سيوفه، كما أسفرت المعركة بينهما عن جرحى مصابين وعاجزين عن المسير.
1 الحماسة 1/ 347، قصد بقوله القدر يجري إلى القدر: أنهم مقدرون للقتل وهو مقدر لهم. النكيرة: العيب والمنكر.
ويصور كل ذلك عبد الشارق بن عبد العزى الجهني، فيقول:
ألا حييت عنا يا ردينا
…
فحييها وإن كرمت علينا1
ردينة لو رأيت غداة جئنا
…
على أضماننا وقد احتوينا2
فأرسلنا أبا عمرو ربيئا
…
فقال ألا انعموا بالقوم عينا
ودسوا فارسا منهم عشاء
…
فلم نغدر بفارسهم لدينا
فجاءوا عارضا بردا وجئنا
…
كمثل السيل نركب وازعينا
تنادوا بالبهثة إذا رأونا
…
فقلنا أحسني ضربا جهينا
سمعنا دعوة عن ظهر غيب
…
فجلنا جولة ثم ارعوينا
فلما أن توافقنا قليلا
…
أنخنا للكلاكل فارتمينا
فلما لم ندع قوسا وسهما
…
مشينا نحوهم ومشوا إلينا
تلألؤ مزنة برقت لأخرى
…
إذا حجلوا بأسياف ردينا
شددنا شدة فقتلت منهم
…
ثلاثة فتية وقتلت قينا
وشدو شدة أخرى فجروا
…
بأرجل مثلهم ورموا جوينا
وكان أخي جوين ذا حفاظ
…
وكان القتل للفتيان زينا
فآبوا بالرماح مكسرات
…
وأبنا بالسيوف قد انحنينا
وباتوا بالصعيد لهم أحاح
…
ولو خفت لنا الكلمى سرينا3
1 القصيدة في الحماسة لأبي تمام رقم 152 "راجع شرح المرزوقي 1/ 442، وعيار الشعر لابن طباطبا 62، 63".
2 الأضم: الغضب. ويروى البيت: وقد "اجتوينا" و"اختوينا" واحتوينا معناه: احتوينا الأموال والغنائم والحريم. ويرى المرزوقي أن اجتوينا "بالجيم" مع ذكر الأضم أشبه "1/ 442".
3 وفي رواية ابن طباطبا: سلينا. ردينا: أسرعنا. قين: اسم فارسهم. وقد شبه لمعان السلاح الكثيف بالمزنة البارقة في قوله: تلألؤ مزنة.
وقد عد ابن طباطبا هذه الأبيات من الأشعار المحكمة المتقنة المستوفاة المعاني، الحسنة الرصف، السلسة الألفاظ التي قد خرجت خروج النثر سهولة وانتظاما، فلا استكراه في قوافيها، ولا تكلف في معانيها1.
ومن المنصفات قول العباس بن مرداس السلمي ينصف أعداءه:
فلم أر مثل الحي حيا مصبحا
…
ولا مثلنا يوم التقينا فوارسا
إذا ما شددنا شدة نصبوا لنا
…
صدور المذاكي والرماح المداعسا
إذا الخيل جالت عن صريع نكرها
…
عليهم فما يرجعن إلا عوابسا2
4-
ومع هذه الروح الحربية، فقد كان في العرب الجاهليين دعاة للسلام، يحتملون المغارم في سبيل إيقاف نار الحرب، كما فعل الحارث بن عوف وهرم بن سنان اللذان توسطا بين عبس وذبيان واحتملا ديات قتلاهما. وقد أشاد بهما زهير بن أبي سلمى في معلقته، إذ يقول:
سعى ساعيا غيظ بن مرة بعدما
…
تبزل ما بين العشيرة بالدم
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله
…
رجال بنوه من قريش وجرهم
يمينا لنعم السيدان وجدتما
…
على كل حال من سحيل ومبرم
فأدركتما عبسا وذبيان بعدما
…
تفانوا، ودقوا بينهم عطر منشم
ثم يمضي زهير في وصف شرور الحرب التي تشتعل، فتحرق وتستشري فتفترس، ولا تنتج إلا غلمان شؤم موتورين حاقدين.
1 عيار الشعر ص48، 49 تحقيق الدكتورين طه الحاجري، ومحمد زغلول سلام. القاهرة 1956م.
2 المذاكي: الخيل التامة السن، والكاملة القوة. المداعس: الطعانة، والدعس: الطعن. ومعنى البيت الثالث: أن تلك الخيول التي يكرون بها على الأعداء ترجع عابسة الوجوه؛ لما تلاقي من شدة الخصوم.
وما الحرب إلا ما علمتم ودقتم
…
وما هو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة
…
وتضر إذا ضريتموها فتضرم
فتعرككم عرك الرحى بثفالها
…
وتلقح كشافا ثم تنتج فتتئم
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم
…
كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
فتغلل لكم ما لا تغل لأهلها
…
قرى بالعراق من قفيز ودرهم
وللشاعر الحجازي حلحلة بن قيس الكناني قصيدة رائعة يصور فيها شرور الحرب وآثارها المدمرة حتى على المنتصرين أنفسهم، وقد نهى فيها أبا عمرو عن الحرب ودعاه إلى السلم، ولما لم ينته وأمعن في شره اضطر إلى أن يقابل الشر بالشر والرمي بالرمي، حتى نكبوا جميعا وأصبح الفريقان يندبون قتلاهم في المعركة التي أوقد لظاها ذلك السفيه الجهول:
نهيت أبا عمرو عن الحرب لو يرى
…
برأي رشيد أو يئول إلى عزم
وقلت له: دع عنك بكرا وحربها
…
ولا تركبن منها على مركب وخم
ومهلا عن الحرب التي لا أديمها
…
صحيح ولا تنفك تأتي على سقم
فإن يظفر الحزب الذي أنت فيهم
…
وآبوا يدهم من سباء ومن غنم
فلا بد من قتلى، وعلك فيهم
…
وإلا فجرح ليس يكفي عن العظم
دعاني يشب الحرب بيني وبينه
…
فقلت له: لا، بل هلم إلى السلم
فلما أبى أرسلت فضلة ثوبه
…
إليه فلم يرجع بعزم ولا حزم
وأمهلته حتى رماني بحرهما
…
تغلغل من غي غوي ومن إثم
فلما رمانيها رميت سواده
…
ولا بد أن ترمي سواد الذي يرمي
فبتنا على لحم من القوم غُودرت
…
أسنتنا فيه، وباتوا على لحم
وأصبح يبكي من بنين وإخوة
…
حسان الوجوه طيبي الجسم والنسم
ونحن نبكي إخوة وبنيهم
…
وليس سواء قتل حق على ظلم1
وفي هذا المعنى، يقول معن بن أوس:
دعاني أشب الحرب بيني وبينه
…
فقلت له لا بل هلم إلى السلم
وإياك والحرب التي لا أديمها
…
صحيح ولا تنفك تأتي على رغم
1 حماسة البحتري 73، 74.
فلما أبى خليت فضل عنانه
…
إليه فلم يرجع بحزم ولا عزم
فكان صريع الخيل أول وهلة
…
فبعدا له مختار جهل على علم1
وكان من عادة بعضهم بذل الود واللجوء إلى السلم ورعاية صداقات الرجال، حتى إذا لم يجدوا ذلك عمدوا إلى الحزم والعزم، ففلقوا هامات الأعداء وقطعوا منهم الأكف والمعاصم؛ لأنهم لا يبتاعون الحياة بالذلة ولا يفرقون من الموت فيرتقوا سلم النجاة خشية منه، وفي هذا يقول حصين بن الحمام المري من قصيدة:
ولما رأينا الصبر قد حيل دونه
…
وإن كان يوما ذا كواكب مظلما
صبرنا وكان الصبر منا سجية
…
بأسيافنا يقطعن كفا ومعصما
تفلق هاما من رجال أعزة
…
علينا وهم كانوا أعق وأظلما
ولما رأيت الود ليس بنافعي
…
عمدت إلى الأمر الذي كان أحزما
فلست بمبتاع الحياة بذلة
…
ولا مرتق من خشية الموت سلما
5-
وكانت المرأة الحجازية تشارك مشاركة فعلية في الحرب، وإلى ذلك أشار قيس بن الخطيم بقوله:
أطاعت بنو عوف أميرا نهاهم
…
عن السلم حتى كان أول راجب
رأيت لعوف أن تقول نساؤهم
…
ويرمين دفعا: ليتنا لم نحارب2
وإذًا، فقد كان النساء الخزرجيات يقذفن الحجارة على رءوس الأوس من الحصون والآطام، وكان ذلك في حرب حاطب.
بل لقد كانت المرأة الحجازية تقدم حيث يحجم الرجل، وتشجع حين يجبن، ففي يوم أحد سقط لواء قريش فلم يتقدم لرفعه أحد، وشمرت هند بنت عتبة وصواحبها ليهربن، فتقدمت عمرة بنت علقمة الحارثية ورفعته، فتراجع
1 جمهرة الأمثال لأبي هلال 93.
2 ديوان قيس بن الخطيم. راجب: ميت. يرمين دفعا: يرميننا من فوق الآطام؛ دفاعا عن أنفسهن.
المشركون واجتمعوا حولها، وأتنفوا القتال1، وفيها يقول حسان بن ثابت:
إذا عضل سيقت إلينا كأنهم
…
جداية شرك معلمات الحواجب
أقمنا لكم طعنا مبيرا منكلا
…
وحزناكم بالضرب من كل جانب
ولولا لواء الحارثية أصبحوا
…
يباعون في الأسواق بيع الجلائب2
وقد شهدت هذه الموقعة نسيبة بنت كعب المازنية أم عمارة هي وزوجها وابناها، فقاتلت يومئذ قتالا شديدا وأبلت بلاء حسنا، حتى قيل: إنها جرحت اثني عشر جرحا بين طعنة رمح وضربة سيف، ولما انهزم المسلمون انحازت إلى رسول الله وجعلت تقاتل عنه وتذب بسيفها، وترمي دونه بقوسها حتى كثرت جراحها، وأصابها عمرو بن قميئة بجرح غائر في عاتقها، وأصابته هي إصابات، ولم يقه منها إلا درعان كانتا عليه. ورأى النبي بلاءها، فأعجب بها، وقال:"من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟ ".
وفي حديثها عن هذا اليوم: وأقبل الرجل الذي ضرب ابني، فقال رسول الله:"هذا ضارب ابنك" فاعترضت له فضربت ساقه فبرك، فرأيت الرسول تبسم حتى بدت نواجذه، ثم قال:"استقدت يا أم عمارة". ثم أقبلنا على الرجل نعلوه بالسلاح حتى أتينا عليه، فقال النبي:"الحمد لله الذي أظفرك وأقر عينك من عدوك، وأراك ثأرك بعينك"3.
ولما انهزم المسلمون في يوم أحد وولى بعضهم ولقيتهم أم أيمن ناكصين حثت في وجوههم التراب، وقالت لبعضهم: هاك المغزل اغزل به، وهات سيفك، وقصدت إلى أحد مع بعض النساء4.
وقد حاربت نسوة كثيرات بالسيوف والرماح، منهن: الربيع بنت معوذ بن عقبة الأنصارية، وصفية بنت عبد المطلب، وخولة بنت الأزور، وهؤلاء اللائي حاربن
1 سيرة ابن هشام، المرأة في الشعر الجاهلي 347، 348.
2 ديوان حسان 25، 26. الجلائب: العبيد.
3 المرأة في الشعر الجاهلي ص348.
4 المغازي ص273.
في مشرق الإسلام كأخواتهن اللائي حاربن في الجاهلية، دليل على بطولة المرأة العربية وقدرتها على أن تصطلي نار الحرب، وتمارس أحيانا ما يمارس الرجال1.
وكانت المرأة الحجازية ما تفتأ تحرّض قومها على القتال، وتبث فيهم روح الشجاعة والإقدام، وتثير حفيظتهم للثأر والانتقام، وكان لسانها ينطلق بذلك شعرا كما تنطلق ألسنة الرجال الشعراء. وهذه الخنساء، ما أكثر ما حرضت على الثأر انتقاما لأخيها صخر. فلنستمع إليها وهي تقول:
ولن أسالم قوما كنت حربهم
…
حتى تعود بياضا جؤنة القار
لا نوم حتى تعود الخيل عابسة
…
ينبذن طرحا بمهرات وأمهار
أو تحفزوا حفزة والموت مكتنع
…
عند البيوت حصينا وابن سيار
فتغسلوا عنكم عارا يجللكم
…
غسل العوارك حيضا بعد أطهار2
وكان دعاء المرأة للحرب يصادف هوى من نفوس المكافحين الثائرين، فيستجيبون لندائها؛ لأنهم يأملون أن يحققوا أملها في شجاعتهم ونجدتهم، وإذا ما هزم قومها وولوا الأدبار صبت عليهم جام غضبها وقرعتهم أعنف تقريع كما فعلت، إذ تقول:
ألا هل أتاها على نأيها
…
بما فضحت قومها غامد
تمنيتم مائتي فارس
…
فردكم فارس واحد
فليت لنا بارتباط
…
الخيول ضأنا لها حالب قاعد3
وربما شادت بمن يثأر لها، فيشفي نفسها ويثلج صدرها حين انتقم لها قيس بن عامر الجشمي فقتل هاشم بن حرملة الذي قتل أخاها معاوية، إذ مدحته وفدته بنفسها وقومها، ظاعنهم ومقيمهم، وبكل حميم لديها؛ لأنه أثلج صدرها وأقر عينها، وكانت قبل ذلك لا تنام ولا تنيم:
1 المرأة في الشعر الجاهلي.
2 ديوان الخنساء 112. جؤنة: سواد. تحفزوا: تطعنوا. مكتنع: دان، تريد حصين بن ضمضم ومنصور بن سيار المريين. العوارك: الحوائض.
3 البيان والتبيين 1/ 208.
فدى للفارس الجشمي نفسي
…
أفديه بمن لي من حميم
أفديه بكل بني سليم
…
بظاعنهم وبالإنس المقيم
كما من هاشم أقررت عيني
…
وكانت لا تنام ولا تنيم
خصصت بها أخا الأمراء قيسا
…
فتى في بيت مكرمة كريم1
6-
ولقد تحدث "نيكلسون" عن الشنفرى وتأبط شرا بوصفهما طرازين يصوران المثل الأعلى للبطل العربي، فقال ما فحواه:"نستطيع أن نتخذ الشنفرى الأزدي وزميله تأبط شرا نموذجا للبطل العربي المثالي، فكلاهما خليع خارج عن النظام، سريع العدو، وشاعر ممتاز، ولا سيما الأول منهما"2.
حقا، إنه يتجلى في هذين البطلين كثير من السمات العربية الأصيلة؛ كالشجاعة والكرم، والشاعرية الجيدة، والاشتراكية، إلا أنهما يعتبران من صعاليك العرب الخارجين على القانون والنظام العام المتعارف عليه لدى القبائل، ومن اللصوص المغيرين -وإن كانا في الواقع أشرف ألف مرة من المستعمرين الغربيين في القرن العشرين- ونحن لا نعترض على "نيكلسون" في اعتبارهما بطلين، وإنما اعتراضنا على ضربهما مثلا أعلى للبطولة العربية؛ لأن في هذا جرحا لهذه البطولة، ومن ذا الذي يقدر هذا المثل، إذا عددنا من مميزاته الأصلية، اللصوصية والنهب والسلب والتشرد في متاهات الصحراء وأقنان الجبال مع الذئاب والنمور والضباع؟!
لقد كانت قريش تعف عن السلب والنهب؛ ولهذا اتخذت لها من التجارة رحلة في الشتاء والصيف كوسيلة شريفة للكسب الحلال.
فإذا أردنا أن نلتمس المثل الأعلى للبطولة العربية، فإنه يجدر بنا أن نبحث عن شخصية أكثر تكاملا، شخصية تدنو من معنى "الفتوة" عند العرب.
1 ديوان الخنساء 231، وبلاغات النساء 167، والأغاني 13/ 140، ولسان العرب 16/ 78.
2 Aliterary History of the Arabs p. 79.
والبطل العربي المثالي في رأينا هو الذي جمع من الفضائل ما يجعله مرموق المنزلة في قومه ومجتمعه العربي، فهو لين الجانب لقومه، يستشير كبارهم، ويكرم صغارهم، ويسمح بماله، ويحمي حريمه، ويعز جاره، ويعين من استعان به، ويسرع إذا ناداه الصريخ، ويبسط حمايته على الضعيف، ويقف في وجه القوي.
وقد جمع شيئا من هذه الخصال ذو الإصبع العدواني في وصيته إلى ابنه "أسيد"، إذ يقول:
"ألن جانبك لقومك يحبوك، وتواضع لهم يرفعوك، وابسط لهم وجهك يطيعوك ولا تستأثر عليهم بشيء يسودوك، وأكرم صغارهم كما تكرم كبارهم يكرمك كبارهم، وينشأ على مودتك صغارهم، واسمح بمالك واحم حريمك، وأعزز جارك وأعن من استعان بك وأكرم ضيفك، وأسرع النهضة في الصريخ؛ فإن لك أجلا لا يعدوك، وصن وجهك عن مسألة أحد شيئا؛ فبذلك يتم سؤددك".
وفي كتب الأدب العربي شخصية رائعة، وهي خليقة بأن تضرب مثلا للفروسية العربية في أروع مظاهرها. وتلك هي شخصية "ربيعة بن مكدم الكناني" أحاط بها شيء يشبه الأساطير؛ فقد ذكروا عنه أنه حمى الظعينة وهو ميت، وضرب به المثل فقيل:"أحمى من مجير الظعن" حتى قال أبو عمرو بن العلاء: ما نعلم قتيلا حمى ظعائن غير ربيعة بن مكدم، وهو من بني فراس بن غنم بن مالك بن كنانة، وهم أنجد العرب، وكان الرجل منهم يعدل عشرة من غيرهم1.
وربيعة هو الذي كاد يقتل الفارس الشهير عمرو بن معديكرب، وقد أكبر عمرو شجاعته وأشاد بها. وهو كذلك الذي صرع ثلاثة من خيرة الفرسان واحدا بعد الآخر. وذلك أن دريد بن الصمة الفارس المشهور خرج ذات يوم في فوارس من بني جشم، حتى إذا كان بوادٍ لبني كنانة وقع له رجل من ناحية الوادي معه ظعينة، فقال لأحد فرسانه: صح به: أن خل الظعينة وانج بنفسك، وهو لا يعرفه، ولما صاح به
1 نهاية الأرب 15/ 372.
الفارس لم يكترث به ربيعة، بل ألقى زمام الراحلة للظعينة وقال:
سيري على رسلك سير الآمن
…
سير رداح ذات جأش ساكن
إن انثنائي دون قرني شائني
…
أبلى بلائي وأخبرني وعابني
ثم حمل على الفارس فصرعه. فبعث إليه دريد فارسا ثانيا وثالثا، وكان مصيرهما مصير أولهم، وفي كل مرة يتمثل بأبيات من الشعر. إلا أن رمحه انكسر حينما طعن الفارس الثالث فصرعه، وارتاب دريد ولحق بهم فوجد ربيعة لا رمح له، ووجد القوم قد صرعوا، فقدر دريد شجاعته وقال: إن مثلك لا يقتل وإن الخيل ثائرة بأصحابها، ولا أرى معك رمحا وأراك حديث السن، فدونك هذا الرمح، فإني راجع إلى أصحابي فمشط عنك، فأتى دريد أصحابه فقال:"إن فارس الظعينة قد حماها وقتل فوارسكم، وانتزع رمحي ولا طمع لكم فيه"، فانصرف القوم. وفي تصوير قتله أولئك الفرسان، ينسب الرواة إليه أنه قال:
إن كان ينفعك اليقين فسائلي
…
على الظعينة يوم وادي الأخرم
إذ هي لأول من أتاها نهبة
…
لولا طعان ربيعة بن مكدم
إذ قال من أدنى الفوارس ميتة:
…
خل الظعينة طائعا لا تندم
فصرفت راحلة الظعينة نحوه
…
عمدا ليعلم بعض ما لم يعلم
وهتكت بالرمح الطويل إهابه
…
فهوى صريعا لليدين وللفم
ومنحت آخر بعده جياشة
…
نجلاء فاغرة كشدق الأضجم1
ولقد شفعتهما بآخر ثالث
…
وأبى الفرار الغداة تكرمي
1 نهاية الأرب 15/ 370-372.