الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث: فنون الشعر الحجازي في العصر الجاهلي
الفصل الأول: الشعر السياسي
"
أولا" أيام الحجازيين في الجاهلية:
1-
كان كثير من الحجازيين والعرب عامة في جاهليتهم بدوا؛ لا يخضعون لنظام، ولا يدينون لحكومة، ولا يربطهم إلا قانون القبيلة.
وقد فرضت عليهم طبيعة أرضهم القاحلة أن يعيشوا على رعي الإبل والأغنام، يتتبعون بها مواقع الغيث ومواطن الكلأ، ينتقلون بينها، ويسيمون ماشيتهم فيها. فإذا أخلفت السماء وأمحلت الأرض، لجئوا إلى الإغارة والغزو، ودفعهم الجدب إلى الحرب.
كذلك كان دأبهم النفرة من العار، والنهوض لحماية الجار، والحرص على الأخذ بالثأر والاغترار بالعصبية، والاعتزاز بالقرابة الواشجة، والمفاخرة والمنافرة، والإباء والشمم.
كل ذلك كان يدفع العربي إلى الحرب، ويجعلها أثيرة عنده، يثيرها لأوهى سبب، ويشنها لأدنى حدث، صارت عادة مألوفة، وسنة معروفة، وحتى أنفوا أن يرتزقوا من عمل غير السيف، أو يكسبوا إلا من أسنة الرماح، فإذا لم يجدوا عدوا أغاروا على الأقرباء، كما يقول القطامي:
ومن تكن الحضارة أعجبته
…
فأي رجال بادية ترانا
ومن ربط الجحاش فإن فينا
…
قنا سلبا وأفراسا حسانا1
وكن إذا أغرن على جناب
…
وأعوزهن نهب حيث كانا2
أغرن من الضباب على حلول
…
وضبة إنه من حان حانا3
وأحيانا على بكر أخينا
…
إذا ما لم نجد إلا أخانا
هذا قليل من كثير مما أثر عن العرب في حب الحرب، وخوض المعارك، ولهم أيام مشهورة4.
فالعرب بطبيعتهم أمة مغالبة مجالدة، مساورة معاندة، لا ترضى بالضيم، ولا تقيم على الذل، ولا تغضي على الهوان، ولقد مردوا على المخاطرة، واعتادوا القتل والقتال، وألفوا الصولة والصيال، فانتزعت من نفوسهم غريزة الخوف، وغلبت عليهم الحرية الشخصية، وصارت الحرب عندهم تهيج لأوهى سبب، وتشعل لأقل حادث، وما تخبو إلا لتستعر. وقد تظل ملتهبة بين القبائل أعواما طوالا، لا تهدأ نارها، ولا يخبو أوارها.
وللعرب كثير من الوقائع العظيمة التي هاجت قبائلهم، وأثارت عصبياتهم، والتي تحدث عنها الشعراء في أشعارهم، وكانت مادة رائعة للسمار والمحدثين في حقب طويلة، وأعصار بعيدة. قال ابن عبد ربه: "إنها -أيام العرب-
1 القنا: الرماح، سلبا: تسلب النفوس، جمع سلوب.
2 الجناب: الناحية.
3 الضباب: عدة قبائل منها: ضبة وحسل. الحلول: الذين يكونون في مكان واحد. حان حانا أي: من هلك بغزونا فقد هلك حقا، أو من حان أجله هلك.
4 الأيام أي: الوقائع التي حدثت في الأيام، وفي القرآن الكريم:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} ، قال الزمخشري: أي: أنذرهم بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم؛ كقوم نوح، وعاد، وثمود، ومنه أيام العرب لحروبها وملاحمها. قال عمرو بن كلثوم:
وأيام لنا غر طوال
…
عصينا الملك فيها أن ندينا
ومنا هنا كانوا يقولون: يوم لك ويوم عليك.
مآثر الجاهلية، ومكارم الأخلاق السنية، قيل لبعض أصحاب رسول الله: ما كنتم تتحدثون به إذا خلوتم في مجالسكم؟ قال: كنا نتناشد الشعر، ونتحدث بأخبار جاهليتنا".
وقد سميت هذه الوقائع بأيام العرب، وهي ينبوع ثجاج من ينابيع الأدب، وميدان فسيح من ميادين البيان، بما اشتملت عليه من روائع القصص، وبدائع القول، ومأثور الحكم، وبليغ الخطب والشعر، كما أنها صورة صحيحة للعرب وعاداتهم وتقاليدهم، وتصوير صادق لأسلوب حياتهم وشأنهم في الحرب والسلم والنجعة والاستقرار.
2-
ولهذه الأيام أثر واضح في الأدب، بما تهيج من عاطفة، وتبعث من شعور، وتثير من شاعرية
…
كان الشعراء والخطباء من وراء الفوارس يذكون حميتهم، ويلهبون شجاعتهم، ويصفون خيلهم وسلاحهم، ويشيدون ببطولتهم ومواقفهم، ويندبون بقوافيهم الباكية صرعى الأيام، ويحرضون على الثأر والانتقام، وقد ينفرون من الحرب وويلاتها، ويحملون لقبائلهم غصن الزيتون!!
ومن أجل آثار هذه الأيام ما يلي:
1-
أن الشعر الجاهلي عامة، والفخر والحماسة والرثاء والهجاء منه خاصة، ترتبط بهذه الأيام ارتباطا وثيقا، فأكثر القصائد وهذه الفنون الأدبية في الشعر الجاهلي قيلت في هذه الأيام وكانت صدى لها، ونظمها أصحابها فخرا بمآثر القبيلة، ودفاعا عن أحسابها، أو هجاء لخصومها وثلبا لأعدائها، أو تحميسا لأبناء القبيلة ليهبوا للدفاع عن كيانها وحفظ شرفها، أو رثاء للقتلى من أبنائها في حومة القتال وميادين النضال.
2-
وفي الشعر الجاهلي قصائد كثيرة قيلت في وصف المعارك، وفي الدعوة إلى السلام وتصوير فظائع الحرب، أو الدعوة إلى الانتقام وطلب الأخذ بالثأر.
3-
وأوصافهم في شعرهم للخيول والرماح والسيوف والدروع وغيرها من أدوات القتال، أثر من آثار هذه الأيام في الشعر الجاهلي.
4-
ولا يقتصر أثر هذه الأيام على الشعر، بل إنها تشغل جزءا كبيرا من النثر الجاهلي أيضا، كما تجد في خطبة هانئ بن قبيصة في قومه يحرضهم على الحرب يوم ذي قار1، وفي سواها من الخطب، وفي الكثير من المفاخرات والمنافرات والمحاورات، التي تتصل بأيام العرب في جاهليتهم في قريب.
5-
وفوق ذلك، فإن أثر هذه الأيام في تاريخنا الأدبي أثر جليل، فالأدب الذي خلفه لنا الشعراء والأدباء صورة مفصلة لحياة العرب الاجتماعية والسياسية ولصلاتهم بالأمم المجاورة لهم، وهو مرآة ناطقة بأخلاقهم وفضائلهم وعاداتهم وشمائلهم، وما تحدثت به الرواة عن هذه الأيام يشغل جانبا كبيرا في كتب الأدب العربي ومصادره، وهو يمثل ألوانا طريفة من فنون الأدب المتصلة بفن القصص والأساطير.
6-
وقد ألفت في أيام العرب كتب أدبية كثيرة، ضاعت على مر الأجيال:
أ- فلأبي عبيدة، الأديب الراوية، المتوفى عام 209هـ، كتاب صغير فيه حوى خمسة وسبعين يوما، وكتاب آخر كبير جمع فيه ألفا ومائتي يوم.
ب- ولأبي الفرج الأصبهاني، المتوفى سنة 356هـ، كتاب في أيام العرب، جمع فيه ألفا وسبعمائة يوم.
جـ- وقد ألف لفيف من الأساتذة المعاصرين كتابا في "أيام العرب في الجاهلية" وطبع بمطبعة عيسى البابي الحلبي عام 1942م.
1 راجعها في الأمالي 169 جـ1، وفي سواه من كتب الأدب.
3-
أيام الأوس والخزرج 1:
نشبت في الجاهلية، بين الأوس والخزرج، حروب كثيرة، من أشهرها:
حرب سمير: للأوس على الخزرج.
حرب حاطب: للخزرج على الأوس.
حرب كعب: للخزرج على الأوس.
يوم بعاث: للأوس على الخزرج.
1-
يوم بعاث 2 بين الأوس والخزرج:
وسببه: أن الأوس طلبت إلى قريظة والنضير أن يحالفوهم على الخزرج، فبعث الخزرج إلى اليهود يهددونهم إن حالفوهم، فلم يسع اليهود إلا أن ينزلوا على رغبة الخزرج، وأكدوا ذلك بتسليمهم أربعين غلاما، رهائن لديهم، وافتخر بذلك أحد شعراء الخزرج، قائلا:
فذلوا لرهن عندنا في حبالنا
…
مصانعة يخشون منا القوارعا
وذاك بأنا -حين نلقى عدونا-
…
نصول بضرب يترك العز خاشعا
1 راجع: 402/ 1 ابن الأثير، الأغاني 18/ 3 طبعة دار الكتب المصرية، 247 و258 جمهرة أشعار العرب، المفضليات 135، رغبة الآمل من كتاب الكامل 212/ 2، مهذب الأغاني 122/ 1، الأغاني الجزء الثالث عشر ص118 طبعة الساسي، العرب قبل الإسلام ص250، تاريخ العرب القدامى ص250، ص63/ 1 أيام العرب في الجاهلية، طبعة عيسى البابي الحلبي، سنة 1953.
2 بعاث بالعين والغين، كغراب ويثلث. وقيل: هو بضم الباء مع العين المهملة: موضع بالمدينة أو بالقرب منها، وقعت به آخر حرب بين الأوس والخزرج قبل الهجرة بنحو خمس سنين.
فأغضب ذلك الشعر قريظة والنضير، ونقضوا عهدهم، وحالفوا الأوس على الخزرج، فقتل بعض الخزرجيين رهائنه.
فاجتمعت الأوس وقريظة والنضير وقبائل أخرى يهودية على حرب الخزرج، والتقوا ببعاث، وعلى الأوس حضير الكتائب، وعلى الخزرج عمرو بن النعمان البياضي "نسبة إلى بياضة كسحابة: قبيلة"، ودارت رحى الحرب بشدة، فانهزم الأوس، فبرك حضير، وطعن قدمه بسنان رمحه، وصاح: وا عقراه!! والله لا أعود حتى أقتل، فإن شئتم أن تسلموني فافعلوا، فعطفوا عليه، وأصاب سهم عمرو بن النعمان البياضي فقتله، فانهزم الخزرج، وصاح صائح: يا معشر الأوس، أحسنوا ولا تهلكوا إخوانكم، فانتهوا عنهم ولم يسلبوهم، وإنما سلبهم اليهود، وحملت الأوس حضيرا مجروحا، فمات، ورثاه خفاف بن ندية بقوله:
أتاني حديث فكذبته
…
وقيل خليلك في المرمس1
فيا عين أبكي حضير الندى
…
حضير الكتائب والمجلس
وسمى ابن الأثير هذا اليوم: يوم الفجار الثاني؛ لقتل الغلمان فيه. وقيل: إن قتل الغلمان كان بسبب امتناع اليهود عن إخلاء دورهم الجيدة الهواء للخزرج، الذين كانوا يراودونهم على ذلك.
وقد ألف الله بين قلوب الأوس والخزرج بعد ذلك بالإسلام، وأصبحوا لرسوله أنصارا2.
2-
يوم سمير:
سببه: أن رجلا يقال له كعب بن العجلان من بني ذبيان، نزل على مالك بن العجلان زعيم الخزرج محالفة، وأقام معه، فخرج كعب يوما إلى السوق، فرأى رجلا من غطفان ومعه فرس وهو يقول:"ليأخذ هذا الفرس أعز أهل يثرب"، فقال رجل: فلان الأوسي، وقال غيره: فلان الخزرجي.
1 المرمس كملعب: القبر.
2 تاريخ ابن الأثير.
وقال ثالث: فلان اليهودي أفضل أهلها، وقال رابع: مالك بن العجلان. فدفع الغطفاني الفرس إليه، فقال كعب: ألم أقل لكم: إن حليفي مالكا أفضلكم؟ فغضب لذلك رجل من الأوس، فقام له سمير وشتمه وافترقا. ثم حدث بعد ذلك أن كعبا قصد سوقا لهم بقباء، فقصده سمير وانتظر حتى خلت السوق فقتل كعبا وأخبر مالك بن العجلان بقتله، فأرسل إلى آل سمير يطلب قاتله، فقالوا: لا ندري من قتله
…
وترددت الرسل بينهم، وهو يطلب سميرا وهم ينكرون قتله، ثم عرضوا عليه الدية فقبلها، وكانت دية الحليف فيهم نصف دية النسيب. فأبى مالك إلا أخذ دية كاملة، ولج الأمر بينهم حتى إلى المحاربة، فاجتمعوا، والتقوا، واقتتلوا قتالا شديدا، وافترقوا، ثم التقوا مرة أخرى واقتتلوا، حتى حجز الليل بينهم، وكان الظفر يومئذ للأوس، ثم أرسلت الأوس تطلب أن يحكم بينهم المنذر بن حرام الخزرجي جد حسان بن ثابت الشاعر، وأجابهم إلى ذاك، وحكم المنذر بأن يعطوا كعبا حليف مالك دية الصريح، ثم يعودوا إلى سنتهم القديمة، وفرحوا بذلك وحملوا الدية، وافترقوا وقد تمكنت البغضاء والعداوة في نفوسهم.
3-
يوم السرارة:
وسببه: أن رجلا من بني عمرو من الأوس، قتله رجل من بني الحارث من الخزرج، فعدا أهل القتيل على القاتل وقتلوه غيلة، وعرف ذلك أهله، فكانت حرب بين الفريقين شديدة، حمل راية الخزرج فيها عبد الله بن سلول، وراية الأوس حضير بن سماك، وصبر القوم بعضهم لبعض أربعة أيام ثم انصرفت الأوس إلى دورها، ففخرت الخزرج بذلك.
4-
يوم حاطب:
توالت الحروب بعد يوم السرارة، حتى إذا مرت مائة سنة من يوم سمير، إذ بحرب تعرف بيوم حاطب وقعت بين الفريقين.
وسببها: أن حاطبا الأوسي -وكان شريفا سيدا في قومه- أتاه ضيف من بني ثعلبة، ثم غدا يوما إلى سوق بني قينقاع، فرآه يزيد الخزرجي، فقال
لرجل من اليهود: لك ردائي إن كسعت هذا الثعلبي؛ فأخذ الرداء وكسعه، فنادى الثعلبي: يا لحاطب، كسع ضيفك وفضح، وعرف حاطب الأمر، فجاء وضرب اليهودي بالسيف فقتله، وعلم يزيد الخزرجي فأسرع خلف حاطب فلم يدركه، فقتل رجلا من أهله، فقامت الحرب بين الأوس والخزرج، وسعى بينهما جماعة من فزارة بالصلح، فلم تفلح مساعيها، واستمرت الحرب بينهما سجالا: يوما للأوس، ويوما للخزرج، حتى انتهت بظفر الخزرج.
وتجددت الحرب بعد ذلك، وكان الفريقان يتصالحان على الديات، وطال أمر الحرب حتى سئمت الأوس، فصارت إلى قريش بمكة تطلب محالفتها، فأجابت قريش طلب الحلف، ثم تحللت منه، فطلبت الأوس إلى بني قريظة وبني النضير الحلف على الخزرج، فأجابوهم إلى ذلك، ثم عادوا فنقضوا.
4-
أيام قريش:
ولقريش أيام، من أهمها حروب "الفجار"، ولا سيما الفجار الرابع. وهذه هي:
الفجار الأول: جلس بدر بن معشر الغفاري في مجلس له بعكاظ -وكان بدر رجلا حدثا منيعا مستطيلا بمنعته على من ورد عكاظ- فجعل يقول، ورجل على رأسه قائم:
نحن بنو مدركة بن خندف
…
من يطعنوا في عينه لا يطرف
ومن يكونوا قومه يغطرف
…
كأنهم لجة بحر مسدف
وهو باسط رجله، يقول:"أنا أعز العرب، فمن زعم أنه أعز مني، فليضرب هذه بالسيف فهو أعز مني". فوثب رجل من بني نصر بن معاوية، فضربه على ركبته فأندرها، ثم قال له:"خذها إليك أيها المخندف"، وأنشد وهو ماسك سيفه:
نحن بنو دهمان ذي التغطرف
…
بحر لبحر زاخر لم ينزف
نبني على الأحياء بالمعروف
فتحير الحيان عند ذلك، وثارا حتى كادت تكون فتنة ودماء، ثم تراجعوا ورأوا أن الخطب يسير. وذكروا رواية أخرى في الفجار الأول، وهي ما سنذكره في الفجار الثالث، وهذا الذي هاج أول أيام الفجار بين كنانة وهوازن.
الفجار الثاني: أما الفجار الثاني، فقد كان بين قريش وهوازن. وكان الذي هاجه، أن فتية من قريش جلسوا في سوق عكاظ إلى امرأة وضيئة من بني عامر بن صعصعة -وقيل: بل أطاف بها شباب من بني كنانة لا من قريش- وعليها برقع وهي في درع فضل، فأعجبهم ما رأوا من هيئتها، فسألوها أن تسفر عن وجهها، فأبت عليهم، فأتى أحدهم من خلفها فشد ذيلها بشوكة إلى ظهرها وهي لا تدري. فلما قامت تقلص الدرع من خلفها فضحكوا، وقالوا: منعتنا النظر إلى وجهها فقد رأينا خلفها. فنادت المرأة: "يا آل عامر! " فتحاور الناس، وكان بينهم قتال ودماء يسيرة، فحملها حرب بن أمية وأصلح بينهم.
الفجار الثالث: وهو بين كنانة وهوازن -وكنانة هم حلفاء قريش- وكان الذي هاجه أن رجلا من بني كنانة عليه دين لرجل من بني نصر بن معاوية، وكان الكناني فقيرا، فرآه دائنه النصري بسوق عكاظ، ومع النصري قرد وأنحى به السوق. فوقف في السوق ونادى:"من يبيعني مثل هذا القرد بما لي على فلان الكناني؟ " وجعل يعيد النداء حتى أكثر؛ تعييرا للكناني ولقومه. فمر به رجل من بني كنانة فسمعه وضرب القرد بسيفه فقتله. فهتف النصري: يا آل هوازن؟ وهتف الكناني: يا آل كنانة! فتهايج الناس حتى كاد يكون بينهم قتال. ثم رأوا أن الخطب أيسر مما تكلفوا له فتراجعوا، ولم يتفاقم الشر بينهم.
الفجار الرابع: وقعت هذه الحرب وكان بود قريش ألا تقع؛ لميلها إلى السلم الضروري لتجارتها، وكانت تجنح إلى السلم في كثير من أمورها وخاصة مع قبيلة هوازن، التي لها القوة والمنعة حول عكاظ، فإن قريشا ترهب جانبها وتجتنب ما يعكر الصفو بينها وبين هوازن؛ حرصا على سلامة الموسم وعلى تجارتها فيه.
وقد سميت بالفجار؛ لأنها وقعت في الأشهر الحرم وهي الشهور التي تعظمها العرب، وتحرم فيها القتل والقتال فيما بينها. فلما خرج المتحاربون فيها على شريعة العرب، كانوا فاجرين بذلك. وأيامها خمسة تفرقت على أربع سنين.
سنتها: من الصعب تعيين سنة هذه الحروب؛ لما ورد فيها من تضارب الروايات، فقد أجمعت المصادر على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضرها بنفسه، ثم افترقت فرقتين:
فابن هشام ومن تابعه يجعلون سن الرسول لما حضرها أربع عشرة سنة، ومنهم صاحب العقد الفريد الذي يروي في ذلك حديثا، هذا نصه:"كنت أنبل على أعمامي يوم الفجار، وأنا ابن أربع عشرة سنة".
وابن إسحاق ومن تابعه -ومنهم صاحب القاموس والأصفهاني وابن سعد- جعل سنه حينئذ عشرين سنة.
وهناك غموض آخر اشترك فيه الفريقان معا، وهو أن أيام الفجار الآخر تفرقت على أربع سنين، ففي أيتهن كان عمره أربع عشرة؟ ونبله صلى الله عليه وسلم على أعمامه فسر بوجهين: أما صاحب العقد الفريد فقال: أنبل بمعنى: أناولهم النبل، وهو خلاف ما ذهب إليه ابن هشام في سيرته من أن معناه: أنه كان يرد عنهم نبل عدوهم.
إلا أن تعدي الفعل بـ "على" يرجح التفسير الأول؛ فقد جاء في القاموس: نبل عليه: لقط له النبل. وروى الحديث "في مادة فجر"، وكذلك رواه ابن سعد على هذه الصيغة:"كنت أنبل على عمومتي يوم الفجار، ورميت فيه بأسهم، وما أحب أني لم أكن فعلت".
فإن يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر الأيام جميعها، وكانت سنه أول ما هاجت خمس عشرة سنة -على إحدى روايتي ابن هشام- أمكن التوفيق بين الروايات على وجه التقريب، فتكون الحرب قد وضعت أوزارها وقد أشرفت سنه على العشرين. فكان يلتقط السهام في أولها ويرمي بنفسه في آخرها، فعلى الرواية الأولى تكون الحرب قد وقعت قبل البعثة بخمسة وعشرين عاما، وتوافق سنة "585" للميلاد المسيحي.
سبب الحرب:
من عادة النعمان بن المنذر -ملك الحيرة- أنه يرسل كل عام إلى سوق عكاظ لطيمة "وهي الجمال تحمل المسك والطيب"، بحماية رجل شريف من أشراف العرب، يحميها له حتى تصل إلى السوق فتباع فيها، ويشترى له بثمنها أدم من أدم الطائف.
ولا يقوم عادة بعبء حمايتها إلا رجل منيع، لقومه عدد وعزة، وكان الذي يجيرها في الغالب سيد مضر1.
فلما جهز النعمان اللطيمة لهذا العام "585م"، قال:"من يجيرها؟ " وكان بحضرته أناس من أشراف القبائل، فانبرى له البراض بن قيس الضمري، وكان فتاكا يضرب بفتكه المثل، فقال، "أنا أجيرها على بني كنانة"، فقال النعمان:"ما أريد إلا رجلا يجيرها على أهل نجد وتهامة" فقام عروة الرجال -أحد أشراف هوازن وكبرائهم- فقال:
"أكلب خليع يجيرها لك؟ أبيت اللعن، أنا أجيرها لك على أهل الشيح والقيصوم" يريد عامة العرب، فحقدها عليه البراض، وقال:"أعلى بني كنانة تجيرها يا عروة؟ " قال: "نعم، وعلى الناس كلهم". فحمي البراض؛ إذ عدها استهانة به واستخفافا بقومه، وأضمرها في نفسه غدرة شنعاء.
1 الأغاني 19/ 75.
ودفع النعمان اللطيمة إلى عروة فخرج بها، فتبعه البراض وعروة يرى مكانه ولا يخشى منه شيئا؛ لأنه منيع بين قومه من غطفان، حتى إذا بلغوا "فدك" نزل عروة في أرض يقال لها "أوارة"، فشرب الخمر وغنته قينة ثم قام فنام.
اغتنم الفرصة البراض، وانسلَّ إليه في خبائه، فلما رآه عروة ناشده واعتذر إليه، وقال:"كانت مني زلة"، فلم يفد الاعتذار شيئا ولم يخفف مما يضطرم في صدر البراض من الحقد، فانقضَّ على عروة فقتله، وخرج يرتجز، ويقول:
قد كانت الفعلة مني ضلة
هلا على غيري جعلت الزلة
فسوف أعلو بالحسام القلة
ثم أنشد:
وداهية يهال الناس منها
…
شددت لها بني بكر ضلوعي
هدمت بها بيوت بني كلاب
…
وأرضعت الموالي بالضروع
جمعت له يدي بنصل سيف
…
فخر يميد كالجذع الصريع
واستاق اللطيمة إلى خيبر، وبعث رسولا مستعجلا إلى حرب بن أمية، يخبره أنه قتل عروة فليحذر قيسا، فتبعه رجلان من غطفان يريدان قتله، فكان هو أول من لقيهما، فعرف ما قصدا إليه فنوى التعجيل بهما، فقال لهما:"ممن الرجلان؟ " قالا: "من غطفان وغني بهذه البلدة" قالا: "ومن أنت؟ " قال: "من أهل خيبر"، قالا:"ألك علم بالبراض؟ "، قال:"دخل طريدا خليعا فلم يؤوه أحد بخيبر ولا أدخله بيتا". قالا: "فأين يكون؟ "، قال:"فهل لكما به طاقة إن دللتكما عليه؟ "، قالا:"نعم"، قال:"فانزلا"، فنزلا فعقلا راحلتيهما. قال البراض:"فأيكما أجرأ عليه وأمضى مقدما وأحد سيفا؟ "، قال الغطفاني:"أنا"، قال:"فانطلق أدلك عليه ويحفظ صاحبك راحلتيكما"، ففعل.
وانطلق البراض يمشي بين يدي الغطفاني حتى انتهى إلى خربة في جانب خيبر، خارجة عن البيوت، فقال البراض: "هو في هذه الخربة وإليها يأوي
فأنظرني حتى أنظر أثم هو أم لا؟ "، فوقف له الرجل ودخل البراض ثم خرج إليه، وقال: "هو نائم في البيت الأقصى خلف هذا الجدار عن يمينك إذا دخلت، فهل عندك سيف فيه صرامة؟ "، قال: "نعم"، قال: "أرني سيفك أنظر إليه أصارم هو؟ "، فأعطاه إياه، فهزه البراض ثم ضربه به فقتله، ووضع السيف خلف الباب.
وأقبل على الغنوي فقال: "ما وراءك؟ "، قال البراض:"لم أر أجبن من صاحبك، تركته قائما في الباب الذي فيه الرجل -والرجل نائم- لا يتقدم إليه ولا يتأخر عنه". قال الغنوي: "يا لهفاه! لو كان أحد ينظر راحلتينا". قال البراض: "هما عليَّ إن ذهبتا"، فانطلق الغنوي والبراض خلفه، حتى إذا جاوز الغنوي باب الخربة أخذ البراض السيف من خلف الباب ثم ضربه به حتى قتله، وأخذ سلاحيهما وراحلتيهما ثم انطلق.
5-
وفيما يلي تفصيل أيام الفجار الرابع:
يوم نخلة:
بلغ قريشا خبر البراض وقتله عروة، وفزعوا أن تعلم بذلك هوازن فتدهمهم وكانوا في عكاظ في الشهر الحرام فخلصوا نجيا "واتفق رأيهم أن يخاطبوا عامر بن مالك سيد قيس بذلك، فأتوه وأخبروه، فأجاز مالك بين الناس وأعلم قومه ما قيل له، وأوشكوا أن يصطلحوا" لكن فريقا منهم خافوا أن يكون قومهم بمكة في ضيق، فانسلوا من عكاظ وهوازن لا تشعر بهم، وتوجهوا نحو مكة رجاء أن ينصروا.
وكان من عادة العرب إذا وفدت على عكاظ أن تدفع أسلحتها إلى عبد الله بن جدعان -وكان هذا سيدا حكيما مثريا من المال- فتبقى عنده أسلحة الناس حتى يفرغوا من أسواقهم وحجهم، فيردها عليهم إذا ظعنوا. فلما كان من أمر البراض ما كان، قال حرب بن أمية لابن جدعان:"احتبس قبلك سلاح هوازن".
فقال عبد الله: "أبا الغدر، تأمرني يا حرب؟ فوالله لو أعلم أنه لا يبقى فيها سيف إلا ضربت به ولا رمح إلا طعنت به ما أمسكت منها شيئا. ولكن لكم مائة درع ومائة رمح ومائة سيف تستعينون بها"، ثم صاح ابن جدعان في الناس:"من كان له قبلي سلاح، فليأت وليأخذه" فأخذ الناس أسلحتهم.
وبعث ابن جدعان وحرب بن أمية وهشام والوليد ابنا المغيرة إلى أبي براء سيد قريش: "إنه قد كان بعد خروجنا حرب، وقد خفنا تفاقم الأمر، فلا تنكروا خروجنا". وساروا راجعين إلى مكة "أغاني 19/ 76"، فلما كان آخر النهار بلغ أبا البراء قتل البراض عروة فقال:"خدعني حرب وابن جدعان"، وركب فيمن حضر عكاظ من هوازن في إثر القوم فأدركوهم في نخلة قبيل الحرم، فناوشوهم شيئا من القتال يسيرا حتى جاء الليل، ودخلت قريش الحرم فأمسكت هوازن عنهم ونادوهم: يا معشر قريش! إنا نعاهد الله ألا نبطل دم عروة الرحال أبدا أو نقتل به عظيما منكم، وميعادنا وإياكم هذه الليالي من العام المقبل. ونادى رجل من بني عامر:
لقد وعدنا قريشا وهي كارهة
…
بأن تجيء إلى ضرب رعابيل
فقال حرب بن أمية لأبي سفيان ابنه: قل لهم: "إن موعدكم قابل في هذا اليوم". وتعرف هذه الوقعة بيوم نخلة1، وقد تعطلت السوق فلم تقم تلك السنة. فقال خداش بن زهير يذكر قريشا بها ويعيرهم، وكانت العرب تسمي قريشا "سخينة"؛ لأكلها السخينة وهي طعام رقيق يتخذ من دقيق:
يا شدة ما شددنا غير كاذبة
…
على سخينة لولا الليل والحرم
إذ يتقينا هشام بالوليد ولو
…
أنا ثقفنا هشاما شالت الجذم
1 "يوم نخلة" هما نخلتان، والمقصود هنا نخلة اليمانية وهو الوادي الممتد من السيل الكبير إلى ما بعد الزيمة، وقرية الزيمة على جانبه. أما نخلة الشامية فتعرف باسم وادي المضيق ووادي الليمون، وتقع شمال نخلة اليمانية ويفصل بينهما سلسلة من الجبال، ثم يلتقيان أسفل قريتي الزيمة وسولة، فيكونان واديا واحدا يعرف في القديم باسم وادي مر، ومر الظهران، ويعرف حديثا باسم وادي فاطمة.
لما رأوا خيلنا تزجى أوائلها
…
آساد غيل حمى أشبالها الأجم
ولوا شلالا وعظم الخيل لاحقة
…
كما تخب إلى أعطانها النعم
بين الأراك وبين المرج تبطحهم
…
زرق الأسنة في أطرافها السهم
فإن سمعتم بجيش سالك سرفا
…
وبطن مر فأخفوا الجرس واكتتموا
وهذا غاية في التعبير، وفي وصف هذه الحرب حتى صار الأخ يفتدي نفسه بأخيه.
يوم شمظة 1:
شمظة: موضع في عكاظ نزلته كنانة بعد عام من يوم نخلة، حسبما اتعدوا لهم وهوازن، فاحتشدت كنانة: قريشها، وعبد منافها، والأحابيش ومن لحق بهم، وسلح يومئذ عبد الله بن جدعان مائة كمي بأداة كاملة سوى من سلح من قومه، وعلى إحدى مجنبتي كنانة عبد الله بن جدعان، وعلى الثانية كريز بن ربيعة، وأمر الجميع إلى حرب بن أمية الذي كان في القلب، أما هوازن وأحلافها فأمرها إلى مسعود بن معتب الثقفي، واعتزل فريق من الحيين فلم يشهد الحرب. ثم تناهض الناس وزحف بعضهم إلى بعض، فكانت الدائرة أول النهار لكنانة على هوازن، حتى إذا كان آخر النهار تداعت هوازن وصابرت، فانقشعت كنانة واستمر القتل فيهم، فقتل منهم تحت رايتهم مائة رجل، ولم يقتل من قريش يومئذ أحد يذكر، وذلك قول خداش بن زهير:
فأبلغ إن عرضت بنا هشاما
…
وعبد الله أبلغ والوليد
أولئك إن يكن في الناس خير
…
فإن لديهم حسبا وجودا
هم خير المعاشر من قريش
…
وأوراهم إذا قدحت زنودا
بأنا يوم "شمظة" قد أقمنا
…
عمود المجد إن له عمودا
1 شمظة: من عكاظ، هو الموضع الذي نزلت فيه قريش وحلفاؤها من بني كنانة بعد يوم نخلة. وهو أول يوم اقتتلوا به من أيام الفجار بحول على ما تواعدت عليه مع هوازن وحلفائها من ثقيف وغيرهم، فكان يوم شمظة لهوازن على كنانة وقريش، وهو من المواضع المجهولة اليوم. "معجم ما استعجم 3/ 961".
فجاءوا عارضا بردا وجئنا
…
كما أضرمت في الغاب الوقودا
فعانقنا الكماة وعانقونا
…
عراك النمر واجهت الأسودا
ونادوا يا لعمرو لا تفروا
…
فقلنا لا فرار ولا صدودا
فولوا نضرب الهامات منهم
…
بما انتهكوا المحارم والحدودا1
فلم أر مثلهم هزموا وفلوا
…
ولا كذيادنا عنقا مذودا
يوم العبلاء 2:
عاد الأحياء المذكورون من هؤلاء وأولئك، فالتقوا من قابل في اليوم الثالث من أيام عكاظ بالعبلاء، فاقتتلوا على التعبئة التي تقدمت.
فكان هذا اليوم أيضا لهوازن على قريش وكنانة، فأصيبت قريش وقتل أحد صناديدها: العوام بن خويلد، والد الزبير بن العوام، حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتله مرة بن متعب الثقفي، فقال في ذلك رجل من ثقيف يفتخر بقتله؛ لما له من الخطر:
منا الذي ترك العوام منجدلا
…
تنتابه الطير لحما بين أحجار
وفي هذا يقول شاعر هذه الحروب من هوازن، خداش بن زهير:
ألم يبلغكم أنا جدعنا
…
لدى العبلاء خندف بالقياد
ضربناهم ببطن عكاظ حتى
…
تولوا طالعين من النجاد
ويقول:
ألم يبلغك ما لقيت قريش
…
وحي بني كنانة إذ أبيروا
دهمناهم بأرعن مكفهر
…
فظل لنا بعقوتهم زهير2
1 راجع خزانة الأدب وابن سلام صـ121، 122، والأغاني 19/ 78.
2 العبلاء: قرية ذكر الهمداني أنها خربت، وتقع بقرب العبيلاء، قرية عدوان المعروفة، وتقع جنوب عكاظ مجاورة له. وفيها كان يوم العبلاء لهوازن على قريش وكنانة. "راجع موقع عكاظ صفحة 64، تعليق الأستاذ حمد الجاسر".
3 أبيروا: أهلكوا. العقوة: ما حول الدار، المحلة.
يوم شرب 1:
ثم التقوا على رأس الحول في اليوم الثالث من عكاظ أيضا بشرب، وشرب من عكاظ، ولم يكن بين الفريقين يوم أعظم منه، صدقوا فيه الحملة، وصبروا حفاظا وحمية، وقد أبلت فيه قريش بلاء حسنا. وكان الذي أحماهم أن لهوازن عليهم يومين ذهبوا بفخرهما، فحافظت قريش وكنانة وصابرت بنو مخزوم وبنو بكر، وقيد ثلاثة من شجعان قريش وأشرافها أنفسهم، وقالوا:"لا يبرح منا رجل من مكانه حتى يموت أو نظفر"، وهم: أبو سفيان وحرب ابنا أمية وأبو سفيان بن حرب والد معاوية. وكان على الفريقين رؤساؤهم السابقون، واستمر القتال بهذه الشدة حتى انهزمت هوازن وقيس كلها رغم عددها وعدتها، إلا بني نصر، فإنهم صبروا مع ثقيف؛ وذلك لأن عكاظ بلدهم، لهم فيها نخل وأموال، إلا أنهم لم يغنوا شيئا ثم انهزموا أيضا، وقتلت هوازن يومئذ قتلا ذريعا. وذهبت بفخر هذا اليوم كله كنانة وقريش، فارتفعت أصوات شعرائهم تخلِّد هذا النصر المؤزر، وما لها لا تفعل وقد لقيت خزيا كبيرا من شعراء هوازن؟! وما شأن شاعر تفقده أمته يوم الحاجة؟! وأي غناء لشاعر لا قوم له؟! فقال أمية بن أبي الأسكر الكناني:
1 شرب: وهو وادٍ عظيم أعلاه وادي العقيق، الواقع غرب الطائف وشماله، ثم ينحدر مارا بمزارع القيم فأم الحمض، فالقديرة، يلتقي به وادي الحوية من الغرب، فيكونان واديا واحدا يدعى وادي "شرب" وعلى مسافة ميل واحد من الحوية تقع قرية شرب في الوادي نفسه، ثم يجوز السلسلة الجبلية، ويفضي إلى الأرض البراح ثم عكاظ حتى تنتهي إلى وادي الأخيضر الواقع شرقا عن وادي شرب، ويفضي الواديان في ركبة. وقد يطلق على سوق عكاظ اسم شرب، كما في قول الكميت الذي أورده البكري في معجمه "ص809":
وفي الحنيفة فاسأل عن مكانهم
…
بالموفقين، وملقى الرحل من شرب
"موقع عكاظ، صفحة 64 تعليق الأستاذ حمد الجاسر".
وشرب هو المكان الذي وقع فيه يوم شرب، وانتصرت فيه قريش وكنانة على هوازن.
ألا سائل هوازن يوم لاقوا
…
فوارس من كنانة تعلمينا
لذي شرب وقد جاشوا وجشنا
…
فأوعب في النفير بنو أبينا1
وقال:
قومي اللذو بعكاظ طيروا شررا
…
من روس قومك ضربا بالمصاقيل2
وقال جذل الطعان:
جاءت هوازن أرسالا وإخوتها
…
بنو سليم فهابوا الموت وانصرفوا
فاستقبلوا بضراب فض جمعهم
…
مثل الحريق فما عاجوا ولا عصفوا
يوم الحريرة 3:
وهو آخر أيامهم، ثم التقوا على رأس الحول بالحريرة، وهي حرة إلى جنب عكاظ مما يلي مهب جنوبها، وعلى كل قوم رؤساؤهم السابقون. فاقتتلوا قتالا شديدا كان شؤما على قريش وأحلافها، قتل فيه من كنانة ثمانية نفر، وقتل أبو سفيان بن أمية أخو حرب جد معاوية. وكان يوما لهوازن فخره ونصره، فلعلع صوت شاعر هوازن بهذه الصاعقة المجلجلة:
إني من النفر المحمر أعينهم
…
أهل السواء وأهل الصخر واللوب4
الطاعنين نحور الخيل مقبلة
…
من كل سمراء لم تغلب ومغلوب
وقد بلوتم فأبلاكم بلاؤهم
…
يوم الحريرة ضربا غير مكذوب
لاقتهم منهم آساد ملحمة
…
ليسوا بدارعة عوج العراقيب
فالآن إن تقبلوا نأخذ نحوركم
…
وإن تباهوا فإني غير مغلوب
1 أوعب: جمع.
2 المصاقيل: السيوف.
3 الحريرة: هي حرة إلى جنب عكاظ، مما يلي مهب جنوبها. وهي تصغير حرة وتعرف الآن بـ "ضلع الخلص" والضلع هو الجبيل، وهذا الخلص: جبيل أسود صغير يقع في الجنوب بميل قليل نحو الشرق من موقع عكاظ "موقع عكاظ صفحة 66، تعليق الأستاذ حمد الجاسر""معجم ما استعجم 3/ 962".
4 اللوب جمع لابة، وهي الحرة.
وقال الحارث بن كلدة الثقفي:
تركت الفارس البذاخ منهم
…
تمج عروقه علقا عبيطا
دعست بناته بالرمح حتى
…
سمعت لمتنه فيه أطيطا
لقد أرديت قومك يابن صخر
…
وقد جشمتهم أمرا شطيطا
وكم أرسلت منكم من كمي
…
جريحا قد سمعت له غطيطا1
ثم كان الرجل منهم بعد ذلك يلقى الرجل، والرجلان يلقيان الرجلين، فيقتل بعضهم بعضا. فلقي ابن محمية بن عبد الله الدبلي زهير بن ربيعة أبا خداش، فقال زهير:"إني حرام" جئت معتمرا، فقال له: ما تُلْقَى طوال الدهر إلا قلت: أنا معتمر، ثم قتله.
انقضت هذه الأيام الخمسة في أربع سنين، ثم تداعى الفريقان إلى السلم على أن يذروا الفضل في الدماء والأموال، ويتعاهدوا على الصلح.
عقدوا على ذلك المواثيق، وبقيت هذه الأحداث للذكرى والفخر، يتمجد كل شاعر قوم بما فعل قومه، ويتغنى بما كان لهم من محامد. وانظر إن شئت أن ترى آثار ذكرها في مثل قول الشاعر:
وإن قصيا أهل عز ونجدة
…
وأهل فعال لا يرام قديمها
هم منعوا يومي عكاظ نساءنا
…
كما منع الشولَ الهجانَ قرومُها2
أو قول عاتكة بنت عبد المطلب، تخلد نصر قومها في هذه المقطوعة الرائعة:
سائل بنا في قومنا
…
وليكف من شر سماعه
قيسا وما جمعوا لنا
…
في مجمع باق شناعه
فيه السنور والقنا
…
والكبش ملتمع قناعه
1 البعير البذاخ: الهدار المخرج لشقشقته. العلق العبيط: الدم المتجمد. دعس: طعن. الأطيط: صوت الغطيط للبعير: هديره، وللنائم صوته.
2 الشول: النوق التي أتى عليها من حملها أو وضعها سبعة أشهر فجف لبنها، الواحدة: شائلة. والهجان: الإبل الكرام. والقروم: الفحول.
بعكاظ يعشي الناظريـ
…
ـن إذا هم لمحوا شعاعه
فيه قتلنا مالكا
…
قسرا وأسلمه رعاعه
ومجندلا غادرنه
…
بالقاع تنهشه ضباعه
هذا، وكانت تجارة العراق في عكاظ وما يفيده من يجيرها من أرباح مادية ومعنوية هو وقبيلته، سببا مغريا في هذه الحروب.
وأيام الحجازيين كثيرة لا نستطيع استيعابها في هذا المجال، وحسبنا ما ذكرنا منها، على أننا نشير إلى طائفة أخرى منها كالأيام التي اشتبكت فيها قبيلة ذبيان مع غيرها من القبائل، كعيس وبني عامر، وكيوم حوزة الأول لسليم على غطفان، ويوم حوزة الثاني، ويوم الكديد لسليم على كنانة، ويوم فزارة لكنانة على سليم، ويوم الفيفاء لسليم على كنانة
…
إلخ1.
1 راجع كتب "أيام العرب" قديما وحديثا، ومنها "نهاية الأرب" ج15.