الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: اللغة العربية في الحجاز
1-
أصل العربية:
ليس في الإمكان معرفة لغة الإنسان الأول ولا اللغات التي تفرعت عنها، فقد مضى على ذلك قرون عجز التاريخ عن الإلمام بها، وما يقال من أن لغة آدم عليه السلام كانت سريانية أو عربية، وأنه رثى ابنه بشعر عربي، تَجَنٍّ على التاريخ حمل عليه تعصب كل قوم للغتهم، وليست اللغة العربية في حاجة إلى مثل هذه الخرافات لتشرف على غيرها من اللغات؛ إذ لها من المفاخر الحقيقية ما يغنيها عن هذه الترهات.
وغاية ما أمكن الباحثين، أن أرجعوا اللغات الحالية إلى لغات أبناء نوح الثلاثة: يافث، وحام، وسام، الذين أبقى الله ذريتهم دون من كان معهم في السفينة، كما قال تعالى:{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} وتفرقوا في جهات الأرض، وكان لكل فريق منهم لغة نسبت إلى جدهم الأعلى، وهي: اليافثية أو الآرية، والحامية، والسامية.
أما الأولى، فقد انتشرت في الهند وامتدت منه إلى الأفغان وفارس ثم إلى أوروبا، مصاحبة لأهلها في فتوحاتهم وتجولاتهم؛ ولذا قسمت قسمين:
أ- آرية شمالية، ومنها تفرعت اللاتينية واليونانية وغيرهما، ومنهما تفرعت لغات أوروبا الحالية.
ب- آرية جنوبية، وهي السنسكريتية "الهندية القديمة"، وفروعها: الهندية الحالية والفارسية والأفغانية
والأرمينية.
وأما الحامية، فقد انتشرت شمالي أفريقية، وتشمل: الزنجية، والبربرية لغة سكان المغرب، والمصرية القديمة التي كانت قبل الهكسوس. أما بعد إغارتهم فصارت خليطا من الحامية والسامية، لغة الفاتحين.
وأما السامية، فقد انتشرت غربي آسيا في العراق والشام وجزيرة العرب، ثم الحبشية بأفريقية على رأي.
وتشمل اللغة السامية: البابلية، نسبة إلى بابل التي بقيت أطلالها بقرب الكوفة، والسريانية بأعلى العراق وشمال سورية، والكلدانية1 جنوبيه، والآشورية شماليه، والفينيقية بين جبال لبنان والبحر الأبيض، والعبرية بفلسطين، والحبشية، والعربية. وقد ماتت هذه اللغات ما عدا العبرية، والسريانية، والعربية، ولكن المنقبين قد اهتدوا إلى الآشورية والبابلية، ووضعوا فيهما المعاجم كأنهما من اللغات الحية. وإنما عاشت هذه اللغات دون أخواتها الساميات لتقييدها بالكتابة، وزاد العربية تأييدا نزول القرآن الكريم بها، وهي أغنى أخواتها الساميات؛ لطول عمرها واتساع رقعتها، ونزول القرآن بها، ولما اقتبسته من الأمم التي اتصلت بأهلها سياسيا أو تجاريا أو مجاورة.
وقد اختلف الباحثون في هذه اللغات: أتفرعن من واحدة مجهولة لنا، أم إن إحداهن أم للباقيات؟ والذين يذهبون إلى الرأي الثاني اختلفوا في أيهن الأم، فقيل: هي البابلية؛ لما بينها وبينهن من تشابه قوي، فبعض الكلمات على صورة واحدة فيها وفي العربية، ككلمتي: أنف وعنب، وهما في العبرية والسريانية بحذف النون، والتنوين في العربية نون، وفي البابلية ميم، وهما متقاربان في العربية؛ ولذا تبدل إحداهما من الأخرى، مثل: غين في غيم، وامتقع في انتقع، وعلامة الجمع فيها الواو والنون، وفي السريانية الياء والنون، وفي العبرية الياء والميم، والسين في العربية
1 الكلدانيون يضم الكاف: قوم من عبدة الكواكب "زبدي"، والبابلية القديمة كانت تدعى أولا آرامية، ثم تغيرت قليلا فدعيت كلدانية، ثم تغيرت تغيرا آخر فعرفت بالسريانية.
شين في العبرية، والألف في العربية واو في العبرية، والضاد في العربية صاد في العبرية، والثاء في العربية شين في العبرية؛ فيقال في سلام وأرض وثور: شلوم، وأرص، وشور بالعبرية، والذال في العربية زاي في العبرية ودال في السريانية، والحاء في العربية خاء في العبرية والسريانية، والغين في العربية عين فيهما.
ولا يعقل أن تكون العبرية أو السريانية أصلا؛ لأن البابلية أقدم، وإنما كانت أصلا للعربية؛ لأن العرب انتقلوا من بابل إلى جزيرتهم، فالبابلية أصل العربية.
وقيل: هي العربية؛ لأن الكلمات المشتملة على حرف الضاد تنقل إلى العبرية والسريانية -وهما أغنى اللغات السامية بعد العربية- بجعل الضاد صادا في العبرية وعينا في السريانية، ولو كانت العربية ناقلة عنهما، لما كان هناك داعٍ لجعل هذين الحرفين ضادا لوجودهما فيها، ولأن في العربية من أصول الكلمات ما ليس فيهما.
والتشابه بين هذه اللغات مما لا شك فيه، ولكنه لا يكفي في الحكم بأن إحداهن أم للأخريات؛ ولذلك رجح العلماء الرأي الأول، وهو أنهن أخوات لأم عفى عليها الزمن1
…
يقول جورجي زيدان في كتابه "تاريخ آدب اللغة": واللغات السامية أخوات لا يعرف لهن أم، وظن بعضهم أن البابلية والآشورية القديمة أمهن ولكن المحققين لا يؤيدون ذلك، والمعول عليه أن هذه اللغات السامية أخوات انقرضت أمهن قبل زمن التاريخ، وقال في "تاريخ العرب قبل الإسلام": وقيل: إن أمهن العبرية، وقيل: العربية، وقيل: البابلية، وكلها لا تخرج عن حد التخمين. ا. هـ. ونقول: لعل الحامل لهؤلاء على أقوالهم تعصب كل فريق للغته.
ومن هذا يتبين لك أنه ليس من السهل الوصول إلى معرفة أصل اللغة العربية.
1 هي لغة قدماء الساميين الذين سكنوا ما بين النهرين، وقد دعاها علماء اللغة باللغة الآرامية؛ نسبة إلى آرام أحد أبناء سام.
2-
نشأة العربية:
إذا كنا لم نستطع أن نعين أصل العربية، فإننا نستطيع أن نقول: إن اللغة العربية تألفت من لغات شتى، تدخل كل منها في بنائها في طور من أطوار حياتها، وذلك أن أقدم العرب هم الطبقة البائدة، ويظن أنهم هم المعينيون الذين قدموا من العراق إلى اليمن، وكانت لغتهم عامية البابلية، وبإقامتهم باليمن أخذت لغتهم تتباعد عن أصلها شيئا فشيئا حتى ضعفت الصلة بينهما، ثم جاء السبئيون أو القحطانيون إلى هذه البلاد من الحبشة أو من سقي الفرات، في القرن الثامن والعشرين قبل الميلاد، واقتبسوا لغة المعينيين، ولعل هذا المعنى هو قول المؤرخين: إن القحطانيين أخذوا اللغة العربية عن العرب البائدة، ثم نزل إبراهيم بابنه إسماعيل عليهما السلام وبأمه هاجر بمكة في القرن التاسع عشر قبل الميلاد، ونشأ إسماعيل بين قبيلة جرهم الثانية القحطانية التي انتقلت هي وغيرها من اليمن على أثر حادث سيل العرم، وأصهر إليهم وكان لسانه عبرانيا، فأدخل في لغة قحطان العنصر العبري، وتغلبت بعد ذلك اللغة العدنانية على الحميرية وغيرها من اللغات بواسطة الأسواق، واجتماعات الحج.
ومن هذا تعرف كيف نشأت اللغة العربية، وكيف استمدت من البابلية والحبشية والعبرية، وتمثلت بعد ذلك لغة مستقلة فاقت كل هذه اللغات.
2-
مميزات العربية:
ومما تمتاز به العربية عن سواها:
1-
الإعراب: وتشاركها فيه الحبشية، والألمانية، ويقول العارفون: إن الألمانية كادت تتخلص منه. ويظهر أن الإعراب أليف البداوة دون الحضارة؛ فقد كانت البابلية واللاتينية واليونانية والسنسكريتية معربة حين كان أهلها متبدين، فلما تحضروا ذهب عنها الإعراب، ولم يبق
في بعضها إلا بالكتابة والتقييد كما هو الحال في العربية والألمانية، على أن عامية العربية قد فقدت الإعراب.
2-
غناها وثراؤها: ففيها لكل ما دقّ وجلّ من الأزمنة الثلاثة، ولكل ما يخطر بالذهن من المعاني، وأحوالها، وأصنافها، وكيفياتها، اسم بل أسماء، مما لا مثيل له في أرقى لغات البشر، كما قال جورجي زيدان: وإذا رجعت إلى كتب فقه اللغة1، رأيت من ذلك ما يملؤك عجبا وإعجابا.
3-
انفرادها بصيغ المشاركة: يقول العارفون: إن صيغ المشاركة فيها؛ كتقاتلوا وتشاركوا لا نظير لها في اللغات الأخرى، إنما يعبر عن معناها بعدة ألفاظ.
4-
الإيجاز: وهو وإن كان في غيرها إلا أنه أظهر، وأمثلته في الكتاب والسنة والحكم والأمثال وكلام البلغاء كثيرة لا تحصى. ومثل ذلك الاشتقاق والمجاز، فقد كثرا في هذه اللغة بخلاف اللغات الأخرى، فإنهما يقلان فيها.
5-
الاشتراك والتضاد: فهما من خصائص العربية.
4-
اختلاف اللهجات العربية:
تتعدد اللغات بتعدد الأوطان واختلاف البيئات والأجواء، والمناظر تملي على أهلها الأسماء، والجو يفعل فعله بالأعصاب اللسانية، وهذا بيّن في أنواع الأبدال السابقة.
ولما كانت بلاد العرب متسعة الأرجاء، وشماليها يخالف جنوبيها في السطح والمناخ وأحوال المعيشة، اتسعت هوة الخلاف بين لغتي السكان فيهما؛ ولذا قال عمرو بن العلاء: "ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا،
1 كالمخصص وفقه اللغة للثعالبي ولطائف اللغة وكفاية المتحفظ وغيرها.
ولا عربيتهم بعربيتنا". وقال ابن خلدون: "ولغة حمير لغة أخرى مغايرة للغة مضر في الكثير من أوضاعها وتصاريفها وحركات إعرابها، كما هي لغة العرب لعهدنا مع لغة مضر، خلافا لمن يحمله القصور على أنهما لغة واحدة، ويلتمس إجراء اللغة الحميرية على مقاييس اللغة المضرية وقوانينها، كما يزعم بعضهم في اشتقاق "القيل" في اللسان الحميري أنه من القول، وكثير من أشباه هذا وليس ذلك بصحيح".
ولما كان سكان الشمال بدوا يعيشون على انتجاع الكلأ، وتكاد كل قبيلة تكون في معزل عن القبيلة الأخرى -واختلاطهم قليل- لزم أن يكون بين لهجاتهم بعض الاختلاف، وإن كانت مادة لغتهم واحدة، ولكن هذا الاختلاف أقل مما بين سكان الشمال وسكان الجنوب؛ لاتحاد البيئة والمرئيات في شماله "فلم يتعدّ الاختلاف بينها صورة النطق وكيفيته، كما هو الحال بين سكان البلاد المصرية، إذ إن اللهجات المصرية وليدة اللهجات العربية، كما ذكر حفني ناصف وغيره. وقد علمنا أن قريشا بمكة كانت تفوق قبائل الشمال" عقلا ورقيا وتهذيبا وحضارة؛ لما كانت عليه من سيادة، وما كان لها من رحلات تجارية، اتصلت فيها بأمم شتى؛ نقلت عنها شيئا من الحضارة، فكانت بذلك، وبما أودع الله في ألسنتها من مرونة وقوة أقدر على ترقية لغتها وتهذيب نطقها، بما انتقته من لغات القبائل الوافدة عليها في موسم الحج ومجامع التجارة، وما أضافته إلى لغتها من لغات البلاد التي كانت تتجر معها، ولم يسع القبائل الأخرى إلا أن تحاكيها في النطق؛ لسيادتها ونفوذها، فأخذت لغة قريش تقوى ويتسع نفوذها بينما كانت اللهجات الأخرى آخذة في الانكماش؛ وبذا تقاربت اللهجات وكادت تتحد، فلما نزل القرآن الكريم بلغة قريش، وسحر العرب ببيانه، واعتنق العرب الإسلام؛ نمت الغلبة للغة قريش وتوارت تلك اللهجات، إلا آثارا قليلة دونت1 مع لغة قريش.
1 كإعلال الفعل الماضي الثلاثي المختوم بياء، بقلب يائه ألفا، في لغة طيء نحو: =
وقد كان لكل لهجة من اللهجات هنة أو أكثر سوى لغة قريش، فإنها سلمت من تلك الهنات. ومن هذه اللهجات:
1-
عجعجة1 قضاعة: وهي إبدال الياء المتطرفة بعد عين جيما، نحو: الساعج خرج معج، وفقيم تبدل الياء جيما إن وقعت في الآخر مشددة أو ساكنة، فالأول كقول الشاعر:
خالي عويف وأبو علج
…
المطعمان اللحم في العشج
والثاني كقول الآخر:
يا رب إن كنت قبلت حجتج
…
فلا يزال شاحج2 يأتيك بج
ولغة فقيم أعم من لغة قضاعة.
=بقا ونسا في: بقي ونسي، وهي لغة المصريين، وتصحيح مدين ومبيع عند تميم فيقال: مديون ومبيوع، وقلب همزة رأس وكأس وبئر وظئر ولؤم حرفا من جنس حركة ما قبلها عند تميم، وقلب ألف المقصور المضاف لياء المتكلم ياء عند هذيل، ومنه:
سبقوا هوى وأعنقوا لهواهم
…
البيت
وحذف نون من الجارة إذا وليها ساكن، نحو: خرجت مالدار، وجئت مالمسجد عند خثعم وزبيد من قبائل اليمن، وهي لغة مصر، وحذف ألف على الجارة وألف الاسم الذي يليها، إذا وليها ساكن، وهي لغة بلحارث نحو: ركبت علفرس، وقعدت علأرض، وهي شائعة في مصر. وحذف نون اللذين واللتين عند بلحارث بن كعب نحو:
أبني كليب، إن عميّ اللذا
…
قتلا الملوك وفككا الأغلالا
ومن اختلاف اللهجات: التفخيم والترقيق، والإمالة وعدمها، والسرعة والبطء، وأهل اللغة لم يدونوا كيفيات النطق، كما أنهم لم يدونوا اللهجات كاملة؛ لأن الذي كان يعنيهم هو فهم القرآن والسنة وهما بلغة قريش، فاكتفوا بتدوينهما ما عثروا به في الأشعار، أو أخذوه من سكان البوادي والرواة. وقد ذكر ابن فارس أوجها أخرى للاختلاف، فراجعها في الصاحبي.
1 العجعجة في اللغة: الصياح.
2 الشاحج: البغل.
وقد ورد عكس هذا الإبدال، قال الشاعر:
إذا لم يكن فيكن ظل ولا جنى
…
فأبعدكن الله من شيرات1
2-
فحفحة2 هذيل: وهي إبدال الحاء عينا، كقولهم: علت العياة لكل عي، في: حلت الحياة لكل حي.
3-
عنعنة تميم وقيس: وهي جعل الهمزة المبدوء بها عينا، نحو: عنك فاضل، وعنت كريم، في: إنك فاضل، وأنت كريم.
4-
استنطاء سعد وهذيل والأزد وقيس والأنصار: وهو جعل العين الساكنة نونا إذا جاورت الطاء، فيقولون في أعطى درهما: أنطى درهما، وقرئ شذوذا:"إنا أنطيناك الكوثر"، وفي الحديث:"فإن اليد العليا هي المنطية، واليد السفلى هي المنطاة".
5-
كشكشة ربيعة ومضر: وهم في ذلك طوائف؛ فطائفة تجعل بعد الكاف المخاطبة المؤنثة شينا في الوقف فقط، وهو الأشهر، وطائفة تثبتها في الوصل أيضا، وطائفة تجعل مكان كاف المخاطبة المؤنثة شينا مكسورة في الوصل ساكنة في الوقف. حكى بعضهم أنه سمع أعرابية تقول لجاريتها:"ارجعي وراءشي، فإن مولاشي يناديشي" أي: وراءك
…
إلخ، وروي قول الشاعر:
فعيناك عيناها وجيدك جيدها
…
البيت بإبدال الكاف شينا:
فعيناش عيناها، وجيدش جيدها
…
ولكن عظم الساق منش دقيق3
6-
كسكسة ربيعة ومضر: يجعلون بعد الكاف أو مكانها سينا في خطاب المذكر؛ ليفرقوا بين خطاب المذكر وخطاب المؤنث، يقولون:"عرفتس لما أن نظرتس" وقد نسبها الحريري لبكر لا لربيعة ومضر، وجعلها زيادة شين بعد خطاب المؤنثة، وفسرها القاموس كتفسير الحريري لكنه نسبها لتميم لا لبكر.
1 أصلها: شجرات.
2 الفحفحة: صوت الأفعى، وبحة في الصوت.
3 يروى بالدال وبالراء: "دقيق ورقيق".
7-
وهم كلب: وهو كسر هاء الغيبة متى وليتها ميم الجمع مطلقا نحو: منهِم وعنهِم وبينهِم، والفصيح أنها لا تكسر إلا إذا كان قبلها ياء أو كسرة مثل: عليهِم وبهِم. وزاد في المزهر في الرديء المذموم من لغات العرب قلب الكاف جيما؛ يقولون: الجعبة في الكعبة، وزاد ابن فارس الحرف الذي بين القاف والكاف1 في لغة تميم. قال الشاعر:
ولا أكول لكدر الكوم قد غليت
…
ولا أكول لباب الدار مكفول
وهي لغة أكثر المصريين.
والحرف الذي بين الجيم والكاف في لغة اليمن، فيقولون في "جمل":"كمل" وهي السائدة في القاهرة والجهات المجاورة لها.
قال الجاحظ في البيان والتبيين: قال معاوية يوما: من أفصح الناس؟ فقال قائل: قوم ارتفعوا عن لخلخانية الفرات وتيامنوا عن كشكشة تميم وتياسروا عن كسكسة بكر، ليس في لغتهم غمغمة قضاعة2 ولا طمطمانية حمير، قال: من هم؟ قال: قريش.
4-
عوامل تهذيب اللغة العربية:
لم تخلق اللغة العربية كما ننطق بها الآن، بل مرت -قبل ذلك- بأطوار وتقلبت عليها عصور وأجيال، وتعاورتها عوامل شتى حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن من غنى وثراء، وحلاوة منطق وفصاحة بيان.
والإنسان يملكه العجب حين يستعرض هذه العوامل، فيراها متضافرة على غرض واحد، وهو توحيد اللغة وكأن الله تعالى أراد أمرا جليلا فهيأ له أسبابه، حتى إذا نزل كتابه كانت الآذان قد تهيأت لفهمه والتأثر به،
1 لابن خلدون في مقدمته بحث طريف عن هذا الحرف، أي: نطق القاف نطقا بينها وبين الكاف.
2 الغمغمة: الكلام الذي لا يبين.
لإنقاذ هذه الأمة مما كانت ترسف فيه من الجهل والضلال، وليسري هذا النور منها إلى غيرها فيسعد به الناس، وتنتظم به حياتهم، ويرفه به عيشهم.
وأول هذه العوامل: ما حدث بنزول يعرب بن قحطان بيلاد اليمن، فقد قيل: إنه اتصل ببقايا العرب البائدة، وتعلم منهم لسانهم، وأعقب ذلك تغير اللغة عن أوضاعها الأولى إلى أوضاعها الجديدة التي هي مزيج من لغة العرب البائدة ولغة بابل أو الحبشة "بلاد يعرب بن قحطان"، ومن هنا نفهم مراد من يقول: إن يعرب بن قحطان أول من نطق بالعربية أي: أول من نطق بها بعد أن اتجهت هذا الاتجاه الجديد.
وثانيها: ما حدث بنزول إسماعيل عليه السلام وأمه بمكة، واتصاله بجرهم الثانية القحطانية، ونشأته بينهم طفلا، ومصاهرته إياهم. فقد تسرب إلى اللغة القحطانية ألفاظ عبرية من إسماعيل وأمه، وتشكلت اللغة بشكل جديد، وصارت مزيجا من اللغتين.
أما ما يقال -وقد روته بعض كتب الحديث- من أن إسماعيل أول من انفتق لسانه بالفصحى، فمعناه: أنه أول من تكلم بها بعد هذه النشأة الجديدة، وليس المراد أنه أول من تكلم بالنهج القرآني الفصيح؛ لأن بين إسماعيل وبين نزول القرآن تسعة عشر قرنا، لا يتصور أن تظل اللغة العربية فيها جامدة على ما كانت عليه، ولا تتغير ولا تتبدل1.
وليس بغريب أن يشتد الخلاف بين اللغتين اليمنية والحجازية، وإن كانت القحطانية أصلحها؛ لأن ما بين الإقليمين من بعد الشقة، واختلاف البيئة، إلى قلة طرق الاتصال، كفيل بأن يباعد بين اللغتين.
وثالثها: اختلاط القبائل واجتماعاتها، وقد أخذت عوامل الاختلاط التي من أهمها: حادث سيل العرم، والحروب، والاتجار، والحج، تحدث أثرها العظيم في تفاهم القبائل وتقارب لغاتها؛ ففي هذه الاجتماعات يضطرون إلى التحادث، ويأخذ كل فريق عن صاحبه.
1 نشير بهذا إلى ما ذكره الجاحظ في البيان جـ3 ص178.
وأهم هذه الاجتماعات كلها اجتماعات الحج، واجتماعات الأسواق:
أ- أما الحج فقد سن من عهد إبراهيم عليه السلام وكان العرب يفدون إلى البيت الحرام من كل فج عميق، حتى جاءت قريش، فكانوا جيرته وسدنته، وقد كانت قريش على جانب من الثقافة، والرقي الفكري، والذوق الأدبي، فاستطاعت بذلك أن تميز بين اللهجات والألفاظ، وأن تنتقي ما خفّ على اللسان وحلا في الآذان، من ألفاظ القبائل الوافدة عليها؛ فارتقت لغتهم، وتنزهت عن مستبشع اللغات، وبذلك مرنوا على نقد الألفاظ، وصاروا أجود العرب انتقاء للأفصح والأسهل والأبين، وأخذت القبائل تحاكيها في لغتها وتأخذ عنها كما أخذت عنهم. وكان لقريش عمل آخر في هذا السبيل، وهو إدخالهم في اللغة ألفاظا كثيرة جلبوها في رحلاتهم التجارية من الشام وفارس والحبشة بعد أن عربوها، وصارت بلغتهم آلف. وبذا تتبين: أن قريشا كانت تقوم بأكثر مما تقوم به المجامع اللغوية في توحيد اللغة وتوسيعها!
ب- وأما الأسواق فقد كانت من العوامل في تقارب اللهجات وتداخلها؛ حتى يتيسر التفاهم، وتقضى الحاجات.
وقد انساق العرب إلى متابعة قريش على لغتها؛ لما رأوه فيها من بلاغة وفصاحة، ولما كان لها من سلطة دينية وعزة قومية، والضعيف مولع بتقليد القوي في كل زمان ومكان، فأخذوا يحاكونها ويتقربون من لغتها، ويلتزمونها في خطبهم وأشعارهم، حتى كادوا يجمعون عليها، لتسير أشعارهم في الآفاق ويتناقلها الرواة والحفاظ في كل الجهات، ولا أدل على ذلك من أن العرب في أنحاء الجزيرة فهموا كلهم القرآن عند نزوله، وتأثروا به.
فلما نزل القرآن الكريم بها زادها قوة ورسوخا وانتشارا، وزاد تلك اللهجات ضعفا واختفاء، فلم يبق منها إلا ما هو من فطرة اللسان وتأثير الأجواء. وسيظل القرآن الكريم قائما بحراستها إلى نهاية الأيام والعصور.