الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيا: صميم الشعر السياسي
1-
يجمل بنا في صدر هذا الموضوع أن نلم بالمعاني اللغوية لكلمة "سياسة" والمادة التي اشتقت منها قبل أن نعرض لمعناها الاصطلاحي الذي يبنى عليه تعريف "الشعر السياسي".
تقول كتب اللغة: السَّوْس: الرياسة، وإذا رأس القوم أحدا قيل: سوسوه، وأساسوه، وساس الأمر سياسة: قام به، ورجل ساس: من قوم ساسة، وسوَّاس. وأنشد ثعلب:
سادة قادة لكل جميع
…
ساسة للرجال يوم القتال
وسست الرعية سياسة. وفي الحديث الشريف: "كان بنو إسرائيل يسوسهم أنبياؤهم"، أي: تتولى أمورهم، كما يفعل الأمراء والولاة بالرعية.
فالسياسة إذًا -كما وردت في المعاجم العربية- تعني تدبير أمور الناس، والقيام بشئونهم، والرياسة عليهم، وتملك زمام الحكم فيهم.
فما العلاقة بين هذا المعنى وهو تدبير أمور الرعية، والمعاني اللغوية الأخرى؟
ورد في هذه المادة: السياسة: القيام على الشيء بما يصلحه، والسياسة: فعل السائس. يقال: هو يسوس الدواب، إذا قام عليها وراضها1. ويقال: سوس له أمرا أي: روضه وذلَّله. ومن هذا نستنتج أن الأصل الملحوظ فيمن يسوس أمور الناس، أن يتوخى أسباب الإصلاح، وأن السياسة تقتضي تذليل الصعاب وحل المشكلات، وترويض الشمس من الأفراد، كما يروض السائس الأفراس.
هذا في العربية، وأما في اللغات الإفرنجية، فكلمة سياسة هي:"policy" في الإنجليزية، وأصلها في الإغريقية:"politeia"، وفي اللاتينية:"politia". ومعاني هذه الكلمة في المعاجم الغربية تمضي على النحو الآتي:
1-
فن أو طريقة تنظيم أو توجيه السلوك.
2-
طريقة العمل.
3-
المنهج أو الأشكال التي يستطيع بها حكومة الإقليم أو الإدارات أن تسير بها الأمور.
4-
نظام للإدارة توجه المصالح أكثر مما توجهه المبادئ.
5-
الحذق في الإدارة.
6-
البراعة، الحذق، الفطنة.
7-
الخداع2.
1 راجع لسان العرب، مادة "سوس".
2 راجع: Twentieth Century dictionary مادة Policy.
ونلاحظ أن المعاني اللغوية الأخرى لمادة "سياسة" في اللغات الإفرنجية وثيقة الصلة بالمعنى الجوهري الذي يعنينا، وهو: الهيمنة على أمور الأمة وتنظيم شئونها. ذلك أن السياسة -في الواقع- تقتضي الحذق والبراعة والفطنة واللقانة
…
ولم تذكر هذه المعاني في المادة "سياسة" العربية. إلا أن هذه المادة وردت كما سبق بمعنى الترويض، والترويض بطبيعته يقتضي الحذق والمهارة والقدرة الفائقة على تذليل الصعائب.
ووردت السياسة بمعنى الخداع والمكر في الإنجليزية، ولم ترد كذلك في العربية. ولعل في هذا المعنى يكمن الفرق بين النفس العربية والنفس الإنجليزية.
وإذا أنشدنا معنى السياسة عند المحدثين وجدناها تعني: حكم الأمم أو فن هذا الحكم، ووجدنا علم السياسة: هو ما يبحث في حكم الأمم من حيث أشكاله ونظمه ومقدار ملاءمته لأحوال الشعوب سواء أكان هذا البحث تاريخيا يتناول نظم الحكم في أطوارها المتعاقبة أم واقعيا يتناولها كما هي الآن. وإذا كان علم السياسة يتناول الحياة الداخلية للدولة أولا، ثم يتناول العلاقات بين الدول ثانيا، ومعنى ذلك أن يكون موضوع هذا العلم ذا شقين: النظم والأشكال التي تخضع لها الحكومات، كل في داخلها، والنظم والالتزامات التي تربط الدول كلا بالأخرى. وهناك الجانب الثاني وهو ما يدعى في القانون الدولي بالسياسة داخلية وخارجية كما هو معروف، والسياسة الخارجية تقوم بين الدول على قوانين السلم والحرب1.
وإذا كانت هذه هي السياسة، فماذا عسى أن يكون الشعر السياسي؟! إنه بالطبع ذلك الشعر الذي يتصل بها سواء كانت داخلية أو خارجية. وبعبارة أخرى هو: ذلك الفن من الكلام الذي يتصل بنظام الدولة الداخلي، وعلاقتها الخارجية بالدول الأخرى.
1 راجع كتاب "الشعر السياسي" ص3.
و Leacock: Elements bf Political Science.
ويحسن بمؤرخي الأدب العربي أن يذهبوا في تفسير الشعر الجاهلي مذهبا أوسع أفقا، فيفسروه على اعتبار أن كثرته شعر قبلي أو سياسي قيل في سبيل القبيلة أو الإمارة أو الجمهورية، وكان خاضعا في إنشائه لهذه الغاية وهي مكانة القبيلة، وسيادتها، على الرغم من أنه كان مدحا وهجاء وفخرا ورثاء، فكل تلك، كانت في الغالب فنونا جزئية أو معاني فرعية لهذا الموضوع العام أو الهدف الرئيسي، وهو دولة القبيلة أو الإمارة أو الجمهورية كما سنرى.
والشعر القبلي والسياسي في الجاهلية يمكن رده إلى الأبواب الآتية:
أولا: شعر يقال في تأييد القبيلة، والتحفي بها، وبكاء موتاها، ووصف مرابعها، ونحو ذلك مما هو تاريخ لحياتها الخاصة.
ثانيا: شعر يقال ثورة عليها وهجاء لها؛ إذ قصرت في رعاية الفرد أو في الاحتفاظ بمكانتها وشرفها.
ثالثا: شعر هو فخر بالقبيلة على أعدائها، وهجاء لهم، ووعيد لهم بالويل والثبور، ثم تأييد لمكانة القبيلة عند احتكام أو مفاخرة.
رابعا: شعر هو ثورة على النظام القبلي أو الاجتماعي كله، ولا سيما ذلك النظام الاقتصادي الذي كون في نفوس الفقراء تبرما، فكان منهم الصعاليك1.
3-
أول ما يلقانا من هذا الشعر القبلي ما كان تحفيا بالقبيلة واعتزازا بمكانتها؛ لأنها موئل الشاعر ومعقد رجائه، ودولته التي يعيش في كنفها ويرتبط معها بهذا العقد الاجتماعي الذي أصلته التقاليد ووثقته العادات والنظم، فصار كلا الطرفين مكملا للآخر لا يستغنى عنه؛ هذا الاعتزاز بالقبيلة يدفع الشاعر إلى التغني بمآثرها وذكر قديمها، وما تمتاز به بين القبائل، دون أن يكون ذلك تعاليا على قبيلة بعينها، أو ردا على
1 الشعر السياسي: صـ31.
شاعر خاص، وإن كان روحه مشعرا بفضل قومه على من سواهم؛ هو شعر قبلي يصور العشيرة كما هي أو كما يتصورها شاعرها الممتاز
…
ومن أمثلة ذلك في شعر الحجازيين قول حسان بن ثابت من قصيدة في مدح عمرو بن الحارث الغساني:
ولقد تقلدنا العشيرة أمرها
…
ونسود يوم النائبات ونعتلي
ويسود سيدنا جحاجح سادة
…
ويصيب قائلنا سواء المفصل
وتحاول الأمر المهم خطابة
…
فيهم ونفصل كل أمر معضل
وتزور أبواب الملوك ركابنا
…
ومتى نحكم في البرية نعدل
فقومه زعماء مقدمون في الشدائد، سديدو الرأي، أمجاد عدول، تحترمهم الملوك، وحسان هنا يصور مجد عشيرته الخزرج اليمنيين الذين يتصلون بالغساسنة ملوك الشام، وهو شعر في سبيل قومه، ومن ذلك قوله من قصيدة:
لنا حاضر فعم وباد كأنه
…
شماريخ رضوى عزة وتكرما
متى ما تزنا من معد بعصبة
…
وغسان نمنع حوضنا أن يهدما
بكل فتى عاري الأشاجع لاحه
…
قراع الكماة يرشح المسك والدما
ولدنا بني العنقاء وابني محرق
…
فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابنما
نسود ذا المال القليل إذا بدت
…
مروءته فينا وإن كان مقدما
…
إلخ
وكلها صور تقوم على الفضائل الجاهلية المتصلة بالسيادة والمجد وشرف النسب وسعة السلطان، وقد بقيت نزعة السيادة هذه في شعر حسان سمة لقومه حتى بعد إسلامه، ولعلها كانت صدى لهذه المنافسة بين المهاجرين والأنصار، وقد دل على ذلك بقوله:
وكنا ملوك الناس قبل محمد
…
فلما أتى الإسلام كان لنا الفضل
أولئك قومي خير قوم بأسرهم
…
فما عد من خير قومي له أهل
ومن أمثلة هذا النوع من الشعر القبلي، هذه القصيدة المنسوبة للسموءل بن عادياء اليهودي:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه
…
فكل رداء يرتديه جميل
هذه الصورة الأولى من الشعر القبلي يغلب فيها عكوف الشاعر على قبيلته أو دولته الصغرى محتفيا بها، معجبا بمآثرها، لا يتحدى فيها شخصا ولا قبيلة، يمدحها به إيثارا لها على سائر القبائل. هو شعر قبلي داخل في سبيل كيان القبيلة وعزتها، أو هو شعر متصل بالنظام الأساسي للعشيرة وتدبير شئونها وسياستها1.
4-
وهناك صورة أخرى لهذا الشعر القبلي هي من حيث النزعة عكس سابقتها، فهي ثورة على القبيلة وتهوين شأنها، وهجاؤها؛ لأنها قصرت في الواجب عليها نحو الشاعر أو غيره، وكأنها بذلك نقضت هذا العهد الاجتماعي القاضي بحمايته والانتصار له، فكانت بذلك دون القبائل الأخرى، وتعرض كيانها للهوان، فكان على الشاعر أن يقومها ويلزمها القانون.
5-
ويلي ذلك نوع آخر من الثورة على النظام القبلي أو على النظام الاقتصادي والاجتماعي كله، ثورة الصعاليك، وهم جماعة فقراء من قبائل شتى، جمعت بينهم الخصاصة والحاجة وإعوازهم من مال هو عند غيرهم، فخرجوا على قبائلهم وتحللوا من نظمها، وأنكرهم قومهم، وأخذوا هم أنفسهم بالإغارة والنهب وسلب القبائل والأفراد ما لهم ثم توزيعها فيما بينهم، وكانوا رجالا أشداء عدائين، يسبقون الخيل، خبيرين بدروب الصحراء ومجاهلها، كراما، حديدي الإرادة، حسني الحيلة للخلاص إذا أسروا
…
نذكر منهم ممن كان يعيش في منطقة الحجاز: الشنفرى وتأبط شرا، فهؤلاء وزملاؤهم مثلوا الخروج على النظام القبلي، وجعلوا وكدهم الحصول على المال ولو قتلوا أصحابه، لا يبالون في هذا قرابة. وقد طرحوا عن كواهلهم تقاليد العرب إلا ما ارتضوه لأنفسهم؛ يعطفون على الفقراء والمرضى والضعاف، ويبذلون ما عندهم
1 تاريخ الشعر السياسي: صـ31، 33.
في سخاء، ويجمعون بين صفتي الكرم والسلب، فهم لصوص كرام شجعان، يعفون عن المحارم.
هذا التحلل من النظام القبلي تبعه تحلل من شخصية القبيلة في الشعر، فلم يعن هؤلاء الصعاليك بتمثلها والتعبير عنها، هم انفردوا بأنفسهم في الحياة وانفردوا بها في الشعر، فكان قصيدهم مثالا قويا لشخصياتهم وسلوكهم، لا يكتمون منه شيئا ولا يقصرون في التعبير عنه، فامتازوا بالصدق والصراحة والقوة، وظهرت هذه الصفات في فنهم، فكان طريفا مقبولا، هو من الشعر الغنائي الصحيح الذي يعتز بالشخصية الفردية، وبهذا المذهب الثوري أو الاشتراكي.
والذي يعنينا هنا أن شعر هؤلاء كان مثالا لشعر سياسي طريف، هو شعر الثورة والكفر بأوضاع فرضت عليهم الحرمان والفقر المدقع، بجانب هذا الفقر العام في البلاد كلها، حتى كانت حياة العرب خشنة مضطربة المناهج1.
وفي شعر الشنفرى وتأبط شرا من صعاليك الحجاز، وغيرهم من صعاليك العرب عامة، نرى مثالا واضحا لشعر المعارضة الثائر، الذي يصور تصويرا دقيقا حياة الصعاليك وفتكهم وجراءتهم، وقدرتهم الفائقة على العدو، وصبرهم على الجوع والمكاره، وخروجهم على نظام القبيلة العام، ونقدهم لهذا النظام، وثورتهم على الأغنياء البخلاء الذين يختصون بالأموال دون الفقراء.
والصعلوك يفارق قومه، ويقلي عشيرته؛ لأنها تقيم على ضيم، وهو يأبى الضيم، ولأنها تذيع السر، وهو يحفظ السر، ولأنها تخذل الجاني بما ارتكب من جنايات، وهو ينفر من هذا الخذلان. ولذا فهو يلتمس له مضطربا في الأرض ينأى به عن الأذى، ومنعزلا فيها يشعره بالحرية والكرامة، ويقيه أسباب القلى والبغض، وهو يستبدل بأهله وعشيرته أهلا وعشيرة من الحيوان والوحش، من كل ذئب قوي سريع ونمر أرقط ناعم الأديم، وضبع عرفاء "كثيفة شعر الرقبة"، من كل أبي باسل من هذه المخلوقات التي لا تذيع سرا ولا تخذل صديقا أيا كانت جريرته.
1 الشعر السياسي: صـ34، 35.
والصعلوك يأنس بالوحش كما تأنس به الوحش، فهذه الوعول الحمر تروح وتجيء حوله، بياض النهار، كأنها العذارى تجرر أذيالها، حتى إذا ما أقبل الأصيل ركدت حوله العصم من الوعول، وقد بدا في ذراعيها البياض، وهو بينها كالأدفى الذي طال قرنه جدا حتى ذهب قبل أذنيه، لا تنكره ولا ينكرها، كأنه واحد منها لطول ما خالطها وعاشرها. ولنستمع إلى الشنفرى وهو يصور ذلك، فيقول:
أقيموا بني أمي صدور مطيكم
…
فإني إلى قوم وسواكم لأميل
فقد حمت الحاجات والليل مقمر
…
وشدت لطيات مطايا وأرحل1
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى
…
وفيها لمن خاف القلى متعزل
لعمرك ما في الأرض ضيق على امرئ
…
سرى راغبا أو راهبا وهو يعقل
ولي دونكم أهلون سيد عملس
…
وأرقط زهلول وعرفاء جيئل2
هم الأهل لا مستودع السر ذائع
…
لديهم ولا الجاني بما جر يخذل
وكل أبي باسل غير أنني
…
إذا عارضت أولى الطرائد أبسل
..........................
…
..........................
إلى أن يقول:
ترود الأراوى الصحم حولي كأنها
…
عذارى عليهن الملاء المذيل
ويركضن بالآصال حولي كأنني
…
من العصم أدفى ينتحي الكيح أعقل3
1 أقام صدر مطيته: جدّ في السير أو الأمر، والمعنى: استيقظوا وجدوا في أمركم، فإني راحل عنكم لغفلتكم وتراخيكم وإقراركم بالضيم. وحم الشيء: قدر وهيأ. والطية: النية والمنزل. يقول: تنبهوا من رقدتكم، فهذا وقت الحاجات، ولا عذر لكم، فإن الليل كالنهار في الضوء.
2 القلى: البغض. والسيد: الذئب. والعملس بثلاث فتحات وشد اللام: القوي على السير السريع. والأرقط: النمر. والزهلول: الأملس. جيئل: اسم للضبع. والعرفاء: الكثيرة شعر الرقبة.
3 ترود: تذهب وتجيء. الأراوى جمع: أروية، وهي أنثى الوعل الجبلي. الصحم: الحمر. المذيل: طويل الذيل. العصم من الوعل جمع: أعصم، وهو الذي في ذراعيه بياض. الأدفى: الذي طال قرنه جدا. ينتحي: يقصد. الكيح: عرض الجبل. الأعقل: الممتنع في الجبل العالي.
وتأبط شرا في القصيدة الآتية يصور سرعة عدو الصعلوك، وحسن حيلته للخلاص من الأعداء:
يا عيد ما لك من شوق وإيراق
…
ومر طيف على الأهوال طراق1
يسري على الأين والحيات محتفيا
…
نفسي فداؤك من سار على ساق2
إني إذا خلة ضنت بنائلها
…
وأمسكت بضعيف الوصل أحذاق3
نجوت منها نجائي من بجيلة إذ
…
ألقيت ليلة خبت الريط أرواقي4
ليلة صاحوا وأغروا بي سراعهم
…
بالعيكتين لدى معدى بن براق5
كأنما حثحثوا حصا قوادمه
…
أو أم خشف بذي شث وطباق6
1 العيد: ما اعتاد من حزن وشوق. ما لك: ما أعظمك. الإيراق: مصدر الأرق والأسلوب للتعجب، كقولك من فارس وأنت تتعجب من فروسيته وتمدحه. طرق: يقول: يطرقنا ليلا في موضع البعد والمخافة.
2 يسري الطيف: يسير ليلا. الأين: نوع من الحيات، أو الإعياء. محتفيا: حافيا.
3 الخلة: الصداقة. النائل: ما ينال. بضعيف الوصل: بحبل ضعيف. الأحذاق: المتقطع.
4 بجيلة: القبيلة التي أسرته. الخبت: اللين من الأرض. ألقيت أرواقي: استفرغت مجهودي في العدو. يقول: إذا ضن عني صديقي بنائلة، وكان وصاله ضعيفا أحذاقا، خليته ونجوت منه كنجائي من بجيلة.
5 العيكتان: موضع. معدى: مصدر ميمي، أو اسم مكان من عدا يعدو. ابن براق: هو عمرو وهو والشنفرى صديقا تأبط شرا، وكانا معه ليلة انفلاته من بجيلة.
6 حثحثوا: حركوا، من الحث. القوادم: ما ولي الرأس من ريش الجناح. والحص جمع: أحص، وهو ما تناثر ريشه وتكسر، يشير بذلك إلى الظليم وهو ذكر النعام. الخشف: ولد الظبية. الشث والطباق: نبتان طيبا المرعى، يغمران راعيهما ويشدان لحمهما، أي: كأنما حركوا بحركتهم إياي ظليما أو ظبية، والنعام والظباء مضرب المثل في سرعة العدو.
لا شيء أسرع مني ليس ذا عذر
…
وذا جناح بجنب الريد خفاق1
حتى نجوت ولما ينزعوا سلبي
…
بواله من قبيض الشد غيداق2
ولا أقول إذا ما خلة صرمت
…
يا ويح نفسي من شوق وإشفاق3
لكنما عولي إن كنت ذا عول
…
على بصير بكسب الحمد سباق4
سباق غايات مجد في عشيرته
…
مرجع الصوت هدا بين أرفاق5
عاري الظنابيب، ممتد نواشره
…
مدلاج أدهم واهي الماء غساق6
حمال ألوية شهاد أندية
…
قوال محكمة جواب آفاق7
فداك همي وغزوي أستغيث به
…
إذا استغثت بضافي الرأس نفاق8
1 العذر جمع: عذرة، وهي ما أقبل من شعر الناصية على وجه الفرس. الريد: الشمراخ الأعلى من الجبل.
2 السلب: ما يسلب في الحرب. الواله: الذاهب العقل. الشد القبيض: الجري السريع. الغيداق: الكبير الواسع، يريد أنه نجا من بجيلة مسرعا كالواله، فيكون قد جرد من نفسه شخصا كاد يذهب عقله من سرعة الهرب والطلب.
3 صرمت: قطعت.
4 العول، بفتح الواو مع فتح العين وكسرها: مصدر بمعنى العويل، وهو رفع الصوت بالبكاء والاستغاثة، وبالكسر فقط جمع: عولة بفتح فسكون، أو بمعنى المعول عليه المستغاث به. بدأ في وصف الرجل الكامل يبكي فقد صداقته، أو الذي يعول عليه.
5 مرجع الصوت: يصبح آمرا ناهيا. هدا: رافعا صوته. الأرفاق: الرفاق، يصفه بأنه رئيسهم، يصدرون عن رأيه فيما يأمر وينهى.
6 الظنابيب جمع: ظنبوب، وهو حرف عظم الساق، جعلها عارية لهزالها. النواشر: عروق ظاهر الذراع. مدلاج: كثير سفر الليالي بطولها. الأدهم: الليل. واهي الماء: مطره شديد أي: إن سحابه لا يمسك الماء، الغساق: الشديد الظلمة وهما نعتان للأدهم. يقول: يدلج في الليل الممطر المظلم، فهو ذو عزم وجرأة.
7 المحكمة: الكلمة الفاصلة. جواب آفاق: صاحب أسفار وغزو.
8 غزوي: مقصدي، من الغزو وهو القصد. ضافي الرأس: كثير الشعر. نفاق ونغاق بمعنى.
كالحقف حدأه النامون قلت له
…
ذو ثلثين وذو بهم وأرباق1
وقلة كنان الرمح بارزة
…
ضحيانة في شهور الصيف محراق2
بادرت قنتها صحبي وما كسلوا
…
حتى نميت إليها بعد إشراق3
لا شيء في ريدها إلا نعامتها
…
منها هزيم ومنها قائم باق4
بشرثه خلق يوقي البنان بها
…
شددت فيها سريحا بعد إطراق5
بل من لعذالة خذالة أشب
…
حرق باللوم جلدي أي تحراق6
يقول أهلكت مالا لو قنعت به
…
من ثوب صدق ومن بز وأعلاق7
عاذلتي إن بعض اللوم معنفة وهل متاع وإن أبقيته باق
إني زعيم لئن لم تتركوا عذلي
…
أن يسأل الحي عني أهل آفاق
1 الحلقب: ما أعوج من الرمل: وحدأة النامون: أي صلبوه بدوسهم إياه وصعودهم عليه والناموس من نما بمعنى صمد وارتفع: والثلة القطعة من الغنم. وإليهم أولاد الشاة: والأرباق جمع ربق بكسر فسكون. وهو حبل يجعل كالحلقة يشد به صغار الغنم لئلا ترضع، شبه تلبد شعر الاعي النفاق بالحفف الذي لبده النامون عليه. ثم يقول له: أنت ذو ثلتين مالك وللحرب، يحقرة بذلك.
2 القلة: أعلى الجبل. ضحيانة: بارزة الشمس. محراق: يحرق من فيها.
3 القنة والقلة بمعنى: أراد أعلى جزء فيها. نميت: ارتفعت، يريد أنه سبقهم وهم على جد.
4 الريد: أعلى الجبل. النعامة: خشبات تكون في أعلى الجبل يأوي إليها الربيئة وهو العين والطليعة في القتال، هزيم: منكسر.
5 بشرثة خلق: يقول: صعدت إلى هذه القنة بنعل مزق. السريح: السيور تشد بها النعل. الإطراق: أن يجعل تحت النعل مثلها.
6 العذالة: الكثير العذل. الخذالة: الذي يكثر خذلان صاحبه. والأشب: المخلط المعترض، يريد من يعينني على هذا العدالة.
7 ثوب صدق: مقابل ثوب سءو. عني به الجيد. والبز: الثياب أو السلاح الأعلاق: كراثم الأموال يريد أنه يأمره، بالبخل وإمساك ماله.
أن يسأل القوم عني أهل معرفة
…
فلا يخبرهم عن ثابت لاق1
سدد خلالك من مال نجمعه
…
حتى تلاقى الذي كل امرئ لاق2
لتقرعن علي السن من ندم
…
إذا تذكرت يوما بعض أخلاقي
والصعلوك أنوف يسلب ولا يطلب، وهو يفضل أن يستف تراب الأرض على أن تكون لأي إنسان يد في عنقه. وهو يجوع، ولكنه يقتل الجوع بالصبر عليه.. وإنها لتجربة شعورية عجيبة أن يميت الإنسان الجوع بإطالة مدى الجوع!! ولولا أنفة الصعلوك لعاش في بحبوحة من العيش، ولكنها نفسه الحرة التي لا تقبل الضيم ولا ترضى المذلة.
ولنستمع إلى الشنفرى وهو يصور كل ذلك، فيقول:
أديم مطال الجوع حتى أميته
…
وأضرب عنه الذكر صفحا فأذهل
وأستف ترب الأرض كيلا يرى له
…
علي من الطول امرؤ متطول
ولولا اجتناب الذم لم يلف مشرب
…
يعاش به إلا لدي ومأكل
ولكن نفسا حرة لا تقيم بي
…
على الضم إلا ريثما أتحول
وقد كانت الصلات بين القبائل العربية قائمة على التنافس والتربص وانتهاز الفرص للظفر بمال أو شرف، وهذا هو ما نراه بين الدول في كل العصور
…
فهو تنافس في السيادة والاستعمار وكسب الأسواق التجارية ومناطق المواد الأولية، وليس الصراع بين الدول الحديثة إلا صورة لما كان بين القبائل البدوية القديمة، فالأسباب واحدة وإن اختلفت الوسائل واتسعت الميادين.
هذا التنافس يرجع بين القبائل الجاهلية إلى عاملين رئيسين: مادي، وأدبي، فهو إما طمع في إبل أو مرعى أو بئر أو حمى أو فرس أو متاع ما، وإما رغبة
1 معنفة: عنف. زعيم: كفيل وضمين. ثابت: هو تأبط شرا.
2 الخلال جمع: خلة، وهي الحاجة والفقر، يقول: سد بمالك فقرك حتى تلاقي الموت، والخلال: الخصال.
في رياسة أو أخذ بثأر أو اعتزاز بنفس أو مفاخرة بقوة أو غضب لجار أُهِين أو عهد نُقِض أو مجاراة لسفيه.
تلك الأسباب تركت الجزيرة العربية دائمة الغارات أو الحروب، لا تعدم في ناحية من نواحيها غارة مشنونة، أو صراعا بشعا يستمر أياما بل شهورا، وصارت حياة الناس رخيصة تذهب بسبب كلمة أو هفوة أو بلا سبب سوى السفاهة والعبث1. وأيام العرب الكبيرة كثيرة تجاوزت الألف بكثير سوى المغاورات الصغيرة.
ويجب أن نشير إلى أن أشعار الأيام وحوادثها قد دخلها التزيد والمبالغة؛ استجابة لدواعي العصبية وما تقتضيه طبيعة القصص من تهويل وتجميل، ومع ذلك فثمة قسط يمكن أن يوصف بالصحة استنادا إلى الطابع الفني الجاهلي، أو صحة روايته أو اتصاله بما يؤيده من أخبار وشواهد وثيقة.
وشعر الأيام فنون شتى تشمل الفخر والحماسة والمديح والرثاء ووصف المعارك الحربية والإشادة بشجاعة الشجعان وصبرهم وثباتهم، سواء كانوا من قوم الشاعر أو من أعدائهم وغير ذلك من المعاني، إلا أن هذه الألوان جميعها تخضع لهدف رئيسي واحد وهو مكانة القبيلة وقوتها ونفوذها وسلطانها بين القبائل الأخرى، فهو إذًا -مع بعض التجاوز- شعر السياسة الخارجية للقبيلة.
وقد ذكرنا في صدر هذا الفصل أطرافا من أيام الحجازيين في الجاهلية، مستشهدين بشيء مما قيل فيها من شعر في بعض الأحيان، وسنشير هنا إلى طائفة من الأشعار التي صبغتها الأيام بصبغة خاصة؛ ففي يوم بعثات قال قيس بن الخطيم قصيدته الحماسية التي مطلعها:
أتعرف رسما كاطراد المذاهب
…
لعمرة وحشا غير موقف راكب
وفيها يفتخر قيس أنه من دعاة السلام، وأنه لا يبعث الحرب ظالما، ولكن إذا ما أبى الأعداء إلا الحرب أشعل نيرانها في كل جانب:
1 الشعر السياسي ص38.
دعوت بني عوف لحقن دمائهم
…
فلما أبوا سامحت في حرب حاطب
وكنت امرأ لا أبعث الحرب ظالما
…
فلما أبوا أشعلتها من كل جانب
ويمضي في وصف معركة بعاث، وكيف هرب أعداؤهم رجالا ونساء، وكيف ردوا بني عوف على أعقابهم إلى ذرا الآطام، وظهور المشارب، وكيف رجع المنتصرون إلى أبنائهم ونسائهم تاركين القتلى والجرحى، ومن يعاني ذل الإسار من خصومهم المنهزمين:
ويوم بعاث أسلمتنا سيوفنا
…
إلى نسب في جذم غسان ثاقب
يعرين بيضا حين نلقى عدونا
…
ويغمدن حمرا ناحلات المضارب
أطاعت بنو عوف أميرا نهاهم
…
عن السلم حتى كان أول واجب
أويت لعوف إذ تقول نساؤهم
…
ويرمين دفعا ليتنا لم نحارب
صبحناهم شهباء يبرق بيضها
…
تبين خلاخيل النساء الهوارب
أصابت سراة ملأ غر سيوفنا
…
وغودر أولاد الإماء الحواطب
فلولا ذرا الآطام قد تعلمونه
…
وترك الفضا شوركتم في الكواعب
فلم تمنعوا منا مكانا نريده
…
لكم محرزا إلى ظهور المشارب
فهلا لدى الحرب العوان صبرتم
…
لوقعتنا واليأس صعب المراكب
ظأرناكم بالبيض حتى لأنتم
…
أذل من السقبان بين الحلائب
فليت سويدا راء من جر منكم
…
ومن فر إذ يحدونهم كالجلائب
فأبنا إلى أبنائنا ونسائنا
…
وما من تركنا في بعاث بآئب1
وقد أجابه عبد الله بن رواحة بقوله:
إذا عيرت أحساب قوم وجدتنا
…
ذوي نائل فيها كرام المضارب
نحامي على أحسابنا بتلادنا
…
لمفتقر أو سائل الحق راغب
بخرس ترى الماذي فوق جلودهم
…
وبيضا نقاء مثل لون الكواكب
1 واجب: ميت. المشارب: الغرف. ظأرناكم: عطفناكم على ما نريد. السقبان جمع: سقب، وهو الذكر من أولاد الإبل.
وفي يوم "الربيع" من أيام الأوس والخزرج، قال حسان بن ثابت قصيدته الرائعة التي مطلعها:
لقد هاج نفسك أشجانها
…
وعاودها اليوم أديانها
وفيها يقول:
ويثرب تعلم أنا بها
…
إذا التبس الأمر ميزانها
ويثرب تعلم أنا بها
…
إذا قحط القطر نوآنها
ويثرب تعلم أنا بها
…
إذا خافت الأوس جيرانها
ويثرب تعلم أن النبيت
…
عند الهزاهز ذلانها
متى ترنا الأوس في بيضنا
…
نهز القنا تخب نيرانها
وتعط القياد على رغمها
…
وينزل من الهام عصيانها1
ويمكننا أن نعتبر قصيدة حسان لخفتها وعذوبة بحرها وروحها الحماسية الدافقة "نشيد الخزرج" الوطني، كما تعتبر قصيدة قيس بن الخطيم التي يرد بها على حسان للأسباب ذاتها "نشيد الأوس" القومي، ونحن لا نستبعد أن شبان الأوس كانوا ينشدونها جماعات في نواديهم وسوامرهم كما ينشد الشبان وطلاب المدارس اليوم الأناشيد الحماسية. وكذلك كان يهزج شبان الخزرج بنشيد حسان ومطلع قصيدة قيس:
أجد بعمرة غنيانها
…
فتهجر أم شأننا شأنها
وفيها يقول:
ونحن الفوارس يوم الربيع
…
قد علموا كيف فرسانها
رددنا الكتيبة مغلولة
…
بها أفنها وبها ذانها
وقد علموا أن متى ننبعث
…
على مثلها تذك نيرانها
1 ديوان حسان ص416. ميزانها: قوامها. نوآنها جمع: نوء أي: كنا مطرها. النبيت: هو عمرو بن مالك بن الأوس. الهزاهز: الحروب والشدائد. ذلانها أي: أذلاؤها. البيض: السلاح. تخب: تسكن. يقول: متى رأتنا الأوس محفزين، استخذت وزال الجموح من رءوسها.
ولولا كراهة سفك الدماء
…
لعاد ليثرب أديانها
ويثرب تعلم أن النبيت
…
رأس بيثرب ميزانها
حسان الوجوه حداد السيو
…
ف يبتدر المجد شبابها1
7-
ومن المعروف في التاريخ أنه نشأت بالشام دولة الغساسنة وبالحيرة دولة المناذرة، ونحن لا يعنينا من أمر هاتين الدولتين أو الإمارتين إلا ما كان من اتصال النابغة الشاعر الحجازي بهما، وما لابس ذلك من شعر سياسي.
فقد اتصل النابغة بملوك الحيرة ومدحهم وطالت صحبته للنعمان بن المنذر فقربه، واتخذه نديما له وصديقا حتى وشى به عند النعمان أحد بطانته فهمّ بقتله، ولكن عصاما حاجب النعمان أسرّ إلى النابغة بالأمر فهرب النابغة إلى الغساسنة المنافسين المناذرة، ومدح عمرو بن الحارث الأصغر وأخاه النعمان؛ ولذلك اشتد سخط النعمان بن المنذر على النابغة؛ فأخذ هذا يعتذر إليه حتى رضي عنه وأعاده إلى منزلته عنده.
ربما صحت الرواية القائلة بغضب النعمان بن المنذر على شاعره بسبب الوشايات، وربما كانت المسألة أن مر النابغة بالغساسنة فمدحهم -وكان ذلك بتدبير الغساسنة؛ لحسدهم المناذرة على هذا الشاعر العظيم- فغضب النعمان لذلك، واستغلها الوشاة عنده حسدا للنابغة فعاد هذا يعتذر، وسواء كان هذا أم ذلك، فالأمر لا يخلو من استغلال النابغة لما بين الإمارتين من تنافس، أو استغلال الإمارتين شعر النابغة، فأضفى ذلك عليه صفة السياسة وجعل له قيمة ممتازة في سبيل هاتين الدولتين، أو في سبيل ملوكهما على أقل تقدير.
ويظهر لنا أن هناك أمورا أخرى لابست هذه المسألة فعقدتها؛ كتفوق النابغة شاعر المناذرة على حسان شاعر الغساسنة، وكجودة الشعر الذي قاله النابغة في آل حسان،
1 أجد: استمر. غنيانها: استغناؤها. الربيع: الجدول الصغير. الأفن: نقص العقل. الذان: العيب. الأديان جمع: دين أي: الأمور التي تعرفها. راجع ديوان قيس صـ7 وهو مخطوط.
وكذكره يوم حليمة، وهو للحارث بن جبلة الغساني ملك الشام على المنذر بن ماء السماء ملك الحيرة. ثم تعددت قصائد النابغة في ملوك الشام مما يجعل المسألة -فيما يظهر- أن شعر النابغة قسّم نفسه بين الإمارتين وإن حنّ إلى الحيرة، ولا شك أن شعر النابغة يؤرخ إلى حد كبير موقف الإمارتين معا، وصلة النابغة منهما، وقيمة شعره ومكانته في هذه البيئة العربية القديمة. يقول في مدح عمرو بن الحارث الأصغر الغساني من قصيدة:
إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم
…
عصائب طير تهتدي بعصائب
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
…
بهن فلول من قراع الكتائب
تُوُورثن من أيام يوم حليمة
…
إلى اليوم قد جربن كل التجارب
ويعتذر إلى النعمان بقوله:
أنبئت أن أبا قابوس أوعدني
…
ولا قرار على زأر من الأسد
مهلا فداء لك الأقوام كلهم
…
وما أثمر من مال من ولد
وقد قلنا فيما مضى باختلاف النعمان بن المنذر والنابغة الذبياني في تفسير مدائح النابغة في ملوك الشام؛ فالنعمان فسره تفسيرا سياسيا عاما، إذ هو التجاء إلى خصم منافس وتقوية لشأنه وبخاصة عقب انتصار الشام على الحيرة، ولكن النابغة فسره تفسيرا شخصيا قريبا بأنه شكر على صنيع ينهض به جميع الشعراء، ولا شك أن النابغة لم يخل سلوكه مطلقا من السياسة الشامية الحيرية، فكان شعره سياسيا لذلك1.
فإذا نظرنا إلى علاقة الغساسنة بالقبائل، وجدنا في ديوان النابغة وغيره صورا شعرية لهذا العلاقة السياسية، وحين غزا النعمان بن الحارث الغساني بني جن من عذرة -على غير رأي النابغة الذبياني- التحم قوم النابغة ببني جن والتقوا مع آل غسان، فهزموهم وحازوا على ما معهم من الغنائم، فقال النابغة في ذلك:
لقد قلت للنعمان يوم لقيته
…
يريد بني جن ببرقة صادر
1 راجع تاريخ الشعر السياسي ص49، 50.
تجنب بني جن فإن لقاءهم
…
كريه وإن لم تلق إلا بصابر
عظام اللهى أولاد عذرة إنهم
…
لهاميم يستلهونها بالحناجر
هم منعوا وادي القرى عن عدوهم
…
بجمع مبير للعدو المكاثر
وسائر القصيدة تصوير لقوة هذه القبيلة وسلطانها وآثارها الحماسية، مما يدل على أن قلب النابغة كان معها على الغسانيين؛ ولا غرو فقد كان النابغة من مادحي العذريين1. وسنتحدث بتفصيل ما عن شعر النابغة السياسي عندما نعرض لترجمته إن شاء الله.
8-
وقد آن لنا بعد ذلك أن نتحدث عن الشعر السياسي بمكة حيث قامت حكومة قريش. ولسنا بحاجة هنالك إلى أن نعيد القول في الظروف السياسية التي أحاطت بنشأة "الحكومة المكية" ولا في العوامل المختلفة التي ساعدت على نموها وتطورها حتى تسامق ذلك الكيان السياسي لقبيلة قريس، التي اجتمعت لها خصائص دينية وأدبية واقتصادية واجتماعية لم تتوافر لغيرها من القبائل. فقد استوعبنا ذلك في باب الحياة السياسية، ولا سيما الفصل الخاص "بطبيعة الحكم في الحجاز"، وإنما نريد هنا أن نلقي ضوءا يسيرا على هذا الشعر الذي قيل في سبيل هذه الدولة الفنية، وتثبيت كيانها والدفاع عن حوزتها أو في نقدها وتجريحها وتهديدها.
وقد علمنا -فيما مضى- أن قصيا احتال على أبي غبشان الذي كانت بيده مفاتيح الكعبة، فاستاءت خزاعة لذلك فقامت الحرب بينها وبين قريش، واستنجد قصي بأخيه رزاح بن كلاب فنصره على خزاعة وحلفائها، وآزره حتى كسب المعركة واستقام له الأمر، وينسب لرزاح في تصوير هذه الحادثة قوله:
لما أتاني من قصي رسول
…
فقال الرسول أجيبوا الخليلا
نهضنا إليه نقود الجياد
…
ونطرح عنا الملول الثقيلا
1 المرجع السابق ص52، 53.
فهن سراع كورد القطا
…
يجبن بنا من قصي رسولا
فلما انتهينا إلى مكة
…
أبحنا الرجال قبيلا قبيلا
قتلنا خزاعة في دارها
…
وبكرا قتلنا وجيلا فجيلا
كما ينسب إلى قصي بن كلاب قوله:
أنا ابن العاصمين بني لؤي
…
بمكة منزلي وبها ربيت
إلى البطحاء قد علمت معد
…
ومروتها رضيت بها رضيت
فلست لغالب إن لم تأثل
…
بها أولاد قيذر والنبيت
وقد أسلفنا الحديث فيما سبق عن حلف الفضول1، ذلك الحلف الذي عقدته قريش بدار ابن جدعان على ألا يظلم بمكة قريب ولا غريب، وأن يكونوا على المظلوم حتى ينتصفوا ولو من أنفسهم
…
وفي هذا الحلف العظيم الذي يعتبر قوة لها خطرها في سبيل الأمن الداخلي، يقول الزبير بن عبد المطلب الذي يقال: إنه أول من دعا إليه:
حلفت لنعقدن حلفا عليهم
…
وإن كنا جميعا أهل دار
نسميه الفضول إذا عقدنا
…
يعز به الغريب لدى الجوار
ويعلم من حوالي البيت أنا
…
أباة الضيم نهجر كل عار
وقد ذكرنا فيما سبق بعض الأشعار التي قيلت في أيام قريش كيوم شرب أو يوم عكاظ وهو لكنانة وقريش على هوازن وحلفائها
…
ومن طريف ما حدث في هذا اليوم أن مسعودا الثقفي ضرب على امرأته سبيعة بنت عبد شمس أم بنيه خباء، ثم رآها تبكي حين تدانى الناس. فقال لها: ما يبكيك؟ فقالت: لما يصاب غدا من قومي، فقال لها: من دخل خباءك فهو آمن. فجعلت توصل فيه القطعة بعد القطعة، والخرقة والشيء ليتسع فخرج وهب بن متعب حتى وقف عليها، وقال لها: لا يبقى طنب من أطناب هذا البيت إلا ربطت به رجلا من بني كنانة، فنادت بأعلى صوتها: إن وهبا يأتلي ويحلف ألا يبقى طنب من أطناب هذا البيت إلا ربط به رجلا من كنانة، فالجد الجد. فلما هزمت
1 راجع ما سبق من هذا الكتاب.
قيس لجأ نفر منهم إلى خباء سبيعة بنت عبد شمس حتى أخرجوها منه فخرجت فنادت: من تعلق بطنب من أطناب بيتي فهو آمن في ذمتي
…
فداروا بخبائها حتى صاروا حلقة، فأمضى ذلك كله حرب بن أمية لعمته، فكان يضرب في الجاهلية بمدار قيس المثل، ويعيرون بمدارهم يومئذ بخباء سبيعة بنت عبد شمس. وفي هذا اليوم يرتفع صوت الشاعر القرشي ضرار بن الخطاب الفهري فيقول:
ألم تسأل الناس عن شأننا
…
ولم يثبت الأمر كالخابر
غداة عكاظ إذا استكمل
…
هوازن في لفها الحاضر
وجاءت سليم تهز القنا
…
على كل سلهبة ضامر
وجئنا إليهم على المضمرات
…
بأرعن ذي لجب زاخر
فلما التقينا أذقناهم
…
طعانا بسمر القنا العاثر
ففرت سليم ولم يصبروا
…
وطارت شعاعا بنو عامر
وفرت ثقيف إلى لاتها
…
بمنقلب الخائب الخاسر
وقاتلت العنس شطر النها
…
ر ثم تولت مع الصادر
على أن دهمانها حافظت
…
أخيرا لدى دارة الدائر
وفي هذا اليوم يعترف شاعر هوازن خداش بن زهير بالهزيمة، ويشير بصولة قريش التي كان حدها يفلق الصخر فيقول:
أتتنا قريش حافلين بجمعهم
…
عليهم من الرحمن واق وناصر
فلما دنونا للقباب وأهلها
…
أتيح لنا ريب مع الليل فاجر
أتيحت لنا بكر وحول لوائها
…
كتائب يخشاها العزيز المكاثر
جثت دونهم بكر فلم تستطعهم
…
كأنهم بالمشرفية سامر
وما برحت خيل تثور وتدعي
…
ويلحق منهم أولون وآخر
لدن غدوة حتى أتى وانجلى لنا
…
عماية يوم شره متظاهر
وما زال الدأب حتى تخاذلت
…
هوازن وارفضت سليم وعامر
وكانت قريش يفلق الصخر حدها
…
إذا أوهن الناس الجدود العواثر1
1 الأغاني 19/ 79، 80 ساسي.
وفي أعقاب يوم الحريرة الذي كان لقيس على كنانة وقريش، بكت الشاعرة الحجازية أميمة بنت أمية بن عبد شمس عشيرتها، ومن قتل من قومها بشعر نسب إليها، تقول فيه:
أبى ليلك لا يذهب
…
ونيط الطرف بالكوكب
ونجم دونه الأهوال
…
بين الدلو والعقرب
وهذا الصبح لا يأتي
…
ولا يدنو ولا يقرب
بعقر عشيرة منا
…
كرام الخيم والمنصب
أحال عليهم دهر
…
حديد الناب والمخلب
فحل بهم وقد أمنوا
…
ولم يقصر ولم يشطب
وما عنه إذا ما حل
…
من منجى ولا مهرب
ألا يا عين فابكيهم
…
بدمع منك مستغرب
فإن أبك فهم عزي
…
وهم ركني وهم منكب
وهم أصلي وهم فزعي
…
وهم نسبي إذا أنسب
وهم مجدي وهم شرفي
…
وهم حصني إذا أرهب
وهم رمحي وهم ترسي
…
وهم سيفي إذا أغضب
فكم من قائل منهم
…
إذا ما قال لم يكذب
وكم من ناطق فيهم
…
خطيب مصقع معرب
وكم من فارس فيهم
…
كمي معلم محرب
وكم من مدره فيهم
…
أريب حوله مغلب
وكم من جحفل فيهم
…
عظيم النار والموكب
وكم من خضرم فيهم
…
نجيب ماجد منجب1
1 الأغاني 19/ 82 ساسي.
9-
وقد سجل الحجازيون في أشعارهم بعض الحوادث الجلى التي انتابتهم، ومن ذلك حادثة الفيل التي ذكرها القرآن الكريم؛ فقد أراد أبرهة ملك الحبشة غزو مكة وهدم البيت الحرام، وسار بجيشه وكتائبه العظيمة حتى وصلوا المغمس، وبعث القائد الحبشي رسولا إلى مكة يطلب زعيمها، وكان إذ ذاك عبد المطلب بن هاشم، فانطلق حتى أتى معسكر الأحباش، وهناك سأله أبرهة حاجته، فقال للترجمان: حاجتي أن يرد الملك علي مائتي بعير أصابها لي. فقال أبرهة للترجمان: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني! أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه؟! فأجابه عبد المطلب:"إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربا سيمنعه ويحميه".
ورجع عبد المطلب إلى قريش، وأنبأهم بعزم الطاغية على هدم بيت الله الحرام، وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعف الجبال والشعاب، ثم أخذ بحلقة باب الكعبة يدعو الله أن ينصرهم ومعه نفر من قريش، وكان يهتف بالأبيات المشهورة: لاهم إن العبد
…
إلخ. وطلع الصباح، وتحرك جيش الأحباش تتقدمه الفيلة متجهة نحو الكعبة ما عدا كبيرهم، فقد ظل جامدا في مكانه وأبى أن يتحرك في الطريق إلى مكة، فإذا وجهوه إلى اليمن أسرع وهرول.
وحلت عليهم نقمة الله الذي صرفهم عن بيته بالطير الأبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، حتى جعلهم كعصف مأكول. ولعل تلك الطير أول قاذفات قنابل جاءت إلى العالم لم يصنعها إنسان ليفتك بأخيه الإنسان، ولكن صنعها العزيز القهار ليحطم بها قوى الظلم والعدوان.
وحادثة الفيل حادثة لها خطرها في تاريخ الحجازيين خاصة، والعرب عامة. وقد هزت الكيان القومي، لا للمكيين وحدهم، وإنما للعرب أجمع، فإن البيت الحرام
يعتبر رمزا للوحدة العربية، وشعارا لحرية العرب، وما غزو أبرهة له إلا محاولة للقضاء على هذه الحرية وتلك الوحدة. ولا غرو إذا ما هتف شعراء الحجاز بالقصيد، يصبون جام غضبهم على المعتدي الأثيم، ويهزجون بأهازيج النصر.
وفي هذه الحادثة يقول أبو قيس بن الأسلت من شعراء يثرب:
ومن صنعه يوم فيل الحبو
…
ش إذ كلما بعثوه رزم
محاجنهم تحت أقرابه
…
وقد كلموا أنفه فانخرم
وقد جعلوا سوطه معولا
…
إذا يمموه قفاه كلم
فولى وأدبر أدراجه
…
وقد باء بالظلم من كان لمم
فأرسل من فوقهم حاصبا
…
يلفهم مثل لف القزم1
تحض على الصبر أحبارهم2
…
وقد ثأجوا كثؤاج الغنم3
ويقول أيضا:
قوموا فصلوا ربكم وتعوذوا
…
بأركان هذا البيت بين الأخاشب
فعندكمو منه بلاء مصدق
…
غداة أبي يكسوم هادي الكثائب
فلما أجازوا بطن نعمان ردهم
…
جنود الإله بين ساف وحاصب
فولوا سراعا نادمين ولم يؤب
…
إلى أهله م الحبش غير مصائب4
وقد روى المؤرخون أن أبرهة حينما حل بأرض خثعم وهو في طريقه إلى مكة، عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي في قبيلي خثعم: شهران، وناهس
1 رزم: ثبت ولزم موضعه. والقزم، بالتحريك: صغار الغنم.
2 ورواية الأزرقي: يحث على الطير أجنادهم.
3 ثؤاج الغنم: صوتها. راجع بلوغ الأرب 1/ 158-259، والحيوان 7/ 196، وأخبار مكة 1/ 97.
4 الحيوان 7/ 197.
ومن تبعه من قبائل العرب، وقاتله ليصرفه عن هدم الكعبة، فقد رأى نفيل -كما رأى ذو نفر من قبل- أن جهاده هذا الطاغية حق مقدس في عنقه، إلا أن أبرهة هزمه وأسره، فلما همّ بقتله قال له نفيل: أيها الملك لا تقتلني؛ فإني دليلك بأرض العرب، فخلى سبيله وصحبه معه يدله على الطريق.
ورووا عن نفيل هذا شيئا عجيبا، وهو أن الأحباش لما وجهوا الفيل إلى مكة، أقبل عليه نفيل ثم أخذ بأذنه وقال: ابرك محمود -وهذا اسم الفيل- وارجع راشدا من حيث جئت؛ فإنك في بلد الله الحرام، ثم أرسل أذنه فبرك الفيل
…
وأصعد نفيل في الجبل، وكان ما كان من أمر هلاكهم، ولما فاجأتهم تلك الغارات الجوية الإلهية خرجوا هاربين فزعين، يسألون عن نفيل ليدلهم على الطريق إلى اليمن، وفي ذلك يقول نفيل:
ألا حييت عنا يا ردينا
…
نعمناكم مع الإصباح عينا
ردينة لو رأيت فلا تريه
…
لدى جنب المحصب ما رأينا
إذن لعذرتني وحمدت أمري
…
ولم تأسي على ما فات بينا
حمدت الله إذ أبصرت طيرا
…
وخفت حجارة تلقى علينا
وكل القوم يسأل عن نفيل
…
كأن علي للحبشان دينا1
10-
وقد كان زعماء الحجاز وأدباؤه يتفاعلون مع الأحداث العظيمة التي تنتاب البلاد العربية. ولما جلا الأحباش عن اليمن أقبلت وفود قريش على سيف بن ذي يزن تهنئه بالنصر العظيم، مما يشعرنا بوثاقة الروابط بين أجزاء الجزيرة العربية. كما أن أمية بن أبي الصلت الشاعر الحجازي يشيد بما أحرزه سيف من انتصار، موثقا أواصر الوحدة العربية. ولنستمع إليه وهو يقول:
1 بلوغ الأرب 1/ 252، 255-257. المحصب: موضع بمكة. بينا: مصدر بان، يبين.
لله درهم من عصبة خرجوا
…
ما إن ترى لهم في الناس أمثالا1
بيضا مرازبة غرا جحاجحة
…
أسدا تربب في الغيضات أشبالا2
لا يرمضون إذا حرت مغافرهم
…
ولا ترى منهم في الطعن ميالا3
أمن مثل كسرى وسابور الجنود له
…
أو مثل وهرز يوم الجيش إذ صالا4
1 رواه ابن هشام في السيرة 1/ 67، وفي التيجان 305-307، والأزرقي 1/ 93، والعقد 2/ 23 وغيرهم كثير، والاختلاف في روايتها وفي ترتيبها شديد.
2 بيض: لم يعنِ بياض الألوان، إنما عنى نقاء الأعراض والشيم مما يعيبها. ومرازبة جمع مرزبان "بفتح الميم وسكون الراء وضم الزاي": معرب من الفارسية، وهو عندهم رئيس القوم الفارس الشجاع المقدم عليهم دون الملك. غر: جمع أغر، وهو الأبيض الوجه المتلألئ المضيء. وجحاجحة جمع جحجاح، وهو السيد الكريم. تربب: تربى وترعى وتحفظ. والغيضات جمع غيضة وهي الأجمة. والأشبال جمع شبل، وهو ولد الأسد إذا شب وبلغ الصيد.
3 رمض الرجل "بكسر الميم" يرمض: إذا اشتد عليه الحر أو الوجع، فقلق وتململ. وحر الشيء يحر: سخن واشتدت حرارته. والمغافر جمع مغفر: زرد ينسج من حلق حديد على قدر الرأس، يلبسه المحارب تحت القلنسوة، ويسبغ على العنق فيقيه، وينزل إلى العاتقين. فإذا اشتد الحر وحميت الشمس آذى المحارب بحره. يقول: هم صبر في الحرب، فلا يضجرهم حر القتال، ولا حر الحديد من طول اعتيادهم. ميال: يميل عن سرج فرسه في شدة الحرب، جبنا أو فزعا.
4 يعني: من له من الناس ملوك وأبطال مثل هؤلاء. وكسرى ملك الفرس يومئذ أنوشروان، وسابور الجنود هو كسرى سابور ذو الأكتاف. وهرز: وهو الذي أرسله كسرى أنوشروان مع سيف بن ذي يزن، وملكه على اليمن لقتال الحبشة وإخراجهم.
فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا
…
في رأس غمدان دارا منك محلالا1
واضطم بالمسك إذ شالت نعامتهم
…
وأسبل اليوم في برديك إسبالا2
تلك المكارم لا قعبان من لبن
…
شيئا بماء فعادا بعد أبوالا3
11-
وقد ألف الناس في العصور الحديثة، بين حين وآخر، أن يطلع عليهم الصباح، فإذا دور الحكومات والبرلمانات وغيرها، قد ألصق بجدرانها عدد من المنشورات السياسية ضد السلطان القائم والحزب الحاكم
…
وكثيرا ما تصافح وجوه المواطنين كتابات معادية على القصور
…
التي بنيت من دماء الشعب، تعلن السخط والحقد
1 مرتفق: متكئ على وسادة وكذلك كانوا يفعلون في مجالس الملوك. وغمدان: قصر عظيم كان بصنعاء اليمن، كانت ملوكهم تنزله. ويقال: أرض محلال، إذا كانت سهلة لينة ممرعة خصيبة جيدة النبات، مختارة لنزول الناس، يكثرون الحلول بها لطيبها؛ يدعو له بالنعمة وطيب المنزل والرفاهية.
2 هكذا رواية ابن سلام: واضطم، وهي في حماسة البحتري صـ16: واضطم وكأنها خطأ وتحريف. وروى الأزرقي: والنط، وهذه روايات مشكلة، وسائر الروايات: واطل بالمسك ثم اطل. اضطمخ بالمسك وتضمخ: تلطخ به وتطيب.
وقوله: إذ شالت نعامتهم أي: ارتحلوا من منازلهم وتفرقوا أو ذهب عزهم ودرست طريقتهم. وأسبل ثوبه: طوله طولا وأرخاه وأرسله إلى الأرض إذا مشى، يفعل المرء كذلك كبرا واختيالا، وضمن أسبل معنى اختال؛ ولذلك عداه بحرف الجر في، كأنه قال له: سر مختالا في برديك، مرخيا من أذيالك بعد الذي فعلت وبلغت من النصر.
3 القعب: القدح الغليظ الجافي، من خشب مفعر، يرى الرجل. وشاب اللبن بالماء: خلطه ومزجه. يقول له: الذي فعلت هو المكارم والمآثر؛ إذ بلغت ما بلغت من عدوك، أما ما يتمدح به المتمدح من بذل شربة لبن إلى ضيف، فليس بمكرمة تذكر، راجع طبقات فحول الشعراء 218-220.
والنقمة عليها
…
وقد عرف الحجازيون في العصر الجاهلي هذا اللون من نقد السلطة الحاكمة والتشهير بها على الحيطان في شكل مصغر للمنشورات السرية أو السياسية، لنقد الحكومات في العصور الحديثة
…
ومن ذلك ما ذكروه من أن الناس في مكة قد أصبحوا ذات يوم، فإذا مكتوب على دار الندوة:
ألهى قصيا عن المجد الأساطير
…
ورشوة مثل ما ترشى السفاسير
وأكلها اللحم بحتا لا خليط له
…
وقولها رحلت عير، أتت عير1
فأنكر الناس ذلك، وقالوا: ما قالها إلا ابن الزبعرى! وأجمع على ذلك رأيهم، فمشوا إلى بني سهم -وكان مما تنكر قريش وتعاقب عليه أن يهجو بعضها بعضا- فقالوا لبني سهم: ادفعوه إلينا نحكم فيه بحكمنا. قالوا: وما الحكم فيه؟ قالوا: قطع لسانه. قالوا: فشأنكم، واعلموا والله أنه لا يهجونا رجل منكم إلا فعلنا به مثل ذلك، والزبير بن عبد المطلب يومئذ غائب نحو اليمن. فانتحت بنو قصي بينهم، فقالوا: لا نأمن الزبير إن بلغه ما قال هذا، أن يقول شيئا، فيؤتى إليه مثل ما نأتي إلى هذا وكانوا أهل تناصف، فأجمعوا على تخليته، فخلوه. فقال له الناس، وحملوه على قومه: أسلمك قومك ولم يمنعوك، ولو شاءوا منعوك! فقال:
لعمرك ما جاءت بنكر عشيرتي
…
وإن صالحت إخوانها لا ألومها
يود جناة الغي أن سيوفنا
…
بأيماننا مسلولة لا نشيمها2
1 قصي: أراد بني عبد مناف بن قصي، وفيهم كان الحكم والسلطان. والأساطير: أباطيل الأحاديث، ولعله أراد بها إخراج قصي خزاعة، وولايته البيت، وتجميعه لقبائل فهر، واتخاذه دار الندوة، ورياسته لها
…
إلخ. السفاسير: جمع سفسير، وهو السمسار الذي يدخل بين البائع والمشتري لإمضاء البيع. وقوله:"رحلت عير أتت عير" ينتقد به انغماسهم في الحياة التجارية.
2 النكر: الأمر المنكر القبيح. شام السيف: طله وأغمده، ضد، والمقصود هنا نغمدها. راجع طبقات فحول الشعراء 196-198.
وفي رواية أخرى لهذه الحادثة عن يونس عن ابن إسحاق أنهم "استعدوا عليه بني سهم، فأسلموه إليهم فضربوه، وحلقوا شعره، وربطوه إلى صخرة بالحجون، فاستغاث قومه فلم يغيثوه، فجعل يمدح قصيا ويسترضيهم، فأطلقه بنو عبد مناف منهم وأكرموه؛ فمدحهم بأشعار كثيرة"1.
وسواء صحت هذه الرواية أو تلك، فإن الذي يعنينا هنا هو الإشارة إلى أن هناك نوعا من النقد السياسي اصطبغ بصبغة أدبية أو شعرية، وهو الشعر الذي يمثل وجهة نظر المعارضة في الحكومة القائمة.
12-
وأقوى ما يكون الشعر السياسي، حين يتجه إلى الملوك والحكام المستبدين بالنقد والسخط، والغضب والحقد، والتهديد والوعيد، فيعلنها الشاعر الحر ثورة عارمة في وجوه الطغاة، ويشنّها عليهم حربا كلامية حامية الوطيس، مشتعلة الأوار.
وهذا اللون من الشعر ديدنه الحرية، والوقوف في وجه الطغيان، ولا غرو إذا ما تجاوبت معه النفوس في كل زمان ومكان؛ ذلك لأنه مبني على إنكار الذات، ويستند إلى عاطفة إنسانية عميقة الجذور في النفس البشرية.
وقد عرف الحجازيون في العصر الجاهلي هذا اللون من الشعر الثائر، والسخط على الطغاة المستبدين؛ لإبائهم وشممهم، ونفورهم من التحكم والاستبداد، بل إن منهم من بلغت به الجرأة أن يركب الهول، ويقتحم على الملك مخدعه غير عابئ بأسلحة الحراس التي يكمن فيها الموت الزؤام، فيعلو الظالم الغشوم بسيفه ويطعنه طعنة نجلاء تودي بحياته وتتركه مثلة للحاكمين الظالمين
…
ذلك هو مالك بن العجلان الخزرجي الذي فتك بالفطيون حاكم يثرب؛ لأنه اعتزم أن يرتكب الفحشاء مع أخته قبل أن تزف إلى زوجها.
1 الروض الأنف 1/ 94.
وقد سلفت هذه القصة أثناء حديثنا عن "الحكم في يثرب". وفي هذه الحادثة يقول بعض الشعراء الحجازيين:
هل كان للفطيون عقر نسائكم
…
حكم النصيب فبئس حكم الحاكم
حتى حباه مالك بمرشة
…
حمراء تضحك عن نجيع قاتم1
وهذا الشداخ بن عوف الكناني يشرع سيفه في وجه الملوك، ويصور إباء قومه وأنفتهم، فهم لا يسمحون لأي إنسان أن يستبد بمظلمة لهم سواء كان ملكا كبيرا أو صعلوكا صغيرا. وإذا ما ساورت أي مستبد نفسه أن يظلمهم فلن يرى إلا الرماح المشرعة، والسيوف الصارمة التي يأخذ العين لمحها كما يأخذها برق الصواعق. ولنستمع إليه وهو يقول:
أبينا فلا نعطي مليكا ظلامة
…
ولا سوقة إلا الوشيج المقوما
وإلا حساما يبرق العين لمحه
…
كصاعقة في غيث مزن تركما
وكان الشاعر الحجازي الحارث بن ظالم الذبياني أحد سراة بني مرة وأشرافهم، جريئا، فاتكا، فتك بخالد بن جعفر الكلابي وهو نازل على النعمان، بل فتك بابن النعمان نفسه، وكان في حجر أخته سلمى بنت ظالم المري.
وما أروع موقفه في قصيد ثائر، وهو يخاطب النعمان ويتهدده ويتوعده بالقتل، كما قتل خالد بن جعفر من قبل
…
وإن الشاعر هنا ليثور لجيران له أصابهم شر المليك، في إبلهم وأموالهم وأنفسهم
…
ويقسم أنه لولا ما يتحجب به الملك من الحجاب والحراس، لمزقه بسيفه الصارم. ولنستمع إليه وهو يقول:
قفا فاسمعا أخبركما إذ سألتما
…
محارب مولاه وثكلان نادم2
1 طعنة مرشة: واسعة، ذات رشاش من الدم. وراجع في هذه الحادثة ص152 من هذا الكتاب. واسم الفطيون مختلف فيه؛ أهو الفطيون أم الفيطون أم القيطون أم القيطور.
2 محارب مولاه، يقصد نفسه لأنه فيك بابن الملك. وثكلان نادم، يعني الملك لأنه فقد ولده.
فأقسم لولا من تعرض دونه
…
لخالطه صافي الحديدة صارم1
حسبت أبا قابوس أنك سالم
…
ولما تصب ذلا وأنفك راغم
فإن تك أذواد أصبن وصبية
…
فهذا ابن سلمى رأسه متفاقم2
علوت بذي الحيات مفرق رأسه
…
وهل يركب المكروه إلا الأكارم
فتكت به كما فتكت بخالد
…
وكان سلاحي تحتويه الجماجم
أخصيي حمار بات يكدم نجمة
…
أنأكل جيراني وجارك سالم؟ 3
بدأت بهذي ثم أثني بهذه
…
وثالثة تبيض منها المقادم
بل إن من الشعراء الحجازيين من يفخر بأنه جندل بسيفه الصارم كثيرا من الملوك، كما فعل فارس خزاعة في زمنه معاذ بن صرم الخزاعي، إذ يقول:
ولست برعديد إذا راع معضل
…
ولا في نوادي القوم بالضيق المسك
وكم ملك جدلته بمهند
…
وسابغة بيضاء محكمة المسك4
1 أي: لولا الحجاب والحراس الذين يحتمي بهم الملك، لقتله بسيفه.
2 الذود: الجماعة من الإبل، وهو يشير إلى ما كان من انتهاب إبل جار له. متفاقم: غير ملتئم. ويعني بابن سلمى، ابن الملك؛ لأنه كان في حجر سنان بن أبي حارثة، وسلمى زوجة سنان.
3 يكدم: يعض. نجمة: واحدة النجم، وهي النبت لا ساق له. يسب النعمان ويهدده ويقول له: يا خصيي حمار! أمن المعقول أن تأكل مال جيراني، ثم أترك جارك سالما؟
4 الرعديد: الجبان. المسك بضم الميم: العقل. جدله: رماه وصرعه على الجدالة أي: الأرض. السابغة: الدرع التامة الطويلة الوافرة. محكمة المسك: ضيقة الحلق.