الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الأول: العوامل المؤثرة في الأدب الحجازي
الباب الأول: الحياة السياسية-توطئة الجاهلية وتحديد العصر الجاهلي
مدخل
…
القسم الأول: العوامل المؤثرة في الأدب الحجازي
الباب الأول: الحياة السياسية
توطئة: الجاهلية وتحديد العصر الجاهلي
اختلف الباحثون في تحديد العصر الجاهلي؛ فمنهم من قال: إنه العصر الذي خلا من الرسل بين عيسى ومحمد1.
ومنهم من قال، وهو الحكم بن عيينة: إن الجاهلية كانت بين آدم ونوح، وهي ثمانمائة سنة2، وقال ابن عباس: ما بين نوح وإدريس3. ويرى بعض المفسرين أن المراد بالجاهلية في قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} الزمن الذي ولد فيه إبراهيم عليه السلام حيث كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ غير مخيط الجانبين، فتمشي وسط الطريق لتعرض نفسها على الرجال4. وروي عن ابن خالويه أن هذا اللفظ في الإسلام أُطلق على الزمن الذي كان قبل البعثة5.
ويرى نيكلسون، أن الجاهلية تشمل -في الحقيقة- كل الفترة منذ آدم إلى محمد، ولكنها قد تستعمل في دائرة محدودة للإشارة إلى عصر ما قبل الإسلام للأدب العربي6.
1 الموسوعة الإسلامية، مادة جاهلية.
2 الألوسي: بلوغ الأرب في أحوال العرب جـ1 ص17.
3، 4 القرطبي: الجامع لأحكام القرآن جـ14 ص179.
5 الألوسي: نفس المصدر جـ1 ص15.
6 راجع كتاب نيكلسون "تاريخ العرب الأدبي"، و"التاريخ الإسلامي العام" للدكتور علي إبراهيم حسن.
ويرى بعض الباحثين، أن الفترة التي سبقت ظهور الإسلام -وتقدر بنحو قرنين من الزمان- هي التي يطلق عليها العصر الجاهلي، أما ما سبق ذلك من أحداث، فتسمى "تاريخ العرب قبل الإسلام".
واختلفوا كذلك في معنى "الجاهلية" أهي مأخوذة من الجهل الذي هو ضد العلم، وهو عين ما وصفت به الأزمنة السابقة للنصرانية في الآية الثالثة عشرة من الإصحاح السابع من سفر أعمال الرسل؟ وقد ورد لفظ الجهل بهذا المعنى في أقوال الشعراء الجاهليين، كقول عنترة:
"إن كنت جاهلة بما لم تعلمي"
أم هي مأخوذة من الجهل الذي هو السفه والغضب والأنفة، كما يميل كثير من المؤرخين؟
على أننا إذا دققنا النظر في الآيات الأربع التي ورد فيها لفظ الجاهلية، تبين لنا أن هذا المعنى هو المقصود، وهذي هي الآيات:
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة: 50]، {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران: 154] ، {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح: 26] ، {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ} الأحزاب.
ويطلق لفظ الجاهلية على الحال التي كانت عليها العرب قبل بزوغ فجر الإسلام. يقول الدكتور "فيليب حتى": "تفسر كلمة الجاهلية عادة بعصر الجهل أو البربرية الهمجية Barbarism، ولكنها في الواقع تعني تلك الحقبة التي كانت فيها الجزيرة العربية خالية من أي قانون، أو نبي موحى إليه، أو كتاب منزل"1.
ويرى المستر "فيلبي" أن هذا العصر كان عصر مجادة وازدهار، وحياة تجارية وفكرية عظيمة، وأن العرب قد أجحفوا حين وسموا هذه الحقيقة الزاهية -من تاريخهم- بسمة "العصر الجاهلي"، وفي ذلك يقول:
1 Hitti: History of the Arabs، p. 87.
"
…
إنه قبل ظهور محمد عليه السلام بحوالي ألفي عام، كانت الجزيرة العربية قوة من القوى العظمى في العالم، لها مكانتها التجارية والثقافية العظيمة. ثم غدت مرة أخرى بعد انبثاق فجر الإسلام مركزا لإمبراطورية عالمية عظيمة، شعلة من العلم والمعرفة حية متقدة وسط عصور الظلام في أوروبا، ولكن الجزيرة العربية كانت -بعدئذٍ- قد نسيت ماضيها المجيد، وانصرفت عن تقدير ما حققته في عصورها التليدة، وأطلقت بكل كبرياء على تلك الفترة التي حققت فيها ماضي عظمتها الباكرة "اسم الجاهلي""1.
والذي نميل إليه، هو أن الجاهلية -في مدلولها الواسع- لا تطلق على الجهل الذي هو ضد العلم فقط، ولا على السفه والطيش والحمية وحسب، وإنما تشمل كل ما يجافي الروح الإسلامية من عقائد وأخلاق وعادات، كالربا وعبادة الأوثان، ونصرة الأخ ظالما ومظلوما، ووأد البنات. بيد أن المؤرخ خليق -حين يدرس العصر الجاهلي- أن تذكر ما يتعارض مع الإسلام من التقاليد والمعتقدات وألوان السلوك، وما لا يتعارض مع روحه ومبادئه، كحلف الفضول، وما عرف عن قريش من ختان الأولاد، وتكفين الموتى، والاغتسال من الجنابة، وتعففها في المناكح عن الأخت وبنت الأخت، مما أوجبه الإسلام.
أما فيما يختص بالأدب وتحديد مدة الشعر الجاهلي، فقد ظن كثير من الباحثين -قديما وحديثا- أن أقدم شعر جاهلي وصل إلينا كان قبل الهجرة بنحو 150 سنة إلى مائتي سنة. وفي طليعة هؤلاء، أبو عمرو الجاحظ، الذي يرى أن العرب تشارك العجم في البناء وتنفرد بالشعر، فبنت غمدان وكعبة نجران وقصري مارد وشعوب، والأبلق الفرد، كما بنت الأعاجم كرييداد، وبيضا إصطخر، وبيضا المدائن. والكتب -فيرأيه- أبقى من بنيان الحجارة وحيطان المدر؛ لأن من شأن الملوك أن يطمسوا على آثار من سبقهم، وأن يميتوا ذكر أعدائهم2.
1 The Baekgrsund of Jslam، p. 11.
2 الحيوان للجاحظ "جـ1/ 36، 37".
فالجاحظ يضع الشعر في تقدير العرب موضع البناء في تقدير العجم؛ لتخليد الآثار، والأمم عادة يتنبه فيها الوعي لتخليد آثارها منذ أن تستيقظ. ومعنى هذا أن الشعر العربي موغل في القدم، قدم الصحوة العربية الباكرة؛ لأنه الوسيلة الأولى لخلود الذكر عند العرب. وهذا يتنافى مع القول بأن عمر الشعر الجاهلي ما بين 150 سنة إلى مائتي سنة؛ إذ المعروف أن مدنية العرب وحضارتهم أقدم من ذلك بكثير
…
هذا إلى أن النمو الطبيعي للقصيدة العربية يستدعي أن تكون قد مرت بأطوار شتى في طرق التعبير والتصوير، وانتقلت من طور السجع إلى الرجز إلى الأوزان القصيرة الأخرى، فالأوزان الطويلة، ومن الحسي إلى المعنوي حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من الاكتمال سواء في ناحية الموسيقى والوزن أو ناحية البلاغة والبيان
…
ومن هنا كان رأي ثعلب، الذي نقله الأصمعي، من أن الشعر الجاهلي كان قبل الهجرة بنحو 400 سنة، أدنى إلى المعقول، والمنطق السليم
…
بل إن بعض الباحثين المحدثين -اعتمادا على حساب أجيال الأنساب "40 سنة للجيل الواحد"- قد وصل إلى أن أقدم شعر جاهلي كان قبل الهجرة بأكثر من ستمائة سنة، وأن أقدم المقطوعات ينسب لطي بن أدد في القرن السابع قبل الهجرة، وأن لقيطا الإيادي في قصيدته التي مطلعها:
يا دار عبلة من محتلها الجرعا
…
هاجت لي الهم والأحزان والوجعا
يعتبر ناظم أول قصيدة من الطوال. وفيها ينذر قومه ويحذرهم من زحف ملك الفرس "سابور ذي الأكتاف"، وقد قيلت هذه القصيدة في سنة 326م "296ق. هـ"1.
وديوان لقيط الأيادي -وهو مخطوط بدار الكتب- يعتبر -على الأرجح- أقدم دواوين الشعر الجاهلي2.
1 الأسس المبتكرة لدراسة الأدب الجاهلي ص118، 119.
2 ديوان الإيادي "ضمن مجموعة خطية برقم 41138، أدب".
أما في النثر، فنعتبر الأمثال المنسوبة أقدم فنون الأدب العربي، وأن منها ما ترجع أقدميته إلى القرن الثامن قبل الهجرة، أو القرن الثاني قبل الميلاد المسيحي، وذلك كالمثل الذي ينسبونه إلى أبي الحجازيين "إلياس بن مضر"، وهو:"السليم لا ينام ولا ينيم".
ومهما كانت قيمة هذه الآراء في ميزان التحقيق العلمي، فإن الأدب الجاهلي الذي وصل إلينا مكتملا سويا لا يمكن أن يكون حديث الميلاد لا يتجاوز عمره 150 عاما؛ فالقصيدة العربية أقدم ميلادا وأوغل في طوايا الزمن مما تصور الجاحظ، ومن نحا منحاه من النقاد
…
بيد أن أصول هذا الأدب وأطوار نموه "قد هربت منا -كما يقول "دي فرجيه"- لسوء الحظ، فهو حين يطلع علينا لأول وهلة، يطلع علينا من قلب الصحراء، تام الخلقة كما خرجت "منيرفا" من ذهن جوبتير"1.
1 راجع L،Arabie Par Desvergers، 472 تاريخ الشعر العربي البهبيتي ص5.