المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني: الخطب والوصايا - قصة الأدب في الحجاز

[عبد الله عبد الجبار]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات:

- ‌تمهيد: وصف عام للحجاز وبيئته الطبيعية والبشرية

- ‌القسم الأول: العوامل المؤثرة في الأدب الحجازي

- ‌الباب الأول: الحياة السياسية-توطئة الجاهلية وتحديد العصر الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: أهمية الحجاز في العصر القديم

- ‌الفصل الثاني: تاريخ الحجاز السياسي

- ‌الفصل الثالث: طبيعة الحكم في الحجاز في العصر الجاهلي

- ‌الباب الثاني: الحياة الاجتماعية لعرب الحجاز في العصر الجاهلي

- ‌الفصل الثالث: اللغة العربية في الحجاز

- ‌الباب الثالث: الحياة الدينية

- ‌الفصل الأول: معبودات الحجازيين وعاداتهم الدينية

- ‌الفصل الثاني: أشهر الأصنام في الحجاز

- ‌الباب الرابع: الحياة العقلية عند عرب الحجاز في العصر الجاهلي

- ‌الباب الخامس: شخصيات حجازية في العصر الجاهلي

- ‌القسم الثاني: الحياة الأدبية في الحجاز في العصر الجاهلي، النثر

- ‌الباب الأول: صورة عامة للنثر الحجازي في العصر الجاهلي

- ‌الباب الثاني: فنون النثر الحجازي في العصر الجاهلي

- ‌الفصل الأول: الحكم والأمثال

- ‌الفصل الثاني: الخطب والوصايا

- ‌الفصل الثالث: المحاورات والمفاخرات والمنافرات وسجع الكهان

- ‌الحياة الأدبية في الحجاز في العصر الجاهلي، الشعر:

- ‌الباب الأول: فكرة عامة عن الشعر الحجازي في العصر الجاهلي

- ‌الفصل الأول: نماذج هذا الشعر

- ‌الفصل الثاني: لمحة عامة عن الشعر الجاهلي

- ‌الباب الثاني: الشعر الحجازي بين الصحة والوضع

- ‌مدخل

- ‌ الشعر الحجازي في الميزان:

- ‌استدراكات ابن هشام على بن إسحاق

- ‌لامية تأبط شرا:

- ‌شعر أمية بن أبي الصلت الديني

- ‌دواوين القبائل الحجازية:

- ‌ديوان الهذليين:

- ‌طبعة دار الكتب:

- ‌الداواوين المفردة

- ‌ رواية ديوان النابغة:

- ‌رواية ديوان زهير:

- ‌الباب الثالث: فنون الشعر الحجازي في العصر الجاهلي

- ‌الفصل الأول: الشعر السياسي

- ‌أولا" أيام الحجازيين في الجاهلية:

- ‌ثانيا: صميم الشعر السياسي

- ‌الفصل الثاني: الشعر الحماسي

- ‌الفصل الثالث: الشعر اجتماعي

- ‌الفصل الرابع: الشعر الديني

- ‌الفصل الخامس: الشعر الغزلي

- ‌الفصل السادس: الشعر الهجائي

- ‌الفصل السابع: فنون شعرية أخرى

الفصل: ‌الفصل الثاني: الخطب والوصايا

‌الفصل الثاني: الخطب والوصايا

تمهيد:

الخطابة فن من فنون النثر، ولون من ألوانه، وهي فن مخاطبة الجمهور الذي يعتمد على الإقناع والاستمالة والتأثير، فهي كلام بليغ يلقى في جمع من الناس لإقناعهم برأي، أو استمالتهم إلى مبدأ، أو توجيههم إلى ما فيه الخير لهم في دنيا أو آخرة.

والخطابة ضرورية لكل أمة في سلمها وحربها؛ فهي أداة الدعوة إلى الرأي والتوجيه إلى الخير، ووسيلة الدعاة من الأنبياء والمرشدين، والزعماء والمصلحين، فهي ضرورة من ضرورات الحياة الاجتماعية والدينية والسياسية.

وإنما تقوى الخطابة ويرتفع صوتها في زمن الحرية، وفي ظلال الديمقراطية، حيث تستطيع الأمة أن تتنفس بآمالها ومشاعرها، وتنطلق من قيود الذل والظلم، إلى حيث تتكلم أفواهها بما تجيش به الخواطر، وتضطرم به النفوس، وتتجه إليه الآمال، ففي ظلال الحرية تتقارع الآراء، وتتصارع الأفكار، وتتنازع المبادئ، وتتنافس المذاهب، وتتعدد الخصومات، وفي ذلك كله غذاء للخطابة ومدد لها وداعٍ إليها.

والخطابة إما سياسية أو اجتماعية أو دينية، وقد ازدهرت في العصر الحديث الخطابة القضائية والبرلمانية. وفن الخطابة قديم وُجد في الأمم القديمة كقدماء المصريين واليونان والرومان.

وكان للخطابة شأن عظيم في العصر الجاهلي، وكان للخطيب مركز ممتاز لا يقل عن مركز الشاعر، حتى إن أبا عمرو بن العلاء يقول: إن الخطيب في الجاهلية كان فوق الشاعر1.

1 170 ج1 البيان والتبيين.

ص: 299

ولا بدع، فنحن نعلم أن العرب كانوا قبائل متناحرة متنازعة، تقتتل لأوهى الأسباب وأتفه الأمور، ومن أبرز شمائلهم: العزة والأنفة، والنفور من العار وحماية الجار والحرص على الأخذ بالثأر، والمباهاة بالعصبية والمفاخرة بالنسب، والتشدق بالبيان. فالخطابة إذًا ضرورة من ضروراتهم وحاجة من حاجاتهم، يتخذونها في السلم أداة للمفاخرة والمنافرة ويصطنعونها في الحرب لتثبيت الجنان وتحميس الجبان، وبعث الحمية في النفوس، وجمع الكلمة وتوحيد الصفوف.

ولهذا علت منزلة الخطيب، وراح الشعراء يفتخرون بالخطابة، ويتغنون بها فيما يتغنون به من المفاخر.

وقد زادها رفعة أنها كانت لسان الأشراف والرؤساء والنابهين من القبائل، يفضلونها على الشعر الذي غض منه امتهان الشعراء له بالتكسب والارتزاق.

فازدهار الخطابة إذًا في الجاهلية يرجع إلى الحرية التي لا يحدها سلطان ولا تقيدها حكومة، وإلى القتال الدائم بين القبائل وما يتطلبه من تحميس أو حض على ثأر، وإلى حب المفاخرة المتأصل في العرب، وإلى تأصل ملكة البيان فيهم، وقدرتهم على التصرف في وجوه القول وتشقيق الكلام، وإلى ابتذال الشعر آخر الأمر بالتكسب واختصاص الرؤساء والزعماء بها.

وهكذا كانت موضوعاتها تدور حول الحث على القتال والأخذ بالثأر، والدعوة إلى الصلح بالتنفير من الحرب وويلاتها، والمفاخرة بالمكارم والعصبيات، والسفارة بين القبائل العربية، أو بينها وبين جيرانها في: التعازي والتهاني والاستنجاد وتأمين السبل وحراسة التجارة. وكان من موضوعاتها خطب النكاح، كما كانت تتناول الدعوة إلى عبادة الله وتوحيده، والتبشير برسوله كما سنرى في خطب دعاة التوحيد مثل: قس بن ساعدة، وأكثم بن صيفي، والمأمور الحارثي.

والخطب الجاهلية قصيرة بوجه عام، وفي الغالب؛ ولعل ذلك راجع إلى إيثار الإيجاز ورغبتهم في حفظها وانتشارها. قيل لأبي عمرو بن العلاء: هل كانت العرب تطيل؟ فقال: نعم ليسمع منها، فقيل له: وهل كانت توجز؟ فقال: نعم ليحفظ عنها، ولكل مقام.

ص: 300

أما الخطيب فكانوا يشترطون فيه السيادة في القوم، والكرم في الخلق، والعمل بما يقول، ولا بد أن يكون جهير الصوت، رابط الجأش، ثابت الجنان، قوي الحجة، فصيح اللسان، قليل الحركة، حسن السمت، جميل المظهر. وكان من عادته أن يقف على نشز1 مرتفع معتجرا بعمامته، قابضا بيده على سيف أو عصا؛ وذلك كله للتأثير بإظهار الملامح، وإبعاد مدى الصوت. ومنهم من كان يمسك العصا في السلم والقوس في الحرب.

ويظهر أنهم كانوا يرتجلون القول ارتجالا، بلا معاناة ولا مكابدة. وإنما يصرفون الهمم إلى الغرض؛ فتأتي المعاني متدفقة، وتنثال الألفاظ انثيالا، كما يقول الجاحظ2. ويشيع في الخطابة الجاهلية السجع، وقصد التجويد والتحبير. والمأثور من خطب الجاهليين قليل، أقل من الشعر المروي عنهم، والسبب في ذلك صعوبة حفظ النثر بعدم تقيده بوزن أو قافية، وسرعة نسيانه، وعدم تدوينه؛ لأميتهم وغير ذلك، مما أدى إلى ضياع الكثير من الخطب، واختلاف الرواية فيما بقي منها بطول العهد وتناقل الرواة.

دفاع عن الخطابة الحجازية:

يقول الدكتور طه حسين في الأدب الجاهلي: "كان في العرب قبل الإسلام خطباء، ولكني لا أتردد في أن خطابتهم لم تكن شيئا ذا غناء، وإنما الخطابة العربية فن إسلامي خالص؛ وذلك أن الخطابة ليست من هذه الفنون الطبيعية التي تصدر عن الشعوب عفوا، يغنى بها الأفراد لنفسها، وإنما هي ظاهرة اجتماعية ملائمة لنوع خاص من الحياة، وكل الحياة الاجتماعية للعرب قبل الإسلام لم تكن تدعو إلى خطابة قوية ممتازة، فالحواضر كانت حواضر تجارة ومال واقتصاد، ولم

1 نشز: مرتفع، وهذه العادة في غير الزواج.

2 ويرى بعض الباحثين أن خطباء العرب كانوا يذهبون مذهب أصحاب التجويد والتحبير، وأنهم صاغوها صياغة فنية وهذا بعيد "الفن ومذاهبه في النثر العربي ص12-14، لشوقي ضيف".

ص: 301

يكن للحياة السياسية فيها خطر يذكر، ولم تكن لهم حياة دينية قوية تحتاج إلى إلقاء الخطب كما تعود النصارى والمسلمون. وأهل البادية كانوا في حرب وغزو وخصومات، وهذا يدعو إلى الحوار والجدال لا إلى الخطابة، فالخطابة تحتاج إلى الاستقرار والثبات والاطمئنان إلى الحياة المدنية المعقدة، وأنت لا ترى عند اليونان خطابة أيام الملوك ولا أيام البداوة ولا أيام الطغيان، وإنما الخطابة اليونانية ظاهرة ملازمة للحياة السياسية العامة ولم يعرف الرومان الخطابة أيام البداوة ولا أيام الملوك ولا أيام الجمهورية الأرستقراطية، وإنما عرفوها حين تعقدت حياتهم السياسية وظهرت فيهم الخصومات الحزبية، ولم تظهر الخطابة في أوروبا إلا في العصر الديمقراطي حين نضجت الحياة السياسية واشتركت فيها الشعوب

فلا تصدق إذًا أنه قد كانت للعرب في الجاهلية خطابة ممتازة، إنما استحدثت الخطابة في الإسلام؛ استحدثها النبي والخلفاء، وقويت حين ظهرت الخصومة السياسية الحزبية بين المسلمين"1.

ولسنا نوافق الدكتور طه حسين على هذا التهوين من شأن الخطابة الجاهلية:

1-

فقد علمنا أن الأمة العربية أمة حربية، توفرت لديها دواعي الخطابة من الأنفة من العار، والأخذ بالثأر، والتفاخر بالأنساب، وكانت لها أيام حربية ووقائع لا تنتهي دعت إليها حياتهم وطبيعة بيئتهم وبداوتهم، وهذه المقامات تستدعي الخطابة وتجعلها قوية مزدهرة. ولقد كانوا يتنازعون السلطة في الرفادة والحجابة وغيرهما. وكان اتصالهم السياسي بالأمم المجاورة كالفرس والروم مدعاة إلى هذه الحروب والأيام المشهورة التي كان صوت الخطابة فيها قويا بجانب الشعر.

2-

ومع هذه النهضة السياسية كانوا على جانب من الحضارة اكتسبوه من اليمن وهذه الأمم المجاورة التي اتصلوا بها واشتبكوا معها في الحروب. فقد تهيأ لهم ما ينكره الدكتور طه من الحضارة والتنازع السياسي والديني.

3-

على أنه لا يعقل أن تظفر الخطابة، من ضعفها الذي يدعيه، إلى هذه

1 374 الأدب الجاهلي لطه حسين.

ص: 302

القوة العظيمة التي يعترف بها هو في صدر الإسلام، وإلا فكيف تكون شيئا مذكورا من شيء لا غناء فيه؟!

4-

ولقد اتفق علماء الأدب الأقدمون على قوة الخطابة الجاهلية وازدهارها. وهذا هو الجاحظ يصف الخطباء الجاهليين وحركاتهم ومواقفهم وأزياءهم ومزاياهم، ويروي في ذلك الكثير من الأشعار التي يستشهد بها، فكيف يشيد الجاحظ وأمثاله بشيء لا غناء فيه؟!

كل ذلك يدلنا على أن الخطابة بلغت من الرقي مبلغا عظيما قبل الإسلام، وخاصة في الحجاز.

خصائص الخطابة الحجازية:

تمتاز الخطابة الحجازية بأن ألفاظها كانت تأتي كثيرا سهلة جميلة واضحة، كما ترى في خطب أبي طالب وما شابهها.

ولم يكن الجاهليون يتأنقون في اختيار اللفظ ذي النغمة المتشابهة أو الجرس المتآلف، وكانوا لا يقصدون إلى المحسنات البديعية أو يتعمدونها، ويقل الترادف في نثرهم؛ إذ كانوا يؤثرون الإيجاز في كلامهم.

وتمتاز هذه الخطب أيضا بوضوح المعاني وقربها وصدقها، كما رأينا؛ لأنها تمثل حياتهم البسيطة الواضحة التي لا تعقيد فيها ولا التواء، فهم لا يبالغون ولا يهولون، وإنما يعبرون عما يشعرون به في بساطة ودون تكلف، فمتى فهم اللفظ اتضح معناه دون معاناة في فهمه.

ويغلب على الخطب الحجازية السجع كما في خطب هاشم وعبد المطلب، وأحيانا تجيء مرسلة أو مترددة بين الإرسال والازدواج أو السجع كما ترى في خطبة أبي طالب: "الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل

إلخ".

ويشيع في النثر الحجازي بألوانه قصر الجمل، والإيجاز، وإيثار الكتابة الغريبة على التصريح، وتكثر فيه الحكم والأمثال كما رأينا في معظمها، وقد تأتي الخطبة كلها حكما وأمثالا.

ص: 303

ونلاحظ على الخطب الحجازية الجاهلية ضعف الربط وعدم التماسك بين الجمل، وعدم وحدة الموضوع في بعض الأحيان كما كان أيضا في الوصايا؛ ولعل ذلك راجع إلى الارتجال الذي تقسم به حياتهم، وإلى كثرة الحكم والأمثال التي تشيع في خطبهم، والتي لا يمكن الربط بينها، فإننا لو قدمنا بعضها وأخرنا البعض لم يختل المعنى ولا نظام الخطبة.

وأخيرا، تتسم الخطب الحجازية الجاهلية بقوة التأثير وحرارة العاطفة، وبالإشراق والبيان والعذوبة والبلاغة والحكمة، وبالحض على الخير، وعلى عمل المعروف.

أشهر الخطباء الحجازيين في العصر الجاهلي:

1-

كعب بن لؤي القرشي 1:

من أجداد رسول الله -صلوات الله عليه- وأحد خطباء العرب المشهورين، وكان أبوه لؤي كذلك من خطباء العرب2، وكعب في الذروة من المجد والسيادة في قريش ومكة والحجاز، بل والعرب عامة، وكان على الحنيفية البيضاء دين إبراهيم وإسماعيل.

وكانت قريش تجتمع عليه كل جمعة، فيخطبهم خطبة، يأمرهم فيها بالإطاعة والفهم والتعلم والتفكر في خلق السموات والأرض، والاعتبار بأحداث التاريخ وعظاته، ويحضهم على صلة الرحم، وإفشاء السلام، وحفظ العهد، والتصدق على الفقراء والأيتام، ويذكرهم بالموت واليوم الموعود، ويبشرهم بمبعث رسول قد قرب زمانه، وأنه سيكون من ولده، ويحثهم على اتباعه إن أدركوه، وأنه يخرج من بيت الله الحرام، ويقول الجاحظ فيه: كان يخطب

1 راجع 281/ 2 بلوغ الأرب، الروض الأنف، الطبري، الكامل لابن الأثير، 211/ 1 صبح الأعشى، البيان والتبيين للجاحظ 226/ 1.

2 الروض الأنف، 23/ 1 البيان والتبيين للجاحظ.

ص: 304

العرب عامة، ويحض كنانة خاصة على البر، فلما مات أكبروا وفاته، فلم تزل كنانة تؤرخ بموته إلى عام الفيل1.

2-

هاشم بن عبد مناف القرشي:

سيد قريش والحجاز والعرب عامة، ملك بعد أبيه الرفادة والسقاية وصارت له السيادة على مكة، وكان يحمل ابن السبيل، ويؤدي الحقوق، وضرب بسخائه المثل، وهو أول من سن الرحلتين لقريش: رحلة الشتاء ورحلة الصيف، وكان يصنع الطعام لحجاج بيت الله، ويسمى ذلك "الرفادة". ويروى أنه كان إذا أهلّ هلال ذي الحجة، قام في الصباح فأسند ظهره إلى الكعبة وخطب العرب وقريشا. ومن خطبه هذه الخطبة الشريفة:

يا معشر قريش:

إنكم سادة العرب، أحسنها وجوها، وأعظمها أحلاما، وأوسط العرب أنسابا، وأقرب العرب بالعرب أرحاما2.

يا معشر قريش:

إنكم جيران بيت الله، أكرمكم الله بولايته، وخصكم بجواره دون بني إسماعيل، وإنه يأتيكم زوار الله يعظمون بيته، فهم أضيافه، وأحق من أكرم أضياف الله أنتم، فأكرموا ضيفه وزواره؛ فإنهم يأتون شعثا غبرا من كل بلد على ضوامر3 كالقداح، فأكرموا ضيفه وزوار بيته، فورب هذه البنية4 لو كان لي مال يحتمل ذلك لكفيتكموه، وأنا مخرج من طيب مالي وحلالي ما لم يقطع فيه رحم ولم يؤخذ بظلم، ولم يدخل فيه حرام، فمن شاء منكم أن يفعل مثل ذلك فعل، وأسألكم بحرمة هذا البيت ألا يخرج رجل منكم من ماله

1 266/ 1 البيان والتبيين.

2 221/ 1 بلوغ الأرب، الروض الأنف، الطبري، ابن الأثير، 458/ 2 ابن أبي الحديد، شفاء الغرام للفاسي.

3 جمع ضامر: الجمل المهزول.

4 الكعبة.

ص: 305

لكرامة زوار بيت الله وتقويتهم إلا طيبا لم يؤخذ ظلما، ولم يقطع فيه رحم، ولم يؤخذ غصبا.

فكانوا يجتهدون في ذلك، ويخرجون من أموالهم، فيضعونه في دار الندوة.

3-

عبد المطلب بن هاشم القرشي:

جد الرسول، ومن حكام قريش وأشرافها وسادتها، وكان يسمى "شيبة الحمد" لكثرة حمد الناس له؛ إذ كان مفزع قريش في الخطوب، وملاذها في النائبات، وملجأها في المعضلات، وكان كذلك يدعى "الفياض" لجوده.

وكان من حلماء قريش وحكمائهم وفصحائهم وخطبائهم، حرم على نفسه الخمر في الجاهلية، وكان يتلألأ النور في وجهه، وتلوح سمات الخير والمجد والسيادة في أساريره، وكان يأمر ولده بترك البغي والظلم، ويحثهم على مكارم الأخلاق، وينهاهم عن سفاسف الأمور، وكان يقول في وصاياه: من يخرج من الدنيا ظلوم حتى ينتقم منه وتصيبه عقوبة، وكان يقول: والله إن وراء هذه الدار دارا يجزى فيها المحسن بإحسانه، ويعاقب فيها المسيء بإساءته.

وكان مجاب الدعاء، وهو أول من تعبَّد بحراء، وكان يعبد الله على الحنيفية، دين إبراهيم وإسماعيل، وكانت قريش تستسقي به عندما يصيب الناس قحط، وكان إذا رأى هلال رمضان صعد إلى حراء يُطعِم المساكين.

وقد ورث عبد المطلب السقاية والرفادة والرياسة عن أبيه، وعقد المعاهدات مع ملوك الشام وأقيال حمير باليمن وصارت رحلته إليهما، وهو الذي حفر بئر زمزم، ووضع الحجر في الركن.

وكان مهيب الجانب، مرهوب الكلمة، سيدا عظيم القدر، مطاع الأمر، نجيب النسل، مر به أعرابي وهو جالس في الحجر، وأبناؤه حوله كالأسد، فقال: إذا أحب الله إنشاء دولة خلق لها أمثال هؤلاء، فأنشأ الله تعالى لهم بالنبوة دولة عرضها المشرق والمغرب.

وقد رفض عبد المطلب عبادة الأصنام، ووحَّد الله، وأوصى بالوفاء بالنذر

ص: 306

ونهى عن نكاح المحارم، وقطع يد السارق، ونهى عن قتل الموءودة، وحرم الخمر والزنا، ونهى أن يطوف إنسان بالبيت وهو عريان. ومن خطبه خطبته عند سيف بن ذي يزن؛ روي أنه لما ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة، وأجلاهم عن اليمن أتته وفود العرب للتهنئة، وكان فيهم وفد من قريش، وسيدهم هو عبد المطلب بن هاشم، فلما مثلوا بين يديه قال عبد المطلب:

إن الله تعالى -أيها الملك- أحلَّك محلا رفيعا، صعبا منيعا، باذخا شامخا، وأنبتك منبتا طابت أرومته، وعزت جرثومته، ونبل أصله، وبسق فرعه، في أكرم معدن، وأطيب موطن، فأنت -أبيت اللعن- رأس العرب، وربيعها الذي به تخصب، وملكها الذي به تنقاد، وعمودها الذي عليه العماد، ومعقلها الذي يلجأ إليه العباد، سلفك خير سلف، وأنت لنا بعدهم خير خلف، ولن يهلك من أنت خلفه، ولن يخمل من أنت سلفه، نحن -أيها الملك- أهل حرم الله وذمته وسدنة بيته، أشخصنا إليك الذي أبهجنا بكشف الكرب الذي فدحنا، فنحن وفد التهنئة لا وفد المرزئة.

4-

أبو طالب بن هاشم بن عبد مناف 1:

عم الرسول وكافله بعد عبد المطلب، وراعيه وحاميه، ولد قبل مولد الرسول بخمس وثلاثين سنة، وتوفي في النصف من شوال في السنة العاشرة من البعثة، عن أكثر من خمس وثمانين سنة.

وكان من حكام قريش، ونصر رسول الله وآزره حين قام بالدعوة، وهو الذي مزَّق صحيفة قريش التي علقوها على الكعبة بمقاطعة بني هاشم، فزادهم ذلك بغيا وعدوانا، فقال أبو طالب: يا معشر قريش، علام نحصر ونحبس، وقد بان الأمر، وتبين أنكم أهل الظلم والقطيعة؟! ثم دخل هو وأصحابه بين أستار الكعبة وهو يقول: اللهم انصرنا على من ظلمنا، وقطع أرحامنا، واستحل ما يحرم عليه منا.

1 324/ 1 بلوغ الأرب -الطبري- ابن الأثير، ابن أبي الحديد، الجزء الثالث 212 صبح الأعشى.

ص: 307

ولما حضرت أبا طالب الوفاة جمع إليه وجوه قريش وأوصاهم باتباع محمد، وستأتي هذه الوصية فيما بعد، وله خطبة مأثورة رُويت له عند خطبته خديجة لابن أخيه محمد بن عبد الله.

خطباء مشهورون:

ومن خطباء العرب عامة ومشهوريهم: قس، وأكثم، وكان قس يقيم في الحجاز وكان أكثم يتردد كثيرا عليه.

1-

أما قس بن ساعدة الإيادي:

فقد كان من حكماء العرب، وأعقل من سمع به منهم، وأول من كتب: من فلان إلى فلان، وأول من أقر بالبعث عن غير علم، وأول من قال: أما بعد، وأول من قال: البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، وقد عمر ثمانين ومائة سنة1، ولما قدم وفد إياد على النبي صلى الله عليه وسلم وفرغ من حوائجهم قال:"هل فيكم من يعرف قس بن ساعدة"؟ قالوا: كلنا نعرفه، قال:"فما فعل"؟ قالوا: هلك، فقال: "كأني به على جمل أحمر قائما يقول:

أيها الناس، اجتمعوا واستمعوا وعوا، كان من عاش مات، وكل من مات فات، وكل ما هو آت آت. إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا. مهاد موضوع، وسقف مرفوع، وبحار تموج، وتجارة تروج، وليل داجٍ، وسماء ذات أبراج، أقسم قس حقا: لئن كان في الأرض رضا، ليكونن بعد سخط، وإن لله -عزت قدرته- دينا، هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه، ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون أرضوا فأقاموا، أم تركوا فناموا؟! ".

ثم ساق أبو بكر رضي الله عنه شعره في هذه الخطبة، وهو مشهور،

1 وقال المرزباني: زعم كثير من العلماء أنه عمر ستمائة، وكان حكيما عاقلا حليما، له نباهة وفضل، وقد ضرب به المثل في الحلم والخطابة، قال الحطيئة:

وأقول من قس وأمضى إذا مضى

من الرمح إذ مس النفوس نكالها

وراجع الكلام على قس وبلاغته في "بلوغ الأرب" ص155/ 3، و224/ 2.

ص: 308

وقد رويت هذه الخطبة بروايات أخرى في صبح الأعشى، والبيان والتبيين، والأغاني، وغيرها، وفي بعض هذه الروايات: أن الرسول سأل: "من يحفظها منكم؟ " فرواها بعضهم له.

2-

وأما أكثم بن صيفي التميمي:

فهو وإن كان ليس من القبائل الحجازية، لكنه تردد على الحجاز كما استفاضت الروايات بذلك، وطارت شهرته وصار يعد حكيم العرب عامة كما كان من أبلغ حكماء العرب، وأعرفها بأنسابها، وأكثرها ضرب أمثال، وإصابة رأي، وقوة حجة، وكان خطيبا مفوَّها، وحَكَما موفقا، رفيع المكانة في قومه، يعد من أشرافهم ومن كبار المحكمين فيهم، وقلّ من جاراه من خطباء عصره في معرفة الأنساب، وضرب الأمثال، والاهتداء لحل المشكلات، والسداد في الرأي، وهو زعيم الخطباء المصاقع1 الذين أوفدهم النعمان على كسرى وكلهم خطباء بلغاء، ولسن مقاول، ولقد بلغ من إعجاب كسرى به أنه قال له: لو لم يكن للعرب غيرك لكفى.

وقد عاش في الجاهلية، وعمر طويلا حتى أدرك مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وجمع قومه وحثّهم على الإيمان به.

وكان قليل المجاز، حسن الإيجاز، حلو الألفاظ، دقيق المعاني، مولعا بالأمثال، لا يلتزم السجع، يميل إلى الإقناع بالبرهان، ويعتمد في خطابته على قوة تأثيره وشدة عارضته2 لا على المبالغة والتهويل، فهو في وصاياه وخطبه وحكمه قوي الأسلوب، بليغ الأداء، عميق الفكرة، دقيق المعنى، مشرق الديباجة، محكم النسج.

ومن صور خطابته ما يروى عنه أنه قال من خطبته أمام كسرى:

إن أفضل الأشياء أعاليها، وأعلى الرجال ملوكهم، وأفضل الملوك أعمها نفعا،

1 المصاقع جمع: مصقع وهو البليغ أو العالي الصوت أو الذي لا يرتج عليه في كلامه ولا يتعتع.

2 العارضة: البيان واللسن والجلد والصرامة والقدرة على الكلام.

ص: 309

وخير الأزمنة أخصبها، وأفضل الخطباء أصدقها. الصدق منجاة، والكذب مهواة، والشر لجاجة1، والحزم مركب صعب، والعجز مركب وطيء2. آفة الرأي الهوى، والعجز مفتاح الفقر، وخير الأمور الصبر، وحسن الظن ورطة3، وسوء الظن عصمة. إصلاح فساد الرعية خير من إصلاح فساد الراعي. من فسدت بطانته كان كالغاصّ4 بالماء. شر البلاد بلاد لا أمير بها، وشر الملوك من خافه البريء. الصمت حكم5 وقليل فاعله.

ومن وصية لأكثم بن صيفي:

تباروا فإن البر يبقى عليه العدد، وكفوا ألسنتكم فإن مقتل الرجل بين فكيه. إن قول الحق لم يدع لي صديقا، الصدق منجاة، لا ينفع التوقي مما هو واقع، في طلب المعالي يكون العناء، الاقتصاد في السعي أبقى للجمام، أصبح عند رأس الأمر أحب إلي من أن أصبح عند ذنبه، لم يهلك من مالك ما وعظك، ويل لعالم أمر من جاهله، يتشابه الأمر إذا أقبل، وإذا أدبر عرفه الكيس والأحمق، البطر عند الرخاء حمق، والعجز عند البلاء أمن، لا تغضبوا من اليسير فإنه يجني الكثير، لا تجيبوا فيما لا تسألون عنه، ولا تضحكوا مما لا يضحك منه، حيلة من لا حيلة له الصبر، إن تعش تر ما لم تره، المكثار كحاطب ليل، من أكثر أسقط، لا تجعلوا سرا إلى أمة6.

وعزى أكثم ملك العرب عمرو بن هند عن أخيه فقال: أيها الملك، إن أهل هذه الدار سفر، لا يحلون عقد الترحال إلا في غيرها، وقد أتاك ما ليس بمردود عنك وارتحل عنك ما ليس براجع إليك، وأقام معك من سيظعن عنك

1 اللجاجة: التمادي في الخصومة والنزاع والنقاش.

2 سهل.

3 الورطة: الهلكة، وكل أمر تَعَسَّر النجاة منه.

4 الشارق بالماء.

5 الحكم: الحكمة، ومنه قوله تعالى:{وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} والمعنى: الصمت حكمة، وقل من يفعله.

6 2/ 135 مجمع الأمثال.

ص: 310

ويدعك، إن الدنيا ثلاثة أيام: فأمس عظة وشاهد وعدل، فجعك بنفسه، وأبقى لك وعليك حكمه، واليوم غنيمة وصديق أتاك ولم تأته، طالت عليك غيبته، وستسرع عنك رحلته، وغد لا تدري من أهله؟ وسيأتيك إن وجدك، فما أحسن الشكر للمنعم، والتسليم للقادر، وقد مضت أصول نحن فروعها، فما بقاء الفروع بعد أصولها!

وقد أدرك أكثم بعثة الرسول، وبعث ابنه حبيشا ليأتيه بخبره، فلما رجع جمعهم وخطبهم قائلا، كما في الجزء الثاني من مجمع الأمثال1: يا بني تميم، لا تحضروني سفيها، فإنه من يسمع يخل2، إن السفيه يوهن من فوقه، ويثبط من دونه، لا خير فيمن لا عقل له، كبرت سني، ودخلتني ذلة، فإذا رأيتم مني حسنا فاقبلوه، وإن رأيتم مني غير ذلك فقوموني أستقم، إن ابني شافه هذا الرجل مشافهة، وأتاني بخبره وكتابه، يأمر فيه بالمعروف وينهى عن المنكر، ويأخذ فيه بمحاسن الأخلاق، ويدعو إلى توحيد الله تعالى، وخلع الأوثان، وترك الحلف بالنيران، وقد عرف ذَوُو الرأي منكم أن الفضل فيما يدعو إليه، وأن الرأي ترك ما ينهى عنه. إن أحق الناس بمعونة محمد ومساعدته على أمره أنتم، فإن يكن الذي يدعو إليه حقا فهو لكم دون الناس، وإن

1 رواها أبو هلال العسكري في ديوان المعاني برواية أخرى جـ2 صـ247، وزاد أنه خرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم فمات عطشا، وأوصى من معه باتباع النبي وأشهدهم على إسلامه ونزل فيه:{وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية. ومن عجب أن نرى أكثر الحكم العربية منسوبة إليه، وأن تكون خطبه ووصاياه كلها حكما، وقد أتينا على بعضها، وتركنا كثيرا منها لطوله. وفي الميدان جـ1 صـ78 وصية جمعت خمسة وثلاثين مثلا، وفي صفحة 210 جـ1 من أمثال العسكري الحكم التي بعث بها إلى النعمان بن حميصة البارقي في كتاب وهي تعد بالعشرات. وفي صـ103 جـ1 من أمثال العسكري خطبة أخرى له جمعت حكما كثيرة. والنسخة التي نعنيها هي طبع المطبعة الخيرية سنة 1910هـ.

2 قال أبو هلال العسكري: من يسمع الشيء ربما ظن صحته، وقيل: من يسمع أخبار الناس ومعايبهم يقع في نفسه المكروه عليهم، أي: إن مجانبة الناس أسلم.

ص: 311

يكن باطلا، كنتم أحق الناس بالكف عنه، وبالستر عليه، وقد كان أسقف1 نجران يحدث بصفته، وكان سفيان بن مجاشع يحدث به قبله، وسمى ابنه محمدا، فكونوا في أمره أولا ولا تكونوا آخرا، ائتوا طائعين قبل أن تأتوا كارهين، إن الذي يدعو إليه محمد، لو لم يكن دينا، كان في أخلاق الناس حسنا، أطيعوني واتبعوا أمري، أسأل لكم أشياء لا تنزع منكم أبدا، وأصبحتم أعز حي في العرب، وأكثرهم عددا، وأوسعهم دارا، فإني أرى أمرا لا يجتنبه عزيز إلا ذل، ولا يلزمه ذليل إلا عز.

إن الأول لم يدع للآخر شيئا، وهذا له ما بعده، من سبق إليه غمر2 المعالي، واقتدى به التالي، والعزيمة حزم، والاختلاف عجز.

فقال مالك بن نويرة3: قد خرف شيخكم، فقال أكثم: ويل للشجي من الخلي "انظر في ضبط الكلمتين وتصريفهما التاج وأمثال أبي هلال" والهفي على أمر لم أشهده، ولم يسعني! مجمع الأمثال 2/ 217.

وأوصى أكثم بن صيفي قومه، فقال:

يا بني تميم، لا يفوتنكم وعظي إن فاتكم الدهر بنفسي، إن بين حيزومي4 وصدري لكلاما، لا أجد له إلا أسماعكم، ولا مقار إلا قلوبكم، فتلقوه بأسماع مصغية، وقلوب داعية، تحمدوا مغبته.

الهوى يقظان، والعقل راقد، والشهوات مطلقة، والحزم معقول، والنفس مهملة، والروية5 مقيدة، وإن جهل التواني وترك الروية يتلف الحزم، ولن يعدم المشاور مرشدا، والمستبد برأيه موقوف على مداحض6 الزلل،

1 لقب ديني لمن فوق القس ودون المطران، كلمة يونانية.

2 غمر: غطى.

3 شاعر فارسي ولاه النبي صدقات قومه، فلما توفي الرسول فرقها فيهم، وقتل بأمر خالد بن الوليد، ولامه أبو بكر وعمر. انظر معجم الشعراء.

4 ضلع القلب، أو ما اكتتف الحلقوم من جانب للصدر.

5 الروية: اسم مصدر من رَوَّى في الأمر بتشديد الواو: فَكَّر.

6 جمع مدحض: مزلق، وفعله كخضع.

ص: 312

ومن سمع1 سمع به، ومصارع الرجال تحت بروق الطمع، ولو اعتبرت مواقع المحن ما وجدت إلا مقاتل2 الكرام، وعلى الاعتبار طريق الرشاد، ومن سلك الجدد3 أمن العثار، ولن يعدم الحسود أن يتعب قلبه، ويشغل فكره، ويؤرث4 غيظه، ولا تجاوز مضرته نفسه.

يا بني تميم، الصبر على جرع الحلم أعذب من جني ثمر الندامة، ومن جعل عرضه دون ماله استهدف5 للذم، وكلم اللسان أنكى من كلم السنان، والكلمة مرهونة ما لم تنجم من الفم، فإذا نجمت، فهي أسد محرب6، أو نار تلهب، ورأي الناصح اللبيب دليل لا يجوز، ونفاذ الرأي في الحرب أجدى من الطعن والضرب7.

الوصايا:

الوصايا جمع وصية، والوصية ما توجهه إلى إنسان أثير لديك من ثمرة تجربة وحكمة أو إرشاد وتوجيه، فهي بمعنى النصيحة.

والوصية لون من ألوان الخطابة، قاصر على الأهل والأقارب والأصدقاء، والفرق بينهما أن الوصية تكون من المرأة لابنتها، ومن الرجل لقومه أو أبنائه عند الارتحال أو الشعور بدنوّ الأجل أو نحو ذلك. والخطابة تكون في المشاهد والمجامع العامة والحروب والمعارك وفي المفاخرة والمنافرة، وفي الوفادة على ملك أو أمير، وفي المواسم والحوادث الجِسَام.

1 شنع.

2 الظاهر أنه جمع مقتل.

3 الأرض المستوية.

4 يوقد.

5 انتصب هدفا.

6 حرب كفرح: كلب واشتدَّ غضبه، ومحرب: مغضب.

7 مجمع الأمثال، وهي بروايات أخرى في جمهرة الأمثال 2/ 212.

ص: 313

والوصايا كثيرة في النثر الجاهلي وخاصة الحجازي. وتمتاز بجمالها وتناسب جملها وأساليبها، وبرقتها وروعتها، وما يشيع فيها من حكمة، وصدق تعبير، ونفاذ فكر، وبعد نظر؛ لأنها لا تصدر إلا من حكيم مجرب، أو كبير عرك الحياة وعركته الحياة. وربما كانت الوصية في الأدب الحجازي مزيجا من الشعر والنثر كما في وصية ذي الإصبع العدواني التي سنذكرها فيما بعد.

وإليك طائفة من وصايا الحجازيين في الجاهلية:

1-

وصية أبي طالب لقريش، حين حضرته الوفاة:

يا معشر قريش: أنتم صفوة الله من خلقه، وقلب العرب، فيكم السيد المطاع، وفيكم المقدام الشجاع، الواسع الباع، واعلموا أنكم لم تتركوا للعرب في المآثر نصيبا إلا أحرزتموه، ولا شرفا إلا أدركتموه، فلكم بذلك على الناس الفضيلة، ولهم به إليكم الوسيلة، والناس لكم حرب، وعلى حربكم إلب1، وإني أوصيكم بتعظيم هذه البنية -الكعبة- فإن فيها مرضاة للرب، وقواما للمعاش، وثباتا للوطء، صلوا أرحامكم فإن في صلة الرحم منسأة2 في الأجل، وزيادة في العدد، اتركوا البغي والعقوق ففيهما شرف الحياة والممات، وعليكم بصدق الحديث، وأداء الأمانة؛ فإن فيهما محبة في الخاص، ومكرمة في العام.

وإني أوصيكم بمحمد خيرا؛ فإنه الأمين في قريش، والصديق في العرب، وهو الجامع لكل ما أوصيتكم به، وقد جاء بأمر قبله الجنان3، وأنكره اللسان؛ مخافة الشنآن. وايم الله كأني أنظر إلى صعاليك العرب وأهل الأطراف والمستضعفين من الناس، قد أجابوا دعوته، وصدقوا كلمته، وعظموا أمره، فخاض بهم غمرات الموت، وصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا، ودورها خرابا، وضعفاؤها أربابا، وإذا

1 واحد، يجتمعون عليه بالظلم والعدوان.

2 أي: فسحة.

3 القلب.

ص: 314

أعظمهم عليه أحوجهم إليه، وأبعدهم منه أحظاهم عنده، قد محضته العرب ودادها، وأصفت له بلادها، وأعطته قيادها. يا معشر قريش: كونوا له ولاة، ولحزبه حماة، والله لا يسلك أحد سبيله إلا رشد، ولا يأخذ بهديه أحد إلا سعد، ولو كان لنفسي مدة وفي أجلي تأخير، لكففت عنه الهزاهز، ولدافعت عنه الدواهي1.

2-

وصية ذي الإصبع العدواني:

لما احتضر ذو الإصبع، دعا ابنه أسيدا فقال له: يا بني، إن أباك قد فني وهو حي، وعاش حتى سئم العيش، وإني موصيك بما إن حفظته بلغت في قومك ما بلغته، فاحفظ عني: الي جانبك لقومك يحبوك، وتواضع لهم يرفعوك، وابسط لهم وجهك يطيعوك، ولا تستأثر عليهم بشيء يسودوك، وأكرم صغارهم كما تكرم كبارهم يكرمك كبارهم ويكبر على مودتك صغارهم، واسمح بمالك، واحم حريمك، وأعزز جارك، وأعن من استعان بك، وأكرم ضيفك، وأسرع النهضة في الصريخ؛ فإن لك أجلا لا يعدوك، وصن وجهك عن مسألة أحد شيئا، فبذلك يتم سؤددك، ثم أنشأ يقول:

أأسيد إن مالا ملكـ

ـت فسر به سيرا جميلا

آخ الكرام إن استطعـ

ـت إلى إخائهم سبيلا

واشرب بكأسهم وإن

شربوا به السم الثميلا

أهن اللئام ولا تكن

لإخائهم جملا ذلولا

إن الكرام إذا تؤا

خيهم وجدت لهم فضولا

ودع الذي يعد العشير

ة أن يسيل ولن يسيلا

ابني إن المال لا

يبكي إذا فقد البخيلا

أأسيد إن أزمعت من

بلد إلى بلد رحيلا

1 327 جـ بلوغ الأرب طبعة 1924.

ص: 315

فاحفظ وإن شحط المزا

ر أخا أخيك أو الزميلا

واركب بنفسك إن هممـ

ـت بها الحزونة والسهولا

وصل الكرام وكن لمن

ترجو مودته وصولا1

ومن أمثلة الوصايا الحجازية: وصية أوس بن حارثة لابنه مالك، وقد رواها صاحب الأمالي، وهي مشهورة2.

1 الأغاني، دار الكتب ص99، 100 ج3.

2 102/ 1 الأمالي لأبي علي القالي، طبعة دار الكتب.

ص: 316