المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل السادس: الشعر الهجائي - قصة الأدب في الحجاز

[عبد الله عبد الجبار]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات:

- ‌تمهيد: وصف عام للحجاز وبيئته الطبيعية والبشرية

- ‌القسم الأول: العوامل المؤثرة في الأدب الحجازي

- ‌الباب الأول: الحياة السياسية-توطئة الجاهلية وتحديد العصر الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: أهمية الحجاز في العصر القديم

- ‌الفصل الثاني: تاريخ الحجاز السياسي

- ‌الفصل الثالث: طبيعة الحكم في الحجاز في العصر الجاهلي

- ‌الباب الثاني: الحياة الاجتماعية لعرب الحجاز في العصر الجاهلي

- ‌الفصل الثالث: اللغة العربية في الحجاز

- ‌الباب الثالث: الحياة الدينية

- ‌الفصل الأول: معبودات الحجازيين وعاداتهم الدينية

- ‌الفصل الثاني: أشهر الأصنام في الحجاز

- ‌الباب الرابع: الحياة العقلية عند عرب الحجاز في العصر الجاهلي

- ‌الباب الخامس: شخصيات حجازية في العصر الجاهلي

- ‌القسم الثاني: الحياة الأدبية في الحجاز في العصر الجاهلي، النثر

- ‌الباب الأول: صورة عامة للنثر الحجازي في العصر الجاهلي

- ‌الباب الثاني: فنون النثر الحجازي في العصر الجاهلي

- ‌الفصل الأول: الحكم والأمثال

- ‌الفصل الثاني: الخطب والوصايا

- ‌الفصل الثالث: المحاورات والمفاخرات والمنافرات وسجع الكهان

- ‌الحياة الأدبية في الحجاز في العصر الجاهلي، الشعر:

- ‌الباب الأول: فكرة عامة عن الشعر الحجازي في العصر الجاهلي

- ‌الفصل الأول: نماذج هذا الشعر

- ‌الفصل الثاني: لمحة عامة عن الشعر الجاهلي

- ‌الباب الثاني: الشعر الحجازي بين الصحة والوضع

- ‌مدخل

- ‌ الشعر الحجازي في الميزان:

- ‌استدراكات ابن هشام على بن إسحاق

- ‌لامية تأبط شرا:

- ‌شعر أمية بن أبي الصلت الديني

- ‌دواوين القبائل الحجازية:

- ‌ديوان الهذليين:

- ‌طبعة دار الكتب:

- ‌الداواوين المفردة

- ‌ رواية ديوان النابغة:

- ‌رواية ديوان زهير:

- ‌الباب الثالث: فنون الشعر الحجازي في العصر الجاهلي

- ‌الفصل الأول: الشعر السياسي

- ‌أولا" أيام الحجازيين في الجاهلية:

- ‌ثانيا: صميم الشعر السياسي

- ‌الفصل الثاني: الشعر الحماسي

- ‌الفصل الثالث: الشعر اجتماعي

- ‌الفصل الرابع: الشعر الديني

- ‌الفصل الخامس: الشعر الغزلي

- ‌الفصل السادس: الشعر الهجائي

- ‌الفصل السابع: فنون شعرية أخرى

الفصل: ‌الفصل السادس: الشعر الهجائي

‌الفصل السادس: الشعر الهجائي

1-

اشتقاق الهجاء في العربية والإفرنجية:

يرى الزمخشري أن الهجاء مأخوذ من هجاء الحروف فهو تعديد للمعايب. فالمرأة تهجو زوجها هجاء قبيحا إذا ذمت صحبته وعددت عيوبه، وهو تفريع غريب. فالكلمة جاهلية قديمة، وهي بأن تكون سابقة للهجاء بمعنى تعديد حروف الكلمة أشبه. على أنه إن كان كل ما لحظ في نقلها هو التعديد، فلم يكون تعديد المفاخر والفضائل هجاء أيضا؟

الواقع أن في المادة معاني أخرى هي أقرب لأن تكون أصلا للمعنى الأدبي. ففي اللغة الهجا والهاجة: الضفدع، وهجو يومنا: اشتد حره. وفي اليائي من المادة: هجى البيت هجيا: انكشف، وهجيت عين البعير: غارت. ومما هو قريب من المادة: الهياج بمعنى الغضب والقتال والحرب، والتهوج بمعنى الحمق والطيش والتسرع، والهوجاء: الريح التي تقلع البيوت.

وقد يكون الهجاء بمعناه الأدبي مأخوذا من الضفدع، فهو قبيح الشكل بشع الصوت. وقد يكون مأخوذا من اشتداد الحر، ففيه معنى التنكيل والتعذيب. وقد يكون مأخوذا من الأصل اليائي، فهو يكشف عن سيئات المهجو1.

أما اشتقاق كلمة "الهجاء" في الإفرنجية، فإن أصل المادة "Satire" في اللاتينية، هو Satura Satira ويقصد بها حشو المشوي، ثم انتقل الاشتقاق إلى Satura المجازية وهي "الصحفة الممتلئة" التي تحوي مجموعة من الفواكه المختلطة، تقدم لواحد من الآلهة الريفية أو الجبلية.

1 أساس البلاغة، مادة "هجاء" و"الهجاء والهجاءون في الجاهلية" ص14.

ص: 531

وفي الاستعمال الأخير اتحدت كلمة Satlre بالحيل والخدع أو الزخارف التي تنسب إلى الساطير Satyr وهي "جنية الحرجات""الأساطير".

أما في الإنجليزية، فقد عزز هذا الاتحاد بين المعنيين ما نراه ملحوظا من الفوضى في تهجي الكلمتين1.

وفي دائرة معارف "كاسل": "أن أول استعمال أدبي لهذه الكلمة يدل على نوع من النكتة والتشهير".

2-

تعريف الهجاء وخصائصه:

يعرف بعض الباحثين الهجاء بأنه أدب غنائي يصور عاطفة الغضب أو الاحتقار والاستهزاء، وسواء في ذلك أن يكون موضوع العاطفة هو الفرد أو الجماعة أو الأخلاق والمذاهب، فالهجاء لا يصطنعه -كما يقول برونونبير- إلا وسيلة للتعبير عن طريقته في الحس والتفكير، معارضا طرق الآخرين في حسهم وتفكيرهم، تلك الطرق التي تثير بالمعارضة ذاتها غضبه أو سخطه واستشناعه أو خوفه واحتقاره أو استهزاءه.

وهذا التعريف يخالف المشهور عند نقاد العرب من وجهين:

الوجه الأول: شموله للشعر والنثر، والمشهور لا يكون إلا شعرا.

والوجه الثاني: أن موضوعه شامل الفرد والجماعة والأخلاق والمذاهب، والمشهور عندهم أنه مقصور على الأفراد2.

ومما يؤيد هذا أن الجاحظ يسمي بعض رسائله النثرية هجاء، فيقول في مقدمة كتاب الحيوان3: وعبتني بكل ما كتبت إلى إخواني وخلطائي من مزح وجد، ومن هجاء لا يزال ميسمه باقيا، ومديح لا يزال ناميا

إلخ.

1 مادة "Dictionary of world Literature p. 502 "Satire".

2 دائرة المعارف الفرنسية، والهجاء والهجاءون في الجاهلية ص14.

3 جـ1 ص3.

ص: 532

وصاحب العقد الفريد يجعل في القرآن هجاء فيقول1: قال الله تبارك في هجو المشركين: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} الآية. وأبو هلال العسكري يروي في باب الهجاء شعرا أخلاقيا لا يدخل في الهجاء بمعناه الضيق عند قدامة وأشياعه، ويذكر في هذا الباب نثرا مسجوعا في أغلب الأحيان، ولكنه يسميه ذما. والنويري في نهاية الأرب يجعل النثر والهجاء الأخلاقي في باب الهجاء، فيقول2:"وإن للشعراء والبلغاء في الذم والهجاء نظما ونثرا سنورد منهما طرقا" ويجعل من الهجاء قسما هو هجاء أخلاقي، كهجاء الحسد والسعاية بالبغي والغيبة والنميمة.

والذي يعنينا في بحثنا هذا هو: ذلك الشعر الغنائي الذي يوجه فيه صاحبه الملامة والنقد والامتهان والاحتقار والكره والبغض لكل ما هو معيب مرذول، أو هزأة ضحكة من الأفراد أو الجماعات أو المذاهب أو الأخلاق.

"والهجاء ساخط على المجتمع ثائر على ما فيه ضيق به. والهجاء نتيجة عقدة نفسية وربما في كثير من الأحيان نتيجة لمركب نقص".

"ومن مميزات الهجاء دقة الملاحظة، فالهجاء طلعة بصير يفطن إلى أدق التوافه وألطفها مما يحيط به".

والهجاء يعتمد على التأثير السريع والوضوح الخلاب، فأسلوبه يمتاز بالبساطة التي لا أثر فيها للتكلف. وقد يصل فيه الإسفاف والهبوط إلى مستوى النكتة العامية والحديث الشائع المتداول بين العامة. "وأصحاب المطبوع أقدر على الهجاء من أهل المصقوع"؛ ذلك لأن "الهجاء نقد للحياة، فهو يأخذ مادته من الواقع، ولا يستمدها من الخيال أو التفكير، ولذلك كانت أبرز صفاته الواقعية البعيدة عن الإسراف في الصناعة، والتي تقوم على تجارب الحياة ودقة الملاحظة لما يجري فيها من أحداث"3.

1 جـ6 ص145.

2 جـ3 ص269.

3 الهجاء والهجاءون في الجاهلية 27-32.

ص: 533

3-

الفرق بين الهجاء والشعر التهذيبي:

والواقع أن الجاهليين حين قصروا الهجاء بمعناه الأدبي على شكله الشخصي كانوا محقين. فقد نشأ الهجاء عندهم كما نشأ الهجاء عند غيرهم من الأمم تنديدا بالمعايب الشخصية أول الأمر، ثم تقدم الهجاء عندهم كما تقدم عند غيرهم، وارتفع عن الأحقاد الخاصة إلى عنصر الحياة العامة؛ فكان منه السياسي، وكان منه الأخلاقي، وكان منه الديني.

وهنا يجب أن نشير إلى فرق دقيق بين نوعين من الأدب لا ينبغي أن نخلط بينهما، هما: شعر الهجاء والشعر التهذيبي "أو الأدب" كما كان يسميه بعض نقادنا القدماء. فالشعر التهذيبي يقصد به الوعظ والإرشاد، أما الهجاء فيرمي به صاحبه إلى العقوبة والانتقام. فالأول يقدم درسا في الأخلاق أو الدين والفلسفة.

أما الهجاء فهو شريعة القصاص -كما يقول أرنولد- من المجرمين الذين لا تنالهم يد القانون القصيرة، فالهجاء يرى أن هناك طائفة من المجرمين قد غلظت طبائعهم بما أشربوا في قلوبهم الباطل والإثم والغرور حتى ما يؤثر فيهم نصح أو تحذير، فهو ينشر على الناس مخازيهم، ويجعلهم أضحوكة ومثلة، وقد لا يرجو من وراء عمله هذا أن يصلحهم أو يطهرهم. فالعلاقة بين الشعر التهذيبي والشعر الهجائي هي كالصلة بين المدرسة والمحكمة؛ أحدهما يسعى لتكوين الفضيلة ونشر الحكمة، والآخر ينزل عقابه بالرذيلة ويهتك الستر عن الحماقة والسفه

دافع الشعر التهذيبي رغبة صادقة في الإصلاح، ودافع الهجاء شهوة الغضب والانتقام1.

1 الهجاء والهجاءون 16، 17.

ص: 534

4-

علاقة الهجاء بالسحر:

وقد كان فن الهجاء من أكثر الفنون الشعرية ارتباطا بالسحر في أوهام العرب؛ ذلك لأن الخفاء والغموض اللذين لازما فن الشعر كانا أليق بالشر، وأدنى أن يبعثا الرهبة والخوف في قلوب الناس. فقد كانت العرب تزعم أن لكل شاعر رئيا من الجن يسمونه تابعا أو هاجسا، وذلك واضح في قصصهم وفي شعرهم1.

ووجه الشبه بين السحر والهجاء واضح؛ فالسحر كلمات تقال فيصيب شرها المسحور، وينصب ما تضمنت من لعنة على المقصود بالإيذاء، والهجاء كذلك كلمات تقال فيها معنى الشر واستمطار اللعنة. والساحر يتوسل إلى شياطينه وأرواحه الشريرة أن تعينه على إلحاق الأذى بالمسحور، والهجاء يستلهم شياطينه الهجاء ويستعينها على المهجو. ولذلك غلب ذكر شياطين الشعر في الهجاء بنوع خاص ولأمر ما نسب الناس هذه القوة الخفية التي تمد الشاعر بالشعر للشر ولم ينسبوها للخير، فقالوا:"شياطين الشعر"، ولم يقولوا:"ربة الشعر" كما تعود اليونان أن يقولوا.

وقد كان الشاعر إذا هجا ربما خرج على الناس في زي غريب غير مألوف، وبالغ في مسخ شكله وتشويه خلقته. وكان حسان بن ثابت يلوث شاربه وعنقفته بالحناء دون سائر لحيته، فيبدو لأول وهلة كأنه أسد والغ في الدم، وروى الألوسي في بلوغ الأرب:"أن الشاعر كان إذا أراد الهجاء، دهن أحد شقي رأسه وأرخى إزاره وانتعل نعلا واحدة"2. لذلك كان العرب شديدي الخوف من الهجاء، وكانوا يرون بيت الهجاء متضمنا قوى خفية، ولعنة تصيب من تحل به. ويقول مزرد بن ضرار الذبياني "أخو الشماخ بن ضرار"

1 مقدمة ابن خلدون ص80، 416.

2 بلوغ الأرب 3/ 407.

ص: 535

في رجل من بني عبد الله بن غطفان خدع غلاما من قومه، فاشترى إبله بغنم

وهو هنا يندد بخدعة الرجل، طالبا إليه أن يرد الإبل، وقد صورها مصابة بالجرب وبمختلف الأدواء، وكأنه يريد أن يشأمها وينزل بها اللعنة والبوار:

فيا آل ثوب إنما ذود خالد

كنار اللظى لا خير في ذود خالد1

بهن دروء من نحاز وغدة

لها ذربات كالثدي النواهد2

جربن فما يهنأن إلا بغلقة

عطين وأبوال النساء القواعد3

فلم أر رزءا مثله إذ أتاكم

ولا مثل ما يهدي هدية شاكد4

ويؤيد ذلك ما روى صاحب السيرة، من أن أبا سفيان بن حرب ألقى ابنه معاوية أرضا؛ فرقا من دعوة خبيب حين قال وقد أخذوه ليصلبوه:"اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا". وقد كانت العرب تزعم أن الرجل إذا دعي عليه فاضطجع لجنبه، زالت عنه5.

وكان الشاعر ربما عجز عن دفع مظلمة، أو رد حق غصب منه، فلا يستعين على ذلك إلا بلسانه؛ فيهاب الناس هجاءه أكثر مما يخافون سيف الفاتك الجبار.

1 الذود: الجماعة القليلة من الإبل.

2 الدروء: جمع درء بفتح فسكون وهو التنوء. النحاز: داء يأخذ الدواب والإبل في رئاتها فتسعل سعالا شديدا. الغدة: طاعون الإبل. الذربات: جمع ذربة بفتح فكسر وهو رأس الخراج.

3 جربن: أصابهن الجرب. يهنأن: يطلين. الغلقة: شجر يدبغ به. عطين: معطون؛ لأنها لا يدبغ بها إلا بعد عطنها.

4 الشاكد: المهدي، والشكد: الإهداء.

5 السيرة 3/ 182.

ص: 536

5-

أقسام الهجاء:

ينقسم الهجاء إلى ثلاثة أقسام: هجاء شخصي، وهجاء أخلاقي، وهجاء سياسي.

فالهجاء الشخصي يعتمد على مهاجمة الأفراد، وهو أقدم أنواع الشعر الهجائي، وهو في معظم الأحيان متأثر بالأهواء الشخصية، بعيد عن العدل والإنصاف؛ لأنه لا يرتقي إلى عناصر الحياة العامة إلا في القليل من نواحيه، فهو أقرب للسباب، وأدنى إلى أن يتورط في الفحش. ومثل هذا الشعر قد يعجب المعاصرين ويسترعي انتباههم، فيرددونه شامتين أو ساخطين، ولكن يفقد جزءا كبيرا من قيمته بتداول العصور، فلا يتحمس له الناس ولا يجدون فيه المتعة إلا بمقدار ما يشتمل عليه من نادرة طريفة، أو سخرية مسلية، أو نكتة مضحكة.

أما الهجاء الأخلاقي، فموضوعه الجرائم الأخلاقية أو الدينية والمفاسد الاجتماعية، والعادات القبيحة والعيوب الإنسانية على وجه العموم. وقد يعم بالهجاء جنسا من الأجناس لا يعين منه أفرادا؛ كالذي نجده في شعر المعري من السخط على المرأة أو رجال الدين. ومن أمثلته في الأدب الحجازي وصف العقوق لأمية بن أبي الصلت.

والنوع الثالث من الهجاء هو الهجاء السياسي. وهو يتميز عن سالفيه بأن صاحبه يرى مثله الأعلى في حزب من الأحزاب أو طائفة من الطوائف أو مذهب من المذاهب، فهو يهاجم كل ما يتعارض مع هذا المثل من نقائص ومعايب تتمثل في أنصار حزب، وهو يزعم في كل هذا -صادقا أو متصنعا- أنه يهاجم في سبيل الفضيلة والحق.

ونستطيع أن نلحق بهذا القسم الهجاء الديني والهجاء القبلي. أما الهجاء الديني فنجد له أمثلة فيما كان بين شعراء المسلمين وشعراء قريش أول ظهور الإسلام. وأما الهجاء القبلي فيصور الشعر السياسي في طوره البدائي عند العرب؛ فقد كان العربي يحمل لقبيلته من القداسة والإجلال مثل ما يحمل المواطن لوطنه

ص: 537

بل أشد. وكان للفرد على قبيلته من الحقوق ما يشبه حق المواطن على وطنه؛ فهي مكلفة بحمايته من كل اعتداء وهو بعد هذا مسئول أمامها، مرتبط بها، لا رأي له إلا ما رأت، وهو يضع سيفه ولسانه في خدمتها، ولها أن تحرمه من جنسيته بأن تتبرأ منه وتعلنه طريدا1

وقد ذكرنا أمثلة لذلك في الشعر السياسي، وسنتناول بالتفصيل هذه الأقسام.

6-

أما الهجاء الشخصي فمبعثه تلك المنازعات الفردية، والخلافات الشخصية التي تنشأ بين الأفراد في كل زمان ومكان، بحكم أن الحياة كلها صراع على العيش، ونزاع على المال والجاه والسلطان.

وقد كان هذا اللون صورة سريعة حادة لانفعال الغضب لدى الجاهليين، فلم يتح له الصقل، ولا الأناة التي هي سبيل التجويد، فهو فقير في الصور والمعاني، ضئيل الحظ من الخيال

وهو بعد، معركة كلامية هائجة تستعر بين فردين يتقاذفان بالشتائم.

ويتميز الهجاء الشخصي بما يأتي:

1-

بسط اللسان، وكيل الشتائم، واختلاق المثالب والمعايب. وكثيرا ما يكون السباب مفحشا مقذعا يفضح العورات، دون مراعاة لأدب اللياقة أو الاحتشام.

2-

الفخر بالأحساب والأنساب، والأهل والمال والوالد، وكريم السجايا والتعالي بها على الخصوم والأعداء، وتعييرهم بنقائصهم في هذه المفاخر.

3-

تهديد الخصم بالقتل، وبالشعر الذي يسمه بميسم الذل ويظل لعنة تلاحقه في كل سامر ونادٍ، ويبقى على الأيام ذل الدهر وعار الأبد ووصمة الحياة!

هذه هي المعاني التي لا يكاد يخرج عنها الهجاء الفردي.

1 الهجاء والهجاءون في الجاهلية 19، 20، 21.

ص: 538

وقد كان للشعراء الحجازيين نصيب في هذا اللون من الهجاء؛ يقول المزرد بن ضرار الذبياني "أخو الشماخ":

يهزون عرضي بالمغيب ودونه

لقرمهم مندوحة ومآكل

على حين أن جربت واشتد جانبي

وأنبح مني رهبة من أناضل

وجاوزت رأس الأربعين فأصبحت

قناتي لا يلفى لها الدهر عادل

فقد علموا من سالف الدهر أنني

معن إذا جد الجراء ونابل

زعيم لمن قاذفته بأوابد

يغني بها الساري وتحدى الرواحل

مذكرة تلقى كثيرا رواتها

ضواح لها في كل أرض أزامل

تكر فلا تزداد إلا استنارة

إذا رازت الشعر الشفاه العوامل

فمن أرمه منها ببيت يلح به

كشامة وجه ليس للشام غاسل

كذاك جزائي في الهدي وإن أقل

فلا البحر منزوح ولا الصوت صاحل1

كان المزرد فارسا مشهورا، وكان هجاء خبيث اللسان، حلف: لا ينزل به ضيف إلا هجاه، ولا يتنكب بيته إلا هجاه، إلا أنه أدرك الإسلام فأسلم. ويبدو أنه أقلع عن الهجاء أخيرا؛ لقوله فيما نقل صاحب اللسان "4/ 484" عن ابن السكيت:

تبرأت من شتم الرجال بتوبة

إلى الله مني لا ينادى وليدها

1 القرم: الأكل بمقدم الفم. يقول: قد كان لهم مندوحة ومنصرف عن أكل عرضي في غيابي. أنبح مني: صار من أناضلهم يذبحون كالكلاب. المعن: المعترض في كل شيء. الجراء: الجريء. النابل: الحاذق في النبل. الأوابد: الوحوش أو غرائب الشعر. أزامل: جمع أزمل، وهو كل صوت مختلط. رازت الشفاه الشعر: جربته. العوامل: النواطق بالشعر. الهدي: التهادي بالشعر، يقصد المهاجاة. الصحل: بحة الصوت. يقول: إنه لا يكل، ولا ينضب معينه.

ص: 539

على أننا نجد حظا وافرا من الجمال الفني في قصيدة ذي الإصبع العدواني، التي يهجو بها ابن عم له:

ولي ابن عم على ما كان من خلق

مختلفان فأقليه ويقليني

أزرى بنا أننا شالت نعامتنا

فخالني دونه بل خلته دوني

يا عمرو إن لا تدع شتمي ومنقصتي

أضربك حتى تقول الهامة اسقوني

لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب

عني ولا أنت دياني فتخزوني

ولا تقوت عيالي يوم مسغبة

ولا بنفسك في العزاء تكفيني

إني لعمرك ما بابي بذي غلق

بالفاحشات ولا فتكن بمأمون

عف ندود إذا ما خفت من بلد

هونا فلست بوقاف على الهون

عني إليك فما أمري براعية

ترعى المخاض وما رأيي بمغبون

كل امرئ راجع يوما لشيمته

وإن تخالق أخلاقا إلى حين

إني أبي أبي ذو محافظة

وابن أبي أبي من أبيين

لا يخرج القسر مني غير مأبية

ولا ألين لمن لا يبتغي ليني

وأنتم معشر زيد على مائة

فأجمعوا أمركم كلا فكيدوني

فإن عرفتم سبيل الرشد فانطلقوا

وإن جهلتم سبيل الرشد فأتوني

ماذا علي وإن كنتم ذوي كرم

أن لا أحبكم إن لم تحبوني

لو تشربون دمي لم يرو شاربكم

ولا دماؤكم جمعا ترويني

الله يعلمني والله يعلمكم

والله يجزيكم عني ويجزيني

قد كنت أوتيكمو نصحي وأمنحكم

ودي على مثبت في الصدر مكنون

يا عمرو لو لنت لي ألفيتني بشرا

سمحا كريما أجازي من يجازيني

والله لو كرهت كفي مصافحتي

لقلت إذ كرهت قربي لها بيني

ص: 540

ويصادف الباحث في الأدب الحجازي بعض الهجاء المفحش؛ كالأشعار التي تنسب لحسان بن ثابت حتى بعد أن خالط الإسلام روحه، فها هو ذا في المعركة الناشبة بين الإسلام والشرك في يوم أحد يهجو هند أم معاوية، فيقول:

أشرت لكاع وكان عادتها

لؤم إذا أشرت مع الكفر

لعن الإله وزوجها معها

هند الهنود طويلة البظر

أخرجت مرقصة إلى أحد

في القوم معنقة على بكر1

ثم يقول:

أقبلت زائرة مبادرة

بأبيك وابنك يوم ذي بدر

ونسبت فاحشة أتيت بها

يا هند ويحك سبة الدهر

فرجعت صاغرة بلا ترة

مما ظفرت به ولا وتر

زعم الولائد أنها ولدت

ولدا صغيرا كان من عهر

بل إنه ليتهمها بأنها كانت تسقط أولادها من السفاح وتدفنهم سرا في بطحاء أجياد؛ سترا للفضيحة والعار، فيقول:

لمن سواقط صبيان منبذة

باتت تفحص في بطحاء أجياد

باتت تمخض ما كانت قوابلها

إلا الوحوش وإلا ضبة الوادي

ويهجو بني سهم وعمرو بن العاص بن وائل "وأمه النابغة امرأة من عنزة"، فيقول:

أما ابن نابغة العبد الهجين فقد

أنحى عليه لسانا صارما ذكرا

ما بال أمك راغت عند ذي شرف

إلى جذيمة لما عفت الأثرا

ظلت ثلاثا وملحان معانقها

عند الحجون فما ملا ولا فترا

يا آل سهم فإني قد نصحت لكم

لا أبعثن على الأحياء من قبرا

1 مرقصة: ترقص البعير، وذلك حين تسرع في السير. معنقة: مسرعة كذلك.

ص: 541

أما هشام فرجلا قينة مجنت

باتت تغمز وسط السامر الكمرا1

لولا النبي وقول الحق مغضبة

لما تركت لكم أنثى ولا ذكرا

ويقول في هجاء بني المغيرة:

هلا منعتم من المخزاة أمكم

عند الثنية من عمرو بن يحموم

أسلمتموها فباتت غير طاهرة

ماء الرجال على الفخذين كالموم

ولا نريد المضي في هذا الشعر الفاحش بل الممعن في الفحش الذي لا نكاد نجد له نظيرا في الشعر الجاهلي، ولعل كثيرا منه مشكوك فيه لا تصح نسبته لحسان.

ويمتاز حسان "ببراعته في خلق الصور الفنية وابتكارها، وهذه الموهبة تتيح للهجائين بنوع خاص كثيرا من الشهرة والذيوع، فهي تصور إلى جانب الذكاء بصيرة هجائية، وروحا فكهة، لا تنظر إلى الأشياء إلا لتسخر منها، وترى فيها شبها قريبا بألوان مضحكة من الصور". يقول في هجاء رجل من بني عابد بن عبد الله المخزومي:

فإن تصلح فإنك عابدي

وصلح العابدي إلى فساد

وإن تفسد فما ألفيت إلا

بعيدا ما علمت من السداد

على ما قام يشتمني لئيم

كخنزير تمرغ في رماد

ويقول في هجاء الحارث بن كعب "رهط النجاشي" الشاعر:

حار بن كعب ألا الأحلام تزجركم

عنا وأنتم من الجوف الجماخير

1 راغت: مالت عن القصد. ذو شرف: موضع. جذيمة: اسم رجل. يقول له: هلا خبرتني خبر أمك، انحرفت عن الطريق إلى ذلك الرجل معفية آثار أقدامها على الرمال؛ خشية أن تتبع. ملحان: عبد لخزاعة. الحجون: جبل بمكة. الماجن: الذي يرتكب المقابح المخزية ولا يبالي العذل والتقريع. الكمر: جمع كمرة وهو رأس الذكر. الغمز: العصر والكبس باليد.

ص: 542

لا بأس بالقوم من طول ومن عظم

جسم البغال وأحلام العصافير

ذروا التخاجؤ وامشوا مشية سجحا

إن الرجال ذوو عصب وتذكير

كأنكم خشب جوف أسافله

مثقب فيه أرواح الأعاصير

ألا طعان ألا فرسان عادية

إلا تجشؤكم حول التنانير1

7-

الهجاء السياسي:

وأما الهجاء السياسي في الحجاز فألوان شتى، منها:

أ- هجاء الفرد قبيلته.

ب- هجاء الفرد قبيلة أخرى، يصور فيه مثالبها وما بينها وبين قبيلته من منازعات ومنافسات.

جـ- هجاء يتجه إلى الملوك الطغاة الذين يذلون القبائل، ويفرضون عليها الإتاوات الفادحة.

د- هجاء يصور الملاحاة التي كانت بين الإسلام وبين أعدائه.

وقد تحدثنا عن الألوان الثلاثة الأولى في "الشعر السياسي"، كما أسلفنا طائفة من الشعر الذي قيل في نقد الملوك الطغاة وتهديدهم، وذكرنا نبأ الحارث بن ظالم المري الذي فتك بخالد بن جعفر وقتل ابنا للنعمان كان في حجر أخته سلمى بنت ظالم، وأوردنا قصيدته التي مطلعها:

قفا فاسمعا أخبركما إذ سألتما

محارب مولاه وثكلان نادم

ونزيد هنا أن سنان بن أبي حارثة المري -وهو يومئذ رأس غطفان- قال للنعمان بعد هذه الحادثة: "أبيت اللعن، والله ما ذمة الحارث لنا بذمة ولا جاره لنا

1 الجوف: جمع أجوف. الجمخور: الواسع الجوف، والمراد الضعفاء المستريحون. التخاجؤ: التباطؤ في المشي. العصب: شدة الخلق. المشية السجح: السهلة. التجشؤ: تنفس المعدة عند الامتلاء. التنانير: جمع تنور وهو ما يخبز فيه. ديوان حسان ص213 و"الهجاء والهجاءون ص222".

ص: 543

بجار، ولو أمنته ما أمناه". فقال الحارث يندد بالنعمان وسنان ويتوعدهما ويسخر منهما:

ألا أبلغ النعمان عني رسالة

فكيف بخطاب الخطوب الأعاظم

وأنت طويل البغي أبلج معور

فزوع إذا ما خيف إحدى العظائم

فما غرة والمرء يدرك وتره

بأروع ماض الهم من آل ظالم

أخي ثقة ماضي الجنان مشيع

كميش التوالي عند صدق العزائم

فأقسم لولا من تعرض دونه

لعولي بهندي الحديدة صارم

فأقتل أقواما لئاما أذلة

يعضون من غيظ أصول الأباهم

تمنى سنان ضلة أن يخفيني

ويأمن، ما هذا بفعل المسالم

تمنيت جهدا أن تضيع ظلامتي

كذبت ورب الراقصات الرواسم

يمين امرئ لم يرضع اللؤم ثديه

ولم تتكنفه عروق الألائم

أما اللون الرابع الذي يصور الصراع بين الشرك والإسلام، فيمكن أن نسميه "الهجاء الديني".

8-

الهجاء الديني:

وقد أدرك النبي -صلوات الله عليه- قيمة الحرب الكلامية وأثرها الفعال في تعزيز الحرب الفكرية والمعارك الحربية بينه وبين قريش الوثنية، فانتدب حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة؛ للذود عن الإسلام ومنافحة المشركين، وكان حسان وكعب يعارضانهم بمثل قولهم بالوقائع والأيام والمآثر، ويعيرانهم بالمثالب. وكان عبد الله بن رواحة يعيرهم بالكفر، ويعلم أنه ليس فيهم شر من الكفر. فكانوا في ذلك الزمان أشد شيء عليهم قول حسان وكعب، فلما أسلموا وفقهوا الإسلام، كان أشد القول عليهم قول ابن رواحة1.

1 الأغاني 15/ 28.

ص: 544

وكان النبي -صلوات الله عليه- يصلح بعض هذا الشعر ويوجهه، ويطلب إلى حسان أن يستفيد من علم أبي بكر في الأنساب؛ ليعرف مخازي قريش وعوراتها.

وقد كان أثر هذه العناية بالدعاية للدين واضحا في نمو فن الهجاء وعنفه، ولكنه لم يترك أثرا واضحا في أسلوب هذا الفن، فقد ظل كما كان جاهليا في صميمه، معتمدا على الأنساب، والتعبير بضعف العصبية، وخمول الذكر، والعجز عن حماية الجار، والاستسلام للمهاجمين من الأعداء، والقعود عن الثأر، إلى أمثال هذه الخصال التي تصور المثل الجاهلية، ولم يتأثر بالقيم الجديدة إلا قليلا. والنبي -صلوات الله عليه- يقول لشعراء المسلمين:"قولوا لهم مثل ما يقولون لكم"؛ ذلك لأنه قصد إلى التأثير في الجماهير، ولم يكن التعبير بالشرك، وعبادة ما لا يعقل، ومخالفة الخلق القويم، ليصنع في هذا المقام شيئا، فالهجاء فن يعتمد على الواقع وعلى القيم الأخلاقية الاجتماعية كما يتصورها العصر1. ومن أمثلة هذا الشعر قول عبد الله بن الزبعرى في غزوة أحد قبل أن يسلم:

يا غراب البين أسمعت فقل

إنما تنطق شيئا قد فعل

إن للخير وللشر مدى

وكلا ذلك وجه وقبل

أبلغا حسان عني آية

فقريض الشعر يشفي ذا الغلل

كم قتلنا من كريم سيد

ماجد الجدين مقدام بطل

صادق النجدة قرم بارع

غير ملتاث لدى وقع الأسل

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

حين حكت بقباء كيها

واستحر القتل في عبد الأشل

ثم خفوا عند ذاكم رقصا

رقص الحفان يعلو في الجبل

فقتلنا الضعف من أشرافهم

وعدلنا ميل بدر فاعتدل

لا ألوم النفس إلا أننا

لو كررنا لفعلنا المفتعل

بسيوف الهند نعلو هامهم

عللا نعلوهم بعد نهل

1 الهجاء والهجاءون في الجاهلية ص177 و178.

ص: 545

وقول حسان بن ثابت في غزوة بدر:

لقد علمت قريش يوم بدر

غداة الأسر والقتل الشديد

بأنا حين تشتجر العوالي

حماة الروع يوم أبي الوليد

قتلنا ابني ربيعة يوم ساروا

إلينا في مضاعفة الحديد

وفر بها حكيم يوم جالت

بنو النجار تخطر كالأسود

وولت عند ذاك جموع فهر

وأسلمها الحويرث من بعيد

لقد لاقيتم خزيا وذلا

جهيزا باقيا تحت الوريد

وكان القوم قد ولوا جميعا

ولم يلووا على الحسب التليد1

1 ديوان حسان 140 و141.

ص: 546