المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الثاني: الحياة الاجتماعية لعرب الحجاز في العصر الجاهلي - قصة الأدب في الحجاز

[عبد الله عبد الجبار]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات:

- ‌تمهيد: وصف عام للحجاز وبيئته الطبيعية والبشرية

- ‌القسم الأول: العوامل المؤثرة في الأدب الحجازي

- ‌الباب الأول: الحياة السياسية-توطئة الجاهلية وتحديد العصر الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: أهمية الحجاز في العصر القديم

- ‌الفصل الثاني: تاريخ الحجاز السياسي

- ‌الفصل الثالث: طبيعة الحكم في الحجاز في العصر الجاهلي

- ‌الباب الثاني: الحياة الاجتماعية لعرب الحجاز في العصر الجاهلي

- ‌الفصل الثالث: اللغة العربية في الحجاز

- ‌الباب الثالث: الحياة الدينية

- ‌الفصل الأول: معبودات الحجازيين وعاداتهم الدينية

- ‌الفصل الثاني: أشهر الأصنام في الحجاز

- ‌الباب الرابع: الحياة العقلية عند عرب الحجاز في العصر الجاهلي

- ‌الباب الخامس: شخصيات حجازية في العصر الجاهلي

- ‌القسم الثاني: الحياة الأدبية في الحجاز في العصر الجاهلي، النثر

- ‌الباب الأول: صورة عامة للنثر الحجازي في العصر الجاهلي

- ‌الباب الثاني: فنون النثر الحجازي في العصر الجاهلي

- ‌الفصل الأول: الحكم والأمثال

- ‌الفصل الثاني: الخطب والوصايا

- ‌الفصل الثالث: المحاورات والمفاخرات والمنافرات وسجع الكهان

- ‌الحياة الأدبية في الحجاز في العصر الجاهلي، الشعر:

- ‌الباب الأول: فكرة عامة عن الشعر الحجازي في العصر الجاهلي

- ‌الفصل الأول: نماذج هذا الشعر

- ‌الفصل الثاني: لمحة عامة عن الشعر الجاهلي

- ‌الباب الثاني: الشعر الحجازي بين الصحة والوضع

- ‌مدخل

- ‌ الشعر الحجازي في الميزان:

- ‌استدراكات ابن هشام على بن إسحاق

- ‌لامية تأبط شرا:

- ‌شعر أمية بن أبي الصلت الديني

- ‌دواوين القبائل الحجازية:

- ‌ديوان الهذليين:

- ‌طبعة دار الكتب:

- ‌الداواوين المفردة

- ‌ رواية ديوان النابغة:

- ‌رواية ديوان زهير:

- ‌الباب الثالث: فنون الشعر الحجازي في العصر الجاهلي

- ‌الفصل الأول: الشعر السياسي

- ‌أولا" أيام الحجازيين في الجاهلية:

- ‌ثانيا: صميم الشعر السياسي

- ‌الفصل الثاني: الشعر الحماسي

- ‌الفصل الثالث: الشعر اجتماعي

- ‌الفصل الرابع: الشعر الديني

- ‌الفصل الخامس: الشعر الغزلي

- ‌الفصل السادس: الشعر الهجائي

- ‌الفصل السابع: فنون شعرية أخرى

الفصل: ‌الباب الثاني: الحياة الاجتماعية لعرب الحجاز في العصر الجاهلي

‌الباب الثاني: الحياة الاجتماعية لعرب الحجاز في العصر الجاهلي

الفصل الأول: "1" تمهيد:

كان بين عرب الحجاز العدنانيين، وعرب اليمن القحطانيين فروق كثيرة في شتى نواحي التفكير والحياة والمعيشة:

فمن حيث كان عرب الجنوب يعيشون عيشة استقرار وإقامة غالبا؛ لأنهم كانوا يسكنون في مدن عامرة، كان عرب الشمال على عكس ذلك؛ لا يستقرون في مكان، بل ينتقلون غالبا وراء أرزاقهم في بادية العرب، ومساكنهم تبعا لذلك يحملونها معهم على ظهور الإبل ويضربونها حيث يطيب لهم المقام؛ لأنها كانت خفيفة تنسج من صوف الغنم ووبر الإبل وشعر المعز، ولم يتحضروا إلا في مكة والمدينة والطائف وبعض مدن قليلة في الحجاز، إبان ذلك العصر الجاهلي البعيد.

وحين كان يغلب على أهل الجنوب الحضارة والمدنية، إذ كان لهم حظ كبير في العلوم والمعارف، ويحذقون كثيرا من الصناعات المختلفة: كصقل السيوف، وتقويم الرماح، ونسج البرود والأكسية والثياب، كان عرب الشمال أهل بداوة، يحتقرون الصناعات وبعض العلوم غالبا؛ وذلك تبعا للبيئة والأمم المجاورة.

ص: 160

2-

وكانت الأمية تغلب على العرب جميعا، سواء منهم أهل الجنوب أم الشمال، غير أن أهل الجنوب كانوا أكثر إلماما بصناعة الكتابة من أهل الشمال، كما كانوا أسبق منهم إلى معرفة الخط.

وكان الخط اليمني يكتب بحروف منفصلة ويسمى المسند الحميري، وهو مشتق من الخط الفينيقي المأخوذ من الهيروغليفي "المصري القديم". ومن اليمن انتقل الخط المسند إلى كندة والنبط، ومنها إلى الحيرة والأنبار، ثم نقل إلى الحجاز على يد حرب بن أمية بعد أن دخله تغيير أبعده عن صورة المسند الحميري.

فالخط المصري من أقدم الخطوط المعروفة، وهو مبدأ سلسلة الخط العربي باتفاق المؤرخين غربيين وشرقيين، وعنه أخذ الفينيقيون "سكان ساحل الشام غربي جبال لبنان" خطهم الفينيفي لترددهم على مصر بالتجارة، إلا أنهم زادوا فيه حروفا، وأدخلوا عليه من التعديل ما صيره أسهل تناولا. وعن الفينيقيين أخذت أمم شتى "أصول" خطوطها؛ ففي شمال بلاد العرب الآراميون وهم من الأمم السامية القديمة التي كانت تسكن شمالي بلاد العرب في فلسطين والشام والعراق، وفي جنوبها الحميريون.

ومن هنا اختلف مؤرخو العرب والفرنجة، فيرى الأولون أن النبطيين "سكان مدين والعقبة والحجر وفلسطين وحوران" أخذوا خطهم عن الحميريين وأصحاب المسند، بدليل ما عثر عليه فيها من الآثار الكتابية بالخط المسند، ولأن النبط كانوا متصلين باليمن تجاريا، وكان اليمنيون في ذلك الوقت على جانب عظيم من الحضارة، ثم أخذ أهل الحيرة والأنبار خطهم عن هؤلاء النبط، وعن كندة التي أصلها من حمير، وعن هاتين المدينتين انتقل الخط الحميري "النسخي" إلى الحجاز بوساطة بعض التجار الحيريين1 ولكن لم يتعلمه منهم

1 ويقال: إن حرب بن أمية كان قد صادق بشر بن عبد الملك أخا أكيدر صاحب دومة الجندل، بسبب أسفاره التجارية، واستصحبه إلى مكة، وزوجه بنته =

ص: 161

إلا القليل ولذا سموا بالأميين، وكان خطهم ضعيفا، ودون ما كان عليه عند حمير بمراحل؛ لمكانهم من البداوة ومكان أولئك من الحضارة، كما يقول ابن خلدون. وقد عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بدر على نشره بتشجيعه المعروف.

وخلاصة رأي هؤلاء المؤرخين: أن الخط الحجازي النسخي مأخوذ عن المسند، لا عن الآرامي أخيه، فمنشأ الخط كان في اليمن1، ثم انتقل منها إلى العراق، حيث

= الصهباء، فأقام بمكة مدة، علّم بها نفرا من أهلها الكتابة، منهم حرب هذا، وقيل: إن الذي علمه هو عبد الله بن جدعان وقيل غير ذلك، وقد أشار إلى الرواية الأولى بعض الشعراء فقال:

ولا تجحدوا نعماء بشر عليكم

فقد كان ميمون النقبة أزهرا

أتاكم بخط الجزم حتى حفظتمو

من المال ما قد كان شتى مبعثرا

فأجريتمو الأقلام عودا وبدأة

وضاهيتمو كتاب كسرى وقيصرا

وخط الجزم هو الخط الذي تفرع من المسند الحميري.

1-

ويذهب البعض إلى أن الخط العربي من وضع جماعة من طيء، سكنوا الأنبار، وضعوه قياسا على هجاء السريانية "4/ 242 العقد الفريد"، ثم تعلمه منهم أهل الأنبار، وأخذه عنهم أهل الحيرة، أخذه بشر بن عبد الملك أخو أكيدر صاحب "دومة الجندل"، وكانت له صحبة بحرب بن أمية لتجارته عندهم في بلاد العراق، فتعلم حرب منه الكتابة، ثم سافر مع بشر إلى مكة، فتعلم منه جماعة من أهلها "3/ 368 بلوغ الأرب، 2/ 246 المزهر".

ورأى بعض آخرون أن أهل مكة تعلموا الكتابة من إياد أهل العراق، وكانوا يكتبون "3/ 369 بلوغ الأرب".

ويذهب آخرون إلى أن إسماعيل هو الذي وضع الكتابة العربية "2/ 242 المزهر".

وذهب غيرهم إلى أن أول من وضع الكتابة هم أبناء إسماعيل "ص7 الفهرست لابن النديم". وقيل: واضعها جماعة، هم: أبجد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت، فكان أبجد ملك مكة وما يليها من الحجاز، والباقون ملوكا بمدين، وقيل: ببلاد مضر "2/ 348 المزهر".

ص: 162

تعلمه أهل الحيرة، وعنهم تعلمه أهل الأنبار، وعنهم أخذه جماعة من أهل الحجاز، وينسب هذا الرأي لابن عباس1.

ومهما كان فالحجازيون هم الذين عرفوا الكتابة قبل عرب الجزيرة الشماليين. ولما جاء الإسلام كان في قريش سبعة عشر رجلا كلهم يكتب، ومنهم: الشفاء بنت عبد الله العدوية، كانت تحسن الكتابة، وكذلك جماعة من النسوة، وفي المدينة قليل من الأوس والخزرج يكتبون، ومنهم سويد بن الصامت، وحضير الكاتب، وكانا من أهل يثرب2.

أما مؤرخو الفرنجة فيقولون: إن الخط الحيري مأخوذ عن النبطي كما قال مؤرخو العرب، ولكنهم يقولون: إن النبط أخذوا خطهم عن الخط الآرامي؛ لقرب الآراميين من النبط، وإن الخط الكوفي متولد عن نوع من الخط السرياني، يسمى السطرنجيلي قبيل الإسلام، بدليل تشابههما في الحروف، واتفاقهما في بعض قواعد الرسم: كحذف ألف المد من "الظالمين" و"كتاب"، وفي الأغراض التي يستخدمان فيها، وهي: النقش على جدران المعابد، وكتابة الكتب السماوية.

وعلى هذا الرأي، فالمسند لا دخل له في سلسلة الخط العربي بنوعيه، بخلاف الآرامي، وهذا عكس ما يقول مؤرخو العرب في هذه النقطة

وكانت الكتابة على العسب والرقوق والعظام حتى اخترع الورق سنة 120هـ.

1 2/ 349 المزهر للسيوطي.

2 15/ 1 تاريخ العرب قبل الإسلام، للدكتور جواد علي.

ص: 163

إسكنر

3-

وأما اللغة فقد كانت الحميرية هي السائدة بين عرب الجنوب، ويقال: إن إسماعيل عليه السلام تكلم بلسان جرهم، وكان لسانه قبل ذلك: إما سريانيا كأهل فلسطين، أو كلدانيا كأهل كلدانيا؛ لأن إبراهيم أباه عاش في كليهما، أو مصريا تبعا لأمه هاجر. ويظهر أن لغة إسماعيل تأثرت بكل من هذه اللهجات الثلاث، وقد نشأت سلالته في الحجاز على العربية الفصحى.

على هذا كانت لغة أهل الحجاز تخالف لغة أهل اليمن من بعض الوجوه، وتظهر بعض الفوارق في المفردات؛ فمثلا: المدية عند اليمنيين تسمى سكينا في لغة أهل الحجاز، كما تظهر أيضا في أسماء الإشارة والضمائر وأدوات التعريف وأوجه الإعراب

إلخ. ولما نزل القرآن الكريم بلغة قريش أهملت العرب لغة حمير، فكادت تنعدم ولم يبق منها إلا القليل، كالتي تسمى جعجعة قضاعة، وشنشنة اليمن، وتلتلة بهراء، وطمطمة حمير1.

1 الجعجعة: جعل الياء جيما، تقول في "الراعي خرج معي": الراعج خرج معج، والشنشنة: جعل الكاف شينا، تقول في "أطع أباك وأمك": أطع أباش وأمش، والتلتلة: كسر حرف المضارعة كلهجة المصريين، والطمطمة: جعل أم بدلا من ال كقول بعض بني حمير للنبي صلى الله عليه وسلم: "أمن أمبر أمصيام في أمسفر؟ "، أي: أمن البر الصيام في السفر؟

ص: 164

4-

وتوجد فوارق أخرى خِلْقِيَّة بين عرب الشمال والجنوب ترجع إلى لون البشرة وشكل الرأس وطول القامة؛ فأهل الشمال يغلب عليهم جمال الوجه واستدارته، وكبر الرأس وطول القامة، والبياض الضارب إلى السمرة، وهي خصائص الجنس السامي.

أما أهل اليمن، فقليلا ما تتوفر فيهم هذه الصفات السامية، بل يغلب عليهم السواد، وتشبه سحنهم من وجوه كثيرة سحنة الإفريقيين من الأحباش.

وكان أساس الاجتماع عند العرب كما تقدم شماليين وجنوبيين هو الأسرة التي يكونها الرجل منهم بالزواج والتناسل ولا يزال يقوم عليها، ويعنى بكل حاجياتها حتى تشتد سواعد أبنائها، ويصبحوا قادرين على الكسب، فيقوم فيهم الوالد يرشدهم بما كسبه من التجارب ويدلهم على طرق الخير بما أفاءت عليه الظروف من حكمة وعقل، ويفصل بينهم في المنازعات المختلفة التي قد تقوم بينهم، فلا يتركهم يتفرقون حتى لا يطمع فيهم طامع، إذ هم مصدر عزته وجاهه، وتستمر الأسرة في الزيادة حتى تتكون القبيلة.

والعرب الحجازيون: بدو وحضر، وبين الفريقين تفاوت كبير في التقاليد والعادات والأخلاق:

أما البدو، فهم قوم رحّل يسكنون الخيام، ولا يقرون في مكان، ينتجعون الكلأ، ويتتبعون مساقط الماء ومنابت العشب، يرحلون إليها بأنعامهم التي يغتذون بلحومها وألبانها، ويكتسون بأصوافها وأوبارها، وهم -لجدب بلادهم، وانصرافهم عن أوجه التكسب الأخرى- كانوا يقنعون من العيش بالكفاف، ولا يفتنّون في المطاعم والملابس، بل كانوا يعيشون غالبا على اللبن والتمر واللحم. ولقلة مواطن الكلأ لديهم، وميلهم إلى الانتقام

ص: 165

والأخذ بالثأر، كثرت الحروب بينهم كثرة مفزعة، وكانت نيرانها لا تخبو إلا لتشتعل، وكانوا يأنفون من الاشتغال بالزراعة والصناعة، ويرون أنهم لم يخلقوا إلا للقتال ولم يعدهم الدهر إلا للصراع والنزال، وأنه لا ينبغي أن يتناولوا رزقهم إلا من سيوفهم ورماحهم، ولم يكن لديهم سوى نظام القبيلة.

والقبائل العربية كانت متعادية، متنافرة، أما أفراد القبيلة الواحدة فكانوا متضامنين أشد التضامن؛ ما يغنمه أحدهم فهو للقبيلة، وما يصيبه فعليها، يعتز كل منهم بنسبها ويفاخر بحسبها ويوافقها على خطئها وصوابها:

وهل أنا إلا من غزية، إن غوت

غويت، وإن ترشد غزية أرشد

وإذا اعتدي على أحدهم، هبوا إلى نصرته سراعا، زرافات ووحدانا:

قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم

طاروا إليه زرافات ووحدانا1

لا يسألون أخاهم حين يندبهم

في النائبات على ما قال برهانا

لكن أخاهم، إذا جرّ عليهم المغارم، واسترسل في جناياته، تخلوا عنه وأعلنوا براءتهم منه، ويسمى عندهم "خليعا".

وقد كان أساس العصبية عند العرب هو النسب؛ ولذلك كانت العصبية القبلية هي أقوى العصبيات؛ لقربها واتحادها، وشدة ارتباط أفرادها، وهنالك عصبيات أخرى كالحلف والولاء:

الحلف:

فالحلف -أو المعاهدة- يجمع بين القبائل ولو تباعدت أنسابها، وإنما يلتجئون إلى هذا النوع -في الغالب- حينما يفتقدون القوة والنصرة في ذوي القرابة، فيتعاقدون ويتناصرون مع الأباعد لتتوفر لهم أسباب القوة التي ينالون بها الرياسة، أو يدفعون عن أنفسهم الظلم والعدوان، أو يغالبون بها من سواهم، وهذه العصبية أضعف من العصبية القبلية.

1 بضم الواو: جمع واحد وواحدة بمعنى منفرد، والزرافات: جمع زرافة -بفتح الزاي- الجماعة

وهذا كقول سلامة بن جندل:

كنا إذا ما أتانا صارخ فزع

كان الصراخ له قرع الطنابيب

ص: 166

الولاء:

والولاء هو الرابطة التي كانت توجد بين العرب والأعاجم الذين عاشوا بينهم، ويسمون هؤلاء الأعاجم موالي، ومثلهم الأسرى الذين لم يستطيعوا فداء أنفسهم، وكان العرب يسمون هؤلاء جميعا بسمة القبيلة؛ لأن كل قبيلة كان لها سمة خاصة تعرف بها، وتسم بها رايتها وإبلها كيا بالنار.

وكان المولى يرث من القبيلة التي استلحق بها، كما يرث الصريح من أبنائها.

الخلع:

وضد الولاء "الخلع"، فكان الرجل إذا ساءه أمر من ابنه أو من مولاه خلعه أي: نفاه عن نفسه، فيصبح غير مرتبط بالمولى وتصبح قبيلته -تبعا له- في حل من جميع التصرفات التي يرتبط بها المولى ولا يتحملون جريرتها، وقد يعلنون ذلك الخلع في سوق عكاظ، فيبعثون مناديا ينادي فيه بذلك، وقد يكتبون به كتابا1.

عصبية الأبوة:

وعصبية النسب معناها الانتساب إلى الأب، فقد كان هو المعول عليه في القرابة عند العرب2. وقد روى المبرد أن رجلا من الأزد كان يطوف بالبيت وهو يدعو لأبيه، فقيل له: ألا تدعو لأمك؟ فقال: إنها تميمية3.

1 من أشهر حوادث الخلع -قبل الإسلام- خلع كل من عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد من عشيرتهما، وسبب ذلك أنهما ذهبا في الجاهلية بتجارة إلى الحبشة واختصما في الطريق، فأساء عمارة إلى عمرو فأضمر عمرو له الشر، فكتب إلى أبيه أن يخلعه؛ دفعا لما قد يجره عليه من المكروه إذا هو آذى عمارة، وكتب كذلك عمارة إلى أهله بمثل ما كتب عمرو، فخلعت كل من العشيرتين صاحبها، وأرسلوا بذلك مناديا إلى مكة. راجع التمدن الإسلامي جـ4 ص19 عن الأغاني.

2 قال شاعرهم:

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا

بنوهن أبناء الرجال الأباعد

3 الكامل جـ1 ص198.

ص: 167

عصبية الخئولة:

ومع شدة تمسك العرب بعصبية الأبوة وتقديمها على عصبية الأمومة، فقد كانوا إلى جانب ذلك يرعون حق الأمومة، ويسمونها "عصبية الخئولة".

وأوضح شواهد على ذلك نصرة أهل المدينة للنبي؛ لأن أم النبي صلى الله عليه وسلم من بني النجار من الخزرج، وهي قبيلة قحطانية، وأبوه من قريش، وهي قبيلة عدنانية، فلما توفي والده التجأت أمه إلى أخواله بني النجار بالمدينة فأكرموا وفادتها، ولما بلغ أشده واستوى وآتاه الله العلم والحكمة واضطهدته قريش ومن تبعه، هاجر إلى المدينة في حماية أخواله وأتباعه؛ لأن خئولة بني النجار جعلت الخزرج كلهم أخواله، وكل الحوادث في المدينة تدل على أن بني النجار كانوا دائما في مقدمة المحامين عن الرسول وأتباعه بعد الهجرة.

ونذكر بعد ذلك أيضا من الحوادث، أن بني كلب انضمت إلى معاوية بن أبي سفيان حينما نهض للمطالبة بدم عثمان، ولعل أهم سبب في انضمامهم أن نائلة زوج عثمان كانت من قبيلتهم، وأمثلة ذلك كثيرة في الجاهلية وبعد الإسلام.

آثار العصبية القبلية:

ومن الواضح أن العصبية القبلية كانت من أهم أسباب النزاع الذي نشب بين العرب في الجاهلية، وقد اتخذت هذه العصبية أشكالا مختلفة، ظهرت في شكل مفاخرات، وفي شكل منافرات، وأخيرا جرّت إلى نشوب معارك دموية، وأورثت أحقادا وحزازات تأصلت في نفوس العرب. وعلى الرغم من الجهود التي بذلها صاحب الدعوة عليه السلام في محوها من نفوسهم، فقد بقيت تشغل معظم تاريخ النزاع في جزيرة العرب، وفي غيرها أيضا حوالي ثلاثة قرون من الزمان.

وأشهر حوادث المنافسة ما كان بين القبائل القحطانية والعدنانية، وقد يفوت القارئ ملاحظة ذلك أثناء اطلاعه على تاريخ المعارك؛ لأنهم قلما يذكرون انتساب القبائل إلى إحدى هاتين العصبيتين، فيقولون مثلا:

ص: 168

"ونشبت الحرب بين قيس وكلب" ولا يذكرون أن قيسا من العدنانية وكلبا من القحطانية لاعتقادهم أن القارئ يعلم ذلك، وعلى هذا النحو قولهم: تفاخرت قحطان ونزار، أو معد واليمن، أو مضر وحمير، أو هوازن وكهلان، أو قيس وهمدان

إلخ.

على أن النزاع الذي حدث بين هذه القبائل، لم يكن أعظم عنفا وأثرا مما حدث بين بني العباس وبني أبي طالب وهما جميعا من بني هاشم، ولا مما حدث بين بني هاشم وبني أمية، وكلاهما من بني عبد مناف.

موقف الإسلام منها:

أما موقف الإسلام من العصبية القبلية، فكان موقفا عدائيا، فإن صاحب الرسالة عليه السلام قد دعا إلى الوحدة، والتضامن، ونبذ الخلاف والشقاق والأنانية، وعمل على إزالة الفوارق، ونشر العدالة، وأعلن المساواة بين الناس، وكان آخر ما خاطب به الناس في حجة الوداع:"إن ربكم واحد، وأباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى".

5-

مكانة الشاعر:

وكانوا يحبون الشعر والاستماع له؛ لأنه ديوانهم الذي يخلد مفاخرهم، ويسجل أنسابهم ووقائعهم، ويذكي نار الحماسة في نفوسهم، وكان لكل قبيلة شاعر أو أكثر، يناضل عن أحسابها، ويشيد بمفاخرها، ويذود عن حياضها.

اللهو:

كما كانوا يلهون بالخمر، وغناء القيان، ولعب القمار، وصيد الوحوش بالكلاب المعلّمة أو بالخيل أو بحفر "الزبية". ومن أمثالهم: بلغ السيل الزبى، وكل الصيد في جوف الفرا.

ص: 169

أثر المرأة:

وكانت المرأة البدوية تشاطر زوجها أعباء الحياة؛ فتواسي الجرحى وتقف خلف الصفوف تبعث الحمية في نفوس الرجال فيستميتون في القتال؛ خوفا على نسائهم أن يقعن في السبي. وفي السلم تنسج الخيام والملابس وتخيطهما، وتحضر الماء وتطهي الطعام وتصنع الأقط والزبد، وكانت سافرا تقابل الضيوف وتقريهم، وتستشار في زوجها فتقبل أو ترفض.

وقد كثر ذكرها في أشعارها واحتلت الذروة منها وافتتحوا بها قصائدهم، وكثيرا ما نراها واقفة في وجه زوجها تصده عن الاسترسال في الكرم والقتال ضنا بنفسه وبماله، فلا يثنيه ذلك عما ركب في طبيعته من حب السخاء والشجاعة؛ إيثارا لحسن الأحدوثة وجمال الذكر.

قال أحد شعرائهم القدامى:

وعاذلة هبت بليل تلومني

ولم يغتمز في قبل ذاك عذول

تقول: اتئد لا يدعك الناس مملقا

وتزري بمن يابن الكرام تعول

فقلت: أبت نفس علي كريمة

وطارق ليل غير ذاك يقول

ولكن العرب -لشدة غيرتهم على نسائهم وحرصهم على أعراضهم أن تثلم، ولأن حياتهم حياة حربية، ثم لفقرهم- كرهوا البنات، وقالوا: دفن البنات من المكرمات. ومما يروى في ذلك، أن رجلا تحول عن بيت زوجه إلى بيت جاره حين ولدت بنتا، فسمعها ذات يوم تغني، وهي ترقصها:

ما لأبي حمزة لا يأتينا

يظل في البيت الذي يلينا

غضبان ألا نلد البنينا

والله ما ذلك في أيدينا

وإنما نأخذ ما أعطينا

ونحن كالأرض لزارعينا

ننبت ما قد زرعوه فينا

فأثر ذلك في نفسه، وعاوده حدب الوالد على ولده.

وقد أسرف بعضهم في بغضهن فاستباح وأدهن. واستفظع ذلك كثير من عقلائهم، فكانوا يفدونهن من أهلهن ويحتضنونهن، ومن هؤلاء صعصعة بن ناجية، وبه افتخر الفرزدق، فقال:

ص: 170

ومنا الذي أحيا الوئيد، وغالب

وعمرو، ومنا حاجب والأقارع

أولئك آبائي فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا -يا جرير- المجامع

ومن الحجازيين الذين استنكروا الوأد، زيد بن عمرو بن نفيل القرشي

كان يستحيي الموءودات، فإذا بصر برجل يهم بوأد بنته، قال له: لا تقتلها، أنا أكفيك مئونتها، ويأخذها وينفق عليها حتى تكبر، ثم يقول لأبيها: إن شئت دفعتها إليك، وإن شئت كفيتك مئونتها. ويقال: إنه أحيا ستا وتسعين موءودة1.

وأما ما أثر من أخبار العهر2، فخاص بالإماء دون الحرائر.

أما الحضر:

فكانوا يسكنون المدن، ويبنون الدور والقصور، ويفتنون في المطعم والمشرب والمسكن، ويشتغلون بالصناعة والزراعة والتجارة، ولا يرون في ذلك بأسا ولا غضاضة، وهؤلاء هم سكان مكة والمدينة والطائف وبعض القرى الحجازية الأخرى.

القرشيون والتجارة:

وكان القرشيون أهل تجارة يغدون ويروحون في جزيرة العرب آمنين مطمئنين وقد اتسعت تجارتهم، فامتدت إلى الشام واليمن وكانت إلى الأولى رحلتهم الصيفية، وإلى الثانية رحلتهم الشتوية، كما شملت الحبشة والفرس والهند، وقد تقسم أولاد عبد مناف هذه الأقطار: فكان هاشم يذهب إلى الشام، وعبد شمس إلى الحبشة، والمطلب إلى اليمن، ونوفل إلى فارس. وكان تجار قريش يختلفون إلى هذه الأمصار، بحبال هؤلاء الإخوة، فلا يتعرض لهم؛ لأن كل أخ منهم كان قد أخذ من ملك ناحية سفره أمانا له3 وإنما استأثرت قريش بالتجارة لما كانت تتمتع به بين العرب من

1 بلوغ الأرب للألوسي 3/ 45، وراجع 50/ 5 البخاري.

2 عهر المرأة كمنع عهرا وعهورا وعهارة وعاهرها: أتاها الفجور، أو زنى "قاموس". وفي المصباح: عهر كتعب وقعد في لغة: فجر.

3 وفي ذلك يقول الشاعر:

يا أيها الرجل المحول رحله

هلا نزلت بآل عبد مناف؟

الآخذون العهد من آفاقها

والراحلون لرحلة الإيلاف

والخالطون غنيهم بفقيرهم

حتى يكون فقيرهم كالكافي

ص: 171

أمن على أموالها وقوافلها لمنزلتهم الدينية في نفوس سكان الجزيرة. قال الزمخشري وصاحب القاموس: وكان لقريش رحلتان: يرحلون في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام، فيمتارون ويتجرون، وكانوا في رحلتهم آمنين؛ لأنهم أهل حرم الله، وولاة بيته، والناس يتخطفون من حولهم، فإذا عرض لهم عارض، قالوا: نحن أهل حرم الله، فينصرف عنهم من غير أن يمسهم بسوء. ولهذه الرحلات وما فيها من مشاهدات أثر كبير في رقيهم الثقافي والفكري؛ لذلك كانوا أرقى عرب الشمال عقلا، وأسماهم فكرا وثقافة.

النسيء:

ومعناه: التأجيل والتأخير، وأصله أن العرب كانوا على دين إبراهيم عليه السلام يعتقدون تعظيم الأشهر الحرم، وهي أربعة: المحرم، رجب، ذو القعدة، ذو الحجة، وكانوا يتحرجون فيها من القتال، ولكنهم كانوا يكرهون توالي ثلاثة أشهر من غير قتال ونفوسهم مجبولة على الحروب وشن الغارات، فكانوا إذا احتاجوا إلى الحرب في المحرم أخّروا تحريمه إلى صفر، فإن احتاجوا أيضا إلى الحرب في صفر أحلوه وحرموا مكانه ربيعا الأول، وهكذا حتى استدار التحريم على جميع فصول السنة، وانعدم ضبط الأشهر الحرم، وضاعت خصوصيتها اعتمادا على تحريم مجرد العدد.

أما كيفية ذلك، فكان الرجل من كنانة يقوم على باب الكعبة، أو عند جمرة العقبة إذا صدر الحاج من منى، فيقول: أنا الذي لا أعاب، ولا أخاب، ولا يرد لي قضاء، فيقولون: صدقت، أنسئنا شهرا، فيقول: إني أحللت لكم شهر كذا وأنسأته وحرمت مكانه شهر كذا "ويسمي الشهر".

وكان من عادتهم أيضا تأخير أشهر الحج أو أشهر أخرى، يقصدون بذلك أن يأتي الحج في فصل معين من السنة لا يختلف باختلاف الفصول حتى

ص: 172

يتمكنوا من أدائه من غير مشقة ولا عنت، ومن غير أن تتأثر مصالحهم بأدائه؛ لأن حجهم -حسب شريعة إبراهيم- كان يقع في شهر ذي الحجة، وهو من الشهور الهلالية التي تدور في كل فصل من فصول السنة ولا توافق فصلا معينا، فربما أدركهم هذا الشهر وهم مشغولون بشئون معاشهم، فلا يستطيعون السفر للحج والتجارة كما هي عادتهم.

وقد حرم الله النسيء بنوعيه، في قوله تعالى:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ} الآية، وقوله تعالى:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} الآية.

أما تخصيص هذه الأشهر بالحرمة، فلفضل مزيتها؛ لأن المحرم يبدأ به العام ورجبا وسطه والقعدة والحجة آخر العام، إشارة إلى وجود السلم في العام كله، فإذا حدثت الحرب لا ينبغي أن تشغل جميع العام، بل يجب أن تنقطع بفترات من السلم في الأول والوسط والآخر؛ تهدئة لنارها، وإراحة للناس من عنائها وويلاتها، وفتحا لمجال المصالحات والمهادنة، وإنما كان الختم بشهرين لوقوع فريضة الحج فيهما وهي التي لا تؤدى إلا في سلام ووئام تامين.

ص: 173

الفصل الثاني: أسواق العرب في الحجاز 1 وحياة الحجاز التجارية

1-

كان العرب في العصر الجاهلي يقيمون أسواقا عامة للتجارة، وكانت هذه الأسواق تستمر طول العام ينتقلون من بعضها إلى بعض، ومن أشهر أسواقهم العربية في الحجاز:

1-

سوق عكاظ، وكانت تعقد في أول ذي القعدة إلى العشرين منه، وهي أعظم أسواقهم، وقد اتخذت سوقا بعد عام الفيل بخمس عشرة سنة وظلت قائمة في الإسلام حتى نهبها الخوارج عام 129هـ حين خرجوا بمكة مع المختار بن عوف، وسنخصها بحديث بعد.

2-

سوق مجنة: ومجنة موضع بمر الظهران أسفل مكة على أميال منها، وكانوا ينتقلون إليها من عكاظ فيقيمون فيها إلى نهاية ذي القعدة.

3-

سوق ذي المجاز بمنى خلف عرفة: وكانوا يقيمون فيها ثمانية أيام من ذي الحجة، ثم يقفون بعرفة في اليوم التاسع.

4-

دومة الجندل: وتنعقد في ربيع الأول، ويحدد البغدادي ميعاد انعقادها فيجعله اليوم الخامس عشر من ربيع الأول من كل عام.

5-

مكة: وهي سوق دائمة.

6-

نطاة خيبر: وتعقد بعد أيام الحج، كما روى الألوسي.

7-

سوق منى.

1 87-90 جـ1 تاريخ آداب العرب للرافعي، 264، جـ1 بلوغ الأرب، معجم البلدان.

ص: 174

وقد أغفلوا بعض مواضع مهمة1 تقوم فيها أسواق، ربما لا تقل شأنا عن التي أفردوها بالذكر؛ كالطائف، وكالسوق التي يقيمها النبط في المدينة أحيانا، فإنا نعلم أن الطائف مدينة قديمة جاهلية، وهي "بلد الدباغ، يدبغ بها الأهب الطائفية المعروكة" ولأهلها زراعة وتجارة وغنى، وربما قاربوا قريشا في شأنها التجاري، ومن ثم كانت لأسواق الطائف أهمية تجارية ملحوظة.

2-

وكانت هذه الأسواق العربية -رغم أنها مكان للتجارة والمقايضة- ميدانا فسيحا لتبادل الآراء، وعرض الأفكار، والتشاور في مشكلات الأمور، ومجالا للمفاخرات والمنافرات والمحاورات، ومعرضا لإذاعة مفاخر القبيلة وشرف الأرومة، وناديا واسعا لإلقاء روائع الشعر، والمباهاة بالفصاحة، والمفاخرة بالبلاغة. وفيها ألقيت أشهر القصائد والمعلقات العربية؛ فأنشد عمرو بن كلثوم معلقته في عكاظ، وكذلك فعل الأعشى الذي أنشد فيها قصيدته في مدح المحلق.

ولقد سبق الإغريق العرب إلى أمثال هذه المحافل في المجتمعات الأولمبية التي كانوا يقيمونها كل أربع سنوات للألعاب الرياضية البدنية كلما حجوا إلى هيكل المشترى في أولمبية، وكانوا يحرمون القتال على أنفسهم في أثنائها على نحو ما يفعل العرب في الأشهر الحرم، فلما استوثق لهم الأمر صارت هذه المجتمعات الأولمبية أندية لإنشاد الشعر وتبادل الأفكار.

وكانت في هذه الأسواق منابر الخطابة في الجاهلية، يقوم عليها الخطيب بخطبته فيذيع فعاله ويعدد مآثره ومآثر قومه وأيامهم عاما بعد عام.

1 أسواق العرب ص183، وراجع في أسواق العرب: اليعقوبي في تاريخه 1/ 313، 314، والهمداني في صفة جزيرة العرب، والمرزوقي في الأزمنة والأمكنة 161-170، والقلقشندي في صبح الأعشى 1/ 410، 411، والبغدادي في خزانة الأدب 4/ 360-362، والألوسي في بلوغ الأرب 1/ 264-270.

ص: 175

وكان النقاد والشعراء والرواة يجتمعون في الأسواق، فينشد الشعراء، وينقد النقاد، ويذيع الرواة ما سمعوه في كل مكان. وكان النابغة الذبياني حكم الشعراء بسوق عكاظ، وكانت تضرب له قبة فيه، فتأتيه الشعراء ينشدونه قصائدهم فيحكم لبعضهم على الآخرين.

وكان هذا الميدان الأدبي الفسيح، بما فيه من آذان مرهفة، وعيون متطلعة، وأذواق حصيفة، يحمل الشعراء والخطباء على التجويد والتهذيب والتنقيح، ويدعوهم إلى تخير الألفاظ العذبة، والأساليب الجميلة، والمعاني الرائعة؛ قصدا إلى الوضوح والإفهام والإمتاع، ومن ورائهم الرواة يذيعون هذا الأدب المختار في البلاد، وينشرونه في القبائل، ويروونه في كل مكان للسامعين.

ذلك هو الأثر الأدبي الكبير لهذه الأسواق، فوق أثرها الخطير في توحيد العقائد والأخلاق والعادات، والنهوض الحثيث بالمجتمع العربي، والسير به في طريق الوحدة التي بلغها بعد ظهور الإسلام ونبيه الكريم.

3-

وللأسواق عمل لغوي خطير، فقد كانت سببا في التقريب بين لغات العرب ولهجاتهم.

كانت تنزل بها شتى القبائل العربية على اختلافها، من قحطانيين وعدنانيين، كما كان ملك الحيرة يبعث تجارته إليها، ويأتيها التجار من مصر والشام والعراق.

فكان هذا الاجتماع الكبير وسيلة من وسائل التفاهم اللغوي، والتقارب بين اللغات واللهجات العربية، واختيار القبائل بعضها من بعض. وكانت الأذواق المرهفة في هذه الأسواق تعمل عملها في النقد اللغوي، فتأخذ كل قبيلة من لغة الأخرى ما خفّ على النطق، وعذب في الألسنة، وظهرت فصاحته من مختلف الألفاظ والأساليب.

وكان القرشيون خاصة من بين قبائل العرب وبتأثير اجتماعات الحج والأسواق والحروب، أكثر القبائل ميلا إلى النقد اللغوي، فاقتبسوا من

ص: 176

لهجات القبائل أعذبها ومن ألفاظهم أسهلها وأنصعها وأفصحها، وأخذوا يضيفون ذلك إلى لغتهم؛ فزادت ثروة اللغة العدنانية القرشية. وقلدت القبائل الأخرى قريشا في ذلك، وأخذت عنها محاكية لها في لغتها؛ وذلك لمكانة قريش وإشرافها على هذه الأسواق، مما حدا بالشعراء الذين يريدون لشعرهم الذيوع أن يتحروا لهجتها المختارة الذائعة في إذاعة محامد قبائلهم وأمجادهم، فكان لذلك آثاره البعيدة في تهذيب اللغة العربية وتوحيدها وجمعها في لغة مختارة هي لغة قريش أفصح القبائل العربية التي نزل بها القرآن الكريم.

وعمل الأسواق في توحيد الألسنة والتقريب بين اللهجات وتهذيب اللغة العربية كان ذا أثر بعيد في نمو اللغة العربية ونهضتها وانتقالها من طور اللهجات المتباينة واللغات المتنافرة والمتناكرة إلى طور جديد، مهد للوحدة اللغوية بين قبائل العرب، التي نزل القرآن الكريم مؤيدا لها ومذيعا للغة قريش في كل مكان.

4-

أهم الأسواق:

1-

سوق عكاظ:

وننتقل بعد ذلك إلى الحديث في إيجاز عن سوق عكاظ وأثرها في اللغة والأدب؛ توضيحا لأثر الأسواق الجاهلية، وزيادة في معارفنا عن أسرار الاجتماع الجاهلي؛ لأن هذه السوق كانت تمتاز عن غيرها بأن جميع القبائل كانت تقصدها.

أين تقع عكاظ؟

في موقع عكاظ آراء عديدة، نذكر أشهرها، وهذه طائفة من أقوال المؤرخين القدامى في تحديد موقع عكاظ:

1-

عكاظ بين نخلة والطائف إلى موضع يقال له: الغدق "ابن إسحاق، الواقدي، أبو عبيدة"1.

1 معجم البلدان ص203 جـ6، معجم البكري ص606 الطبعة الأوروبية.

ص: 177

2-

عكاظ نخل في وادٍ بينه وبين الطائف ليلة، وبينه وبين مكة ثلاث ليالٍ، وبه كانت تقوم سوق العرب بموضع يقال له: الأثيداء، وبه كانت أيام الفجار، وكانت هناك صخور يطوفون بها ويحجون إليها "الأصمعي"1.

3-

عكاظ في وسط أرض "قيس عيلان"، "ابن هشام"2.

4-

عكاظ وراء قرن المنازل بمرحلة على طريق صنعاء، في عمل الطائف على بريد منها. وهي سوق لقيس عيلان وثقيف، وأرضها لنصر "الأزرقي"3.

5-

عكاظ في أصل جبل بس أو ماء بس بقعة لبني هلال، وحذاءها أخرى يقال لها: الخدود، وعكاظ منها على غلوة. وعكاظ صحراء مستوية ليس فيها جبل ولا علم إلا ما كان من الأنصاب التي كانت في الجاهلية، وبها من دماء الإبل كالأرجام العظام، وحذاءها عين يقال لها: خليص للعمريين، وخليص هذا رجل وهو ببلاد تسمى ركبة "عرام بن الأصبغ السلمي البكري"4.

هذه جملة من أقوال المتقدمين في تحديد عكاظ، وهي متقاربة في المعنى متطابقة في الجملة.

وجميع الأوصاف المتقدمة تنطبق على الأرض الواسعة الواقعة شرق الطائف -بميل نحو الشمال- خارج سلسلة الجبال المطيفة به، وتبعد تلك الأرض عن الطائف مسافة "35كم" تقريبا، ويحدها غربا: جبال بلاد عدوان "العقرب، وشرب، والعبيلاء"، وجنوبا: أبرق العبيلاء وضلع الخلص، وشرقا: صحراء ركبة، وشمالا: طرف ركبة والجبال الواقعة شرق وادي قران. وتشمل هذه الأرض وادي الأخيضر "وهو المعروف قديما بوادي عكاظ"، ووادي شرب حينما يفيضان في الصحراء ويخرجان من الجبال وما بينهما من الأرض وما اتصل بهما من طرف ركبة5.

1 معجم البلدان: جـ6 ص203.

2 التيجان ص310.

3 تاريخ مكة: المطبعة الماجدية ص210 جـ1.

4 أسماء جبال تهامة، ومعجم ما استعجم ص660-662.

5 موقع عكاظ لعزام وابن بليهد والجاسر ص62.

ص: 178

هذا هو موقع عكاظ كما حققه الثقات عن مشاهدة وعيان، ولا عبرة بمن يقول: إن موقع عكاظ في السيل الكبير على الطريق بين مكة والطائف، أو السيل الصغير في الطريق بين السيل الكبير والطائف؛ أولا: لما في هذا القول من مخالفة للتحديد المذكور في الأقوال السابقة، وهو الأهم. وثانيا: لأنها تقع في مجرى السيول التي تسير في تلك الناحية. وثالثا: لأنها تضيق عن الغرض المقصود منها، وهو إقامة تلك السوق العربية الكبيرة.

أثرها الأدبي:

كانت سوق عكاظ ميدانا للتجارة، وفداء الأسرى، والمفاوضة في الرأي، وتبادل الأفكار؛ كما كانت ميدانا للمنافرة والمفاخرة وإنشاد القصائد، وكان بها في الجاهلية منابر يقوم عليها الخطباء، فيقف أشراف القبائل مفاخرين بمناقبهم ومآثر قومهم. وكانت معرضا للبلاغة ومدرسة بدوية يلقى فيها الشعر والخطب، وينقد ذلك كله ويهذب، وفيه أنشد ابن كلثوم معلقته، ويقال: إن المعلقات أنشدت فيها، كما أنشد فيها الأعشى مدحته المحبرة في المحلق. وممن ألقى فيها مدائحه حسان، كما كانت الخنساء تلقي فيها مراثيها وتعاظم بمصيبتها. وكان النابغة تضرب له قبة حمراء في سوق عكاظ ويجتمع عليه الشعراء فيتحاكمون إليه.

أتاه الأعشى يوما فأنشده، ثم أتاه حسان، فقال: لولا أن أبا بصير أنشدني آنفا لقلت: إنك أشعر الجن والإنس، قال حسان: والله لأنا أشعر منك ومن أبيك وجدك، فقبض النابغة على يده، وقال: يابن أخي، أنت لا تحسن أن تقول:

فإنك كالليل الذي هو مدركي

وإن خلت أن المنتأى منك واسع

ثم أتته الخنساء، فأنشدته:

قذى بعينك أم بالعين عوار

أم أقفرت إذ خلت من أهلها الدار؟ 1

فلما بلغت قولها:

وإن صخرا لتأتم الهداة به

كأنه علم في رأسه نار

1 العوار والعائر: كل ما أعل العين والرمد والقذى.

ص: 179

قال: ما رأيت ذا مثانة أشعر منك.

ويروى: أنه قال لها: لولا أن أبا بصير سبقك لقلت: إنك أشعر من بالسوق، ويروى أنه قال لحسان حين بلغ من قصيدته:

لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى

وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

ولدنا بني العنقاء وابني محرق

فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابنما

قللت جفانك ولو قلت: الجفان لكانت أكثر، وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك، وقلت: يلمعن بالضحى، ولو قلت: يبرقن بالدجى لكان أبلغ؛ لأن الضيف بالميل أكثر طروقا، وأنثت السيوف1.

وكذلك قصدت هند بنت عتبة بن ربيعة هذه السوق حين قتل أهلها في بدر، وقرنت جملها بجمل الخنساء، وأخذت كل منهما تعاظم الأخرى بمصابها وتساجل في الشعر لوعة بلوعة، ورثاء برثاء.

وفي سوق عكاظ خطب قس بن ساعدة خطبته المشهورة، وقد سمعها الرسول -صلوات الله عليه.

وكان عليها رئيس يشرف على الموسم ويقضي بين المتخاصمين، ومن الرؤساء عامر بن الظرب العدواني، واستمرت في الإسلام. وكان محمد بن سفيان بن مجاشع قاضيا لها، وكان أبوه يقضي فيها في الجاهلية. وقد قصدها الرسول الأعظم يبث فيها دعوته، وبقيت حتى خربت عام 129هـ.

وكانت سوق عكاظ سببا في أربع حروب نشبت بين العرب، وسميت حروب الفجار.

وكان سبب الأولى "المفاخرة في سوق عكاظ"، وسبب الثانية "تعرض فتية من قريش لامرأة من بني عامر بن صعصعة بسوق عكاظ"، وسبب الثالثة "مقاضاة دائن لمدينه مع إذلاله في سوق عكاظ"، وسبب الرابعة "أن عروة الرحال ضمن أن تصل تجارة النعمان بن المنذر إلى سوق عكاظ آمنة، فقتله البراض في الطريق". وهذه الحروب كانت قبل مبعث الرسول وهو ابن أربع عشرة سنة وشهدها مع أعمامه، وقال: $"كنت يوم الفجار أنبل على عمومتي".

1 الأغاني جـ8 ص194، 195، والجفنات: القصاع الكبيرة.

ص: 180

وقد دعت هذه الحروب التي كانت تنشب أيام قيام هذه السوق، ويترتب عليها السلب والنهب في التجارة، أن قام فريق من العرب بالدعوة إلى السلم، ومن أشهرهم عبد الله بن جدعان، فكان إذا اجتمعت العرب في السوق دفعت أسلحتها إليه ثم يردها عليها إذا ظعنوا، ويظهر أن هؤلاء السادة هم الذين سموا هذه الحروب بحروب الفجار؛ لما ارتكب فيها من الفجور وسفك الدماء، وقد نجحوا في وقف هذه الحروب وربما كان ذلك من أثر حلف الفضول.

5-

1- وأما سوق مجنة: فكانت تبدأ من العشر الأواخر من ذي القعدة بعد أن يفيض الناس من عكاظ قرب موسم الحج. ومجنة موضع قرب مكة، وكان يحضرها كثير من قبائل العرب ولكنها كانت أقل مكانة من عكاظ.

2-

وأما ذو المجاز: فكانت قرب عرفة على بعد فرسخ منها فيما بينها وبين "الشرائع"، ولا يزال ذو المجاز معروفا، وكانت سوقها تقام إلى الثامن من ذي الحجة وهو يوم التروية، وكانت العرب تتم في هاتين السوقين ما فاتها في سوق عكاظ من أعمالها التجارية وغير التجارية.

3-

دومة الجندل: دومة الجندل ويقال: دوماء الجندل، كلاهما بالضم1، وهي بلد تقع في نقطة متوسطة بين الشام والخليج الفارسي والمدينة، على منتصف الخط الواصل بين العقبة والبصرة تقريبا. وبينها وبين دمشق خمس ليالٍ، وبينها وبين المدينة خمس عشرة ليلة لعدم استقامة الطريق بينهما. وهي في غائط من الأرض طوله خمسة فراسخ، وفيها حصن "مارد" المشهور، وإلى غربها عين تثج، فتسقي ما حولها من النخل والزرع.

وسميت دومة الجندل؛ لأن حصنها مبني بالجندل. وقريب منها جبلا طيء

1 ونقل الفتح فيهما صاحب النهاية، وفي الصحاح أن أصحاب اللغة يضمون، وأصحاب الحديث يفتحون.

ص: 181

وكان بهذا الحصن بنو كنانة من كلب، وكانت خربة فأعاد بناءها أكيدر صاحبها وإخوته، وهي التي تسمى حديثا بالجوف.

وكانت العرب في الجاهلية تنزل سوق دومة الجندل للبيع والشراء في غرة ربيع الأول.

قال الألوسي: كان أكيدر صاحب دومة الجندل يرعى الناس ويقوم بأمرهم أول يوم، فتقوم سوقهم إلى نصف الشهر. وربما غلب على السوق بنو كلب فيعشرهم ويتولى أمرهم يومئذ بعض رؤساء بني كلب فتقوم سوقهم إلى آخر الشهر.

ويدور نشاط هذه السوق حتى منتصف ربيع الأول، وتغص بمن يؤمها من أطراف الشام والعراق وسائر الجزيرة، وهي من الأسواق الكبرى للعرب حتى إنهم ليلقون في سيرهم إليها نَصَبا كبيرا لوعورة الطريق والتعرض للأخطار وفقدان الأمن. ولا يحملهم على ذلك كله إلا ما تغريهم به هذه السوق من ربح وفائدة. قال المرزوقي:

"كانت قريش تخرج إليها من مكة، فإن أخذت الحزن لم تنخفر العرب حتى ترجع

وكانوا إذا خرجوا من الحزن أو على الحزن وردوا مياه كلب، وكانت كلب حلفاء بني تميم، فإذا سفلوا عن ذلك أخذوا في بني أسد حتى يخرجوا على طيء فتعطيهم وتدلهم على ما أرادوا؛ لأن طيئا حلفاء بني أسد، فإذا أخذوا طريق العراق تخفروا ببني عمور، مرثد من بني قيس بن ثعلبة، فتجيز لهم ذلك ربيعة كلها"1.

ثم تفتر حركتها وتأخذ بالاضمحلال حتى آخر الشهر، إذ يفترق أهلها وموعدهم إليها من قابل، شهر ربيع الأول.

4-

سوق نطاة خيبر: خيبر قرية شمالي المدينة، وهي عدة حصون لليهود وفيها مياه ومزارع. ونطاة اسم حصن بها واسم عين أيضا، وقيل: هي خيبر نفسها.

1 الأزمنة والأمكنة 2/ 16.

ص: 182

وقد اشتغل أهلها بالزراعة والتجارة، ونظرا لوقوعها على الطريق التجارية الكبرى بين اليمن والشام قام أهلها بتجارة الجزيرة، وكانت إحدى محطات القوافل التجارية في سفرها إلى الشام. ونجح أهلها في متاجرهم حتى أفادوا منها غنى واسعا واستفاضت لهم ثروات طائلة ونشأت فيهم رءوس الأموال الضخمة. ويرى بعضهم أن خيبر كانت مصرف الجزيرة المالي، ولما فتحها الرسول صلى الله عليه وسلم صالح أهلها على الشطر من الثمر والحب.

وكلما مرت عير لقريش أو لطيمة من لطائم النعمان قامت لها سوق في خيبر1.

الحياة التجارية:

كانت أهم السلع التي تشغل هذه الأسواق: الخمور من هجر وغزة وبصرى، والأدم والبرود الموشاة من اليمن، والطيب والحرير والزيوت من الشام، والجلود من الطائف، والمسك من الحيرة، وكان البيع فيها بطريق المبادلة في الغالب.

وقد عرف الحجازيون التجارة منذ القدم، وكان في الجزيرة العربية طرق تسلكها القوافل التجارية بين المحيط الهندي وبلاد الشام، فكان أحدها يسير من حضرموت إلى البحرين على الخليج الفارسي "طريق الغرب" وعلى هذا الطريق الأخير تقع مكة في المنتصف تقريبا بين صنعاء وبطرة.

وقد سلك العرب هذه الطرق البرية؛ لأن طريق البحر لم يكن آمنا. وكانت التجارة لا تخرج إلا محروسة، وكانت تسير في أزمنة محدودة وقد أثبت العرب شرفا في التبادل التجاري، واشتهروا بحب الوفاء وتقدير الوعد، والصدق في عرض السلع، فوثقت بهم الممالك المجاورة، وبذلك مهد العربي الطريق لتجارة واسعة منظمة.

وكانت بعض القبائل تتولى تأمين المتاجر مقابل جُعْل خاص، فإذا عدا عليها عادٍ بذلوا في سبيل حمايتها حياتهم ودماءهم، وإذا عجزوا عن حمايتها ردوا الجعل لأصحاب التجارة، وربما عوضوهم عما أصابهم من خسائر.

1 من المراجع المهمة في هذا الموضوع كتاب "أسواق العرب" للأفغاني.

ص: 183

ولما كانت قريش تسكن مكة في مكان متوسط بين اليمن والشام غير ذي زرع، وليس بهذا المكان موارد تكفيهم، فقد اتخذ القرشيون التجارة مهنة لهم، وأصبحوا ينافسون عرب اليمن، وغدت تجارة قريش -على عهد هاشم بن عبد مناف- تخرج في قوافل عظيمة تشبه الجيش، وقد بلغت أحيانا خمسمائة وألف بعير، تتقدمها الكشافة تتعرف ما في الطريق، والهداة يهدون السبيل والحراس يخفرونها.

وكانت القوافل الحجازية تنزل في أسواق عينتها الحكومة الرومانية لتحصل منهم الضرائب، ولتراقب الأجانب الوافدين على بلادها، وكانت هذه القوافل التي تقصد البلاد الرومانية تنزل أولا في أيلة "العقبة" ومنها تذهب إلى غزة ثم تتفرق القافلة حسب مقتضيات التجارة، على أن تعود فتتجمع في غزة في موعد مضروب، تعود بعده القافلة نحو البلاد العربية. وقد استفاد العرب أثناء رحلاتهم التجارية بعضا من مدنية الروم والفرس وآدابهم، واقتبسوا مما شاهدوه في هذه الأمم من أنظمة حكومية في جمع الضرائب، ومن أخلاق، ولغة وعادات لم تكن لهم، يؤيد ذلك ما أدخله العرب على لغتهم -بتأثير هذه المخالطة- من ألفاظ فارسية، ورومانية، ومصرية، وحبشية، مما أصبح على مر الأيام جزءا لا يتجزأ من اللغة العربية، إلى حد أن نطق بها القرآن الكريم1.

ويقال: إن اسم "قريش" إنما سميت به قبيلة قريش المكية لاشتغالها بالتجارة، فقد ورد في لسان العرب: وقيل: سميت بذلك لأنهم كانوا أهل تجارة ولم يكونوا أصحاب ضرع وزرع، وذلك من قولهم: فلان يتقرش المال أي: يجمعه.

ص: 184