المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول: الحكم والأمثال - قصة الأدب في الحجاز

[عبد الله عبد الجبار]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات:

- ‌تمهيد: وصف عام للحجاز وبيئته الطبيعية والبشرية

- ‌القسم الأول: العوامل المؤثرة في الأدب الحجازي

- ‌الباب الأول: الحياة السياسية-توطئة الجاهلية وتحديد العصر الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: أهمية الحجاز في العصر القديم

- ‌الفصل الثاني: تاريخ الحجاز السياسي

- ‌الفصل الثالث: طبيعة الحكم في الحجاز في العصر الجاهلي

- ‌الباب الثاني: الحياة الاجتماعية لعرب الحجاز في العصر الجاهلي

- ‌الفصل الثالث: اللغة العربية في الحجاز

- ‌الباب الثالث: الحياة الدينية

- ‌الفصل الأول: معبودات الحجازيين وعاداتهم الدينية

- ‌الفصل الثاني: أشهر الأصنام في الحجاز

- ‌الباب الرابع: الحياة العقلية عند عرب الحجاز في العصر الجاهلي

- ‌الباب الخامس: شخصيات حجازية في العصر الجاهلي

- ‌القسم الثاني: الحياة الأدبية في الحجاز في العصر الجاهلي، النثر

- ‌الباب الأول: صورة عامة للنثر الحجازي في العصر الجاهلي

- ‌الباب الثاني: فنون النثر الحجازي في العصر الجاهلي

- ‌الفصل الأول: الحكم والأمثال

- ‌الفصل الثاني: الخطب والوصايا

- ‌الفصل الثالث: المحاورات والمفاخرات والمنافرات وسجع الكهان

- ‌الحياة الأدبية في الحجاز في العصر الجاهلي، الشعر:

- ‌الباب الأول: فكرة عامة عن الشعر الحجازي في العصر الجاهلي

- ‌الفصل الأول: نماذج هذا الشعر

- ‌الفصل الثاني: لمحة عامة عن الشعر الجاهلي

- ‌الباب الثاني: الشعر الحجازي بين الصحة والوضع

- ‌مدخل

- ‌ الشعر الحجازي في الميزان:

- ‌استدراكات ابن هشام على بن إسحاق

- ‌لامية تأبط شرا:

- ‌شعر أمية بن أبي الصلت الديني

- ‌دواوين القبائل الحجازية:

- ‌ديوان الهذليين:

- ‌طبعة دار الكتب:

- ‌الداواوين المفردة

- ‌ رواية ديوان النابغة:

- ‌رواية ديوان زهير:

- ‌الباب الثالث: فنون الشعر الحجازي في العصر الجاهلي

- ‌الفصل الأول: الشعر السياسي

- ‌أولا" أيام الحجازيين في الجاهلية:

- ‌ثانيا: صميم الشعر السياسي

- ‌الفصل الثاني: الشعر الحماسي

- ‌الفصل الثالث: الشعر اجتماعي

- ‌الفصل الرابع: الشعر الديني

- ‌الفصل الخامس: الشعر الغزلي

- ‌الفصل السادس: الشعر الهجائي

- ‌الفصل السابع: فنون شعرية أخرى

الفصل: ‌الفصل الأول: الحكم والأمثال

‌الباب الثاني: فنون النثر الحجازي في العصر الجاهلي

‌الفصل الأول: الحكم والأمثال

المثل في اللغة:

في الأسفار العبرية للعهد القديم ورد اللفظ Masal للدلالة على الحكم والسيادة، ووردت صفة الحكم منسوبة إلى الله تعالى وإلى الناس وإلى الأجرام السماوية. وفي نسبة الحكم إلى الأجرام السماوية، وردت آيتان في سفر التكوين "1/ 16-18" هذا نصهما:"فعل الله النورين العظيمين: النور الأكبر لحكم النهار، والنور الأصغر لحكم الليل والنجوم. وجعلها الله في جلد السماء لتنير على الأرض، ولتحكم على النهار والليل، ولتفصل بين النور والظلمة".

وإذا رجعنا إلى اللغة الآشورية، البابلية وجدنا لفظ Masala ومعناه: لمع أو سطع. وفي العربية: مثل القمر مثولا، إذا ظهر، والماثلة: منارة المسرجة. وربما استطاع الباحث في الأمثلة أن يفترض -على الأقل- وجود علاقة أسطورية قديمة بين نور الأجرام السماوية الذي اقترن بالقوة والسلطان وبين معاني اللمعان والظهور.

أطلق اللفظ في العبرية إذًا على الحكم والسيادة مطلقا، فقالوا: الحاكم Himsil "ولى الحاكم وعينه" واشتقوا الاسم على وزن فعل فقالوا:

ص: 256

"Musl" Mosel "الحكم والسلطة والسيادة". وفي العبرية المتأخرة ورد Masal بمعنى: لمس وقبض، وقالوا:"شعلة النار أمسكت بهم أو انقضت عليهم" وليس ببعيد أن يكون معنى اللمس والقبض جاء تبعا لمعنى السيادة والحكم.

أما العربية فلا تستعمل لمعنى الحكم ألفاظا مشتقة من "م ث ل" وقد اكتفت العربية بمادة "ح ك م" ومشتقاتها عن مادة "م ث ل" في الدلالة على الحكم والسيادة، في حين نجد لغات سامية أخرى كالعبرية قد استغنت بمادة "م ث ل" عن مادة "ح ك م" في الدلالة على الحكم والسيادة1، على أنه قد ورد في مادة "م ث ل" العربية ما يشير من بعيد إلى صلة ما بينها وبين معنى الحكم والسيادة، وذلك في قولهم: مثل الرجل يمثل مثالة، إذا فضل وحسن حاله.

والمثيل: الرجل الفاضل، والأمثل: الأفضل. وفي القرآن: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه: 63]{إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} [طه: 104]، ويقول العرب: امتثل القوم ما قال فلان، أي: أذعنوا وأطاعوا.

والتمثال في العربية، وكذلك amsal، messale، wesl في الحبشية كلها بمعنى "الشيء المصور" ولكن من اليسير -فيما نرى- أن نجد صلة ما بين المعنيين إذا رجعنا إلى المفهوم القديم لمعنى التمثال في اللغات السامية. فقد أورد القرآن بعض الألفاظ الدالة على الصور المعبودة، ومن بينها لفظة تماثيل إشارة إلى معبودات قوم إبراهيم [قرآن الأنبياء: 52] ووردت كذلك للدلالة على أشياء مصورة ليست مخصوصة بالعبادة [قرآن سبأ: 13] فاللفظ أطلقه العرب القدماء على الصور التي تصنع لأغراض شتى منها العبادة.

وكان السحر من أهم أغراض هذه الصناعة عند الساميين، فالبابليون أفرغوا في صناعة التماثيل جهدا ضخما لأغراض سحرية.

والساحر البابلي كان يستهدف الغلبة والسيطرة على العوامل المشئومة التي تكتنفه من كل جانب. فكان إذا أراد أن ينتقم من عدوه وهو غائب عنه عمد إلى صورة ما يصنعها بيده ثم يحرقها بحرابه؛ أي: يشعل فيها النار اعتقادا منه أن

1 قاموس عبري مادة Hakam، Masal.

ص: 257

ذلك يصل إلى جسم عدوه. وجملة القول أن التمثال في اعتقاده كان وسيلة تمكنه من السيطرة على الأصل. وهناك طائفة من التماثيل الصغيرة كان يستخدمها العبرانيون في مساكنهم الخاصة ويسمونها التراقيم Teraphim وهي بمثابة حمائل وطلاسم لحماية السكان من الشر والأذى.

فالتمثال في ذهن السامي القديم كان رمز السيادة والإخضاع؛ إذ هو الوسيلة إلى الحماية والبقاء، أو هو السيد القوي الذي يرجى خيره ويخشى من شره.

وهنا نعود إلى المعنى السابق فنفترض أن السامي القديم حين سمى الصورة "مسل mesl" أو تمثالا، اشتق اللفظ من معنى الغلبة والسيطرة.

ثم نجد في المادة اللغوية معاني يبدو أنها متفرعة من معنى "الشيء المصور"، من ذلك معنى القيام والانتصاب. قال العرب:"مثل الشيء" إذا انتصب، ومنه الحديث:"من سره أن يمثل له الناس قياما، فليتبوأ مقعده من النار"، ومنه حديث عائشة تتحدث عن أبيها:"فحنت له قسيها وامتثلوه غرضا" أي: نصبوه هدفا لسهام ملامهم وأقوالهم.

ومن الشيء المصور لمح الناطقون معنى المشابهة والمشاكلة، فورد اللفظ في الساميات "المثل metal، Metal، masal" بمعنى الشبيه والنظير. واشتقوا الفعل masal في العبرية، masalu في الآشورية، masala في الحبشية القديمة والأمهرية، metal في الآرمية، meetsl في السريانية، وكلها أفعال تدل على المشابهة والمشاكلة.

واشتق العرب من المادة لفظا يؤدي معنى القصاص "العقاب بالمثل" وتفردوا بإطلاق لفظ يدل على معنى القصاص من مادة "م ث ل" فقالوا: "المثال" وقالوا: أمثل الحاكم فلانا من فلان: إذا أقصه منه، وامتثل منه: اقتص، وقد يكون منشأ هذه التسمية أنهم لمحوا في القصاص معنى المشابهة والمشاكلة وذلك بأن يجعل شخص نظير شخص آخر في القتل. ومن المثال أو العقاب بالمثل ربما أخذوا معنى التنكيل فقالوا: مثل يمثل مثلا ومثلة بالرجل أي: نكل به وانتقم منه، وأصبحت المثلة دالة بذاتها على الآفة والعقوبة التي تقترن بالتشهير. وورد هذا المعنى في التوراة بضع مرات بلفظي: masa، meso

ص: 258

ففي التثنية "28/ 27": "وتكون دهشا ومثلا وهزأة في جميع الشعوب"، وفي القرآن:{فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} [الزخرف: 8] وقوله: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} [الزخرف: 56] وورد عدد من الأحاديث النبوية في هذا المعنى، أما في الأناجيل فلم يعثر الباحثون على هذا الاستعمال1.

الحكمة والمثل، ومدلولهما الاصطلاحي:

الحكمة:

الحكمة: قول بليغ موجز صائب، يصدر عن عقل وتجربة وخبرة بالحياة، ويتضمن حكما مسلما، تقبله العقول وتأنس به الأفئدة، وتنقاد له النفوس والمشاعر2.

وكان للعرب في الجاهلية حكماء شهروا بأصالة الرأي، وبعد الغور، ودقة التفكير، والنظر الصائب، والفهم الصحيح للحياة وأحداثها وتجاربها، وتنطلق ألسنتهم بالحكمة البليغة الرائعة، كلما حدث حادث، أو نزل خطب، أو أخذ رأيهم في مسألة.

وكان العرب يلتجئون إلى هؤلاء الحكماء في الخصومات والمفاخرات

1 الأمثال: لعابدين 2-7.

2 والحكمة في اللغة: المنع، وحكمه: منعه مما يريد، ومنه حكمة الدابة -وهو ما أحاط بحنكها من اللجام- لأنها تذللها لراكبها وتمنعها الجماح، ومنه اشتقت الحكمة؛ لأنها تمنع صاحبها من الآثام والرذائل. راجع أساس البلاغة للزمخشري "مادة حكمة" 1/ 190، ومن الممكن أن ترد مادة "ح ك م" في اللغات السامية إلى معنى المنع والفصل. ومن: فصل الشيء ومنعه، يشتق معنى التوضيح والتمييز، وما ورد في القرآن الكريم يرجع إلى معنى القول الفصل، أي: الكلام الواضح البين المتميز، قال تعالى في موضع من حوالي ثلاثين موضعا ورد فيه لفظ الحكم:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} ويفسر الحكم اقترانه بالقصص والفصل وهو الإبانة والتمييز، والعرب تطلق الحكم والحكمة بمعنًى، وفي الحديث:"إن من الشعر لحكما" والحكم هنا هو الحكمة، أي: العلم والتفقه، أو بعبارة أدق: القول الفصل.

ص: 259

والمنافرات ومشكلات الأمور، بل كان في كل قبيلة حكيم تفزع إلى رأيه في الخطوب، وتستعين بتجاربه في المشكلات، وتستضيء برأيه في جميع شئون حياتها. وقد يكثر الحكماء في القبيلة، فيكونون عونا لها في الشدائد، وتحلهم القبيلة من نفسها مكانا عليا. واشتهرت بعض النساء في العصر الجاهلي أيضا بالحكمة، ولهن آثار تروى، وحكم مخلدة في صحف التاريخ الأدبي.

والحكم من البلاغة بمكان كبير؛ لإيجازها، ووضوحها، وفصاحتها، ودقة معناها، وروعة تأثيرها، وخصب خيالها، وصدق تجاربها الإنسانية، وهي تكسب الكلام سحرا وحلاوة، وتجعله مقبولا من الذوق، قريبا للقلب، مسلما به من العقل والشعور والوجدان.

وإذا التمسنا تعريف الحكمة عند الفرنجة في بعض الموسوعات الأدبية الحديثة، نجدها تعرف على هذا النحو:

Aphorim and Maxim may alike be Briefly defined as pittlhy sentences with a general basing on pite. أي: إنها "عبارة جامعة سديدة، ذات صلة عامة بالحياة" إلا أن كلمة Maxim ذات مدلول أضيق؛ لأنها تدل على المبدأ الذي يعتنقه المؤلف "الكاتب" ويستهدي به في الحياة أو ينشد به هداية الآخرين. مثال ذلك: أن تقول: إن مبدأ لوتسي، "Tao Lse" هو:

l would meet trust with trust: l would bewise meetsuspicion Mith trust.

الفرق بين الحكمة والمثل:

وقد تشتهر الحكمة وتذيع بين الناس فتصبح مثلا. وعلى هذا سار المؤلفون في الأمثال، حيث لم يفرقوا بين ما صدر في حادثة معينة مثل "رجع بخفي حنين" أو ما فاض به لسان حكيم.

والباحثون في الآداب السامية لم يهتدوا إلى نوع الصلة التي ربطت بين هذين الاصطلاحين: حكمة ومثل، في المراحل الأولى: أكانا لفظين مترادفين، أم أن كلا منهما يختص بلون من الكلام، أم أن الحكمة كانت أعم وأشمل في مدلولها من المثل؟ ومهما يكن من شيء، فقد قرر الاصطلاح العلمي المتأخر

ص: 260

الذي اتفق عليه الباحثون، على أن أدب الحكمة Wisdom Literature أعم من أدب الأمثال؛ فكل مثل حكمة، وليس كل حكمة مثلا.

المثل وخصائصه:

عندما قام الفرنجة بترجمة أسفار التوراة والإنجيل إلى اليونانية ثم إلى سائر اللغات الأوروبية، أدركوا أن كلمة masal في العبرية والآرامية ذات مدلول واسع، فاتخذوا للتعبير عنها عدة ألفاظ، ومنها الكلمتان اليونانيتان اللتان تقابلان في الإنجليزية كلمتي "Parable" "Proverb". وكان الاصطلاح الأول منهما هو اللفظ الشائع للمثل عندهم. فإذا عرفوه قالوا:"وهو العبارة التي تتصف بالشيوع والإيجاز وحدة المعنى وصحته" فالإيجاز ركن من أركان المثل عندهم، وبذلك حدده أرسطو1. وهنا يلتقي العرب واليونان القدامى، فأبو عبيد القاسم بن سلام "224هـ" يرى اجتماع ثلاث خلال في المثل: إيجاز اللفظ وإصابة المعنى وحسن التشبيه، وإبراهيم بن سيار النظام "221هـ=846م" يقول: "يجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكناية، فهو نهاية البلاغة". ثم يأتي الفارابي الفيلسوف فيفرق بين النادرة والمثل بقوله: "النادرة: حكمة صحيحة تؤدي ما يؤدي عنه المثل، إلا أنها لم تشع في الجمهور، ولم تجر إلا بين الخواص، وليس بينها وبين المثل إلا الشيوع وحده". وهذا يطابق ما ذكره العالم بنتسن Bentzen في تقسيم أدب الحكمة إلى قسمين: الجملة الجامعة sentence والمثل Proverb.

وقد عرف المثل بعض نقاد الأدب العربي، ومنهم المبرد بأنه:"قول سائر يشبه مضربه بمورده، أو يشبه فيه حال المقول فيه ثانيا بحال المقول فيه أولا".

ويعرفه آخرون ومنهم المرزوقي بأنه: "جملة من القول مقتضبة من أصلها أو مرسلة بذاتها، فتتسم بالقبول وتشتهر بالتداول، فتنقل عما وردت فيه إلى كل ما يصح قصده منها من غير تغيير يلحقها في لفظها

". وهذا التعريف الأخير يجمع الحكمة والمثل. فالمقتضبة من أصلها هي المثل الذي له أصل وقصة أو حادثة معينة، والمرسلة بذاتها هي الحكمة التي ينطبق بها الحكيم بعد

1 Encyclopaedia of religion and Ethics.

ص: 261

طول التجربة والخبرة، وعليه يسير ابن رشيق، والميداني، وأبو هلال العسكري، وسواهم. وقد جمع أبو هلال والميداني في كتابيهما كثيرا من ذلك، وجعلاها كلها من الأمثال، سواء كانت من النوع الأول أو النوع الثاني.

بيد أن هذا التحديد لا ينطبق إلا على بعض فنون المثل، فقد أطلق العرب القدامى مع إخوانهم الساميين كلمة المثل على عبارات لا يشترط فيها الإيجاز -على الأقل- كالأمثال القياسية، والأمثال الخرافية.

أشكال مدلول المثل:

وقد أطلق الساميون لفظ "مثل" على فنون من التعبير بعضها موجز وبعضها مطول. أطلقوه على الكلمة الموجزة التي اكتسبت صفة الشيوع والشهرة في الناس، والكلمة الجامعة المركزة الدالة على مهارة الصنعة والقدرة على الإلغاز والتعمية، وأطلقوه على القطعة الأدبية التي قد تبلغ الفقرة والفقرتين من الكلام، والتي تقص نبوءة من النبوءات، أو تنزع منزع الأنشودة الشعرية، أو ترد قياسا ومقارنة لتفسير فكرة، أو توضيح عبارة، أو تحكي قصة خرافية ذات مغزى.

وفيما يلي أشكال مدلول المثل:

1-

أمثال الأحلام والنبوءات:

نظر الناطق القديم إلى أحلام النائم، وتهيؤات الكاهن، وتنبؤات النبي، فعدها أمثالا، فأطلقت التوراة هذا اللفظ على نبوءات بلعام وميخا وحبقوق، ويزعم بعض الباحثين أن القدامى عدوا هذا الشكل مثلا؛ لأنه كلام فيه تشبيه، وكان الكاهن والعراف في أشد الحاجة إلى الصورة المجازية يجد فيها مجالا للمواربة والإيماء والرمز والإلغاز. ونجد عددا من الأمثال الملغزة منسوبة إلى أقوال كهان العرب، أمثال: عزى سلمة الكاهن، والشعثاء الكاهنة وهي تصف سبعة إخوة، وطريفة الكاهنة وهي تخاطب قوم عمرو بن عامر، وكاهنة ذي الخلصة وهي تتكهن بما في بطن رقية بنت جشم، والكاهنة السعدية تخاطب العجفاء وصواحباتها.

ص: 262

2-

المثل القياسي:

وأطلق الساميون لفظ مثل على صورة مجازية أخرى ليست عبارة موجزة، ولكنها حكاية أو وصف قصد به توضيح فكرة أو البرهنة عليها بطريق المقارنة والقياس والتمثيل. ويمكن أن نسمي هذا المثل "المثل القياسي" ويسميه الفرنجة Prrable، عرف قديما في تعاليم بوذا، إذ كان المثل القياسي وسيلة تعليمية محببة إليه.

رووا أن بوذا أخذ يوما يشرح تعاليمه لتلامذته، فذكر لهم أن المجاهدين في سبيله سيلقون جزاءهم ولكنه سيحتفظ لأشدهم تمسكا بتعاليمه بهدية المعرفة، وأن مثلهم في ذلك كمثل الملك الذي كافأ جنوده بأشياء كثيرة ولكنه احتفظ لأشدهم إخلاصا بدرة تاجه

وكثر استخدامه في أيدي الأحبار والربانيين في توضيح التعاليم اليهودية وتفسيرها، ثم نجده في أقوال الإنجيل والقرآن ورجال الديانتين المسيحية والإسلامية.

والظاهر أن المثل القياسي في الآداب السامية بنوع خاص قد نشأ في أحضان الديانات. وقد يلتقي المثل القياسي بالخرافة حتى يصعب التمييز بينهما، وإن كان بعض علماء اللاهوت يفرقون في الاصطلاح بين المثل القياسي والخرافة.

3-

المثل الخرافي:

ويصف "توراندريه T، Andrae" الصلة بين اللغز والخرافة بقوله: "في كليهما يتجلى الضباب والرياح كائنات حية، وتتمثل السحب أبقارا كما في كتابات رج فيدا، وفي ألغاز الألمان، ويبدو الليل والنهار شقيقين يتعهدان ولديهما الشمس والقمر

".

وحين نطلق كلمة "خرافة" فإنما نقصد ما سماه الفرنجة Fable، وهو الذي يتخذ أداة تعليمية بنوع خاص. وهذا النوع هو الذي أطلق عليه الساميون كلمة مثل في أكثر الأحيان، أطلقها العبرانيون المتأخرون على هذه الصورة المجازية سواء أكانت مركزة أم مطولة. ففي القرن الأول الميلادي أطلق اليهود

ص: 263

كلمة masa على عدد من قصص الثعالب وخرافات كوبسيم أو كوبسيس.

وأطلق العرب على قصص الحيوان أمثالا، وفي السريانية تؤدي كلمة matJa هذا المعنى نفسه.

4-

المثل الشعبي:

وأطلق لفظ "المثل" على العبارة الموجزة المعبرة عن رأي الشعب أو اتجاهه Folk-Proverp والآداب السامية تحتفظ بعدد من الأمثال الشعبية دونها جماع الأمثال فوصلت إلينا. ومن الأمثال الشعبية المصرية القديمة قولهم: "إنها لم تحدث لنا منذ أيام رع" ولذلك نجد عددا كبيرا من هذه الأمثال في التلمود والأمهرية والعربية. ونلاحظ أن بعض هذه الأمثال لا يفهم إلا إذا عرفنا مناسبته وقصته، فهو بذاته أشبه باللغز الذي يحتاج إلى حل؛ ولهذا حرص الرواة على إيراد قصص لهذه الأمثال لشرحها وتفسيرها. وهذه الأمثال في معظم الأحيان لا تعدو ملاحظات بسيطة لا تصل إلى حد التعمق والتأمل الفلسفي البعيد، ولا تعدو كلاما مرسلا على السجية، لا صنعة فيه ولا محاولة شعرية ظاهرة في سرد العبارة، كما أنها لا تلتزم التعبير المجازي دائما وإن كان لا يخلو عدد كبير منه.

5-

المثل الأدبي:

وأطلق لفظ "مثل" على العبارة الموجزة الأدبية Cnome التي تتميز عن النوع السابق بأنها تدل على عقل واعٍ وتأمل بعيد، وصنعة ظاهرة في تنميق العبارة وتنسيقها. فمن ذلك قول العربي:"رب عجلة تهب ريثا، ورب فروقة يدعى ليثا، ورب غيث لم يكن عيثا"، وقول سفر الأمثال "1/ 8-10":"اسمع يا بني تأديب أبيك ولا ترفض شريعة أمك؛ لأنهما إكليل نعمة لرأسك، وقلائد لعنقك".

ولا يشترط في هذه الأمثال أن تكون معبرة عن نفسية طبقات الشعب وذوق الجمهور، بل هي مبادئ وأقوال يقررها أفراد من الصفوة المثقفة

ص: 264

كالحكماء ورجال الدين، وتصدر عن روية وتفكير وإتقان، وهي بهذا كله تختلف عن الأمثال الشعبية. وهذا النوع من الأمثال يقترن في تاريخه الطويل بالكتابة والحكمة والتعليم الديني.

المثل القولي والمثل الكتابي، والفرق بينهما:

قسم بعض الباحثين الأمثال العربية إلى قسمين:

"الأول" المثل الشعبي أو القولي في مختلف صوره وأشكاله.

"والثاني" المثل الكتابي الذي تظهر فيه صنعة التركيب، ورؤية الكاتب، وتأمل المفكر1.

ومن الملاحظ أن المثل الشعبي الذي يمثل الاتجاه العربي الخالص كان يرسم خطا واضحا في الاستعمال العام في تاريخ الأدب العربي، إلى أن ضعف النفوذ العربي في أواخر القرن الأول الهجري.

أما المثل الكتابي فهو يمثل خطا آخر واضحا تبدأ بواكيره في الجاهلية، ثم يزدهر بظهور الإسلام ونزول القرآن الكريم، وعناية المسلمين بالحكمة والتعليم الديني والدنيوي، ويشق هذا الاتجاه طريقه في خلال العصور2.

فالمثل العربي القديم لم يخل من آثار كتابية، ولكنها كانت منحصرة في جانبين: أحدهما ما قام به الكتابيون من الآراميين والفرس من تشجيع لحركة جمع الأمثال وتدوينها، والثاني ما أودعه العرب في أمثالهم من حوادث وأفكار كتابية استمدوها من نصوص مدونة، أو من الأوساط الكتابية التي كانت تشغل مناطق من شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام.

وبالرغم من هذا التأثير الكتابي، ظل المثل العربي القديم محتفظا بطابعه، متميزا بصبغته، واستطاع سلطان اللغة أن يخضع هذه الأفكار أو تلك الموضوعات الكتابية فيصوغها في قالب عربي قديم.

فالتأثير الكتابي في المثل الشعبي القديم -حيثما وجد- تأثير جزئي لا يمس

1 الأمثال في النثر العربي القديم صـ23، 24.

2 الأمثال في النثر العربي القديم صـ23، 24.

ص: 265

قالب المثل وصورته، ولا يطغى على الطابع الإقليمي الذي يميزه.

فالشعبية أو الإقليمية هي الميزة الأولى للمثل الشعبي، وثمة فرق آخر بين المثل الكتابي والقولي وهو تلك النغمة التأديبية التي تسري في المثل الكتابي قوية واضحة، يصوغها الحكيم في معنى كلي، أو مبدأ إنساني، أو قاعدة عامة، فإذا لجأ إلى المجاز والتصوير، اتخذ ذلك وسيلة للعبارة عن المعنى الكلي، أو للإبانة عن تلك النغمة التأديبية. أما المثل الشعبي فغايته فنية غالبا، أو بعبارة أدق: يستهدف وصف جزئية من الجزئيات كحادثة، أو شخص، أو هيئة، أو حركة، أو نكتة لفظية.

وفرق آخر يتعلق بالنشأة والمورد، فمؤرخ المثل الشعبي العربي ينبغي أن يتجه في فهم صورته ومادته، إلى البيئات العربية التي صدر عنها. أما المثل الكتابي فهو في خصائصه العامة -على الأقل- تراث مشترك بين شعوب مختلفة يمثل وحدة ثقافية بينهم1.

خصائص المثل العربي في اللغة والأسلوب:

يجنح الأسلوب السامي الأصيل إلى تلاصق العبارات

فتتألف القطعة الأدبية من وحدات Units بسيطة متوالية أشبه بحبات العقد، كل منها جوهر فرد، فإذا انفصل عن العقد شيء ظل العقد دون أن يضار في جوهر بنائه وفي أساس نظمه. وقد يلجأ هذا الأسلوب إلى نوع من التركيب، ولكنه يستخدم عادة روابط هينة خفيفة، على حين نجد في الأدب اليوناني العبارات الطويلة المركبة Periodes التي تترابط فيما بينها ترابط أعضاء الكائن الحي أو أجزاء التمثال، يتوقف بعضها على بعض. فإذا انهار جزء منها أثر ذلك في تصميم الهيكل، وفي أساس التكوين. فالساميون القدماء قد صنعوا أدبهم على طريقة نظم العقود وليس على طريقة تصميم التمثال أو الكائن الحي.

"وإذا نظرنا إلى الأمثال العربية القديمة، وتدرجنا معها من المثل الطويل المسهب

1 lntroduction to the oLd Testament By Aage Bentzen Vol، 1. P. 110.

ص: 266

كمثل الخرافة، إلى الإشارة المثلية الموجزة، وجدنا أن أسلوبها المسهب أميل إلى التسوية والتلاصق، تكثر فيه الفواصل، والقفزات السريعة، والحروف العاطفة الخفيفة، كالواو والفاء ونحوهما، ولا يلجأ المثل إلى التركيب إلا في القليل، ولا يلجأ إلى أدوات الشرط والوصل وما شاكلها من الروابط "الثقال" إلا عند الضرورة القصوى. ففي خرافة الحية والفأس نجد مثل هذه العبارة:"فعمد إلى الفأس، فأحدها، ثم قعد لها، فمرت به فتبعها، فضربها فأخطأها، ودخلت الجحر، ووقع الفأس بالجبل فوق جحرها فأثر فيه" ومعظم عبارات هذه الخرافة متلاصقة متكافئة سريعة القفزات. وفي الأمثال المركبة المؤلفة من جملتين أو أكثر نجد التسوية العطفية تسود كقولهم: "رب عجلة تهب ريثا، ورب فروقة يدعى ليثا، ورب غيث لم يكن عيثا" وقد لا يصطنع العطف، وربما استعملوا الجمل الحالية كقولهم:"أضرطا وأنت الأعلى" أو الجمل الشرطية كقولهم: "من عز بز1".

فتركيب الأمثال العربية إذًا لا يخرجها عن سمة الإيجاز والتركيز، وإذا أنعمنا النظر في هذه الأمثال ألفينا ظاهرة لا مثيل لها في الأمثال السامية الأخرى؛ هذا الإيجاز البالغ الذي يصل أحيانا إلى أن يكون المثل لفظا واحدا أو صفة وموصوفا أو مضافا ومضافا إليه أو جارا ومجرورا. فمن أمثالهم:"أيها" ومعناه نعم، وأصلها:"أي ها الله" ثم كثر في كلامهم حتى وصلوا. ومن ذلك قولهم "اللهم" كان أصله -والله أعلم- يا الله أمنا بخير، ثم كثر حتى وصلوا الله بحرف من أمنا.

ومن المضاف عدد من الأمثال أوردها الثعالبي في كتابه "ثمار القلوب في المضاف والمنسوب" كقولهم: غراب نوح، وذئب يوسف، وعصا موسى، وخاتم سليمان، وبرد محارب، وعطر منشم، ومواعيد عرقوب، وجزاء سنمار

إلخ.

وذكروا ما سموه "المكنى والمبني والمثنى" وهي أمثال أحصاها حمزة الأصفهاني فبلغت ثلاثمائة وسبعين، والمكنى والمبني من هذه الأمثال هما عبارة

1 الأمثال لعابدين صـ99، 100.

ص: 267

عن أسماء للأشخاص والأشياء والمعاني، أطلقها العرب عليها مبدوءة بأب أو أم أو بنت.

ومن أمثال المثنى قولهم: الجديدان لليل والنهار، والأسودان للتمر والماء، والقمران للشمس والقمر.

ومن أمثال المكنى قولهم: أبو الحارث كنية الأسد، وأبو حباحب كنية النار التي لا ينتفع بها، وأم فروة كنية النعجة.

ومن أمثال المبني قولهم: ابن جلا، وهو لأول النهار، وطامر بن طامر للبرغوث، وابن الأيام للرجل الجلد المجرب، وجابر بن حبة للخبز، وبنت الجبل للصدى، وبنت الشفة للكلمة.

ولعل أمثال المكنى والمبني والمثنى هي من جملة الأمثال التي تدفقت على المثل العربي القديم بعد أن اشتدت حركة أئمة اللغة في جمع شواهد العرب وأساليبهم التقليدية expressions من أهل البوادي العربية، وقد عد كثير من هذه الأساليب أمثالا، فاقتحمت باب المثل باعتبارها كلاما مأثورا يعبر عن طرائق مألوفة في لغتهم1.

وهذه الخصائص التي أسلفنا ذكرها تشمل الأمثال العربية جميعها، حجازية كانت أو غير حجازية.

المثل الحجازي:

يعتبر كتاب "أمثال العرب" للمفضل الضبي أقدم ما وصل إلينا من كتب الأمثال، وهو يعالج إلى حد ما أمثالا جاهلية، أو بعبارة أدق: أمثالا تصور في صياغتها وموضوعها نزعة جاهلية، وقلما يعثر الباحث فيه على قصص وأمثال تشير إلى واقعة إسلامية.

وهو يشتمل على حوالي مائة وخمسين مثلا موجزا، تندرج الكثرة الغالبة

1 الأمثال لعابدين 105-107.

ص: 268

منها في قصص، ويبلغ عدد هذه القصص قرابة المائة، وتتضمن القصة مثلا أو أكثر.

ويستغرق نصف صفحات كتاب الضبي تقريبا الحديث عن وقائع قصص وأمثال مستمدة من منطقة "تميم" بقبائلها المختلفة.

وهناك عدد من القصص يروي ما كان بين اليمامة والمناذرة، وقصص عن امرئ القيس، وعدد من القصص يشير إلى أهل هجر "البحرين"، ومنه ما روى عن طرفة والمتلمس.

وإذا تجاوزنا عددا من الأخبار ليس فيه إشارة واضحة إلى أسماء ووقائع معينة، وهذه لا تزيد على بضعة عشر خبرا، وجدنا عددا آخر يتحدث عن الغساسنة والحجازيين من سكان الجانب الغربي، وفي أخبار الغساسنة -وهي حوالي سبعة- إشارة إلى الخصومة التي نشبت بينهم وبين المناذرة، أو بين بعض عشائر قضاعة. وظاهر أن هذه الأخبار مستمدة من مصادر شرقية أيضا؛ لأنها تسجيل لحوادث تهم المناذرة بنوع خاص، والأخبار الحجازية لا تتجاوز الخمسة وأكثرها فكاهات، ولبعضها صلة بأهل الحيرة والنزعات الدينية التي يهمهم أن يعرفوها عن الحجاز1.

مصدر هذه القصص إذًا هو الشرق، أو إذا أردنا التحديد فهو منطقة المناذرة وجهات القبائل التي تقع تحت سلطانهم.

وطبيعي أن تكون عناية الضبي بأمثال نجد والمناذرة أكثر من عنايته بأمثال الحجازيين، فهو ينتمي إلى قبيلة "ضبة" إحدى قبائل المنطقة الشرقية، ويعتبر رأي المدرسة الكوفية الضبية. وليس بمستبعد أن يكون المناذرة أنفسهم قد أمروا بتدوين هذه الأمثال والأخبار وجمعها، ثم تداولها الرواة في الجاهلية حتى وصلت إلى الضبي في القرن الثاني للهجرة، فهي في مجموعها سجل لمفاخرهم وأحوالهم الأدبية والاجتماعية، ملوكا ورعية.

1 قسم الباحثون المثل العربي إلى قسمين:

أ- المثل الشرقي: وموطنه العراق والبحرين وعمان وحضرموت ونجد.

ب- المثل الغربي: وبيئته الحجاز واليمن.

ص: 269

ومهما يكن من شيء فمما لا شك فيه أن الحجازيين في العصر الجاهلي قد كانت لهم أمثال مثل ما كان لليمنيين والغساسنة، والنجديين والمناذرة. ولكن يلاحظ أن أمثال الحجازيين واليمنيين والغساسنة أقل من أمثال النجديين والمناذرة، فما السر في هذا؟ وهل يمكن أن نتصور شعبا كشعب الحجاز -قد أعد لكي يؤثر في الحياة الإنسانية عامة، وكانت ميزته الكبرى التفوق في الفصاحة والبلاغة ولزعمائه الفصل في الخصومات بين العرب- لم يكن له حظ وافر من هذا التراث الضخم من الأمثال؟

إننا نعتقد أن بيئة الحجاز قد كانت عامرة بالأمثال، بيد أن الزمن قد عفى على كثير منها؛ لأنها لم تظفر من العناية والتسجيل والتدوين بما ظفرت به أمثال المناذرة والبقاع التي كانت تقع تحت نفوذهم، ولم تجد من السلطان القائم في تلك الأزمنة من يرعاها ويحميها ويحفظها من الضياع. هذا إلى أن تيارات الدعوات الكتابية كانت تهاجمها وتسعى جاهدة لمحوها باعتبارها مظهرا من مظاهر الأمجاد الوثنية القومية، وخاصة إذا علمنا أن المسيحية كانت تجد لها ظهيرا قويا من الروم والغساسنة. ومهما يكن من شيء، فثم تراث ضخم من الأمثال العربية انبت عن أصله، ولم تعين بيئته، حجازية أم نجدية أم غيرهما، بأية وسيلة من الوسائل الكاشفة المميزة كاللهجة أو الحادثة أو القائل

وللحجازيين في هذا التراث العام -كما نرجح- نصيب كبير.

ويجدر بنا أن نشير هنا إلى عدد من حكماء الحجاز في الجاهلية، وقد ذكرنا جملة منهم في فصل سابق، ومن هؤلاء: أمية بن عوف الكناني وكان من أتباع الحنيفية، يدعو إلى ترك الآلهة والتمسك بإله واحد، وكان يعظ العرب في فناء البيت، ومرعا بن الظرب العدواني، وهو حكيم قيس، وكان متصلا بملوك غسان، وهاشم بن عبد مناف، وعبد المطلب، وأبو طالب من حكماء قريش. وكان بعض الحكماء يورثون أبناءهم الحكمة، كما صنع حكماء الشرق القديم، حين كانوا يلقنون أولادهم تعاليم الحكمة، فورثت ابنة عامر بن الظرب الحكمة من أبيها، وكانت ذرية هاشم بن عبد مناف حكماء قريش في الجاهلية، ونعني هشاما وعبد المطلب وأبا طالب، أما في الإسلام فقد اشتهر بها علي بن أبي طالب، وعمرو بن العاص كما عرف بها أبوه العاص بن وائل في الجاهلية.

ص: 270

وأمثال الحجاز في الجاهلية كانت -بوجه عام- تستقي من منابع ثلاثة:

المنبع الأول: تلك الأمثال التي نطق بها الحجازيون قبل الإسلام وعليها طابع الحجاز المحلي، وارتسمت عليها صورة بيئتهم وعبرت عن طرائقهم في التفكير والتعبير، أو اقترنت بحادثة كاشفة أو لهجة مميزة أو تفوه بها زعيم من زعمائهم أو فصيح من فصحائهم.

المنبع الثاني: الأمثال التي قيلت في بيئة المناذرة والمناطق التي كانت تدور في فلكها كنجد وهجر والبحرين، ثم انتقلت إلى الحجاز وشاعت في بيئتهم الاجتماعية ودارت على ألسنتهم واختلطت بأمثالهم الصميمة، وتناولوها بالتغيير والتحوير حتى تنسق مع ميولهم ونزعاتهم ولهجاتهم، وقد أصبحت هذه الأمثال جزءا من تراثهم الفني.

المنبع الثالث: الأمثال التي كتب لها الرواج في منطقة الحجاز وكان مصدرها كتابيا تعليميا، ودلت الدلائل على أنها مستقاة من تعاليم قديمة، أو كتب مقدمة، ثم أخذت صيغة الأمثال الشعبية، فقد كانت هناك جاليات آرامية وغير آرامية استقر بعضها في مناطق عدة من الحجاز في أخصب البقاع حول المدينة، وأمرع الواحات بين الحجاز والشام وذاعت في تلك المناطق قصص من التوراة وغير التوراة. وكان من أثر التيارات والدعوات الكتابية أن ضعف إلى حد ما نفوذ الوثنية، وذاعت بعض الأفكار السماوية والتعاليم الدينية

وكان بعضها في صورة حكم وأمثال.

أقدم الأمثال:

ومن أمثال العرب القديمة: "السليم لا ينام ولا ينيم" ويضرب لبيان أن الضرر لا يقتصر على منبعه وحده، بل يتعداه إلى غيره.

وينسب هذا المثل إلى "إلياس بن مضر" أبي الحجازيين. وإلياس هو الجد السادس عشر للنبي "صلى الله عليه وسلم" ومن إلياس إلى عدنان 4 أجيال، فمتوسط الأجيال من إلياس إلى عصر النبوة =22.65-4=18.65 جيلا، ومدتها 18.65×40=746 سنة "الجيل: أربعون سنة".

ص: 271

أي: إن إلياس كان قبل الهجرة بنحو 746 سنة، وقبل الميلاد المسيحي بنحو 124 سنة، وثمت تقدير آخر لتعيين زمن إلياس وهو الاعتماد على سلسلة النسب الطاهر للنبي "صلى الله عليه وسلم" الذي يبلغ ما بينه وبين عدنان اثنين وعشرين رجلا. ومدتها 22×40=880. وبحذف الأجيال الأربعة بعد مضر إلى عدنان يكون الباقي من الناس إلى النبي محمد "صلى الله عليه وسلم" جيلا، ومدتها 18×40=720 سنة، أي: إن إلياس كان قبل الهجرة بنحو 720 سنة، وقبل الميلاد المسيحي بنحو 98 سنة1.

والذي نريد أن نصل إليه -على افتراض صحة هذا التقدير أو ذاك؛ صحة نسبة المثل إلى إلياس- أن الأمثال العربية عامة، والأمثال الحجازية خاصة، ضاربة في القدم، وأن عمر هذا المثل أكثر من سبعة قرون، وأن إلياس أرسله في القرن الثامن قبل الهجرة.

وحديث هذا المثل فيما ذكر الكلبي2 عن الشرقي بن القطامي، أن إبل إلياس ندت ليلا فنادى ولده وقال:"إني طالب الإبل في هذا الوجه" وأمر عمرا ابنه أن يطلب في وجه آخر، وترك عامرا ابنه لعلاج الطعام قال: فتوجه إلياس وعمرو، وانقطع عمير ابنه في البيت مع النساء، فقالت ليلى بنت حلوان امرأته لإحدى خادميها: اخرجي في طلب أهلك، وخرجت ليلى فلقيها عامر محتقبا صيدا قد عالجه، فسألها عن أبيه وأخيه فقالت: لا علم لي. فأتى عامر المنزل وقال للجارية: قصي أثر مولاك، فلما ولت قال لها: تقرصعي أي: اتئدي وانقبضي، فلم يلبثوا أن أتاهم الشيخ وعمرو ابنه قد أدرك الإبل فوضع لهم الطعام، فقال إلياس: السليم لا ينام ولا ينيم، فأرسلها مثلا، وقالت ليلى امرأته: والله إن زلت أخندف في طلبكما وآلهة. قال الشيخ: فأنت خندف، قال عامر: وأنا والله كنت أدأب في صيد وطبخ. قال: فأنت طابخة. قال عمرو: فما فعلت أنا أفضل، أدركت الإبل، قال: فأنت مدركة، وسمى عميرا قمعة لانقماعه في البيت. فغلبت هذه الألقاب على أسمائهم، ويضرب مثلا لمن لا يستريح ولا يريح غيره.

1 الأسس المبتكرة لدراسة الشعر الجاهلي 105، 106.

2 الميداني 1/ 352.

ص: 272

أثر البيئة في الأمثال الحجازية:

تعتبر الأمثال أصدق شيء يتحدث عن أخلاق الأمة وتفكيرها وعقليتها وتقاليدها وعاداتها، ويصور المجتمع وحياته وشعوره أتم تصوير، فهي مرآة للحياة الاجتماعية والعقلية والسياسية والدينية واللغوية، وهي أقوى دلالة من الشعر في ذلك؛ لأنه لغة طائفة ممتازة، وأما هي فلغة جميع الطبقات.

فالمثل -إذًا- هو صوت الشعب وصورته، ورسمه ومثله، ينبع من قلب الجماهير، ويصب فيها، والسمة الشعبية ركن من أهم أركان المثل الشعبي. "ويتضح عنصر الشعبية في اشتقاق اللفظ الدال على المثل في اللاتينية واليونانية. ففي اللاتينية تدل الكلمة Provsrqium على "الكلمة التي تقال أمام الملأ" ويرادفها لفظ adaguim ويردونها عادة إلى العبارة: ad agendum aptum واشتقت الإنجليزية كلمة adage وكلها تدل على هذا العنصر الشعبي، كما تدل على مغزى خلقي، وتنطق بالوظيفة العملية للمثل. أما الكلمة اليونانية التي تقابل كلمة المثل العربية، فهي تدل على التعبير الشائع الذي تبتذله العامة.

ولذا كان من الطبيعي أن تكون الأمثال الحجازية في العصر الجاهلي صورة صادقة لنفسية الحجازيين وحياتهم الخلقية والدينية، وأن تنعكس على مرآتها بيئتهم الطبيعية والاجتماعية، وتصور عاداتهم وتقاليدهم ونزعاتهم وميولهم وهزلهم وجدهم، وطرائقهم في التفكير والتعبير. وماذا عسى أن ينتج من بيئات اشتغل أهلها بالزراعة والتجارة، وكانت لهم المصارف، وضربوا في جنبات الصحراء يحدون القوافل الموقرة بالسلع المختلفة لحسابهم، أو لحساب غيرهم، حتى أصبح لهم حظ من الثراء والترف والحضارة، وكانت بديارهم المواسم والمجتمعات والأسواق التجارية والأدبية، كما امتازوا بجوارهم للبيت الحرام الذي يقصده العرب جميعا لأداء الشعائر الدينية؟ كل ذلك كان له أثره العميق في نفوسهم، وفيما ينتجون من أدب بصفة عامة، وما يرسلون من حكم وأمثال بصفة خاصة.

ص: 273

وهكذا كانت الأمثال الحجازية التي وصلت إلينا ترجمانا صادقا عن حياة الحجازيين الاجتماعية، وشمائلهم الخلقية؛ نرى فيها شجاعتهم وبأسهم، وجرأتهم وفتكهم، فقد ضرب المثل بالبراض الكناني، فقيل: أفتك من البراص، وفي قصة المثل المشهور:"عند جهينة الخبر اليقين" بعد أن فتك الأخنس بن كعب الجهني بالحصين بن عمرو، وقفل راجعا إلى قومه رأى امرأة تنشد الحصين، فقال لها: من أنت؟ فقالت: أنا امرأة الحصين. قال: أنا قتلته، فكذبته وقالت: أما لو لم يكن الحي خلوا ما تكلمت بهذا. فانصرف وفي ذلك يقول:

كصخرة إذ تسائل في مراح

وأنمار، وعلمهما ظنون

تسائل عن حصين كل ركب

وعند جهينة الخبر اليقين

وسيأتي تفصيل الحديث عن هذين المثلين.

وفي بيئات الحجاز الزراعية كخيبر والمدينة حيث تنتشر النخيل نجد أن الحجازيين قد اتخذوا من "التمر" مادة للأمثال يعالجون بها أطرافا من شئونهم المعاشية وحياتهم الاجتماعية، فقالوا:

"كمستبضع التمر إلى خيبر" ويقال للدلالة على خطأ هذا الفعل، فخيبر مصدر التمر، والذي يجلب إليها التمر مخطئ أعظم الخطأ مقضي على تجارته بالبوار والكساد وهذا من بديهيات التجارة، والشيء يجب أن يوضع في موضعه، ويوجه لمن هو في حاجة إليه، قال النابغة الجعدي:

وإن امرأ أهدى إليك قصيدة

كمستبضع تمرا إلى أرض خيبرا

وقالوا: "كل خاطب على لسانه تمرة"1 وفي التمرة حلاوة، والخاطب عادة يحلو لسانه حتى يحوز الرضا ويفوز بحبة قلبه، وهو يضرب للذي يلين كلامه إذا طلب حاجة. وقالوا:"التمرة إلى التمرة تمر" وينسب هذا المثل إلى أحيحة بن الجلاح الأوسي، وذلك أنه دخل حائطا له فرأى تمرة ساقطة

1 الميداني 2/ 98.

ص: 274

فتناولها، فعُوتب في ذلك، فقال ذلك القول يريد أن ضم الآحاء يؤدي إلى الجمع، ويضرب في استصلاح المال.

وكان من عادتهم في الجاهلية أن يقوم منادٍ على أطم من آطام المدينة حين يدرك البسر، فينادي: "التمر في البئر

التمر في البئر" يحثهم على أن يكثروا من سقي نخلهم، فإن من سقى وجد عاقبة سقيه في تمره، وهذا قريب من قولهم: "عند الصباح يحمد القوم السرى"، ويراد بالمثلين: أن من عمل عملا كان له ثمرته1.

وفي بيئات الحجاز التجارية كمكة مثلا، يجد الباحث أمثالا تصور حياتهم الاقتصادية كقولهم:

أَقْرَش من المجبرين:

والقرش: الجمع والتجارة، والتقرش: التجمع، ومن هذا سميت قريش قريشا. زعم أبو عبيدة أنهم أربعة رجال من قريش وهم أولاد عبد مناف بن قصي؛ أولهم هاشم ثم عبد شمس ثم نوفل ثم المطلب بنو عبد مناف، سادوا بعد أبيهم. لم يسقط لهم نجم، جبر الله تعالى بهم قريشا فسموا المجبرين؛ وذلك أنهم وفدوا على الملوك بتجاراتهم فأخذوا منهم لقريش العصم، أخذ لهم هاشم حبلا من ملوك الشام حتى اختلفوا بذلك السبب إلى أرض الشام وأطراف الروم، وأخذ لهم عبد شمس حبلا من النجاشي الأكبر حتى اختلفوا بذلك السبب إلى أرض الحبشة، وأخذ لهم نوفل حبلا من ملوك الفرس حتى اختلفوا بذلك السبب إلى أرض فارس والعراق، وأخذ لهم المطلب حبلا من حمير حتى اختلفوا بذلك السبب إلى بلاد اليمن2. وانعكست على أمثالهم كذلك صور من عاداتهم الدينية وبيئتهم المقدسة، فقالوا: "آمن من حمام مكة" و"آمن من الظبي بالحرم" وهما من الآمن، وقالوا: "آلف من حمام مكة" لأنه لا يثار ولا يصاد، وقالوا: "أصح من عير أبي سيارة" وهو رجل من بني عدوان اسمه: عميلة بن خالد بن الأعزل، وكان

1 الميداني 1/ 144، وجمهرة الأمثال 1/ 185.

2 الميداني 2/ 72، وقد تقدم ذلك في هذا الكتاب عن القالي أيضا.

ص: 275

له حمار أسود أجاز الناس عليه من المزدلفة إلى منى أربعين سنة، وكان يقول: أشرق ثبير كيما نغير، وهو أول من سن الدية مائة من الإبل1.

وفي مكة تبرز أمثال تصور مبلغ ما وصل إليه بعض القرشيين من الثراء والترف كقولهم:

أقرى من حاسي الذهب:

وحاسي الذهب هو عبد الله بن جدعان التيمي سيد مكة في الجاهلية. وسمي بذلك؛ لأنه كان يشرب في إناء من الذهب، وهو الذي أطعم العرب الفالوذ، وفيه قال أبو الصلت الثقفي:

له داع بمكة مشمعل

وآخر فوق دارته ينادي

إلى ردح من الشيزى ملاء

لباب البر يلبك بالشهاد2

ونجد أمثالا أخرى تصور جودهم وسخاءهم كقولهم:

أفرى من زاد الركب:

وهذا المثل من أمثال قريش، ضربوه لثلاثة من أجوادهم: مسافر بن أبي عمرو بن أمية، وأبي أمية بن المغيرة، وأسود بن عبد المطلب بن أسد بن عبد العزى. سموا زاد الركب؛ لأنهم كانوا إذا سافروا مع قوم لم يتزودوا معهم، وقد ذكرنا نبأهم فيما سبق.

ومن أمثال المكيين التي تحكي اعتزازهم وتفاخرهم قولهم:

أنا ابن كديها وكدائها:

وكدى وكداء جبلان بمكة والهاء راجعة إلى مكة، وهذا مثل يضربه من أراد الافتخار على غيره3.

ومن أمثالهم التي تصور جمالهم ووسامتهم قولهم:

1 الميداني 1/ 422، وجمهرة الأمثال للعسكري 2/ 128.

2 الميداني 2/ 72.

3 الميداني 2/ 197.

ص: 276

أجمل من ذي العمامة:

وهو مثل من أمثال مكة، وذو العمامة سعيد بن العاص بن أمية، وكان في الجاهلية إذا لبس عمامة، لا يلبس قرشي عمامة على لونها، وإذا خرج لم تبق امرأة إلا برزت للنظر إليه من جماله1.

ومن الأمثال العربية قولهم:

كُسَيْر وعُوَيْر، وكل غير خير2.

ولا يزال الحجازيون حتى اليوم يذكرون معنى هذا المثل بعد أن حولوه إلى اللهجة العامية، فيقولون:"صوير وعوير، وإلا ما فيه خير". ومن الأمثال الحجازية الشعبية قولهم: "شاهد الثعلب ذنبه" وقد جاء هذا المثل في خبر لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه3- وسار عبر القرون حتى العهد الحاضر، فإذا هو يدور على ألسنة الحجازيين على النحو الآتي:

"قاللوا: مين يشهد لك يا أبو الحصين؟ قاللوا: ذنبي" وأبو الحصين -كما هو معروف- كنية الثعلب.

أما حكمهم وأمثالهم التي تجلت فيها قدرتهم الفائقة على فن التعبير، وبرزت فيها سمات الوجازة والبلاغة الممتازة حتى دارت على الألسنة وتأثرت بها القلوب، فحسبنا أن نشير إلى قولهم:"الحرب سجال"، و"لا في العير ولا في النفير"، و"كل الصيد في جوف الفراء"، و"السليم لا ينام ولا ينيم"، و"رب زارع لنفسه حاصد سواه".

وقد يصور المثل الحجازي حادثة أو شخصية جاهلية كقولهم: "أندم من أبي غبشان" وهو من خزاعة. يروى أنه أسلم قصي بن كلاب مفاتيح البيت الحرام وهو سكران، فطار بها من الطائف "وهو موضع اجتماعهم" إلى مكة، وقال: معاشر قريش! هذه مفاتيح بيت أبيكم إسماعيل، ردها الله عليكم من غير غدر ولا ظلم، وأفاق أبو غبشان فندم، فقيل: أندم من أبي غبشان.

1 الميداني 2/ 198.

2 الأغاني 1/ 293، دار الكتب.

3 جمهرة الأمثال للعسكري 2/ 18.

ص: 277

ويعلق بعض الباحثين على هذه القصة بقوله: فإذا فرضنا أن هذه القصة قد اشتهرت بين الحجازيين حتى أصبح أبو غبشان فيها مضرب المثل، فليس من المحقق أن يكون هذا التركيب بهذه الصيغة كان مثلا شائعا بينهم، وفرق بين القصة والمثل، وبين معنى المثل وصيغته. بل نرجح أن الرواة المتأخرين قد "ترجموا" عن الشهرة بعبارة من صنع أنفسهم، فترجمها بعضهم:"أندم من أبي غبشان" وترجمها بعضهم: "أحمق من أبي غبشان" وترجمها غير هؤلاء وأولئك: "أخسر صفقة من أبي غبشان". فاختلاف التعبير عن القصة قد يحمل الدليل على أن المثل مفتعل، وإن كان مستفادا من قصة مشهورة، فهو متأخر عنها وضعه الواضعون بعد أن اشتهرت القصة، وهذا ما يجعلنا نرجح أن صيغة المثل إسلامية1.

ونحن مع تقديرنا لهذا الرأي نرى أن المثل جاهلي صميم؛ إذ من غير المعقول أن تظل هذه الحادثة الخطيرة طيلة هذه الفترة الطويلة دون أن يتناولها الحجازيون، ويضربوا بصاحبها المثل. ومن المؤكد عندنا أن صيغة واحدة من صيغ هذا المثل كانت أسبق إلى الظهور، وأن هذه الحادثة لما لها من الخطر وعمق التأثير في حياتهم الاجتماعية والدينية، قد اشتقت منها الأقوال والأمثال بصيغ مختلفة، واختلط الأمر بعد ذلك على الرواة، فرووا هذه الصيغ جميعها، ولم يحفظوا أقدم الروايات ويفردوها بالنص، فالمثل -في رأينا- جاهلي صحيح، وليس إسلاميا مفتعلا.

وبهذه المناسبة نذكر أن الأستاذ أحمد السباعي في كتابه "تاريخ مكة" قد سجل جملة من الحكم والأمثال عزاها إلى قريش في العصر الجاهلي. والواقع أن بعض ما أرده إسلامي القائل والقصة، كالمثل:"عند الصباح يحمد القوم السرى"2، فقد تفوه به خالد بن الوليد حين نجا هو وجيشه من الهلاك عطشا، بعد أن سلك المفازة بين اليمامة والعراق3 بناء على أمر الخليفة أبي بكر رضي الله عنه له بأن يتجه إلى العراق.

1 الأمثال لعابدين ص93، 94.

2 الميداني 1/ 464.

3 وفي الكامل لابن الأثير: بين الشام والعراق.

ص: 278

وبعضها مولد كقولهم: "يبني قصرا ويهدم مصرا"1، ويضرب لمن شره أكثر من خيره، وقد ذكره الميداني في أمثال المولدين، وقولهم:"إذا أراد الله هلاك نملة أنبت لها جناحين"2.

وبعضها ليس قرشيا كالمثل: "حسبك من شر سماعه"3، فقد نسبه الميداني لأم الربيع بن زياد العبسي، ونسبه المفضل لفاطمة بنت الخرشب من بني أنمار بن بغيض.

الأمثال الحجازية، والمصادر الأجنبية:

وقد يجد الباحث في الحجاز أمثالا قد دونت في المصادر الشرقية، كقولهم:"مكره أخوك لا بطل". روى الضبي: "أخوك" على الإعراب بالحروف، ثم نجدها في لهجات بعض المناطق الغربية:"مكره أخاك لا بطل" بالبناء على الألف. وورد في الضبي المثل: "إذا عز أخوك فهن" فإذا به يروى: "إذا عز أخاك فهن" ولكن الجاحظ يعده لحنا.

ثم نلمح السمة الحجازية أحيانا في الأمثال، حين يختلف الرواة في شرح قصصها ومواردها، فيردونها إلى مصادر مختلفة، ففي شرح المثل القائل:"حدا حدا وراءك بندقة" يرى شرق بن القطامي الكوفي أن "حدا" علم على قبيلة، هي حدا بن نمرة بن سعد العشيرة، وهم بالكوفة، وبندقة من مظة، وهو سفيان بن سلهم بن الحكم بن سعد العشيرة وهو باليمن. أغارت حدا على بندقة فقتلت منهم، أما أبو عبيدة البصري، فيرى أن المراد هو هذا الحدأ الذي يطير، والبندقة ما يرمى به، وهي كرة تطلق من السهم يلعب بها الصبيان، وهو مثل يضرب في التحذير.

فعلى قول أبي عبيدة يكون اللفظ جمع حدأة أسقطوا همزته. وفي اللسان: "العامة تقول: حدا حدا بالفتح غير مهموز" فالأقرب أن يكون المثل متأثرا

1 الميداني 2/ 393.

2 المرجع السابق 1/ 91.

3 المرجع السابق 1/ 203.

ص: 279

بلهجة غريبة أو هو غربي المورد، فإن حذف الهمزة في نحو "حدا" هو ظاهرة مميزة للهجات الحجازية على أنه قد يصعب الاهتداء إلى مصدر المثل في كثير من الأحيان، كما في شرح:"أنا النذير العريان"، فقد أورد ابن الكلبي قصة وقعت حوادثها في الحيرة في أيام المنذر بن ماء السماء. أما ابن سلمة فيشرح المثل بما يدل على أن مصدره حجازي، إذ ينسبه إلى رجل من خثعم، حمل عليه يوم ذي الخلصة.

ومن الأمثال التي يبدو الأثر الأجنبي في صيغتها قولهم: "إلا دِهِ فلا ده" وهو كلمة قالها الكاهن عزى سلمة حين أتاه جماعة من ثقيف، ومعهم عبد المطلب بن هاشم فخبئوا له، وقالوا:"لاده" أي: بيّن هذا الشيء، فأجابهم الكاهن بكلام مبهم، فقالوا له:"لاده" قال لهم: "إن لاده فلاده" هو رأس جرادة في خرز مزادة

إلخ. قال الخليل بن أحمد: "لاده" فارسية الأرض، ورده أبو عبيدة إلى أصل عربي قال:"أريد كذا وكذا، فإن قيل له: ليس يمكن ذا، قال: فكذا وكذا". وقال الأصمعي: إن معناه: إن لم يكن هذا الآن، فلا يكون بعد الآن. وقال المنذري:"قالوا: معناه: إلا هذه، فلا هذه، يعني أن الأصل إلا ذه فلا ذه، بالذال المعجمة".

وبالرغم من أن حوادث القصة حجازية، فإن المثل فيما نظن عبارة مأثورة من تلك المصطلحات العتيقة التي تتسرب عادة إلى أهل الحرفة من عصور بعيدة الآماد.

ويرجح بعض الباحثين أن العبارة متأثرة بلهجة آرامية أو فارسية، وأنها جاءت من جهة العراق.

ولا ننسى طائفة أخرى من الأمثال هي خرافات شعبية، نشأت وترعرعت في أوساط كتابية غالبا في الفترة التي ظهر فيها الإسلام أو بعده بقليل.

وهنالك نوع من قصص الخلق نجدها منتشرة في الأوساط الكتابية، يذيعها المعلمون والوعاظ لبيان حكمة الخالق في خلقه، وهنالك عدد من قصص الخلق ذاعت في الكتب المقدسة القديمة، وقد نجح صانعو هذا القصص في صياغتها بعبارات شعبية.

ص: 280

قالوا: زعمت الأعراب أن النعامة ذهبت تطلب قرنين، فرجعت بلا أذنين؛ فلذلك يسمون ذكر النعام الظليم، ومن أمثالهم:"كطالب القرن جدعت أذنه" ويروى أن بشارًا تمثل فقال: "ذهب الحمار يطلب قرنين فعاد بلا أذنين".

وورد المثل في شعر بعض الهذليين المخضرمين، وهو أبو العيال الهذلي، والهذليون مساكنهم في الحجاز، وهو يشير إلى النعامة لا إلى الحمار.

وهناك مثل آرامي يهودي يقول: "ذهب الجمل يطلب قرنين فرجع بلا أذنين" وبذلك يتبادل الدور ثلاثة من الحيوان، ويبدو أن الجمل أقدمها ورودا في المثل، فقد ورد في نص آرامي، كما أن الحمار يمثل خلطا من الناطقين المتأخرين بين المثل الأصلي، ومثل آخر يذكر أذني الحمار.

ثم إن هناك ما يسمى بـ "الخرافات الحوارية" التي تعتبر من وسائل تعليم الشعب وتسليته. وأكثر هذه القصص الحوارية يتسم بسمة "الحيلة"، ومن ذلك الخرافة الحوارية التي رُويت عن علي بن طالب، رضي الله عنه:

يقول الميداني: يروى أن أمير المؤمنين عليا -رضي الله تعالى عنه- قال: إنما مثلي ومثل عثمان كمثل أثوار ثلاثة كن في أجمة: أبيض وأسود وأحمر، ومعهن فيها أسد، فكان لا يقدر منهن على شيء؛ لاجتماعهن عليه. فقال للثور الأسود والثور الأحمر: لا يدل علينا في أجمتنا إلا الثور الأبيض، فإن لونه مشهور، ولوني على لونكما، فلو تركتماني آكله صفت لنا الأجمة، فقالا: دونك فكله، فأكله. ثم قال للأحمر: لوني على لونك، فدعني آكل الأسود لتصفو لنا الأجمة، فقال: دونك فكله، فأكله. ثم قال للأحمر: إني آكلك لا محالة، فقال: دعني أنادي ثلاثا، فقال: افعل، فنادى: ألا إني أكلت يوم أكل الثور الأبيض. ثم قال علي رضي الله تعالى عنه: ألا إني هنت -ويروى: وهنت- يوم قتل عثمان، يرفع بها صوته، وهو مثل يضربه الرجل يرزأ بأخيه. وقد ورد هذا المثل في كتاب كليلة ودمنة، ولاحظ هذا أبو هلال. كما أنه ورد مختصرا في خرافات إيسوب.

ويعلق الدكتور عبد المجيد عابدين على ذلك بقوله: فإذا صحت رواية هذا المثل عن

ص: 281

علي بن أبي طالب، وهو أسبق في التاريخ من ابن المقفع مترجم كليلة ودمنة، فمن الممكن أن نفترض أن المثل عرفه الآراميون الذين سكنوا في الحجاز أو اليمن، من طريق الترجمة السريانية لكتاب كليلة ودمنة -وقد ترجم حوالي 570م- أو نفترض أن المثل عرفه الكتابيون في هذه المنطقة من طريق خرافات إيسوب التي كانت قد عرفها اليهود من قبل، وتدارسوها في مجالسهم ومدارسهم.

وقصة استسقاء وفد عاد بمكة ومعهم لقمان معروفة مشهورة، وسنذكرها في موضع آخر إن شاء الله، ونحب أن نشير هنا إلى أن عناصر هذه القصة وثنية قديمة، لكنها امتزجت بعناصر كتابية فيما بعد في الفترة القريبة من الإسلام.

"ولم يلبث أن أصبح لقمان مشتهرا بالحكمة الكتابية قبيل الإسلام، بعد أن كان صانع أمثال شعبية، تكاد تكون خالية من النغمة الكتابية الظاهرة وقوامها الألغاز، ويكثر فيها المجاز والإيماء والإشارة ومعاريض الكلام. ولم يكد يظهر الإسلام في شبه الجزيرة حتى كان عرب اليمن الذين سكنوا في الحجاز أو اتصلوا بالجانب الغربي من شبه الجزيرة قد مهدوا لظهور لقمان الجديد، لقمان القرآني، فرأينا كعب الأحبار وأصله من يهود المدينة ثم أسلم، قد أذاع عددا من أخبار لقمان، ورأينا سويد بن الصامت يقدم إلى مكة، ويعرض على الرسول مجلة لقمان. ونكاد نرجح أن هذه المجلة كانت تتضمن شيئا عن لقمان في صورته الكتابية. يدلنا على ذلك أن سويدا كان ممن قرءوا الكتب في الجاهلية، وأنه كان من أهل المدينة، وأن لفظ مجلة1 عبري أو آرامي الأصل"2.

الفرق بين المثل اليمني، والمثل الحجازي:

وقد اختلطت الأمثال اليمنية بالأمثال الحجازية، فقد لبست جميعها ثوبا من العربية الفصحى وأصبح من العسير على الباحث التمييز بينها.

بيد أنه يلاحظ أن بعض الصيغ قد ترد في الملل، فتشير إلى أصله اليمني.

1 يرى السهيلي في الروض الأنف 1/ 266 أن لفظ مجلة مشتق من الجلالة أو الجلال.

2 راجع جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري 1/ 282، وتاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي 1/ 242، والأمثال في النثر العربي القديم ص50، 51.

ص: 282

ومن ذلك -فيما يظن بعض الباحثين- صيغة فعال، الاسم المؤنث المبني على الكسر، وقد جمع الباحث ك. فولرز Vollers طائفة من أسماء الأماكن الواردة على وزن فعال المنتهية بالكسر، ورأى أن معظمها يرجع إلى اليمن وما جاورها وصلة اليمن بالحبشة معروفة، وإذا رجعنا إلى الحبشة القديمة وجدنا أن فعال faal هي صيغة المؤنث لوزن فعيل، فيقال: حديس "جديد" ومؤنثه حداس "جديدة"، ويقال: طبيب "حكيم" ومؤنثه طباب. وفي أمثالهم: "من دخل ظفار حمر، أو تحمر" وظفار بلد باليمن، وحمر: تكلم بالحميرية. وقالوا: "روغي جعار وانظري أين المفر" جعار الضبع، وهو مثل يضرب للذي يهرب ولا يقدر أن يغلب صاحبه. وقالوا:"تيسي جعار" يضرب للاستكذاب ولم يعرف أصل هذه الكلمة، والتيس جبل باليمن. ويقال: فلان يتكلم بالتيسية أي: بكلام أهل ذلك الجبل1.

الأمثال الغريبة:

وفي الحجاز يصادف الباحث عددا من الأمثال يتسم بسمة الإغراب، ويستغلق معناه في الفهم. ومن ذلك قول الحجاج بن يوسف الثقفي:"ده درين سعد العشيرة" ويروى: "دهدرين وطرطبين" قاله الحجاج لقوم من الفرس فلم يفهموه، ففُسِّر لهم، وهو مثل يقال لمن يأتي الباطل استهزاء به، ولم يعرف الأصمعي أصله. وقال أبو هلال: إنه كلمة لا معنى لها. وقال ابن الأعرابي: "وتركوا تنوين سعد استخفافا، ونصبو دهدرين على إضمار فعل"2 ولعل هذا المثل من بقايا لهجة حجازية بائدة، كانت تمثل مرحلة سابقة على الطور الأدبي.

وروي أن عمر بن الخطاب جاءه رجل يحمل لقيطا، فقال عمر:"عسى الغوير أبؤسا" والغوير: تصغير غار، والأبؤس: الشدائد جمع بؤس، أي: لعلك

1 راجع 49، 156.

Ancient West Arabiau، By C. Radin.

والمزهر: 1/ 49، والأمثال لعابدين 65، 66.

2 أبو هلال العسكري 1/ 295.

ص: 283

صاحب هذا اللقيط، تعريضا بالرجل، وقال اللغويون في معناه:"لعل الغوير يصير أبؤسا" وقالوا: عسى بمعنى كان. وتركيب المثل غريب؛ لأن هذا الاستعمال لم يرد في القرآن الكريم، وإنما وردت كلمة "عسى" مقرونة بأن والفعل، فلعلها لهجة حجازية سبقت طور العربية الفصحى.

ويرى بعض الباحثين أن عسى تقابل في الاستعمال الكلمة العبرية asah أي: "صنع" ويكون معنى المثل: "صنع الغوير أبؤسا، أي: شدائد ونكبات"1 والمثل -وإن تمثل به عمر- فهو قديم كما قال أبو هلال. أما رواية الميداني القائلة بأن أصل المثل من قول الزباء، فليست صحيحة؛ لأنها لا تنطبق على ما ورد في أقدم نص لقصة الزباء في كتاب الضبي2.

طائفة من الأمثال الحجازية: أفتك من البراض

هو البراض بن قيس الكناني. ومن خبر فتكه: أنه كان وهو في حيه عيارا فاتكا يجني الجنايات على أهله، فخلعه قومه، وتبرءوا من صنيعه، ففارقهم وقدم مكة، فحالف حرب بن أمية ثم نبا به المقام بمكة أيضا ففارق أرض الحجاز إلى أرض العراق، وقدم على النعمان بن المنذر الملك فأقام ببابه. وكان النعمان يبعث إلى عكاظ بلطيمة كل عام تباع له هناك، فقال وعنده البراض والرحال -وهو عروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب، وسمي رحالا لأنه كان وفادا على الملوك: من يجيز لي لطيمتي هذه حتى يقدمها عكاظ؟ فقال البراض: أبيت اللعن أنا أجيزها على كنانة، فقال النعمان: ما أريد إلا رجلا يجيزها على الحيين قيس وكنانة. فقال عروة الرحال: أبيت اللعن، أهذا العيار الخليع يكمل لأن يجيز لطيمة الملك، أنا المجيزها على أهل الشيح والقيصوم من نجد وتهامة. فقال: خذها، فرحل عروة بها، وتبع البراض أثره، حتى إذا صار عروة بين ظهراني

1 الأمثال في النثر العربي القديم ص67.

2 أمثال العرب 64-68.

ص: 284

قومه بجانب فدك، نزلت العير فأخرج البراض قدحا يستقسم بها في قتل عروة، فمر عروة به، وقال: ما الذي تصنع يا براض؟ قال: أستخبر القداح في قتلي إياك، فقال:"استك أضيق من ذاك"، فوثب البراض بسيفه إليه فضربه ضربة خمد منها، واستاق العير، فبسببه هاجت حرب الفجار بين حيي خندف وقيس، فهذه فتكة البراض التي بها المثل قد سار، وقال فيها بعض شعراء الإسلام:

والفتى من تعرقته الليالي

والفيافي كالحية النضناض

كل يوم له بصرف الليالي

فتكة مثل فتكة البراض1

إن العصا قرعت لذي الحلم:

عمرو بن مالك بن ضبيعة2:

قيل: إن أول من قرعت له العصا عمرو بن مالك بن ضبيعة، أخو سعد بن مالك الكناني، وذلك أن سعدا أتى النعمان بن المنذر ومعه خيل له قادها وأخرى عراها، فقيل له: لم عريت هذه وقدت هذه؟ قال: لم أقد هذه لأمنعها، ولم أعر هذه لأهبها، ثم دخل على النعمان فسأله عن أرضه، فقال: أما مطرها فغزير وأما نبتها فكثير. فقال النعمان: إنك لقوال، وإن شئت أتيتك بما تعيا عن جوابه. قال: نعم. فأمر وصيفا له أن يلطمه، فلطمه لطمة. فقال: ما جواب هذه؟ قال: رب يؤدب عبده. قال: الطمه أخرى، فلطمه. قال: ما جواب هذه؟ قال: ملكت فأسجح، فأرسلها مثلا. قال النعمان: أصبت فامكث عندي، وأعجبه ما رأى منه فمكث عنده ما مكث. ثم إنه بدا للنعمان أن يبعث رائدا فبعث عمرا أخا سعد، فأبطأ عليه فأغضبه ذلك، فأقسم: لئن جاء ذاما للكلأ أو حامدا له ليقتلنه، فقدم عمرو وكان سعد عند الملك، فقال سعد: أتأذن أن أكلمه؟ قال: إذن يقطع لسانك. قال: فأشير إليه؟ قال: إذن تقطع يدك، قال: فأقرع له العصا؟ قال: فأقرعها، فتناول سعد عصا جليسه وقرع بعصاه قرعة واحدة فعرف

1 مجمع الأمثال للميداني 2/ 34.

2 الميداني 1/ 39-42، وجمهرة الأمثال للعسكري 2/ 128.

ص: 285

أنه يقول له: مكانك، ثم قرع بالعصا ثلاث قرعات، ثم رفعها إلى السماء ومسح عصاه بالأرض، فعرف أنه يقول له: لم أجد جدبا، ثم قرع العصا مرارا ثم رفعها شيئا وأومأ إلى الأرض فعرف أنه يقول: ولا نباتا، ثم قرع العصا قرعة وأقبل نحو الملك فعرف أنه يقول كلمة، فأقبل عمرو حتى قام بين يدي الملك، فقال له: أخبرني هل حمدت خصبا أو ذممت جدبا؟ فقال عمرو: لم أذمم هزلا ولم أحمد بقلا، الأرض مشكلة، لا خصبها يعرف، ولا جدبها يوصف، رائدها واقف ومنكرها عارف وآمنها خائف. قال الملك: أولى لك، فقال سعد بن مالك يذكر قرع العصا:

قرعت العصا حتى تبين صاحبي

ولم تك لولا ذاك في القوم تقرع

فقال رأيت الأرض ليس بممحل

ولا سارح فيها على الرعي يشبع

سواء فلا جدب فيعرف جدبها

ولا صابها غيث غزير فتمرع

فنجي بها حوباء نفس كريمة

وقد عاد لولا ذاك فيهم تقطع

أو عامر بن الظرب العدواني:

وقال آخرون في قولهم "إن العصا قرعت لذي الحلم": إن ذا الحلم هذا هو عامر بن الظرب العدواني، وكان من حكماء العرب لا تعدل بفهمه فهما ولا بحكمه حكما، فلما طعن في السن أنكرت من عقله شيئا، فقال لبنيه: إنه قد كبرت سني وعرض لي سهو، فإذا رأيتموني خرجت من كلامي وأخذت في غيره فاقرعوا لي المجن بالعصا. وقيل: كانت له جارية يقال لها: خصيلة، فقال لها: إذا أنا خُولِطت فاقرعي لي العصا، وأتى عامر بخنثى ليحكم فيه فلم يدر ما الحكم، فجعل ينحر لهم ويطعمهم ويدافعهم بالقضاء، فقالت خصيلة: ما شأنك قد أتلفت مالك؟ فخبرها أنه لا يدري ما حكم الخنثى، فقالت: اتبعه مباله، قال الشعبي: فحدثني ابن عباس بها، قال: فلما جاء الإسلام صارت سنة فيه، وعامر هو الذي يقول:

أرى شعرات على حاجبي

بيضا نبتن جميعا تؤاما

ظللت أهاهي بهن الكلا

ب أحسبهن صوارا قياما

وأحسب أنني إذا ما مشيـ

ـت شخصا أمامي رآني فقاما1

1 الميداني 1/ 39، 40.

ص: 286

عند جهينة الخبر اليقين:

خرج حصين بن عمرو بن معاوية بن كلاب ومعه رجل من جهينة يقال له: الأخنس بن كعب، وكان الأخنس قد أحدث في قومه حدثا فخرج هاربا فلقيه الحصين، فقال له: من أنت، ثكلتك أمك؟ فقال له الأخنس: بل من أنت، ثكلتك أمك؟ فردد هذا القول، حتى قال الأخنس: أنا الأخنس بن كعب فأخبرني من أنت وإلا أنفذت قلبك بهذا السنان، فقال له الحصين: أنا الحصين بن عمرو الكلابي. ويقال: بل هو الحصين بن سبيع الغطفاني، فقال له الأخنس: فما الذي تريد؟ قال: خرجت لما يخرج له الفتيان. قال الأخنس: وأنا خرجت لمثل ذلك، فقال له الحصين: هل لك أن نتعاقد ألا نلقى أحدا من عشيرتك أو عشيرتي إلا سلبناه؟ قال: نعم، فتعاقدا على ذلك وكلاهما فاتك يحذر صاحبه، فلقيا رجلا فسلباه فقاللهما: هل لكما أن تردا علي بعض ما أخذتما مني وأدلكما على مغنم؟ قالا: نعم، فقال: هذا رجل من لخم قد قدم من عند بعض الملوك بمغنم كثير وهو خلفي في موضع كذا وكذا، فردا عليه بعض ماله وطلبا اللخمي فوجداه نازلا في ظل شجرة وقدامه طعام وشراب، فحيَّياه وحياهما وعرض عليهما الطعام فكره كل واحد أن ينزل قبل صاحبه فيفتك به، فنزلا جميعا فأكلا وشربا مع اللخمي، ثم إن الأخنس ذهب لبعض شأنه فرجع واللخمي يتشحط في دمه، فقام الجهني وهو الأخنس وسل سيفه؛ لأن سيف صاحبه كان مسلولا وقال: ويحك، فتكت برجل قد تحرمنا بطعامه وشرابه. فقال: يا أخا جهينة، أتدري ما صعلة وما صعل؟ قال الجهني: هذا يوم شرب وأكل، فسكت الحصين حتى إذا ظن أن الجهني قد نسي ما يراد به قال: يا أخا جهينة هل أنت للطير زاجر؟ قال: وما ذاك؟ قال: ما تقول هذه العقاب الكاسر؟ قال الجهني: وأين تراها؟ قال: هي ذه، وتطاول ورفع رأسه إلى السماء فوضع الجهني بادرة السيف في نحره فقال: أنا الزاجر والناصر، واحتوى على متاعه ومتاع اللخمي وانصرف راجعا إلى قومه، فمر ببطنين من قيس يقال لهما: مراح وأنمار، فإذا هو بامرأة تنشد الحصين بن سبيع، فقال لها: من أنت؟ قالت: أنا صخرة امرأة الحصين، قال: أنا قتلته. فقالت: كذبت ما مثلك يقتل مثله؟

ص: 287

أما لو لم يكن الحي خلوا ما تكلمت بهذا، فانصرف إلى قومه فأصلح أمرهم، ثم جاءهم فوقف حيث يسمعهم وقال:

وكم من ضيغم ورد هموس

أبي شبلين مسكنه العرين

علوت بياض مفرقه بعضب

فأضحى في الفلاة له سكون

وأضحت عرسه ولها عليه

بعيد هدوء ليلتها رنين

وكم من فارس لا تزدريه

إذا شخصت لموقعه العيون

كصخرة إذ تسائل في مراح

وأنمار وعلمهما ظنون

تسائل عن حصين كل ركب

وعند جهينة الخبر اليقين

فمن يك سائلا عنه فعندي

لصاحبه البيان المستبين

جهينة معشري وهم ملوك

إذا طلبوا المعالي لم يهونوا

ويضرب هذا المثل في الرجل يعرف حقيقة الأمر.

رب زارع لنفسه حاصد سواه:

قاله عامر بن الظرب وذلك أنه خطب إليه صعصعة بن معاوية ابنته، فقال: يا صعصعة، إنك جئت تشتري مني كبدي وأرحم ولدي عندي، منعتك أو بعتك، النكاح خير من الأيمة والحسيب كفء الحسيب والزوج الصالح يعد أبا، وقد أنكحتك خشية ألا أجد مثلك، ثم أقبل على قومه فقال: يا معشر عدوان، أخرجت من بين أظهركم كريمتكم على غير رغبة عنكم، ولكن من خط له شيء جاءه، رب زارع لنفسه حاصد سواه. ولولا قسم الحظوظ على غير الحدود ما أدرك الآخر من الأول شيئا يعيش به، ولكن الذي أرسل الحيا أنبت المرعى، ثم قسمه أكلا لكل فم بقلة ومن الماء جرعة، إنكم ترون ولا تعلمون، لن يرى ما أصف لكم إلا كل ذي قلب واعٍ ولكل شيء راعٍ ولكل رزق ساعٍ، إما أكيس وإما أحمق وما رأيت شيئا قط إلا سمعت حسه ووجدت مسه، وما رأيت موضوعا إلا مصنوعا، وما رأيت جائيا إلا داعيا ولا غانما إلا خائبا ولا نعمة إلا ومعها بؤس، ولو كان يميت الناس الداء لأحياهم الدواء، فهل لكم في العلم العليم؟ قيل: ما هو؟ قد قلت فأصبت وأخبرت

ص: 288

فصدقت. فقال: أمورا شتى وشيئا شيا حتى يرجع الميت حيا ويعود لا شيء شيا؛ ولذلك خلقت الأرض والسماء، فولوا عنه راجعين، فقال: ويلها نصيحة لو كان من يقبلها1.

كل شاة برجلها معلقة:

قاله وكيع بن سلمة بن زهير بن إياد وكان ولي أمر البيت بعد جرهم، فبنى صرحا بأسفل مكة عند سوق الخياطين اليوم، وجعل فيه أمة يقال لها: حزورة، وبها سميت حزورة مكة، وجعل في الصرح سلما فكان يرقاه ويزعم أنه يناجي الله تعالى، وكان ينطق بكثير من الخبر، وكان علماء العرب يزعمون أنه صديق من الصديقين، وكان من قوله: مرضعة أو فاطمة ووادعة وقاصمة والقطيعة والفجيعة وصلة الرحم وحسن الكلم. ومن كلامه: زعم ربكم ليجزين بالخير ثوابا وبالشر عقابا، إن من في الأرض عبيد لمن في السماء، هلكت جرهم وربلت إياد، وكذلك الصلاح والفساد. فلما حضرته الوفاة جمع إيادا فقال لهم: اسمعوا وصيتي: الكلم كلمتان والأمر بعد البيان، من رشد فاتبعوه ومن غوى فارفضوه، وكل شاة برجلها معلقة، فأرسلها مثلا2.

صكة عمي:

يقال: لقيته صكة عمي وصكة أعمى وهو أشد الهاجرة حرا، وعمي تصغير أعمى مرخما، قال اللحياني: هي أشد ما يكون من الحر أي: حين كان الحر يعمي من شدته، وقال الفراء: حين يقوم قائم الظهيرة. وعمي رجل من عدوان كان يفتي في الحج، فأقبل معتمرا ومعه ركب حتى نزلوا بعض المنازل في يوم شديد الحر، فقال عمي: من جاءت عليه هذه الساعة من غد وهو حرام بقي حراما إلى قابل، فوثب الناس إلى الظهيرة يضربون أي: يسيرون حتى وافوا البيت، وبينهم وبينه من ذلك الموضع ليلتان

1 الميداني 1/ 325.

2 الميداني 2/ 88.

ص: 289

فضرب مثلا فقيل: أتانا صكة عمي، إذا جاء في الهاجرة الحارة، وفي ذلك يقول كرب بن جبلة العدواني:

وصك بها نحر الظهيرة غائرا

عمي ولم ينعلن إلا ظلالها

وجئن على ذات الصفاح كأنها

نعام تبغي بالشظى رئالها

فطوفن بالبيت الحرام وقضيت

مناسكها ولم يحل عقالها1

قد كان ذلك مرة، فاليوم لا:

قالته فاطمة بنت مر الخثعمية وكانت قد قرأت الكتب، فأقبل عبد المطلب ومعه ابنه عبد الله يريد أن يزوجه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، فمر على فاطمة وهي بمكة فرأت النبوة في وجه عبد الله، فقالت له: من أنت يا فتى؟ فقال: أنا عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، فقالت: هل لك أن تقع علي وأعطيك مائة من الإبل؟ فقال:

أما الحرام فالممات دونه

والحل لا حل فأستبينه

فكيف بالأمر الذي تنوينه

يحمي الكريم عرضه ودينه

ومضى مع أبيه فزوجه آمنة وظل عندها يومه وليلته، فاشتملت بالنبي صلى الله عليه وسلم ثم انصرف وقد دعته نفسه إلى الإبل فأتاهم فلم ير منها حرصا، فقال لها: هل لك فيما قلت لي؟ فقالت: قد كان ذلك مرة، فاليوم لا. فأرسلت مثلا يضرب في الندم والإبانة بعد الاجترام، ثم قالت له: أي شيء صنعت بعدي؟ قال: زوجني أبي آمنة بنت وهب فكنت عندها، فقالت: رأيت في وجهك نور النبوة فأردت أن يكون ذلك في، فأبى الله تعالى إلا أن يضعه حيث أحب، وقالت:

بني هاشم قد غادرت من أخيكم

أمينة إذ للباه يعتلجان

وما كل ما نال الفتى من نصيبه

بحزم ولا ما فاته بتواني

فأجمل إذا طالبت أمرا فإنه

سيكفيكه جدان يصطرعان

1 تاج العروس 7/ 154.

ص: 290

وقالت في ذلك أيضا:

إني رأيت مخيلة نشأت

فتلألأت بحناتم القطر

لله ما زهرية سلبت

ثوبيك ما استلبت وما تدري1

أي الرجال المهذب؟

أول من قاله النابغة، حيث قال:

ولست بمستبق أخا لا تلمه

على شعت أي الرجال المهذب2

لقد استبطنتم بأشهب بازل

قاله العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه لأهل مكة، أي: بُلِيتم بأمر صعب مشهور كالبعير الأشهب البازل، وهو الأبيض القوي، والباء في "بأشهب" زائدة، يقال: استبطنت الشيء، إذا أخفيته3.

لا في العير ولا في النفير:

قال المفضل: أول من قال ذلك أبو سفيان بن حرب؛ وذلك أنه أقبل بعير قريش وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تحين انصرافها من الشام فندب المسلمين للخروج معه، وأقبل أبو سفيان حتى دنا من المدينة وقد خاف خوفا شديدا، فقال لمجدي بن عمرو: هل أحسست من أحد من أصحاب محمد؟ فقال: ما رأيت من أحد أنكره إلا راكبين أتيا هذا المكان، وأشار له إلى مكان عدي وبسبس عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ أبو سفيان أبعارا من أبعار بعيريهما ففتها فإذا فيها نوى، فقيل: علائف يثرب، هذه عيون محمد، فضرب وجوه عيره فساحل بها وترك بدرا يسارا، وقد كان بعث إلى قريش حين فصل من الشام يخبرهم بما يخافه من النبي صلى الله عليه وسلم فأقبلت قريش

1 الميداني 2/ 51، 52.

2 الميداني 1/ 25.

3 الميداني 2/ 153.

ص: 291

من مكة فأرسل إليهم أبو سفيان يخبرهم أنه قد أحرز العير ويأمرهم بالرجوع، فأبت قريش أن ترجع ورجعت بنو زهرة من ثنية أجدى، عدلوا إلى الساحل منصرفين إلى مكة، فصادفهم أبو سفيان فقال: يا بني زهرة لا في العير ولا في النفير، قالوا: أنت أرسلت إلى قريش أن ترجع ومضت قريش إلى بدر فواقعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأظفره الله تعالى بهم، ولم يشهد بدرا من المشركين من بني زهرة أحد. قال الأصمعي: يضرب هذا للرجل يحط أمره، ويصغر قدره1.

لا قرار على زأر من الأسد:

من قول النابغة:

نبئت أن أبا قابوس أوعدني

ولا قرار على زأر من الأسد

تمثل به الحجاج حين سخط عليه عبد الملك2.

لا يجمع سيفان في غمد:

قال أبو ذؤيب:

تريدين كيما تجمعيني وخالدا

وهل يجمع السيفان ويحك في غمد3

ألذ من الغنيمة الباردة:

قال الجاحظ: إن أهل تهامة والحجاز لما عدموا البرد في مشاربهم وملابسهم إلا إذا هبت الشمال سموا الماء النعمة الباردة، ثم كثر ذلك منهم حتى سموا ما غنموه "البارد" تلذذا منهم كتلذذهم بالماء البارد4.

1 الميداني 2/ 172.

2 الميداني 2/ 176.

3 الميداني 2/ 181.

4 الميداني 2/ 203.

ص: 292

الحرب سجال:

المساجلة: أن تصنع مثل صنيع صاحبك من جري أو سقي. وأصله من السجل وهو الدلو فيها ماء قل أو كثر، ولا يقال لها وهي فارغة: سجل. قال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب:

من يساجلني يساجل ماجدا

يملأ الدلو إلى عقد الكرب

وقال أبو سفيان يوم أحد بعدما وقعت الهزيمة على المسلمين: اعل هبل، اعل هبل، فقال عمر: يا رسول الله، ألا أجيبه؟ قال:"بلى يا عمر"، قال عمر: الله أعلى وأجل، فقال أبو سفيان: يابن الخطاب، إنه يوم الصمت، يوم بيوم بدر، وإن الأيام دول، وإن الحرب سجال. فقال عمر: ولا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، فقال أبو سفيان: إنكم لتزعمون ذلك، لقد خبنا إذًا وخسرنا1.

أكلة الشيطان:

يضرب في كل شيء ذهب فلم يوجد له أثر. وأكلة الشيطان: حية في الجاهلية لا يقوم لها شيء تأتي البيت الحرام في كل حين، فتضرب بنفسها الأرض فلا يمر بها شيء إلا أهلكته2.

قد صرحت بجلدان:

هو حمى قريب من الطائف لين مستوٍ، كالراحة، لا خمر فيه يتوارى به. يضرب للأمر الواضح البين الذي لا يخفى على أحد3.

وجلدان بكسر أوله وإسكان ثانيه وبالدال المهملة على وزن فِعْلَان، وهي أرض سهلة؛ ولذلك قالوا: أسهل من جلدان. قال الشاعر:

ستشمظكم عن بطن وج سيوفنا

ويصبح منكم بطن جلدان مقفرا4

1 الميداني 1/ 223.

2 الميداني 1/ 51.

3 الميداني 2/ 45.

4 تشمظكم: تمنعكم. وج: الطائف. معجم ما استعجم 2/ 389.

ص: 293

أعدى من الشنفرى:

خرج الشنفرى هو وتأبط شرا وعمرو بن براق فأغاروا على بجيلة فوجدوا لهم رصدا على الماء، فلما مالوا له في جوف الليل قال لهما تأبط شرا: إن بالماء رصدا، وإني لأسمع وجيب قلوب القوم، فقالا: ما نسمع شيئا وما هو إلا قلبك يجب. فوضع أيديهما على قلبه وقال: والله ما يجب وما كان وجابا، قالوا: فلا بد لنا من ورود الماء. فخرج الشنفرى فلما رآه الرصد عرفوه فتركوه حتى شرب من الماء ورجع إلى أصحابه فقال: والله ما بالماء أحد ولقد شربت من الحوض، فقال تأبط شرا للشنفرى: بلى ولكن القوم لا يريدونك وإنما يريدونني، ثم ذهب ابن براق فشرب ورجع ولم يعرضوا له فقال تأبط شرا للشنفرى: إذا أنا كرعت في الحوض فإن القوم سيشدون عليّ فيأسرونني، فاذهب كأنك تهرب ثم كن في أصل ذلك القرن، فإذا سمعتني أقول: خذوا خذوا فتعال فأطلقني. وقال لابن براق: إني سآمرك أن تستأسر للقوم فلا تنأ عنهم ولا تمكنهم من نفسك، تم مر تأبط شرا حتى ورد الماء فحين كرع في الحوض شدوا عليه، فأخذوه وكتفوه بوتر، وطار الشنفرى فأتى حيث أمره وانحاز ابن براق حيث يرون، فقال تأبط شرا: يا معشر بجيلة هل لكم في خير أن تياسرونا في الفداء ويستأسر لكم ابن براق؟ قالوا: نعم. فقال: ويلك يابن براق، أما الشنفرى فقد طار وهو يصطلي نار بني فلان وقد علمت ما بيننا وبين أهلك، فهل لك أن تستأسر ويأسرونا في الفداء؟ قال: لا والله حتى أروز نفسي شوطا أو شوطين، فجعل يستن نحو الجبل ويرجع حتى إذا رأوا أنه قد أعيا طمعوا فيه فأتبعوه، ونادى تأبط شرا: خذوا خذوا، فخالف الشنفرى إلى تأبط شرا فقطع وثاقه، فلما رآه ابن براق وقد خرج من وثاقه مال إلى عنده فناداهم تأبط شرا: يا معشر بجيلة أعجبكم عدو ابن براق، أما والله لأعدون لكم عدوا ينسيكم عدوه. ثم أحضروا ثلاثتهم فنجوا. فكل هؤلاء الثلاثة كانوا عدائين ولم يسر المثل إلا بالشنفرى1.

1 الميداني 1/ 507.

ص: 294

إن السبع مرتخص وغال:

قالوا: أول من قال ذلك أحيحة بن الجلاح الأوسي سيد يثرب، وكان سبب ذلك أن قيس بن زهير العبسي أتاه وكان صديقا له لما وقع الشر بينه وبين بني عامر، وخرج إلى المدينة ليتجهز لقتالهم حيث قتل خالد بن جعفر زهير بن جذيمة فقال قيس لأحيحة: يا أبا عمرو، نبئت أن عندك درعا فبعنيها أو هبها لي. فقال: يا أخا بني عبس ليس مثلي يبيع السلاح ولا يفضل عنه، ولولا أني أكره أن أستلئم إلى بني عامر لوهبتها لك ولحملتك على سوابق خيلي، ولكن اشترها بابن لبون فإن البيع مرتحض وغال، فأرسلها مثلا، فقال له قيس: وما تكره من استلامك إلى بني عامر؟ قال: كيف لا أكره ذلك وخالد بن جعفر الذي يقول1:

إذا ما أردت العز في دار يثرب

فنادِ بصوت يا أحيحة تمنع

رأينا أبا عمرو أحيحة جاره

يبيت قرير العين غير مروع

ومن يأته من خائف ينس خوفه

ومن يأته من جائع البطن يشبع

فضائل كانت للجلاح قديمة

وأكرم بفخر من خصالك أربع

كل الصيد في جوف الفرا:

قال ابن السكيت: الفرا: الحمار الوحشي وجمعه: فراء، وأصله أن ثلاثة نفر خرجوا متصيدين، فاصطاد أحدهم أرنبا، والآخر ظبيا، والثالث حمارا، فاستبشر صاحب الأرنب، وصاحب الظبي بما نالاه وتطاولا عليه، فقال الثالث:"كل الصيد في جوف الفراء"، أي: هذا الذي رزقت وظفرت به يشتمل على ما عندكما، وذلك أنه ليس مما يصيده الناس أعظم من الحمار الوحشي، وقاله النبي "صلى الله عليه وسلم" لأبي سفيان يتألفه. ويلوح لنا أن المثل قديم، ويضرب لمن يفضل على أقرانه2.

1 الميداني 1/ 21.

2 الميداني 2/ 82.

ص: 295

إنما النشيد على المسرة:

قاله الشنفرى قبيل قتله. وذلك أن نفرا من بني سلامان الذين كان يغير عليهم فيمن تبعه من قبيلته فهم، حتى قتل منهم تسعة وتسعين رجلا، فكمنوا له واحتالوا عليه حتى أسروه وأدوه إلى أهلهم، وقالوا له: أنشدنا، فقال:"إنما النشيد على المسرة" فذهبت مثلا. ثم ضربوا يده فقطعوها، ثم قالوا له حين أرادوا قتله: أين نقبرك؟ فقال:

لا تقبروني إن قبري محرم

عليكم ولكن أبشري أم عامر

إذا احتملت رأسي وفي الرأس أكثري

وغودر عند الملتقى ثم سائري

هنالك لا أرجو حياة تسرني

سجيس الليالي مبسلا بالجرائر1

أحمى من حجير الظعن:

هو ربيعة بن مكدم الكناني، ومن حديثه فيما ذكر أبو عبيدة أن نبيشة بن حبيب السلمي خرج غازيا فلقي ظعنا من كنانة بالكديد فأراد أن يحتويها، فمانعه ربيعة بن مكدم في فوارس وكان غلاما له ذؤابة. فشد عليه نبيشة فطعنه في عضده، فأتى ربيعة أمه وقال: شدي علي العصب أم سيار، فقد رزقت فارسا كالدينار، فقالت أمه:

إنا بني ربيعة بن مالك

يرزأ في خيارنا كذلك

من بين مقتول وبين هالك

ثم عصبته فأسقاها ماء. فقالت: اذهب فقاتل القوم فإن الماء لا يفوتك، فرجع وكرّ على القوم فكشفهم ورجع إلى الظعن وقال: إني لمائت وسأحميكن ميتا كما حميتكن حيا بأن أقف بفرسي على العقبة وأتكئ على رمحي، فإن فاضت نفسي كان الرمح عمادي فالنجاء النجاء، فإني أرد بذلك وجوه القوم ساعة من النهار، فقطعن العقبة ووقف بإزاء القوم على فرسه متكئا على رمحه

1 الميداني، وبلوغ الأرب ص146 جـ2.

ص: 296

ونزفه الدم، فغاظ والقوم بإزائه يحجمون عن الإقدام عليه، فلما طال وقوفه في مكانه ورأوه لا يزول عنه رموا فرسه فقمص وخرّ ربيعة لوجهه، فطلبوا الظعن فلم يلحقوهن، ثم إن حفص بن الأحنف الكناني مر بجيفة ربيعة فعرفها، فأمال عليها أحجارا من الحرة، وقال يبكيه:

لا يبعدن ربيعة بن مكدم

وسقى الغوادي قبره بذنوب

نفرت قلوصي من حجارة حرة

بنيت على طلق اليدين وهوب

لا تنفري يا ناق منه فإنه

شراب خمر مسعر لحروب

لولا السفار وبعده من مهمه

لتركتها تحبو على العرقوب

قال أبو عبيدة: قال أبو عمرو بن العلاء: ما نعلم قتيلا حمى ظعائن غير ربيعة بن مكدم1.

أشبه امرأ بعض بزه:

وهو مثل أرسله ذو الإصبع العدواني، وقصته أن ذا الإصبع بعد أن زوج بناته الأربع مكثن برهة ثم اجتمعن إليه، فقال للكبرى: يا بنية، ما مالكم؟ قالت: الإبل، قال: فكيف تجدونها؟ قالت: خير مال، نأكل لحومها مزعا ونشرب ألبانها جرعا، وتحملنا وضعيفنا، قال: فكيف تجدين زوجك؟ قالت: خير زوج يكرم الخليلة ويعطي الوسيلة2، قال: مال عميم وزوج كريم. ثم قال للثانية: يا بنية ما مالكم؟ قالت: البقر، قال: فكيف تجدونها؟ قالت: خير مال، تألف الغناء، وتودك السقاء3، وتملأ الإناء، ونساء في نساء، قال: فكيف تجدين زوجك؟ قالت: خير زوج يكرم أهله، وينسى فضله، قال: حظيت ورضيت. ثم قال للثالثة: ما مالكم؟ قالت: المعزى، قال: فكيف تجدونها؟ قالت: لا بأس بها، نولدها فطما ونسلخها أدما، قال: فكيف

1 الميداني 1/ 231.

2 الوسيلة: ما يتقرب به إلى الغير.

3 تودك السقاء: تجعل فيه الودك وهو الدسم.

ص: 297

تجدين زوجك؟ قالت: لا بأس به ليس بالبخيل الحكر1 ولا بالسمح البذر، قال: جدوى مغنية.

ثم قال للرابعة: يا بنية ما مالكم؟ قالت: الضأن، قال: وكيف تجدونها؟ قالت: شر مال، جوف2 لا يشبعن، وهيم3 لا ينقعن، وصم لا يسمعن4، وأمر مغويتهن يتبعن، قال: فكيف تجدين زوجك؟ قالت: شر زوج، يكرم نفسه ويهين عرسه، قال:"أشبه امرأ بعض بزه"5. وفي رواية: "أشبه امرؤ بعض بزه" وأرسله مثلا.

أساء سمعا فأساء إجابة:

قال ذلك سهيل بن عمرو وقد خرج ذات يوم ومعه ابنه أنس، فأقبل ابن شريق الثقفي وقال لسهيل: من هذا؟ قال سهيل: هو ابني، فقال ابن شريق الثقفي: حياك الله يا فتى، فقال الفتى: لا والله ما أمي في البيت، إنها انطلقت إلى أم حنظلة تطحن دقيقا، فقال أبوه: أساء سمعا فأساء إجابة، فأرسلت مثلا.

1 الحكر: المستبدّ بالشيء.

2 جوف: عظام الأجواف.

3 هيم لا ينقعن: عطاش لا يروين.

4 شبهت الضأن بما لا يسمع لبلادتها، والعرب تقول:"أبلد ما يرعى الضأن".

5 الأغاني ص95، 96 جـ3 ط دار الكتب، والكامل للمبرد ص318 جـ1 ط أوروبا، والميداني جـ1.

ص: 298