الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: الشعر الديني
تمهيد:
يرى الدكتور طه حسين أن الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين يظهر لنا حياة غامضة جافة بريئة أو كالبريئة من الشعور الديني القوي، والعاطفة الدينية المتسلطة على النفس، والمسيطرة على الحياة العملية، وإنه من العجيب حقا أن يعجز الشعر الجاهلي كله عن تصوير الحياة الدينية للجاهليين1، على حين يرى نيكلسون أن قدرا كبيرا من الأحاسيس الدينية قد تمثل في الشعر الجاهلي، فماذا عسى أن تكون الحقيقة بين هذين الرأيين المتناقضين أشد التناقض؟
الواقع أن كثيرا من الشعر الجاهلي قد ضاع في تلافيف الزمن واختفى في مجاهله ولم يسلم لنا منه إلا القليل. قال أبو عمرو بن العلاء: "ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير"2. ومع ذلك، فإن الباحث يجد أن هذا القليل قد تحدث فيما تحدث عنه، عن ديانات العرب ومعتقداتهم ومشاعرهم الدينية. وإذًا، فأحد الأسباب لقلة المأثور من الشعر الديني هو ضياع كثير من الشعر الجاهلي.
أما ثاني الأسباب فهو إغضاؤهم عن رواية هذا الشعر الذي يتصل بالوثنية؛ ورعا وتقية بعد أن دخل الإسلام في قلوبهم، وحرصا على عدم نبش الماضي الذي يصور أفن الفكر وضعف العقل ويثير الضغائن في النفوس. ثم إن الذين اعتنقوا اليهودية والنصرانية في الجاهلية قد ترفعوا وتجافوا عن شعرهم الوثني، على أن هذا التحرج ذو أهمية نسبية لأنه لم يكن عاما، ثم هو موقوت بظروف
1 في الأدب الجاهلي ص80 بتصرف.
2 طبقات الشعراء، لابن سلام ص17.
الإسلام الأولى إبان معركته ضد الشرك، بدليل أن الرواة قد نقلوا لنا جملة صالحة من هذا الشعر وحفظوها.
وثمت سبب ثالث وهو أن كثيرا من الجاهليين وبخاصة الشعراء، لم يكونوا يحفلون بالنزعة الدينية، بل كانوا متحللين منها في كثير من الأحيان. يقول بروكلمان:"ولم تكن الصلة بين القبيلة عند العرب وبين آلهتها وثيقة جدا، كما كانت الصلة عند بني إسرائيل مثلا بين يهود وشعبه"1.
ويتفق نيكلسون مع بروكلمان في هذا الرأي، فيقول:"كان تأثير الدين على حياة العرب قبل الإسلام ضئيلا، حتى لا نتوقع تأثيرا كبيرا له في شعرهم. والعربي لم يكن يولي الدين اهتماما كبيرا، كان تقديره لدينه يقتصر على مزاياه العملية، وإذا غضضنا النظر عن الشهوات، فقد كان العربي البدوي يجد في الدين راحة وأمنا خلال الأشهر الأربعة المقدسة التي يمنع فيها الحرب، في حين كان موسم الحج في مكة يمكنه من الاشتراك في احتفال وطني"2.
هذا إلى ضعف الوثنية ذاتها في أخريات العصر الجاهلي، إذ صارت عبادة الأوثان عادة أكثر منها عقيدة. قال أبو رجاء العطاردي:
"كنا نعبد الحجر في الجاهلية، فإذا وجدنا حجرا أحسن منه نلقي ذلك ونأخذه، فإذا لم نجد حجرا جمعنا حفنة من تراب، ثم جئنا فحلبنا عليه، ثم طفنا به"3.
هذه طائفة من الأسباب الجوهرية التي تضافرت على قلة الشعر الديني، ومع ذلك فإن ما سلم من أيدي الضياع من هذا الشعر يمثل إلى حد ما حياة العرب الدينية، سواء كانت وثنية أو غير وثنية.
أما مسألة الشك في الشعر الديني، فقد تعرضنا لمناقشتها في باب سابق، وخاصة شعر أمية بن أبي الصلت الذي سنتحدث بعد قليل عن بعض دلائل الوضع والاختلاق في قصصه الديني وقصائده في الكونيات، وسنتناول بالدرس في هذا شعر الوثنية، والتوحيد.
1 العرب والإمبراطورية العربية ص26.
2 A Literoyra History of The Arabs p، 135.
3 بلوغ الأرب 2/ 227.
1-
الأصنام والشعر:
كان الحجازيون -كالعرب عامة- يقسمون بأصنامهم، وقد جرى ذلك على ألسنة شعرائهم؛ فأقسم عبد العزى بن وديعة المزني بمناة:
إني حلفت يمين صدق برة
…
بمناة عند محل آل الخزرج
وكانت قريش قد حمت لها شعبا من وادي حراض يقال له: سقام، يضاهون به حرم الكعبة، فذاك قول أبي جندب الهذلي في امرأة كان يهواها:
لقد حلفت جهدا يمينا غليظة
…
بفرع التي أحمت فروع سقام
لئن أنت لم ترسل ثيابي فانطلق
…
أباديك أخرى عيشنا بكلام
يعز عليه صرم أم حويرث
…
فأمسى يروم الأمر كل مرام
وحلف الشنفرى الأزدي بأثواب الأقيصر وهو صنم كان يعبد في الجاهلية:
وإن امرأ أجار عمرا ورهطه
…
علي -وأثواب الأقيصر- يعنف1
كما كان الحجازيون يطوفون بالأنصاب، ويسمون الذبائح لها عثائر والمذبح الذي تذبح فيه العتر. قال زهير بن أبي سلمى:
فزل عنها وأوفى رأس مرقبة
…
كمنصب العتر دمّى رأسه النسك
ونافح بعض الحجازيين عن أصنامهم؛ حماية لها من التدمير، وكافحوا دونها حتى قتلوا، كما حدث لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وأسلمت العرب، وكان في القادمين جرير بن عبد الله الذي جاء مسلما، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"يا جرير، ألا تكفيني ذا الخلصة؟ " فقال: بلى فوجهه إليه، فخرج حتى أتى بني أحمس من بجيلة، فسار بهم إليه فقاتلت خثعم وباهلة دونه، فقتل من سدنته من باهلة
1 كان الأقيصر صنم قضاعة ولخم وجذام وغطفان، وكانوا يحجون إليه ويحلقون رءوسهم عنده، ويلقون مع الشعر قرة من دقيق. وقد ذكر اسمه في شعر لزهير بن أبي سلمى ولربيع بن ضبع الفزاري وللشنفرى كما رأيت.
يومئذ مائة رجل، وأكثر القتل في خثعم، وقتل مائتين من بني قحافة بن عامر بن خثعم، فظفر بهم وهزمهم، وهدم بنيان ذي الخلصة وأضرم فيه النار فاحترق، فقالت امرأة من خثعم:
وبنو أمامة بالولية صرعوا
…
ثملا يعالج كلهم أنبوبا
جاءوا لبيضتهم فلاقوا دونها
…
أسدا تقب لدى السيوف قبوبا
قسم المذلة بين نسوة خثعم
…
فتيان أحمس قسمة تشعيبا1
وربما طلبوا إلى الأصنام أن تدرأ عن نفسها الشر والضر في شك مرير، كما حدث حينما بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد بعد فتح مكة إلى العزى لهدمها، فلما سمع صاحبها السلمي بمسيرة خالد إليها علق عليها سيفه وهرب في الجبل الذي هي فيه، وهو يقول:
أيا عز شدي شدة لا شوى لها
…
على خالد، ألقي القناع وشمري
أيا عز إن لم تقتلي المرء خالدا
…
فبوئي بإثم عاجل أو تنصري
وقد ذكرنا فيما سبق أن قريشا كانت تتعبد لصنم اسمه ود، ونزيد هنا أن اسم "ود" ورد في النصوص المعينية، وفي النصوص الثمودية. وفي أحد هذه النصوص الثمودية كتابة معناها:"أموت على دين ود" وفي هذا دليل على مدى انتشار عبادته في جزيرة العرب2
…
ووردت كلمة "ود" تحية في الكتابات الثمودية في الغالب، والتحية صلة بفكرة ود إلها ولا شك. وقد وردت اسما للإله في النصوص اللحيانية، وبمعنى التحية وردت كلمة "ود" في هذا البيت، الذي ينسب لنابغة بني ذبيان:
حياك ود فإنا لا يحل لنا
…
لهو النساء وإن الدين قد عزما
وكان الحجازيون -كالعرب- يستقسمون عند الأصنام بالأزلام، وهي القداح يستشيرونها للسفر أو الغزو أو التجارة أو أي أمر يهمهم، وهي ثلاث
1 الولية: اسم موضع. ثملا: جمع ثملة وهي الحب والسويق. الأنبوب: الرمح. تقب: تصخب وتقعقع أنيابها.
2 تاريخ العرب قبل الإسلام ج5 ص126.
قطع مكتوب على أحدها: نهاني ربي، وعلى الثاني: أمرني ربي، وأما الثالث فغفل، فإن خرج الآمر مضى لطيته، وإن خرج الناهي أمسك، وإن خرج الثالث أجالها.
وكان لهبل فيما يرى المؤرخون سبعة قداح يضرب بها على الميت والعذرة والنكاح، وكان قربانه مائة بعير، وكان له حاجب. وكانوا إذا جاءوا هبل بالقربان ضربوا بالقداح، وقالوا:
إنا اختلفنا فهب السراحا
…
ثلاثة يا هبل فصاحا
الميت والعذرة والنكاحا
…
والمبرئ المريض والصحاحا
إن لم تقله فمر القداحا
أما الثورة على الأصنام والأوثان فنجدها لدى الحنفاء، الذين وصلوا بعد طول التأمل والتدبر إلى اعتبارها أوهاما باطلة، وخزعبلات فاسدة لا تليق بالعقل الحصيف. وقد أسلفنا الحديث عن بعض هؤلاء الحنفاء، وسنورد أطرافا من الأشعار التي تكشف عن عقيدتهم، وسماتها حين نتحدث عن شعر "التوحيد" في الجاهلية.
ونكتفي هنا بتسجيل بعض الأخبار التي تدل على الانفعال العنيف، والغضب الشديد، والتحرر الثائر، مما اتسمت به ثورة بعض الحجازيين ضد تلك الآلهة الفارغة والأباطيل الشاخصة.
فقد كان لمالك وملكان ابني كنانة بساحل جدة صنم يقال له "سعد"، وكان صخرة طويلة؛ فأقبل رجل من بني ملكان بإبل مؤبلة، ليقفها عليه ابتغاء بركته فيما يزعم، فلما أدناها منه ورأته وكان يراق عليه الدماء نفرت منه، فذهب في كل وجه فغضب ربها، فتناول حجرا فرماه به، وقال:"لا بارك الله فيك إلها، أنفرت علي إبلي" ثم خرج في طلبها حتى جمعها، ثم انصرف وهو يقول:
أتينا إلى "سعد" ليجمع شملنا
…
فشتتنا سعد فلا نحن من سعد
وهل سعد إلا صخرة بتنوفة
…
من الأرض لا يدعو لغي ولا رشد1
ومما يدل على عدم اكتراثهم بعقيدتهم الوثنية، ذلك التناقض الذي يشعرون به حين يعبدون الأصنام التي يلتمسون بعبادتها أن تقربهم زلفى إلى الله، في الوقت الذي يرون فيه تلك الأصنام لا تدفع عن نفسها الضر والأذى، فقد كان عادي بن عبد العزى سادنا لصنم لبني سليم، فبينا هو عنده إذ أقبل ثعلبان يشتدان فبالا على الصنم، فقال:
أرب يبول الثعلبان برأسه؟
…
قد ذل من بالت عليه الثعالب2
بل، لقد روي أن عمرو بن حبيب من محارب بن فهر قد أكل إله بكر، وذلك أن "بكرا" كان لهم سقب يعبد، يعبدونه من دون الله تعالى، فأغار عليهم عمرو فأخذه وأكله، وسمي لذلك آكل السقب3.
2-
التوحيد والشعر:
الله:
ورد لفظ الجلالة في الأشعار المنسوبة إلى الجاهليين، وهو اسم الإله في الإسلام، فهل عرف الجاهليون هذا الاسم ونطقوا به حقا؟ أم هو لم يكن معروفا لديهم، وإنما شاع وعرف لنزول الوحي به؟
لقد ذهب "نولدكه" إلى أن رواة الشعر وحملته في الإسلام هم الذين أدخلوا اسم الجلالة في هذا الشعر، وذلك بأن حذفوا منه أسماء الأصنام وأحلوا محلها اسم الله؛ فما جاء فيه اسم "اللات" حل محله اسم "الله". ولكن ليس في أيدينا دليل محسوس ينص
1 بلوغ الأرب للألوسي 2/ 208.
2 يراد بالرب هنا الصنم، وهو مثل يضرب للشيء يستذل.
3 جمهرة الأنساب 169، وابن سعد 5/ 236، السقب: ولد الناقة.
على وجود مثل هذا التغيير والتبديل. ثم إن "اللات" لم يكن صنم جميع العرب، فلم خص "اللات" بالقسم في الشعر مثلا دون سائر الأصنام؟ ثم إن إدخال لفظ "الله" في مواضع أسماء الأصنام الأخرى لا يمكن أن يستقيم دائما، فلا بد أن يؤثر إدخاله على وزن الشعر، فيكف عولج الميزان؟ وكيف صحح الشعر؟
أما "ولهوزن" فيرى أن عدم ورود أسماء الأصنام في الشعر الجاهلي إلا في النادر، ليس بسبب تغيير الرواة الإسلاميين وتبديلهم لأسماء الأصنام وإنما سببه هو أدب الجاهليين وعادتهم في عدم الإسراف والإسفاف في ذكر الآلهة خاصة، وذلك على سبيل التأدب تجاه الأرباب، فاستعاضوا عن الصنم بلفظة "الله" التي لم تكن تعني إلها معينا، وإنما تعني ما تعنيه كلمة رب وإله. ومن هنا كثر استعمالها في القسم وفي التمني أو التشفي وأمثال ذلك من حالات.
فمن المستشرقين من يرى أن الكلمة عربية أصيلة، ومنهم من يرى أنها من إلاها Aiaha ومعناها "الإله" بلغة بني إرم. أما الذين قالوا بعربيتها، فيرون أنها من "اللات"، واللات اسم صنم، تحرف وتولد منه هذا الاسم.
بيد أن ورود هذا الاسم في الشعر الجاهلي يفيد أن الجاهليين كانوا يعتقدون بوجود إله واحد أعلى، خلق هذا الكون، وبيده تدبيره، وهو الذي ينزل المطر ويحيي الأرض بعد موتها؛ ولذلك توجهوا إليه وأقسموا به. ولهذا الرأي سند في القرآن الكريم؛ ففيه أن قريشا كانت تعترف بأن الله هو رب السموات والأرض:{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} 1.
1 تاريخ العرب قبل الإسلام 5/ 418-422.
أما جوهر الخلاف بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين العرب، فهو أنهم يشوبون إيمانهم وتوحيدهم بالشرك؛ لاعتقادهم أن تلك الأصنام تقربهم إلى الله زلفى، ويدل على ذلك قوله تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} .
واستعمال الجاهليين لاسم الجلالة، يشير إلى أنهم كانوا ينظرون إليه نظرة المسلمين، أي: إنه كان اسم علم خاص بالجلالة، فهو مقابل "يهوه" عند العبرانيين، ومنا هنا عبر عنه بإله واحد، وهو اسم مفرد ليس له جمع؛ لأنه إله واحد. أما لفظة "إله" فإنها تعبر عن مفرد له جمع، هو "آلهة"، والإله في مقابل "إيلوهيم Elohim" عند العبرانيين.
وسنعرض فيما يلي لبعض مظاهر التوحيد في شعر الحجازيين:
القسم بالله:
كان الحجازيون -كالعرب- يقسمون بالله. قال ذو الإصبع العدواني:
والله لو كرهت كفي مصاحبتي
…
لقلت إذ كرهت قربي لها بيني
وقال زهير:
فوالله إنا والأحاليف هؤلا
…
لفي حقبة أظفارها لم تقلم
وقالوا في قسمهم: تالله ولعمر الله. قال الشاعر:
تالله ذا قسما لقد علمت
…
ذبيان عام الحبس والأصر
وقال:
تعلماها لعمر الله ذا قسما
…
فاقصد بذرعك وانظر أين تنسلك؟
ويرى النابغة أن القسم بالله ما بعده قسم:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
…
وليس وراء الله للمرء مذهب
وحلفوا برب الكعبة. قال النابغة أيضا:
فلا، لعمر الذي مسحت كعبته
…
وما هريق على الأنصاب من جسد
ما قلت من سيء مما أتيت به
…
إذن، فلا رفعت سوطي إلى يدي
وحلفوا بالكعبة ذاتها لصلتها بالله. قال زهير:
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله
…
رجال بنوه من قريش وجرهم
يمينا لنعم السيدان وجدتما
…
على كل حال من سحيل ومبرم
قدرة الله:
وأسندوا إلى الله تعالى النفع والضرر والثواب والعقاب، واعتقدوا أنه هو المعطي وهو المانع، وعنده جزاء الصالحات. قال أبو قيس بن الأسلت، حين أجارت الأوس مخلد بن الصامت الساعدي:
أجرت مخلدا ودفعت عنه
…
وعند الله صالح ما أتيت
والله هو المعين على إحراز النصر. قال أبو قيس بن الأسلت أيضا:
وأحرزنا المغانم واستبحنا
…
حمى الأعداء والله المعين
وهو القابض الباسط الذي يعلم السر والجهر. قال ذو الإصبع العدواني يشكو من ابن عمه:
إن الذي يقبض الدنيا ويبسطها
…
إن كان أغناك عني سوف يغنيني
الله يعلمكم والله يعلمني
…
والله يجزيكم عني ويجزيني
وهو الذي يبدع الجمال ويمنحه لمن يشاء. قال قيس بن الخطيم متغزلا:
قضى لها الله حين صورها الـ
…
ـخالق ألا يكنها سدف
وهو الذي يجزي على البر والإحسان. قالت هند بنت الخس تمدح القلمس، وكان سيدا حكيما ينسئ الشهور، فيحل حرامها ويحرم حلالها:
إذا الله جازى منعما بوفائه
…
فجازاك عني يا قلمس بالكرم
وقال زهير:
رأى الله بالإحسان ما فعلا بكم
…
فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
علام الغيوب:
واستأثر الله بعلم الغيب، وهم بشر لا حيلة لهم في هتك الحجب واستشفاف ما وراء الواقع المحسوس، قال أحيحة بن الجلاح:
وما يدري الفقير متى غناه
…
وما يدري الغني متى يعيل؟
وما تدري وإن ألقحت شولا
…
أتلقح بعد ذلك أم تحيل؟
وما تدري إذا ذمرت سقيا
…
لغيرك أم يكون لك الفصيل؟
وما تدري وإن جمعت أمرا
…
بأي الأرض يدركك المقيل1؟
والله هو الذي يعلم السر وما تكنه الصدور. قال زهير:
ألا أبلغ الأحلاف عني رسالة
…
وذبيان هل أقسمتم كل مقسم
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم
…
ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
الإيمان بالبعث:
وآمن بعض الحجازيين بالبعث ويوم القيامة، حيث تجزى كل نفس بما عملت؛ إن خيرا فخير وإن شرا فشر. قال زهير بعد البيتين السابقين:
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر
…
ليوم الحساب أو يعجل فينقم
وقال أمية بن أبي الصلت يذكر البعث والحشر والحساب والميزان:
ويوم موعدهم أن يحشروا زمرا
…
يوم التغابن إذ لا ينفع الحذر
وأبرزوا بصعيد مستو جرز
…
وأنزل العرش والميزان والزبر
3-
حادثة الفيل:
ومن الحوادث التي أثرت تأثيرا عميقا في نفوس الحجازيين حادثة الفيل، ولهذه الحادثة سمة سياسية وأخرى دينية. وقد تحدثنا عن الأولى في فصل "الشعر السياسي"، وسنتناول هنا السمة الثانية.
1 يعيل: يفتقر. الشول: الناقة التي تطلب اللقاح. ذمر: حبس. السقب: ولد الناقة.
يؤكد الجاحظ حادثة الفيل كما ذكرها القرآن الكريم، ويسوق الحجج في صرف الله الفيل، بالطير الأبابيل، وصد أبي يكسوم عن البيت الحرام، فقد أنزل الله سورة الفيل، وقريش يومئذ مجلبون في الرد على النبي صلى الله عليه وسلم وما شيء أحب إليهم من أن يروا له سقطة أو عثرة أو كذبة، أو بعض ما يتعلق به مثلهم، فلولا أنه أذكرهم أمرا لا يتدافعونه، ولا يستطيع العدو إنكاره، للذي يرى من إطباق الجميع عليه؛ لوجدوا أكبر المقال في تكذيبه والتشنيع عليه.
وقد كان بين ثقيف وقريش لقرب الدار والمصاهرة، والتشابه في الثروة، والمشاكلة في المجاورة تحاسد وتنافر. وقد كان هنالك فيهم الموالي والحلفاء والقطان والنازلة ومن يحج في كل عام. وكان البيت مزورا على وجه الدهر يأتونه رجالا وركبانا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، وبشق الأنفس، كما قال الله تعالى:{فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} . وكانوا بقرب سوق عكاظ وذي المجاز وهما سوقان معروفان، وما زالتا قائمتين حتى جاء الإسلام، فلا يجوز أن يكون السالب والمسلوب والمفتخر به والمفتخر عليه والحاسد والمحسود والمتدين به والمنكر له، مع اختلاف الطبائع وكثرة العلل يجمعون كلهم على قبول هذه الآية وتصديق هذه السورة، وكلهم مطبق على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم والكفر به.
والمحلون من العرب ممن كان لا يرى للحرم، ولا للشهر الحرام حرمة: طيء كلها وخثعم كلها وكثير من أحياء قضاعة ويشكر والحارث بن كعب، وهؤلاء كلهم أعداء في الدين والنسب.
هذا مع ما كان في العرب من النصارى الذين يخالفون دين مشركي العرب كل الخلاف؛ كتغلب، وشيبان، وعبد القيس، وغيرهم خلطاء وأعداء، ممن يغارون ويسبون ويسبى منهم، وفيهم الثئور والأوتار والطوائل. وهي العرب وألسنتها الحداد وأشعارها التي إنما هي مياسم، وهممها البعيدة وطلبها للطوائل، وذمها لكل دقيق وجليل من الحسن والقبيح في الأشعار والأرجاز والأسجاع والمزدوج والمنثور. فهل سمعنا بأحد من جميع هؤلاء الذين ذكرنا أنكر شأن الفيل، أو عرض فيه بحرف واحد؟!
ويستشهد الجاحظ على إثبات حادثة الفيل بأشعار شعراء من غير قريش أو حلفائها كربيعة بن أبي الصلت. وهو ثقفي طائفي وهو جاهلي، وثقيف يومئذ أضداد بالبلدة والمال والحدائق والجنان، وبهم اللات والغبغب، وبيت له سدنة يضاهون بذلك قريشا، وهو مع اجتماع هذه الأسباب التي توجب الحسد والمنافسة:
إن آيات ربنا بينات
…
ما يماري فيهن إلا الكفور
حبس الفيل بالمغمس حتى
…
ظل يحبو كأنه معقور
واضعا حلقة الجران كما قطـ
…
ـر صخر من كبكب محدور1
وقد فسر الإمام محمد عبده الطير الأبابيل بأنها الرياح المتجمعة حملت إليهم ميكروب الجدري ففتك بهم، وأن الحجارة من السجيل هي ذرات التراب التي حملت الميكروب، وقد رد على ذلك الأستاذ محمد الطيب النجار ونقضه بقوله: إنه لم يعهد في لغة العرب أن يقال عن الرياح: إنها طير أبابيل أي: جماعات من الطير، ولا ينبغي أن يقال ذلك إلا بطريق مجازي بعيد، ولا يصح أن يلجأ إلى مثل هذا المجاز ما دامت الحقيقة غير مستحيلة على قدرة الله، ولا يقبل أيضا أن يقال عن ذرات التراب: إنها حجارة من سجيل، أي: من طين مطبوخ وهو الآجر.
وإذا كانت الريح قد حملت ميكروب الجدري، فلماذا هلك الأحباش وحدهم، ولم يهلك معهم العرب؟
وإذا كان حادث الفيل قد وقع عام ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم فمن المعقول أن سورة الفيل قد نزلت على الرسول في وقت كان يعيش فيه من أهل مكة أناس رأوا حادث الفيل بأعينهم، وبعضهم من أعداء الرسول، فلو لم تكن الطيور طيورا حقيقة والحجارة حجارة حقيقة؛ لظهر من العرب من يسارع إلى تكذيب هذه السورة ويعلن ذلك على
1 وتنسب الأبيات كذلك إلى أمية بن أبي الصلت. الجران: باطن عنق البعير. قطر: ألقي على جانبه. وكبكب: جبل خلف عرفات. راجع الحيوان 7/ 198، 215-217.
رءوس الأشهاد، وينتهزها فرصة في الكيد لمحمد والطعن عليه، ولكن الواقع أن سورة الفيل قد نزلت فتلقاها العرب بالقبول؛ لأنها تقرر حقيقة معروفة عندهم لا شك فيها، ولا يجرؤ أحد على إنكارها.
وقد هز ذلك الخطر الداهم الذي كان موشكا أن يجتاح مكة وأحلها نفوس الشعراء والزعماء، وعلى رأس هؤلاء عبد المطلب بن هاشم الذي توجه إلى الله مع نفر من قريش، وراح يهتف بهذا الشعر وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
لاهم إن المرء يمنـ
…
ـع رحله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم
…
ومحالهم أبدا محالك
إن كنت تاركهم وكعـ
…
ـبتنا فأمر ما بدا لك
فلئن فعلت فإنه
…
أمر يتم به فعالك
اسمع بأرجس ما أرا
…
دوا العدو وانتهكوا حلالك
جروا جميع بلادهم
…
والفيل كي يسبوا عيالك
عمدوا حماك بكيدهم
…
جهلا وما رقبوا جلالك
وممن هزتهم حادثة الفيل ففتقت قرائحهم بالشعر، عبد الله بن الزبعرى الذي يقول:
تنكلوا عن بطن مكة إنها
…
كانت قديما لا يرام حريمها
لا تخلق الشعر ليالي حرمت
…
إذ لا عزيز من الأنام يرومها
سائل أمير الجيش عنها ما رأى
…
ولسوف ينبي الجاهلين عليمها
ستون ألفا لم يئوبوا أرضهم
…
بل لم يعش بين الإياب سقيمها
كانت بها عاد وجرهم قبلهم
…
والله من فوق العباد يقيمها
1 من وحي البلد الأمين ص14، 15.
4-
مكانة الحرم والشعائر الدينية:
كان للحرم مكانة قدسية لدى العرب منذ عهد بعيد؛ فكانوا لا ينفرون صيد الحرم ولا يؤذونه، وينسبون لعمرو بن مضاض الجرهمي أنه قال:
فسحت دموع العين تبكي لبلدة
…
بها حرم أمن وفيها المشاعر
وتبكي لبيت ليس يؤذى حمامه
…
تظل به أمنا وفيه العصافر
وفيه وحوش لا تزال أبية
…
إذا خرجت منه فليست تغادر
وقال النابغة الذبياني:
والمؤمن العائذات الطير تمسحها
…
ركبان مكة بين الغيل والسند
وكانوا يحرمون غزو الحرم والقتال فيه؛ وشاهد ذلك قول حرب بن أمية لأبي مطر الحضرمي، يدعوه إلى حلفه ونزول مكة:
أبا مطر هلم إلى صلاح
…
فتكنف كالندامى من قريش
وتأمن وسطهم وتعيش فيهم
…
أبا مطر هديت لخير عيش
وتسكن بلدة عزت قديما
…
وتأمن أن يزورك رب جيش
وكانوا يكرهون الظلم في الحرم، ونسبوا لرجل من جرهم أنه قال لعمرو بن لحي لما ظلم بمكة:
يا عمرو لا تظلم بمكة إنها بلد حرام
ونسبوا لسبيعة بنت الأجب بن زبينة، وهي تنهى ابنها خالد بن عبد مناف عن الظلم في الحرم، وتعظم حرمة مكة، قولها:
أبني لا تظلم بمكة
…
لا الكبير ولا الصغير
واحفظ محارمها ولا
…
يغررك بالله الغرور
أبني من يظلم بمكة
…
يلق أطراف الشرور
أبني يضرب وجهه
…
ويلح بخديه السعير
أبني قد جربتها
…
فوجدت ظالمها يبور
والله أمنها وما
…
بنيت بعرصتها قصور
والله أمن طيرها
…
والعصم تأمن في ثبير
ولقد كان اجتناب الظلم في الحرم شريعة عامة، وقاعدة مرسومة لا يحيدون عنها. ومن النادر حدوث اعتداء على النفس أو المال فيه، كما آذى مشركو قريش زيد بن عمرو بن نفيل في مكة لما اطّرح عبادة الأصنام؛ كراهة أن يفسد عليهم دينهم، فقال وهو يعظم حرمته على من استحل منه ما استحل من قومه:
لاهم إني لا حله
…
وإن بيتي أوسط المحله
عند الصفا ليس بذي مضله
وكانوا إذا أحرموا كرهوا تسريح الشعر وقتل القمل. قال أمية بن أبي الصلت:
مساجي أياطلهم ينزعوا تفثا
…
ولم يسلوا لهم قملا وصئبانا1
وكانوا يهللون ويلبون في الحج؛ يدل على ذلك قول نبيه بن الحجاج:
إنني والذي يحج له شمـ
…
ـط إياد وهللوا تهليلا
ومبيتا بذي المجاز ثلاثا
…
ومتى كان حجنا تحليلا
وبعض تلبيات العرب في الجاهلية مسجوع؛ كقولهم: لبيك ربنا لبيك، والخير كله بيديك. وبعضها موزون كقولهم، وهو من منهوك الرجز:
لبيك إن الحمد لك
…
والملك لا شريك لك
إلا شريك هو لك
…
تملكه وما ملك
أخو بنات بفدك
وفدك: قرية حجازية قديمة، وكان بها في الجاهلية أصنام.
وإذا أرادت بجيلة التلبية "وهي قبيلة حجازية" قالت:
لبيك عن بجيلة
…
الفخمة الرجيلة
ونعمت القبيلة
…
جاءتك بالوسيلة
تؤمل الفضيلة
1 التفث: الوسخ.
وكانوا في الجاهلية يطوفون في الحج بالبيت الحرام، قال مضاض بن عمرو بن الحارث الجرهمي:
ونحن ولينا البيت من بعد نابت
…
نطوف بذاك البيت والخير حاضر
وكان بعض العرب يطوف بالبيت مكشوف السوءة غير الحج لغرض يقصده، فقد مرض أبو جندب -وهو شاعر جاهلي- وكان له جار من خزاعة اسمه خاطم، فقتله زهير اللحياني وقتلوا امرأته، فلما برئ أبو جندب من مرضه خرج من أهله حتى قدم مكة، فاستلم الركن وكشف عن استه وطاف، فعرف الناس أنه يريد شرا، فقال:
إني امرؤ أبكي على جاريه
…
أبكي على الكعبي والكعبية
ولو هلكت بكيا عليه
…
كانا مكان الثوب من حقويه
فلما فرغ من طوافه وقضى من مكة حاجته، خرج في الخلعاء من بكر وخزاعة فاستجاشهم على بني لحيان، فخرجوا معه حتى صبح بهم بني لحيان في العرج، فقتل فيهم وسبى من نسائهم وذراريهم1.
اللقا: وكان من عادة العرب ألا يطوف أحد بالبيت إلا عريانا ما عدا الحمس، فإنهم كانوا يطوفون وعليهم الثياب، وكان إذا حدث أن طاف الرجل أو المرأة من غير الحمس في ثيابه فإنه يجيء بتلك الثياب التي طاف بها وبطرحها "لقى" حول البيت، فلا يمسها أحد ولا يحركها حتى تبلى من وطء الأقدام ومن الشمس والرياح والمطر. وقد ذكر ورقة بن نوفل "اللقاء" في بعض ما أثر عنه، وذلك إذ يقول:
كفى حزنا كرى عليه كأنه
…
لقى بين أيدي الطائفين حريم
نذر الأبناء للكعبة:
وربما نذروا أبناءهم لخدمة الكعبة. ومن ذلك ما روي أن امرأة من جرهم تزوجها أخزم بن العاص وكانت عاقرا، فنذرت أن رزقت غلاما أن تتصدق به على الكعبة يخدمها ويقوم عليها، فولدت من أخزم "الغوث" وتصدقت
1 أخبار مكة ج1 ص112، طبعة مكة.
به عليها، فكان يخدمها في الدهر الأول مع أخواله من جرهم، وولي الإجازة بالناس لمكانه من الكعبة، وقالت أمه حين أتمت نذرها:
إني جعلت رب من بنيه
…
ربيطة بمكة العليا1
فباركن لي بها إليه
…
واجعله لي من صالح البريه
5-
وكما تحدث الشعر الحجازي عن الوثنية والتوحيد، أشار كذلك إلى اليهودية والنصرانية وعبادة الجن والشجر وغيرها.
شعائر اليهود والنصارى:
وترددت في أشعار بعض الحجازيين شعائر اليهود والنصارى؛ فقد وصف مزرد بن ضرار الذبياني البيضة والحلق المتصل بها الذي يطرح على الظهر لستر العنق، فقال: إن بيضة يمنية سلسلة ملساء لينة تنزلق الحجارة عنها، وشبه لمعانها في شعاع الشمس بمصابيح الرهبان تلمع:
وتسبغة في تركة حميرية
…
دلامصة ترفض عنها الجنادل
كأن شعاع الشمس في حجراتها
…
مصابيح رهبان زهتها القنادل2
كما أن النابغة الذبياني ذكر في شعره يوم الشعانين، وأشار إلى الصليب والمجلة، وذلك في قوله:
ظلت أقاطيع أنعام مؤبلة
…
لدى صليب على الزوراء منصوب3
وقوله:
مجلتهم ذات الإله ودينهم قويم
…
فما يرجون غير العواقب
1 أخبار مكة ج1 ص221.
2 تسبغة: زرد مشتبك الحلقات متصل بالبيضة، يطرح على الظهر لستر العنق. تركة: بيضاء مستديرة. دلامصة: سلسلة لينة. حجرات: جوانب.
3 الأقاطيع: جمع قطيع، وهو الطائفة من الغنم. المؤبلة: التي تتخذ للقنية، فلا تركب.
وفي شعر أمية تعبير من صميم المسيحية، لا يزال حيا يتردد صداه حتى الآن، وهو قوله:
مجدوا الله وهو للمجد أهل
…
ربنا في السماء أمسى كبيرا
عبادة الجن والشجر:
وبعض العرب عبد الجن، وهذا أمية بن أبي الصلت يسجل هذه العبادة ويتبرأ منها، ويتوجه برجائه خالصا لله ربه:
حنانيك إن الجن كان رجاءهم
…
وأنت إلهي ربنا ورجائيا
ومنهم من عبد الشجر؛ فقد اعتقدوا أن العزى شيطانة كانت "تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة". وفي فتح مكة أمر النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد أن يعضدها، فعضد الأولى والثانية فلم ير شيئا، فأمره النبي أن يعضد الثالثة فأتاها، فإذا بحبشية نافشة شعرها واضعة يديها على عاتقها، تصرف بأنيابها، وخلفها دبية بن حرمي الشيباني -وكان سادنها- فلما نظر إلى خالد قال بيتين ذكرناهما سابقا.
فقال خالد: يا عز كفرانك لا سبحانك، إني رأيت الله قد أهانك. ثم ضربها ففلق رأسها فإذا هي حممة، ثم عضد الشجرة وقتل دبية السادن.
وبعض الحجازيين كان دهريا لا يؤمن بالبعث والجزاء. قال شداد بن الأسود بن عبد شمس يرثي كفار قريش يوم بدر:
يحدثنا الرسول بأن سنحيا
…
وكيف حياة أصداء وهام؟
6-
القصص الديني:
ويتميز الشعر الحجازي الجاهلي بالقصص الديني، ورائد هذا اللون الذي كاد يختص به هو أمية بن أبي الصلت، ويمكن أن نقسم قصص أمية الديني من حيث قيمته الفنية، وتأثره بالقرآن أو عدم تأثره إلى الألوان الآتية:
أ- لون يبدو أنه لم يتأثر فيه بالقرآن الكريم، والراجح أنه نظمه قبل الإسلام. وتظهر فيه قوة الأداء كخرافة تطويق الحمامة التي كانت سببا في نجاة سفينة نوح، أو دلت من بها على اليابسة وهي التي يقول فيها:
وأرسلت الحمامة بعد سبع
…
تزل على المهالك لا تهاب
فجاءت بعد ما ركدت بقطف
…
على الثأط والطين الكثاب1
فلما فتشوا الآيات صاغوا
…
لها طوقا كما عقد السخاب2
إذا ماتت تورثه بنيها
…
وإن تقتل فليس له استلاب
جزى الله الأجل المرء نوحا
…
جزاء البر ليس له كذاب
بما حملت سفينته وأنجت
…
غداة أتاهم الموت القلاب3
وفيها من أرومته عيال
…
لديه لا الظماء ولا السغاب
ومثلها في القوة وعدم الاستعانة بالقرآن قصيدته في "قنزعة الهدهد" وستقرؤها في ترجمته.
ب- ولون آخر يبدو فيه الحشو والتفكك والابتذال وسوء المحاكاة، كقصته في الذبيح حين همّ إبراهيم بذبح ولده، ففداه الله بذبح عظيم. وفيها يقول:
أبني إني نذرتك لله
…
شحيطا فاصبر فدى لك خالي
1 الثأط: الحمأ. والكثاب: الأسود.
2 السخاب ككتاب: عقد من قرنفل، أو غيره لا جوهر فيه.
3 الموت القلاب: الناشئ من داء في القلب.
فأجاب الغلام أن قال فيه
…
كل شيء لله غير انتحال
أبني إني جزيتك بالله
…
تقيا به على كل حال
وستأتي في ترجمته، وكذلك تصويره لقصة مريم، فمحاكاته فيها للقرآن بينة، وفيها حشو وفضول كثير.
جـ- ولون وسط، لا تبدو فيه كلفة المحاكاة للقرآن، كقوله في خراب "سدوم" مدينة قوم لوط:
ثم لوط أخو سدوم أتاها
…
إذ أتاها برشدها وهداها
راودوه عن ضيفه ثم قالوا
…
قد نهيناك أن تقيم قراها
إلى آخر القصيدة التي ستأتي فيما بعد.
ويتجلى في قصصه الديني عامة: وحدة الموضوع، وانسياق المعاني في الغالب، مع الضعف الفني في بعض الأحيان؛ وذلك لصعوبة النظم في الموضوعات الدينية.
ونحب أن نشير إلى أن كثيرا من القصص الديني الوارد عن شاعرنا أمية هو من القصص الموضوع ألفه الوضاعون، ولا يستبعد الدكتور جواد علي أن يكون هذا القصص قد ظهر في أيام الحجاج؛ عصبية وتقربا إليه1، فكلاهما ثقفي.
وقصيدة أمية في عيسى ابن مريم وحمل أمه به، وكثير من قصائده الأخرى، تجد عليها المسحة الإسلامية بارزة ظاهرة. ولكن هذا لا يمنع -مع ذلك- من القول بوجود أبيات قد تكون من نظم أمية حقا، في هذا المنظوم الديني، غير أن هذا الموجود، هو على كل حال مما لا يتعارض مع عقائد الإسلام. ومن الممكن إدراكه بدراسة ألفاظه وأسلوبه وأفكاره، وبهذه الطريقة نتمكن من استخلاص الأصيل من شعره، من الهجين2.
وأثر الوضع على بعض شعر أمية واضح ظاهر لا يحتاج إلى دليل، وهو وضع يثبت أن صاحبه لم يكن يتقن صنعة الوضع جيدا. فالقصيدة التي مطلعها:
لك الحمد والمن رب العبا
…
د أنت المليك وأنت الحكم
1 تاريخ العرب قبل الإسلام 5/ 380.
2 المرجع نفسه 5/ 393.
هي قصيدة إسلامية، لا يمكن أبدا أن تكون من نظم شاعر لم يؤمن بالإسلام إيمانا عميقا من كل قلبه ولسانه. خذ هذا البيت منها مثلا:
محمد أرسله بالهدى
…
فعاش غنيا ولم يهتضم
ثم الأبيات الآتية فيها:
أطيعوا الرسول عباد الإلـ
…
ـه تنجون من شر يوم ألم
تنجون من ظلمات العذاب
…
ومن حر نار على من ظلم
دعانا النبي به خاتم
…
فمن لم يجبه أسر الندم
نبي هدي صادق طيب
…
رحيم رءوف بوصل الرحم
يموت كما مات من قد مضى
…
يرد إلى الله باري النسم
اقرأ هذه المنظومة، ثم احكم على صاحبها، هل تستطيع أن تقول: إنه كان شاعرا مغاضبا للرسول، وإن صاحبه رثى كفار قريش، وإنه قال ما قال في الإسلام وفي الرسول؟ اللهم، لا. فصاحب هذا النظم رجل مؤمن عميق الإيمان، وهو واعظ ومبشر، يخاطب قومه فيدعوهم إلى الإسلام وإلى طاعة الله والرسول. إنه مؤمن قلبا ولسانا، مع أنهم يذكرون أن الرسول قال فيه:"آمن شعره وكفر قلبه" ، وأنه مات وهو على كفره وعناده وحسده للرسول. ثم إن صاحب المنظومة رجل يتحدث عن وفاة الرسول1.
1 تاريخ العرب قبل الإسلام 5/ 390-392.
7-
معتقدات الحجازيين:
ولم يبق بعد ذلك إلا أن نتحدث عن معتقداتهم الخرافية أو أوهامهم، وهي في جوهرها معتقدات العرب عامة وأوهامها. وسنشير إلى أمثلة منها دون محاولة الاستقصاء:
الغول:
في الميثولوجيا العربية يبدو للباحث كثرة الحديث عن الجن، ومن أصناف الجن عندهم السعالي والغيلان، ويطلق القول على "كل شيء من الجن يعرض للسفار ويتلوّن في ضروب الصور والثياب ذكرا كان أو أنثى، إلا أن الأكثر على أنه أنثى، والسعلاة اسم الواحدة من نساء الجن تتغول لتفتن السفار. قالوا: وإنما هذا منها على العبث، أو لعلها تفزع إنسانا فيتغير عقله".
وزعموا أن خلق الغول كالإنسان، ولكن رجليها رجلا حمار. ولا يزال أهل مكة يتحدثون عن "الدجيرة" وهي في سماتها كالغول؛ فرجلاها رجلا حمار إلا أن وجهها وجه امرأة. وهي لا تسير إلا ليلا، وإذا سارت تنطلق من خطواتها وسوسة الخلاخيل، وربما حملت على ذراعيها طفلا ملفوفا، فإذا ما قابلها رجل في الطريق أظهرت أنها تنوء بحمل ذلك الطفل، ثم تستنجد بالرجل فيحمله عنها ويسيران، ورويدا رويدا يشعر الرجل أن الطفل يكبر حجمه ويطول
…
ويطول
…
فيخاف
…
ويرتعد
…
وربما أغمي عليه أو عراه الجنون، وربما قذف بالطفل وفر هاربا بين قهقهات "الدجيرة" وسخريتها.
وكان الحجازيون -كالعرب- يزعمون أن الغول تموت بضربة واحدة، وإذا ضربت ضربة أخرى قبل أن تموت فلا تموت. وفي هذا يصف تأبط شرا معركة بينه وبين الغول:
ألا من مبلغ فتيان فهم
…
بما لاقيت عند رحى بطان
بأني قد لقيت الغول تهوي
…
بسهب كالصحيفة صحصحان
فقلت لها: كلانا نضو أرض
…
أخو سفر، فخلي لي مكاني
فشدت شدة نحوي فأهوت
…
لها كفي بمصقول يماني
فأضربها بلا دهش، فخرت
…
صريعا لليدين وللجران
فقالت ثن قلت لها: رويدا
…
مكانك إنني ثبت الجنان
ولم أنفك مضطجعا لديها
…
لأنظر مصبحا ماذا دهاني
إذا عينان في رأس دقيق
…
كرأس الهر مشقوق اللسان
وساق مخدج ولسان كلب
…
وثوب من عباء أو شنان1
وتنسب إلى تأبط شرا أبيات أخر وصف فيها لقاءه بالغول وأنه عن نفسها وطلبها بضعها، فلما أبت جللها بسيفه الصارم:
فأصبحت الغول لي جارة
…
فيا جارتا لك ما أهولا
فطالبتها بضعها فالتوت
…
فكان من الرأي أن تقتلا
فجللتها مرهفا صارما
…
أبان المرافق والمفصلا
التطير:
شاع في العرب زجر الطير والوحش وإثارتها. قال ابن دريد: أهل نجد كانوا يتيمنون بالسانح ويتشاءمون بالبارح، وأهل العالية على عكسهم. وقال أبو جعفر النحاس: السانح عند أهل الحجاز ما أتى من اليمين إلى اليسار، والبارح عندهم ما أتى من اليسار إلى اليمين، وهم يتشاءمون بالسانح ويتيمنون بالبارح، وأهل نجد بالضد من ذلك، والسانح عند أهل نجد هو البارح عند أهل الحجاز2.
1 بلوغ الأرب 2/ 342. الصحصحان: المكان المستوي. وجران البعير: مقدمة عنقه. المخدج: الناقص. الشنان: جمع شن وهو القربة الخلقة.
2 العمدة 2/ 203، والأغاني 9/ 157 ساسي.
وليس في الأرض شيء مما يتشاءمون به إلا والغراب عندهم أنكد منه، ولعل ذلك راجع إلى لونه وإلى عمله أو اسمه الذي اشتقت منه الغرابة والاغتراب والغريب.
ومن الشعراء الحجازيين الذين تشاءموا بنعيق الغراب زهير بن أبي سلمى، حيث توجّس أن يرتحل عنه الأحبة:
ألقى فراقهم في المقلتين قذى
أمسى بذاك غراب البين قد نعقا
وكذلك فعل النابغة:
زعم العواذل أن رحلتنا غدا
وبذاك تنعاب الغراب الأسود1
على أن بعض الشعراء اطرحوا التطير جانبا ومضوا لسبيلهم فظفروا وغنموا. روي أن النابغة خرج هو وزبان بن منظور الفزاري للغزو، فسقطت جرادة على النابغة فتطير وعاد، وأما زبان فمضى فظفر وغنم، فقال:
تعلم أنه لا طير إلا
…
على متطير، وهي الثبور
بلى! شيء يوافق بعض شيء
…
أحايينا، وباطله كثير
شيطان الشعر:
وكانوا يعتقدون أن لكل شاعر شيطانا يلهمه الشعر، قال حسان في جاهليته يعزو إلى شيطانه أنه قائل بعض شعره:
إذا ما ترعرع فينا الغلام
…
فما إن يقال له: من هوه
إذا لم يسد قبل شد الإزار
…
فذلك فينا الذي لا هوه
ولي صاحب من بني الشيصبان
…
فطورا أقول، وطورا هوه
العقر على القبور:
وكانوا يعقرون على قبر الميت؛ إعظاما له، وتكريما وإعلانا عن فضله، وقيل: لأن الإبل كانت تأكل عظام الموتى إذا بليت، فكأنهم يثأرون لهم منها، أو لأن الإبل أنفس أموالهم، فكانوا يريدون بعقرها أنها قد هانت عليهم لعظم المصيبة.
1 الأغاني 9/ 157 ساسي.
وقد مر حسان بن ثابت، أو غيره على قبر ربيعة بن مكدم الفارس الحجازي الجهير، فقال:
نفرت قلوصي عن حجارة حرة
…
بنيت على طلق اليدين وهوب
لا تنفري يا ناق منه، فإنه
…
شريب خمر، مسعر لحروب
لولا السفار وبعد خرق مهمه
…
لتركتها تحبو على العرقوب
الهامة والصدى:
وهذه خرافة مبعثها ولوعهم بالثأر، وأي تحريض على الثأر أقوى من زعمهم أن القتيل الذي لم يؤخذ بثأره يخرج من هامته طائر يسمى الهامة، فلا يزال يقول: اسقوني اسقوني، حتى يقتل قاتله فيسكن!
يقول المسعودي: "إن من العرب من يزعم أن النفس طائر ينبسط في الجسم، فإذا مات الإنسان أو قتل لم يزل يطيف به مستوحشا يصدح على قبره، ويزعمون أن هذا الطائر يكون صغيرا، ثم يكبر حتى يكون كضرب من البوم، وهو أبدا مستوحش، ويسكن في الديار المعطلة ومصارع القتلى والقبور، وأنها لم تزل عند ولد الميت لتعلم ما يكون بعده، فتخبره به"1.
قال شداد بن الأسود بن عبد شمس في رثاء كفار قريش يوم بدر:
يخبرنا الرسول بأن سنحيا
…
وكيف حياة أصداء وهام
وقال ذو الإصبع العدواني، مهددا ابن عمه المبغض له:
يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي
…
أضربك حتى تقول الهامة: اسقوني
أما الصدى فمن معانيه أنه طائر يخرج من رأس القتيل إذا بلي، كما يزعم العرب، ويظهر أنهم أطلقوه على غير القتيل فيما بعد.
1 الأمالي 1/ 129، ومروج الذهب 1/ 251، والحياة العربية من الشعر الجاهلي 339، 400.
تعليق الحلي على اللديغ:
وكانوا يجعلون الحلي في يد الملدوغ، ويحركونها لئلا ينام فيدب فيه السم، وقيل لبعض الأعراب: أتريدون أن يسهر؟ فقال: إن الحلي لا تسهر، ولكنها سنة وثناها. أو لأنهم زعموا أن حلي الذهب تبرئه، وحلى الرصاص أو الرصاص يميته.
وقال بعض بني عذرة، يشبه أثر اللوعة في نفسه بالسليم المحلى:
كأني سليم ناله كلم حية
…
ترى حوله حلي النساء موضعا
وقال النابغة:
فبت كأني ساورتني ضئيلة
…
من الرقش في أنيابها السم ناقع
تسهد من نوم العشاء سليمها
…
لحلي النساء في يديه قعاقع
كي السليم ليصح الأجرب:
ومن عجيب أوهامهم كي السليم ليصح الأجرب؛ فقد كانوا كما قال الجاحظ: إذا أصاب إبلهم العر كووا السليم ليدفعه عن السقيم، فأسقموا الصحيح من غير أن يبرئوا السقيم1.
قال النابغة يشبه ما وقع عليه من ظلم بهذا الفعل الجائر:
وكلفتني ذنب امرئ وتركته
…
كذي العر يكوى غيره وهو راتع
والراجح أن هذا مثل لا حقيقة، أو أنهم كانوا يكوون الصحيح لئلا يتعلق به الداء.
ضرب الثور لتشرب البقر:
وكانوا إذا عافت البقر الشرب لعدم العطش أو كدر الماء، يضربون الثور حتى يرد الماء، فتتبعه البقر فتشرب. وعجب النابغة من أن يعاقب على ذنب لم يرتكبه،
1 الحيوان للجاحظ 1/ 17 طبعة هارون.
مشبها حاله بحال الثور المجني عليه، يضرب لأن البقر لا ترد الماء:
أتترك معشرا قتلوا هذيلا
…
وتعقبني بما فعلت جذام
كذلك يضرب الثور المعنى
…
إذا ما عافت البقر الحيام
الاستمطار بالأبقار المحروقة:
كان الحجازيون -كالعرب- إذا أصابهم الجدب طلبوا السقيا واستمطروا بالأبقار، يصعدون بها في جبل وعر ثم يربطون السلع والعشر بأذنابها، ثم يضرمون فيها النار ويضجون بالدعاء. وقد سجل أمية بن أبي الصلت خرافة السقيا بالأبقار المحروقة، فقال:
سنة أزمة تخيل بالناس
…
ترى العضاه فيها صريرا
إذ يسقون بالدقيق وكانوا
…
قبل لا يأكل شيئا فطيرا
ويسوقون باقر السهل للطود
…
مهازيل خشية أن يبورا
عاقدين النيران في شكر الأذناب
…
عهدا كيما تهيج البحورا
فاشتوت كلها فهاج عليهم
…
ثم هاجت إلى صبير صبيرا
فرآها الإله ترشم بالقطر
…
وأمسى جنابهم ممطورا
فسقاها نشاطه واكف النبت
…
منه إذا وادعوه الكبيرا
سلع ما ومثله عشر ما
…
عائل ما وعالت البيقورا1
وقيل في تعليل ذلك: "إنهم كانوا يتفاءلون بالنار طلبا للبرق، أو إنهم كانوا يحاكون عبادة قديمة تقرب الأبقار قربانا للآلهة".
1 تخيل بالناس: تفزعهم. العضاه: جمع عضاهة، أعظم الشجر أو الخمط أو كل ذي شوك. باقر وبيقور: البقر. شكر الأذناب: جمع شكير، الشعر في الذيل. الصبير: السحابة البيضاء أو الكثيفة. منه، بالغ الغاية. عائل: مثقل أو كافٍ ونافع، عال: أثقل. ويروى غال بمعنى أهلك.