الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتابة مُسَوَّدة البحث:
من الأوليات التي لا تعزب عن الذهن أن مسودة البحث هي التجربة الأولى لكتابة البحث، وغالبًا ما يعتريها ضعف التعبير، ونقص المعلومات، وعدم الدقة في طريقة العرض. وهي على أي حال خطوة ضرورية لإبراز البحث من حيز التفكير إلى حيز الوجود، وبعد ذلك تأتي مراحل التعديل والتطوير؛ فمن ثَمَّ لَا بُدَّ وأن يوطن الباحث نفسه على إعادة هذه التجربة لمرة، أو مرتين، أو أكثر؛ حتى يصل البحث -أسلوبًا، وعرضًا، وأفكارًا- إلى الشكل السليم الذي يحقق الانطباع المطلوب الذي يهدف إليه الباحث.
ومما يذكر في هذا الصدد "ما اعتاده أحد كبار أساتذة القانون في كلية الحقوق بجامعة هارفارد من تأكيد على طلابه في اتباع الطريقة الآتية في كتابة البحوث العلمية:
البدء بكتابة المسودة الأولى للفصل من البحث، ثم العمل على تنقيحه بعناية شديدة.
إعادة كتابة الفصل للمرة الثانية، ومعاودة تنقيحه وتهذيبه للمرة الثانية.
ثم إعادة كتابته للمرة الثالثة، وبعد الانتهاء توضع الأوراق جانبًا، ويكتب الفصل من جديد"1.
1 Writing a paper ، 7 thed. "Cambridge، Mass: Harvard Law school، 1977"، p. 6.
لا شك أن هذا هو الأسلوب الناجح المثمر لتطوير أسلوب الكتابة، واستمالة الذهن لاستحضار الأفكار الجيدة، فكلما عود الفرد نفسه على الكتابة كانت عليه أيسر، وتداعت إلى ذهنه المعاني والأفكار.
الكتابة الجيدة قبل كل شيء دربة ومران، ومعرفة بالأساليب ذات الأغراض المختلفة، وبهذا تتكون مَلَكَةُ الكتابة.
يبدأ البحث عادة بالمقدمة التي تعد الفصل الأول في الرسالة؛ إلا أن تدوينها عادة يأتي بعد الانتهاء من كتابة البحث تمامًا؛ حيث يكتمل تصور الباحث للموضوع من جميع جوانبه العلمية، نتيجة المعايشة العلمية الطويلة، والرؤية الواضحة.
يتناول الباحث في البداية مجموعة من البطاقات حسب عناصر الخطة، يلقي عليها نظرة متأملة؛ ليستعرض ما فيها من معلومات، ويرتبها حسب أهميتها؛ فيبدأ بالأفكار الأساسية، والنقاط الرئيسة؛ لتكون دائمًا في الطليعة.
يحرص أن تكون كل فقرة وفكرة ذات عَلاقة قوية بموضوع البحث، وكلها مجتمعة مرتبط بعضها بالبعض الآخر ارتباطًا منطقيًّا1.
ينبغي الاهتمام في البداية بتدوين الأفكار بصرف النظر عن الأسلوب والصياغة، فتدوينها يعقلها من التفلت والنسيان، أما التحسين والتطوير للأسلوب والصياغة، فإنه خطوة تالية تعقبها بشكل تلقائي، والمهم في هذه المرحلة إبراز أفكار البحث إلى الوجود؛ بتدوينها من دون تباطؤ.
الموضوع الواحد في خطة البحث يحتوي عددًا من المعاني والأفكار، كل فكرة فيه تمثل وَحْدَةً مستقلة في ذاتها، تحتوي جملًا عديدة توضحها أو تؤكدها أو تبرهن عليها مثل هذه الأفكار، يكون كل منها وَحْدَة
1 انظر: Teitel & Baum، Harry، P. 41، 43.
فكرية في الموضوع، يكون إبرازها بكتابتها في فقرة جديدة من أول السطر؛ لتمثل وَحْدَة مستقلة متميزة عما قبلها وما بعدها، وهذا عادة ما يتبع في اللغة العربية فيدون في فقرات مستقلة، ويسمى بالإنجليزية "Paragraph Unity".
إن هذا سيساعد القارئ على وضوح المعنى الذي يريده الكاتب1.
التركيز على النقطة الأساسية في البحث، والتأكيد على وجهة نظر الباحث في كل مرحلة من مراحله، والترتيب المنطقي للمعلومات والنقاش هو الذي سيجعل القارئ يتابع أفكار الكاتب في سهولة ويسر.
وجهة النظر تعني الأفكار التي يقتنع بها الباحث أو يرجحها، كما تبدو في انطباعاته وأحكامه، والباحث الكفء لا يفتقد الأسلوب العلمي الرصين في عرض آرائه وترجيحاته بطريقة ذكية يدركها القارئ، دون لجوء إلى استعمال ضمير المتكلم المفرد، أو الجمع؛ مثل:"أرجح - نرجح - أقول - قلنا - قلت" إلى غير ذلك من التعبيرات التي لا تتناسب والباحث المبتدئ، فهي تدل على ضيق التعبير وضعف الأسلوب، إلى جانب أنها لا تتلاءم وأسلوب العصر، والمناسب في مثل هذا المستوى أن يلجأ إلى الأسلوب غير المباشر؛ مثل:"والرأي، والراجح"، وغير ذلك مما يشعر بموقفه في أسلوب هادئ رصين، وتواضع جم.
يغلب على الباحثين المبتدئين الإيجاز في عرض المعلومات، وعدم التعبير بطلاقة عن آرائهم وانطباعاتهم، في حين أن لديهم الكثير مما يقولونه عن الموضوع عند التحدث عنه، وهو شيء طبيعي في البداية، والمشرف الناجح يستطيع بطريقته الخاصة أن يستخرج منه أكثر مما
1 انظر: Teitel Baum، Harry، p. 43.
كتب، ويشجعه على تدوين انطباعاته وأفكاره؛ لينطلق في الكتابة دون تردد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ليضع الباحث في اعتباره أنه يكتب لغيره لا لنفسه، وهذا يتطلب منه ذكر تفصيلات وتحليلات يحتاجها القارئ، وإن كانت هي بدهية وأولية بالنسبة له.
بعد الانتهاء من كتابة المسودة يتركها الباحث جانبًا ليعود إليها بعد فترة من الزمن؛ ليعود لقراءتها بنفسية نشطة، وعقلية متجددة، ولتكن نظراته إليها نظرات ناقد متفحص، يبحث عن الثغرات وجوانب الضعف.
في النهاية عليه أن يتأكد من توافر الأمور التالية:
أولًا: عرض موضوعات البحث بصورة دقيقة واضحة، وأسلوب سهل يتلاءم والمادة العلمية، متحريًا تسلسل الأفكار وترابطها.
ثانيًا: صلة موضوعات البحث وارتباطها بعضها بالبعض، سواء بالنسبة للعناوين الجانبية وصلتها بالعناوين الرئيسة، أو بالنسبة للعناوين الرئيسة وعَلاقتها بالعنوان العام بشكل مباشر.
ثالثًا: تنقيح العناوين وتهذيبها، سواء في ذلك الرئيسة أو الجانبية.
رابعًا: إيجاد توازن منطقي وتناسب شكلي بين الموضوعات بعضها مع البعض الآخر قدر الإمكان؛ بحيث لا تبدو بعض الفصول طويلة جدًّا، وبعضها قصيرًا جدًّا.
خامسًا: عرض الأمثلة والشواهد بصورة مقنعة، والتأكد من سلامة موقفه من الآراء المعارضة والمتقابلة باعتدال دون تحيز أو تحامل.
سادسًا: ملاءمة المادة العلمية المقتبسة ومناسبتها للموضع الذي دونت فيه سباقًا ولحاقًا، وهذا يتطلب اهتمامًا كبيرًا بها، وبالأفكار التي تتضمنها حتى لا تبدو شاذة عنها.
وهذا يستدعي النظر في سبب إدخالها ضمن البحث، واختيار المكان المناسب لها، والتمهيد بما يوحي بصلتها وأهميتها للموضع الذي وضعت فيه.
سابعًا: توثيق النصوص المقتبسة والأفكار بالطريقة العلمية المعتمدة، واستخدام العلامات الإملائية بطريقة صحيحة.
ولدى توافر هذه الأمور واستيفائها يكون البحث مؤهلًا للطبع، واتخاذ الخطوات التي تليه1.
1 انظر: Markman & Waddell، p. 67.