المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ سبب وضع الجزية - أحكام أهل الذمة - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌ سبب وضع الجزية

- ‌ يجوز أخذها مما تيسَّر من أموالهم

- ‌الكتاب الذي بأيدي الخَيابرة الذي يدَّعون أنه بخط علي في إسقاط الجزية عنهم باطلٌ

- ‌فصلفي بني تغلب وأحكامهم

- ‌فصل في السَّامرة

- ‌اختلاف الفقهاء فيهم: هل يُقَرُّون بالجزية أم لا

- ‌فصل في الصابئة

- ‌عدم الإحاطة بمذهبهم ودينهم

- ‌فصلفي الجزية والخراج وما بينهما من اتفاقٍ وافتراقٍ

- ‌ أصل الخراج وابتداء وضْعِه

- ‌الأرض ستة أنواعٍ:

- ‌النوع الثالث: ما ملك عن الكفار عَنْوةً وقهرًا

- ‌فصلفي كراهة الدخول في أرض الخراج

- ‌ذكر أحكام أهل الذمة في أموالهم

- ‌فصلفي الأمكنة التي يُمنع أهل الذمة من دخولها والإقامة بها

- ‌ذكر معاملتهم عند اللقاء وكراهة أن يُبدَؤوا بالسلام، وكيف يُرَدُّ عليهم

- ‌فصلفي عيادة أهل الكتاب

- ‌فصلفي شهود جنائزهم

- ‌فصلفي تعزيتهم

- ‌فصلفي تهنئتهم

- ‌فصلفي المنع من استعمال اليهود والنصارى في شيء من ولايات المسلمين وأمورهم

- ‌فصل(1)في سياق الآيات الدالَّة على غشِّ أهل الذمة للمسلمين وعداوتهم وخيانتهم

- ‌فصلفي أحكام ذبائحهم

- ‌المسألة الرابعة: إذا ذبحوا ما يعتقدون حلَّه، فهل تحرم علينا الشحوم المحرمة عليهم

- ‌ذكر أحكام معاملتهم

- ‌فصلفي البيع والشراء منهم

- ‌فصلفي شركتهم ومضاربتهم

- ‌فصلفي استئجارهم واستئجار المسلم نفسه منهم

- ‌فصلفي حكم أوقافهم ووقف المسلم عليهم

- ‌فصلفي أحكام نكاحهم ومناكحاتهم

- ‌فصلولو زوَّج الكافرُ ابنَه الصغير أكثرَ من أربع نسوةٍ، ثم أسلم الزوج والزوجات= لم يكن له الاختيار قبل بلوغه، فإنه لا حكم لقوله

- ‌فصل(4)نقرُّ أهل الذمة على الأنكحة الفاسدة بشرطين:

- ‌فصولٌ في أحكام مهورهم

- ‌فصل(2)في ضابط ما يصحُّ من أنكحتهم وما لا يصحُّ

- ‌فصلفي الكافر يكون وليًّا لوليته الكافرة دون المسلمة

- ‌فصلللمسلم إجبارُ زوجته الذمية على الغسل من الحيض

الفصل: ‌ سبب وضع الجزية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلَّم كثيرًا.

سئل

الشيخ الإمام العالم العلامة شمس الدين ــ زاده الله من فضله ــ عن كيفية الجزية الموضوعة على أهل الذمة بالبلاد الإسلامية، وسبب وضعها، وعن مقدار ما يُؤخذ من الأغنياء ومن المتوسطين ومن الفقراء، وعن حدِّ الغني والمتوسط والفقير فيها، وهل يُثاب أولياء أمور المسلمين ــ أيَّدهم

(1)

الله تعالى ــ على إلزامهم بها على حسب حالهم أم لا؟ وهل يُؤخذ من الغني والفقير والمتوسط؟

(2)

وأجاب:

[أما]

‌ سبب وضع الجزية

فهو قوله تعالى: {قَاتِلُوا اُلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ اِلْأَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اَللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ اَلْحَقِّ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا اُلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29].

(1)

في المطبوع: "أمدهم" خلاف ما في الأصل.

(2)

هنا كلمة غير واضحة في الأصل، ولعلها:"فألف".

ص: 3

فأجمع الفقهاء على أن الجزية تُؤخذ من أهل الكتاب ومن المجوس. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد توقَّف في أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوفٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هَجَرَ. ذكره البخاري

(1)

.

وذكر الشافعي

(2)

أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال: ما أدري كيف أصنعُ في أمرهم، فقال له عبد الرحمن بن عوفٍ: أشهد لسمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سُنُّوا بهم سنةَ أهل الكتاب". وهذا صريحٌ في أنهم ليسوا من أهل الكتاب، ويدلُّ عليه قوله تعالى:{أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام: 157]، فالله سبحانه حكى هذا عنهم، ولم ينكره عليهم ولم يكذِّبهم فيه.

وأما حديث عليٍّ أنه قال: "أنا أعلم الناس بالمجوس: كان لهم علمٌ

(1)

في "صحيحه"(3156).

(2)

في "الأم"(5/ 408) عن مالك ــ وهو في "الموطأ"(756) ــ عن جعفر بن محمد، عن أبيه، أن عمر

إلخ. وأخرجه أيضًا عبد الرزاق (10025) وابن أبي شيبة (10870، 33318، 33319) وأبو يعلى (862) وغيرهم من طرقٍ عن جعفر بن محمد به. رجاله ثقات، إلا أنه منقطع كما قال الشافعي عند إيراده، وذلك أن محمدًا ــ وهو الباقر ــ لم يُدرك عمر ولا عبد الرحمن. قال ابن عبد البر في "التمهيد" (2/ 116): هو منقطع ولكن معناه متصل من وجوه حسان. قلتُ: منها حديث البخاري المتقدم آنفًا. وانظر: "تنقيح التحقيق"(4/ 618) و"إرواء الغليل"(1248، 1249).

ص: 4

يعلمونه وكتابٌ يدرسونه، وإنَّ ملكهم سَكِرَ فوقع على ابنته أو أخته فاطلع عليه بعض أهل مملكته، فلما صحا جاؤوا يقيمون عليه الحدَّ، فامتنع منهم ودعا أهل مملكته وقال: تعلمون دينًا خيرًا من دين آدم وقد أنكح بنيه بناتِه؟ فأنا على دين آدم! قال: فتابعه قومٌ وقاتلوا الذين يخالفونه حتى قتلهم، فأصبحوا وقد أُسرِيَ بكتابهم ورُفع العلم الذي في صدورهم؛ فهم أهل كتابٍ، وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ــ وأُراه قال: وعمر ــ منهم الجزية".

فهذا حديث رواه الشافعي في "مسنده" وسعيد بن منصورٍ وغيرهما

(1)

، ولكنَّ جماعةً من الحفَّاظ ضعَّفوا الحديث

(2)

. قال أبو عبيد

(3)

: لا أحسب ما رووه عن علي في هذا محفوظًا.

وقد روى البخاري في "صحيحه"

(4)

عن المغيرة بن شعبة أنه قال لعاملِ

(1)

"مسند الشافعي" بترتيب سنجر (1775) وبترتيب السندي (432)، وهو في "الأم"(5/ 406 - 407)، ومن طريق الشافعي أخرجه ابن زنجويه في "الأموال" (140) والبيهقي في "السنن الكبير" (9/ 188) و"المعرفة" (13/ 366 - 367). ولم أجده عند سعيد بن منصور في المطبوع من "سننه". وأخرجه أيضًا عبد الرزاق (10029) وابن أبي عمر في "مسنده" (المطالب العالية: 2063) وأبو يعلى (301). وفي إسناده أبو سعد البقَّال، وهو ضعيف منكر الحديث. وله طريق آخر عند القاضي أبي يوسف في "الخراج"(290 - تحقيق البنَّا) بنحوه، وفي إسناده انقطاع.

(2)

قال ابن عبد البر في "التمهيد"(2/ 120): أكثر أهل العلم لا يصححون هذا الأثر. وانظر: "الجامع" للخلال (2/ 468)، و"مجموع الفتاوى"(32/ 189).

(3)

في كتاب "الأموال"(ص 83) ط. دار الفضيلة. ونقله في "المغني"(13/ 205).

(4)

برقم (3159).

ص: 5

كسرى: أمرَنا نبيُّنا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحدَه أو تُؤَدُّوا الجزية.

وفي "مسند الإمام أحمد" والترمذي

(1)

عن ابن عباس قال: مرِض أبو طالب فجاءته قريشٌ وجاءه النبي صلى الله عليه وسلم، وشَكَوه إلى أبي طالب، فقال: يا ابنَ أخي، ما تريد من قومك؟ قال:"أريد منهم كلمةً تَدِينُ لهم بها العربُ، وتُؤدِّي إليهم بها العجمُ الجزيةَ". قال: كلمةً واحدةً؟ قال: "كلمةً واحدةً، قولوا

(2)

: لا إله إلا الله". قالوا: جعل الآلهة إلهًا واحدًا، إن هذا لشيء عجابٌ، ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة، إن هذا إلا اختلاقٌ. قال: فنزل فيهم: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} إلى قوله: {اَخْتِلَاقٌ} [ص: 1 - 6].

وفي "الصحيحين"

(3)

من حديث عمرو بن عوفٍ الأنصاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجرَّاح إلى البحرين يأتي بجِزْيتها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صالح أهل البحرين

(4)

، وأمَّرَ عليهم العلاء بن الحضرمي.

(1)

"مسند أحمد"(2008، 3419) و"جامع الترمذي"(3232)، وأخرجه أيضًا النسائي في "الكبرى"(8716) وأبو يعلى (2583) وابن حبان (6686) والحاكم (2/ 432) والضياء في "المختارة"(10/ 390)، كلهم من طريق الأعمش عن يحيى بن عُمارة ــ وقيل: ابن عبَّاد، وقيل: عبَّاد بن جعفر ــ عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. ويحيى هذا فيه جهالة، ولم يوثقه غير ابن حبان. على أن الترمذي صحَّح حديثه فقال: هذا حديث حسن صحيح، وصححه ابن حبان والحاكم واختاره الضياء.

(2)

"قولوا" ليست في المطبوع.

(3)

البخاري (3158، 4015، 6425) ومسلم (2961).

(4)

"ياتي

البحرين" ساقطة من المطبوع.

ص: 6

وذكر أبو عبيد في "كتاب الأموال"

(1)

عن الزهري قال: قَبِل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية من أهل البحرين وكانوا مجوسًا.

وفي "سنن أبي داود"

(2)

من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أُكَيدِرِ دُومةَ فأخذوه فأتوا به، فحقَنَ له دمه، وصالحه على الجزية.

وقال الزهري: أول ما أُخِذت الجزية من أهل نجران وكانوا نصارى

(3)

.

وفي "صحيح البخاري"

(4)

عن ابن أبي نَجيحٍ

(5)

قال: قلت لمجاهدٍ: ما

(1)

(ص 41)، وبنحوه في (ص 203).

(2)

برقم (3037) من طريق محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر، عن أنس، وعن عثمان بن أبي سليمان. وإسناده جيِّد، إلا أنه على طريقة ابن إسحاق في جمع متون الروايات المسندة والمرسلة في سياق واحد. والظاهر من "العلل" لابن أبي حاتم (967) أن ذكر الجزية ليس مسندًا من طريق أنس. وقد ذكرها ابن إسحاق في "مغازيه" ــ ومن طريقه البيهقي في "دلائل النبوة"(5/ 250 - 251) ــ عن يزيد بن رومان، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ــ وهما من ثقات التابعين العالمين بالمغازي ــ مرسلًا في سياق قصة أُكيدر وأَسره ومصالحته. وانظر:"البدر المنير"(9/ 185).

(3)

أخرجه أبو عبيد في "الأموال"(69، 87) والبلاذري في "فتوح البلدان"(1/ 81).

(4)

كتاب الجزية، باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب، تعليقًا عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح به. ووصله عبد الرزاق (10094) عن ابن عيينة به.

(5)

في المطبوع: "أبي نجيح" خطأ.

ص: 7

شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينارٌ؟ قال: جعل ذلك من قِبَلِ اليسار.

فاختلف الفقهاء فيمن تُؤخذ منهم الجزية، بعد اتفاقهم على أخذها من أهل الكتاب ومن المجوس.

فقال أبو حنيفة: تُؤخذ من أهل الكتاب والمجوس وعَبَدة الأوثان من العجم، ولا تُؤخذ من عَبَدة الأوثان من العرب

(1)

. ونصَّ على ذلك أحمد في رواية عنه

(2)

.

واحتج أرباب هذا القول على ذلك بحججٍ، منها: قوله في الحديث المتقدم: "وتُؤدِّي إليكم بها العجمُ الجزيةَ"، واحتجوا بحديث بُريدة الذي رواه مسلم في "صحيحه"

(3)

قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميرًا على جيشٍ أو سريةٍ أوصاه في خاصَّته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: "اغْزُوا باسم الله في سبيل الله، قاتِلوا من كفرَ بالله، اغْزُوا ولا تَغُلُّوا، ولا تَغْدِروا، ولا تَمثُلوا، ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيتَ عدوَّك من المشركين فادْعُهم إلى ثلاث خصالٍ ــ أو خلالٍ ــ، فأيتهنَّ ما أجابوك إليها فاقبَلْ منهم وكُفَّ عنهم، ثم ادْعُهم

(1)

انظر: "حاشية ابن عابدين"(4/ 198).

(2)

كما في "المغني"(13/ 31). وانظر "مجموع الفتاوى"(31/ 381).

(3)

برقم (1731).

ص: 8

إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبلْ منهم وكُفَّ عنهم، ثم ادعُهم إلى التحوُّل من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبِرْهم أنهم إن فعلوا ذلك

(1)

فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أَبَوا أن يتحوَّلوا منها، فأخبِرْهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يَجري عليهم حكمُ الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أَبَوا فسَلْهم الجزيةَ، فإن هم أجابوك فاقبلْ منهم وكُفَّ عنهم، فإن هم أَبَوا فاستعِنْ بالله وقاتِلْهم. وإذا حاصرتَ أهلَ حصنٍ فأرادوك أن تجعل لهم ذمَّةَ الله وذمَّةَ نبيِّه فلا تجعلْ لهم ذمَّةَ الله ولا ذمَّة نبيِّه، ولكن اجعلْ لهم ذمتَك وذمةَ أصحابك، فإنكم أن تُخْفِروا ذِمَمَكم وذِمَمَ أصحابكم أهونُ من أن تُخْفِروا ذمةَ الله وذمةَ رسوله. وإذا حاصرتَ أهلَ حصنٍ فأرادوك أن تُنزِلهم على حكم الله فلا تُنزِلهم على حكم الله، ولكن أَنزِلْهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيبُ حكم الله فيهم أم لا؟ ".

وفي هذا الحديث أنواعٌ من الفقه:

منها: وصية الإمام لِنوَّابه وأمرائه ووُلاتِه بتقوى الله، والإحسان إلى الرعية، فبهذين الأصلين يُحفظ على الأمير منصِبُه، وتَقَرُّ عينُه به، ويأمن فيه من النكَبات والغِيَر. ومتى ترك هذين الأمرين أو أحدهما فلا بدَّ أن يسلبه الله عزَّه، ويجعله عبرةً للناس، فما أُزِيلت

(2)

النِّعم إلا بترك تقوى الله والإساءة إلى الناس.

(1)

"ذلك" ساقطة من المطبوع.

(2)

في المطبوع: "فما إن سلبت" خلاف ما في الأصل.

ص: 9

ومنها: أن الجيش ليس لهم أن يَغُلُّوا من الغنيمة، ولا يَغدِروا بالعهد، ولا يَمْثُلوا بالكفّار، ولا يقتلوا من لم يبلغ الحُلُم.

ومنها: أن المسلمين يدعون الكفار قبل قتالهم إلى الإسلام، وهذا واجبٌ إن كانت الدعوة لم تبلُغْهم، ومستحبٌّ إن بلغَتْهم الدعوة. هذا إذا كان المسلمون هم القاصدين للكفار، فأما إذا قصدهم الكفار في ديارهم فلهم أن يقاتلوهم من غير دعوةٍ، لأنهم يدفعونهم عن أنفسهم وحريمهم.

ومنها: إلزامهم بالتحوُّل إلى دار الإسلام إذا كانوا مقيمين بين الكفار، فإن أسلموا كلُّهم وصارت الدار دارَ إسلامٍ لم يُلْزَموا بالتحوُّل منها، بل يقيموا

(1)

في ديارهم. وكانت دار الهجرة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم هي دار الإسلام، فلما أسلم أهل الأمصار صارت البلاد التي أسلم أهلها بلاد الإسلام، فلا يلزمهم الانتقال منها.

ومنها: أن الأعراب ليس لهم شيء في الفيء ولا في الغنائم ما لم يقاتلوا، فإذا قاتلوا استحقُّوا من الغنيمة ما يستحقُّه مَن شهد الوقعةَ، وأما الأعراب الذين لا يقاتلون الكفار مع المسلمين فليس لهم شيء في الفيء ولا في الغنيمة.

ومنها: أن الجزية تُؤخذ من كل كافرٍ، هذا ظاهر هذا الحديث، ولم يستثنِ منه كافرًا من كافرٍ.

ولا يقال: هذا مخصوصٌ بأهل الكتاب خاصَّةً، فإن اللفظ يأبى

(1)

كذا في الأصل بحذف النون.

ص: 10

اختصاصَه

(1)

بأهل الكتاب. وأيضًا فسرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وجيوشه أكثرَ ما كانت تقاتل عَبَدةَ الأوثان من العرب.

ولا يقال: إن القرآن يدلُّ على اختصاصها بأهل الكتاب، فإن الله سبحانه أمر بقتال أهل الكتاب حتى يُعطوا الجزية، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتال المشركين حتى يُعطوا الجزية، فيؤخذ من أهل الكتاب بالقرآن ومن عموم الكفار بالسنة، وقد أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم من المجوس وهم عُبَّاد النار، لا فرقَ بينهم وبين عبدة الأوثان. ولا يصح أنهم أهل الكتاب ولا كان لهم كتابٌ، ولو كانوا أهلَ كتابٍ عند الصحابة رضي الله عنهم لم يتوقَّفْ عمر رضي الله عنه في أمرهم، ولم يقلِ النبي صلى الله عليه وسلم:"سُنُّوا بهم سنةَ أهلِ الكتاب"، بل هذا يدلُّ على أنهم ليسوا أهلَ كتابٍ. وقد ذكر الله سبحانه أهل الكتاب في القرآن في غير موضع، وذكر الأنبياء الذين أنزل عليهم الكتب والشرائع العظام، ولم يذكر للمجوس ــ مع أنها أمةٌ عظيمةٌ من أعظم الأمم شوكةً وعددًا وبأسًا ــ كتابًا ولا نبيًّا، ولا أشار إلى ذلك، بل القرآن يدلُّ على خلافه كما تقدَّم، فإذا أُخِذت من عُبَّاد النيران فأيُّ فرقٍ بينهم وبين عُبَّاد الأوثان؟

فإن قيل: فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذها من أحدٍ من عُبَّاد الأوثان مع كثرة قتاله لهم.

قيل: أجلْ، وذلك لأن آية الجزية إنما نزلت عامَ تبوك في السنة التاسعة من الهجرة بعد أن أسلمت جزيرة العرب ولم يبقَ بها أحدٌ من عبَّاد الأوثان،

(1)

في المطبوع: "اختصاصهم" خلاف الأصل. وضمير المفرد للفظ.

ص: 11

فلما نزلت آية الجزية أخذها النبي صلى الله عليه وسلم ممن بقي على كفره من النصارى والمجوس، ولهذا لم يأخذها من يهود المدينة حين قدم المدينة، ولا من يهود خيبر، لأنهم

(1)

صالحهم قبل نزول آية الجزية.

وهذه الشبهة هي التي أوقعتْ عند اليهود أن أهل خيبر لا جزية عليهم، وأنهم مخصوصون بذلك من جملة اليهود، ثم أكَّدوا أمرها بأن زوَّروا كتابًا

(2)

فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقط عنهم الكُلَفَ

(3)

والسُّخَر

(4)

والجزية، ووضعوا فيه شهادة سعد بن معاذٍ ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهما. وهذا الكتاب كذِبٌ مختلقٌ بإجماع أهل العلم من عشرة أوجهٍ

(5)

:

منها: أن أحدًا من علماء النقل والسير والمغازي لم يذكر

(6)

أن ذلك وقع البتةَ، مع عنايتهم بضبط ما هو دون ذلك بكثيرٍ.

الثاني: أن الجزية إنما نزلت بعد فتح خيبر، فحينَ صالح أهل خيبر لم

(1)

في المطبوع: "لأنه" خلاف ما في الأصل.

(2)

انظر: "مجموعة الوثائق السياسية"(ص 91، 93، 95).

(3)

جمع كُلْفة، ما يتكلَّفه الإنسان على مشقة. والمراد هنا ما يكلَّفون به من الضرائب ونحوها.

(4)

جمع سُخْرة، ما يُسخّره الإنسان من دابّة أو رجلٍ بلا أجرٍ ولا ثمنٍ.

(5)

نقل المؤلف في "زاد المعاد"(3/ 178، 179) عن شيخ الإسلام بعض هذه الأوجه. وذكرها كاملة في "المنار المنيف"(ص 92 - 94). وسيذكر المؤلف وجوهًا أخرى فيما يأتي (ص 77 - 79).

(6)

في الأصل: "لم يذكروا".

ص: 12

تكن الجزية نزلت حتى يضَعَها عنهم.

الثالث: أن معاوية بن أبي سفيان لم يكن أسلم بعدُ، فإنه إنما أسلم عامَ الفتح بعد خيبر.

الرابع: أن سعد بن معاذٍ توفي عام الخندق قبل فتح خيبر.

الخامس: أنه لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل خيبر كُلَفٌ ولا سُخَرٌ حتى تُوضَع عنهم.

السادس: أنه لم يكن لأهل خيبر من الحرمة ورعاية حقوق المسلمين ما يقتضي وضعَ الجزية عنهم، وقد كانوا من أشدِّ الكفار عداوةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأيُّ خيرٍ حصل بهم للمسلمين حتى تُوضع عنهم الجزية دون سائر الكفار؟

السابع: أن الكتاب الذي أظهروه ادَّعَوا أنه بخط علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهذا كذبٌ قطعًا، وعداوة علي رضي الله عنه لليهود معروفةٌ، وهو الذي قتل مرحبًا اليهودي

(1)

، وأثخنَ في اليهود يومَ خيبر حتى كان الفتح على يديه.

الثامن: أن هذا لا يُعرف إلا من رواية اليهود، وهم القوم البُهت، أكذبُ الخلق على الله وأنبيائه ورسله، فكيف يُصدَّقون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يخالف كتاب الله تعالى؟!

(1)

كما في "صحيح مسلم"(1807/ 132). وانظر الخلاف في ذلك عند المؤلف في "زاد المعاد"(3/ 382 وما بعدها).

ص: 13

التاسع: أن هذا الكتاب لو كان صحيحًا لأظهروه في أيام الخلفاء الراشدين، وفي أيام عمر بن عبد العزيز، وفي أيام المنصور والرشيد، وكان أئمة الإسلام يستثنونهم ممن تُوضع عنهم الجزية، أو يذكر

(1)

ذلك فقيهٌ واحدٌ من فقهاء المسلمين، ولا يجوز على الأمة أن تُجمِع على مخالفة سنة نبيِّها. وكيف يكون بأيدي أعداء الله كتابٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحتجُّون به كلَّ وقتٍ على من يأخذ الجزية منهم، ولا يذكره عالمٌ واحدٌ من علماء السلف؟ وإن اغترَّ به بعضُ من لا علْمَ له بالسيرة والمنقول من المتأخرين، فَشنَّع

(2)

عليه أصحابه، وبيَّنوا خطأه، وحذَّروا من سقطته.

العاشر: أن أئمة الحديث والنقل يشهدون ببطلان هذا الكتاب، وأنه زُورٌ مفتعلٌ وكذبٌ مختلقٌ

(3)

. ولما أظهره اليهود بعد الأربع مائةٍ على عهد الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي أرسل إليه الوزير ابن المسلمة، فأوقفَه عليه فقال الحافظ: هذا الكتاب زورٌ، فقال له الوزير: من أين هذا؟ فقال: فيه شهادة سعد بن معاذٍ ومعاوية بن أبي سفيان، وسعدٌ مات يومَ الخندق قبل خيبر، ومعاوية أسلم يوم الفتح سنة ثمانٍ، وخيبر كانت سنة سبعٍ. فأعجب ذلك الوزير

(4)

.

(1)

في المطبوع: "لذكر" خلاف ما في الأصل.

(2)

في الأصل: "وشنع".

(3)

انظر: "البداية والنهاية"(6/ 355، 356 و 16/ 28)، و"المغني"(13/ 252)، و"مجموع الفتاوى"(28/ 664).

(4)

انظر: "المنتظم"(16/ 129)، و"معجم الأدباء"(1/ 386)، و"سير أعلام النبلاء"(18/ 280)، و"الوافي بالوفيات"(7/ 192، 193)، و"المستفاد من ذيل تاريخ بغداد"(ص 60)، و"طبقات الشافعية"(4/ 35).

ص: 14

والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ الجزية من أحدٍ من مشركي العرب لأن آية الجزية نزلت بعد عام تبوك، وكانت عُبَّاد الأصنام من العرب كلهم قد دخلوا في الإسلام، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم ممن لم يدخل في الإسلام من اليهود ومن النصارى ومن المجوس.

قال المخصِّصون بالجزية لأهل الكتاب: المراد من إرسال الرسل وإنزال الكتب إعدامُ الكفر والشرك من الأرض وأن يكون الدين كله لله، كما قال تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193]، وفي الآية الأخرى:{وَيَكُونَ اَلدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]. ومقتضى هذا أن لا يُقَرَّ كافرٌ على كفره، ولكن جاء النص بإقرار أهل الكتاب إذا أَعطَوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، فاقتصرنا بها عليهم، وأخذنا في عموم الكفار بالنصوص الدَّالة على قتالهم إلى أن يكون الدين كله لله.

قالوا: ولا يصح إلحاق عَبَدة الأوثان بأهل الكتاب؛ لأن كفر المشركين أغلظ من كفر أهل الكتاب، فإن أهل الكتاب معهم من التوحيد وبعض آثار الأنبياء ما ليس مع عبَّاد الأصنام، ويؤمنون بالمعاد والجزاء والنبوات بخلاف عبدة الأصنام. وعَبَدة الأصنام حربٌ لجميع الرسل وأممِهم من عهد نوحٍ إلى خاتم الأنبياء والمرسلين؛ ولهذا أثَّر هذا التفاوتُ الذي بين الفريقين في حلِّ الذبائح وجواز المناكحة من أهل الكتاب دون عُبَّاد الأصنام.

ص: 15

ولا ينتقض هذا بالمجوس، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يُسَنَّ بهم سنةَ أهل الكتاب، وهذا يدلُّ على أن الجزية إنما تُؤخذ من أهل الكتاب، وأنها إنما وُضِعت لأجلهم خاصةً، وإلا لو كانت الجزية تعمُّ جميعَ الكفار لم يكن أهل الكتاب أولى بها من غيرهم، ولقال: لهم حكم أمثالهم من الكفَّار يقاتَلون حتى يُسلِموا أو يعطوا الجزية.

وأما تحريم ذبائحهم ومناكحتهم فاتفاقٌ من الصحابة رضي الله عنهم، ولهذا أنكر الإمام أحمد وغيره على أبي ثورٍ طَرْدَه القياسَ وإفتاءه بحلِّ ذبائحهم وجواز مناكحتهم

(1)

، ودعا عليه أحمد

(2)

حيث أقدمَ على مخالفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. والصحابة كانوا أفقه وأعلم وأسدَّ قياسًا ورأيًا، فإنهم أخذوا في الدماء بحَقْنِها موافقةً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله حيث أخذَها منهم، وأخذوا في الأبضاع والذبائح بتحريمها احتياطًا وإبقاءً لها على الأصل، وإلحاقًا لهم بعبَّاد الأوثان، إذ لا فرقَ في ذلك بين عبَّاد الأوثان وعبَّاد النيران، فالأصل في الدماء حقْنُها، وفي الأبضاع والذبائح تحريمها، فأبقَوا كلَّ شيء على أصله، وهذا غاية الفقه وأسدُّ ما يكون من النظر.

قالوا: ولله تعالى حِكَمٌ في إبقاء أهل الكتابين بين أظهُرِنا، فإنهم مع كفرهم شاهدون بأصل النبوات والتوحيد واليوم الآخر والجنة والنار، وفي كتبهم من البشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم وذكرِ نعوته وصفاته وصفات أمته ما هو من آيات نبوته وبراهين رسالته، وما يشهد بصدق الأول والآخر.

(1)

انظر: "الجامع" للخلال (1/ 241 و 2/ 469، 470).

(2)

كما في "مسائل إسحاق بن إبراهيم"(2/ 168).

ص: 16

وهذه الحكمة تختص بأهل الكتاب دون عَبَدة الأوثان، فبقاؤهم من أقوى الحجج على منكري النبوات والمعاد والتوحيد، وقد قال الله تعالى لمنكري ذلك:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ، ذكر هذا عقب قوله:{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، يعني: سلوا أهل الكتاب هل أرسلنا قبل محمد رجالًا يوحى إليهم أم كان محمد بِدْعًا من الرسل لم يتقدمه رسولٌ، حتى يكون إرساله أمرًا منكرًا لم يَطْرُقِ العالمَ رسولٌ قبله؟

وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 44]، والمراد بسؤالهم سؤال أممهم عما جاؤوهم به: هل فيه أن الله شرع لهم أن يُعبدَ من دونه إلهٌ غيره؟

قال الفراء

(1)

: المراد سؤال أهل التوراة والإنجيل، فيخبرونه عن كتبهم وأنبيائهم.

وقال ابن قتيبة

(2)

: التقدير: واسألْ من أرسلنا إليهم رُسُلًا من قبلك، وهم أهل الكتاب.

وقال ابن الأنباري

(3)

: التقدير: وسَلْ تُبَّاعَ

(4)

من أرسلنا من قبلك.

(1)

في "معاني القرآن"(3/ 34).

(2)

في "تفسير غريب القرآن"(ص 399)، و"تأويل مشكل القرآن"(ص 209، 210).

(3)

كما في "الوسيط" للواحدي (4/ 75)، و"البسيط" له (20/ 52)، و"زاد المسير"(7/ 319).

(4)

"تباع" ساقطة من المطبوع. وهي جمع "تابع". وفي بعض المصادر: "أتباع". وهو جمع تبع.

ص: 17

وعلى كل تقديرٍ، فالمراد التقرير لمشركي قريشٍ وغيرهم ممن أنكر النبوات والتوحيد، وأن الله أرسل رسولًا أو أنزل كتابًا أو حرَّم عبادة الأوثان. فشهادة أهل الكتاب بهذا حجةٌ عليهم، وهي من أعلام صحة رسالته صلى الله عليه وسلم، إذ كان قد جاء على ما جاء به إخوانه الذين تقدَّموه من رسل الله سبحانه، ولم يكن بِدْعًا من الرسل، ولا جاء بضدِّ ما جاؤوا به، بل أخبر بمثل ما أخبروا به من غير شاهدٍ

(1)

ولا اقترانٍ في الزمان، وهذا من أعظم آيات صدقه.

وقال تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [يونس: 94]. وقد أشكلت هذه الآية على كثيرٍ من الناس، وأورد اليهودُ والنصارى على المسلمين فيها إيرادًا وقالوا: كان في شكٍّ فأُمِر أن يسألنا. وليس فيها بحمد الله إشكالٌ، وإنما أُتِي أشباهُ الأنعام من سوء قصدهم وقلة فهمهم، وإلّا فالآية من أعلام نبوته صلوات الله وسلامه عليه. وليس في الآية ما يدل على وقوع الشك ولا السؤال أصلًا، فإن الشرط لا يدل على وقوع المشروط بل ولا على إمكانه، كما قال تعالى:{كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، وقوله:{قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 42]، وقوله:{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81]، وقوله:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 62]، ونظائره، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشكَّ ولم يسألْ.

(1)

في الأصل: "شاعر".

ص: 18

وفي تفسير سعيد عن قتادة قال: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا أشكُّ ولا أَسأل"

(1)

.

وقد ذكر ابن جريجٍ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فإن كنتَ في شكٍّ أنك مكتوبٌ عندهم فسَلْهم

(2)

.

وهذا اختيار ابن جريرٍ؛ قال: يقول تعالى لنبيِّه: فإن كنت يا محمد في شكٍّ من حقيقة ما أخبرناك وأنزلنا إليك، من أن بني إسرائيل لم يختلفوا في نبوتك قبل أن أبعثك رسولًا إلى خلقي، لأنهم يجدونك مكتوبًا عندهم ويعرفونك بالصفة التي أنت بها موصوفٌ في كتبهم، فسَلِ الذين يقرؤون الكتاب من قبلك كعبد الله بن سلامٍ ونحوه من أهل الصدق والإيمان بك منهم، دون أهل الكذب والكفر بك.

وكذلك قال ابن زيدٍ، قال: هو عبد الله بن سلامٍ.

وقال الضحاك: سلْ أهلَ التقوى والإيمان من مؤمني أهل الكتاب

(3)

.

ولم يقع هؤلاء ولا هؤلاء على معنى الآية ومقصودها، وأين كان عبد الله بن سلامٍ وقتَ نزول هذه الآية؟ فإن السورة مكيةٌ، وابن سلامٍ إذ ذاك على دين قومه، وكيف يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستشهد على منكري نبوته بأتباعه؟

(1)

أخرجه الطبري (12/ 288). وأخرجه عبد الرزاق (10211) والطبري أيضًا من طريق معمر عن قتادة بنحوه. والحديث مرسل.

(2)

أخرجه الطبري (12/ 286).

(3)

الأثران أخرجهما الطبري (12/ 286، 287).

ص: 19

وقال كثيرٌ من المفسرين

(1)

: هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره؛ لأن القرآن نزل عليه بلغة العرب، وهم قد يخاطبون الرجل بالشيء ويريدون غيره، كما يقول متمثِّلُهم: إياكِ أعني واسمعِيْ يا جَاره

(2)

. وكقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب: 1]، والمراد أتباعه بهذا الخطاب.

قال أبو إسحاق

(3)

: إن الله تعالى يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم والخطاب شاملٌ للخلق، والمعنى: وإن كنتم في شكٍّ [فاسألوا]. والدليل على ذلك قوله تعالى في آخر السورة: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [يونس: 104].

وقال ابن قتيبة

(4)

: كان الناس في عصر النبي صلى الله عليه وسلم أصنافًا: منهم كافرٌ به مكذِّبٌ، وآخر مؤمنٌ به مصدِّقٌ، وآخر شاكٌّ في الأمر لا يدري كيف هو، فهو يقدِّم رجلًا ويؤخِّر رجلًا، فخاطب الله تعالى هذا الصنف من الناس وقال: فإن كنتَ أيها الإنسان في شكٍّ مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد فسَلْ.

(1)

انظر: "تفسير الطبري"(12/ 289)، و "البسيط" للواحدي (11/ 314)، و"تفسير البغوي"(2/ 368)، و"تفسير القرطبي"(8/ 382).

(2)

مثل يُضرب لمن يتكلم بكلام ويريد به شيئًا آخر، وأول مَن قاله سهل بن مالك الفزاري، قاله لأخت حارثة بن لأم الطائي. انظر "الأمثال" لأبي عبيد (ص 65)، و"الفاخر" للمفضل بن سلمة (ص 158)، و"فصل المقال"(ص 76، 77) وغيرها.

(3)

هو الزجاج، وقوله في كتابه "معاني القرآن وإعرابه"(3/ 32)، ومنه الزيادة.

(4)

في "تأويل مشكل القرآن"(ص 168).

ص: 20

قال

(1)

: ووحَّد وهو يريد الجمع، كما قال:{يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6]، و:{يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6]، و {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} [الزمر: 9].

وهذا وإن كان له وجهٌ فسياق الكلام يأباه، فتأمَّلْه وتأمَّلْ قوله تعالى:{يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94]، وقوله:{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 96]، وقوله:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]، وهذا كله خطاب واحدٌ متصلٌ بعضه ببعضٍ.

ولما عرف أرباب هذا القول أن الخطاب لا يتوجَّه إلا على النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: الخطاب له والمراد به هذا الصنف الشاكّ. وكل هذا فرارٌ من توهُّمِ ما ليس بموهومٍ، وهو وقوع الشك منه والسؤال، وقد بيَّنا أنه لا يلزم إمكان ذلك فضلًا عن وقوعه.

فإن قيل: فإذا لم يكن واقعًا ولا ممكنًا فما مقصود الخطاب والمراد به؟

قيل: المقصود به إقامة الحجة على منكري النبوات والتوحيد، وأنهم مقرُّون بذلك لا يجحدونه ولا ينكرونه، وأن الله سبحانه أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه بذلك، وأرسل ملائكته إلى أنبيائه بوحيه وكلامه، فمن شكَّ في ذلك فليسأل أهل الكتاب. فأخرج هذا المعنى في أوجز عبارةٍ وأدلِّها

(1)

الكلام لابن قتيبة في المصدر السابق.

ص: 21

على المقصود، بأن جعل الخطاب لرسوله الذي لم يشكَّ قطُّ ولم يسألْ قطُّ، ولا عرضَ له ما يقتضي ذلك. وأنتَ إذا تأملتَ هذا الخطاب بدا لك على صفحاته: مَن شكَّ فليسألْ فرسولي لم يشكَّ ولم يسألْ.

والمقصود ذكر بعض الحكمة في إبقاء أهل الكتاب بالجزية، وهذه الحكمة منتفيةٌ في حق غيرهم، فيجب قتالهم حتى يكون الدين كلُّه لله.

والمسألة مبنيةٌ على حرفٍ، وهو أن الجزية هل وُضِعت عاصمةً للدم، أو مُظهِرًا لصَغار الكفر وإذلال أهله فهي عقوبةٌ؟

فمن راعى فيها المعنى الأول قال: لا يلزم من عصمتها لدم من خفَّ كفرُه بالنسبة إلى غيره ــ وهم أهل الكتاب ــ أن تكون عاصمةً لدم من يغلُظ كفره.

ومن راعى فيها المعنى الثاني قال: المقصود إظهار صَغار الكفر وأهله وقهرهم، وهذا أمرٌ لا يختصُّ أهلَ الكتاب بل يعمُّ كلَّ كافرٍ.

قالوا: وقد أشار النصُّ إلى هذا المعنى بعينه في قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، فالجزية صَغارٌ وإذلالٌ، ولهذا كانت بمنزلة ضرب الرقّ.

قالوا: وإذا جاز إقرارهم بالرقّ على كفرهم جاز إقرارهم عليه بالجزية بل أولى

(1)

؛ لأن عقوبة الجزية أعظم من عقوبة الرق؛ ولهذا يُسترقُّ من لا

(1)

كذا في الأصل. وفي المطبوع: "بالأولى".

ص: 22

تجب عليه الجزية من النساء والصبيان وغيرهم.

فإن قلتم: لا يُسترقُّ غيرُ

(1)

الكتابي ــ كما هي إحدى الروايتين عن أحمد

(2)

ــ كنتم محجوجين بالسنة واتفاق الصحابة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يَسترِقُّ سبايا عبدةِ الأوثان، ويجوز لساداتهن وطؤهن بعد انقضاء عدتهن، كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في قصة سبايا أوطاسٍ ــ وكانت في آخر غزوات العرب بعد فتح مكة ــ أنه قال:"لا تُوطأُ حاملٌ حتى تضَعَ، ولا حائلٌ حتى تُستبرأَ بحيضةٍ"

(3)

.

فجوَّز وطأهن بعد الاستبراء ولم يشترط الإسلام، وأكثر ما كانت سبايا الصحابة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من عَبَدة الأوثان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يُقِرُّهم على تملُّكِ السبي.

وقد دفع أبو بكر الصديق إلى سلمة بن الأكوع رضي الله عنهما امرأةً من السبي نفَّلَها إياه، وكانت من عُبَّاد الأصنام

(4)

.

(1)

في المطبوع: "عين" تحريف.

(2)

انظر: "الروايتين والوجهين"(2/ 357)، و"المغني"(13/ 50).

(3)

أخرجه أحمد (11228) وأبو داود (2157) والدارمي (2341) والحاكم (2/ 195) بإسناد حسن في الشواهد. وأصله في "صحيح مسلم"(1456) وفيه موضع الشاهد، وهو حل وطء سبايا أوطاس المشركات. وأما النهي عن وطء الحامل حتى تضع واستبراءُ الحائل ففيه عدة أحاديث. انظر:"التلخيص الحبير"(239) و"إرواء الغليل"(187) و"أنيس الساري"(4397).

(4)

أخرجه مسلم (1755) من حديث سلمة، والمرأة كانت فزاريةً، فاستوهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم منه وفدى بها ناسًا من المسلمين كانوا أُسِروا بمكة.

ص: 23

وأخذ عمر وابنه رضي الله عنهما من سبي هوازن

(1)

، وكذلك غيرهما من الصحابة.

وهذه الحنفية أم محمد بن علي من سبي بني حنيفة

(2)

.

وفي الحديث: "من قال كذا وكذا فكأنما أعتقَ أربعَ رِقابٍ من ولد إسماعيل"

(3)

، ولم يكونوا أهل كتابٍ، بل أكثرهم من عبدة الأوثان.

قالوا: وإذا جاز المنُّ على الأسير وإطلاقُه بغير مالٍ ولا استرقاقٍ، فلَأن يجوزَ إطلاقه بجزيةٍ تُوضع على رقبته تكون قوةً للمسلمين أولى وأحرى. فضربُ الجزية عليه إن كان عقوبةً فهو أولى بالجواز من عقوبة الاسترقاق، وإن كان عصمةً فهو أولى بالجواز من عصمته بالمنّ عليه مجَّانًا. فإذا جاز إقامته بين المسلمين بغير جزيةٍ فإقامته بينهم بالجزية أجوزُ وأجوزُ، وإلا فيكون أحسنَ حالًا من الكتابي الذي لا يقيم بين أظهُرِ المسلمين إلا بالجزية.

(1)

كما في حديث ابن عمر عند أحمد (4922، 5374) ومسلم (1656).

(2)

انظر: "أنساب الأشراف" للبلاذري (2/ 201) و"التلخيص الحبير"(1744).

(3)

أخرجه أحمد (23583) ومسلم (2693) عن أبي أيوب الأنصاري فيمن قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" عشر مرات. وهو عند البخاري (6404) بلفظ: "كان كمن أعتق رقبة من ولد إسماعيل".

ص: 24

فإن قلتم: إذا مننَّا عليه ألحقناه بمأمنه، ولم نمكِّنه من الإقامة بين المسلمين.

قيل: إذا جاز إلحاقه بمأمنه ــ حيث يكون قوةً للكفار وعونًا لهم وبصدد المحاربة لنا ــ مجَّانًا، فلَأن يجوزَ هذا في مقابلة مالٍ يؤخذ منه يكون قوةً للمسلمين وإذلالًا وصَغارًا للكفر وأهله

(1)

أولى وأولى.

يوضحه أنه إذا جازت مهادنتُهم للمصلحة بغير مالٍ ولا منفعةٍ تحصل للمسلمين، فلَأَن يجوز أخذُ المال منهم على وجه الذلِّ والصَّغار وقوة المسلمين أولى، وهذا لا خفاء به.

يوضحه أن عَبَدة الأوثان إذا كانوا أمةً كبيرةً لا تُحصى ــ كأهل الهند وغيرهم ــ حيث لا يمكن استئصالهم بالسيف، فإذلالُهم وقهرهم بالجزية أقربُ إلى عزِّ الإسلام وأهله وقوته من إبقائهم بغير جزيةٍ فيكونون أحسنَ حالًا من أهل الكتاب.

وسرُّ المسألة: أن الجزية من باب العقوبات، لا أنها كرامةٌ لأهل الكتاب فلا يستحقُّها سواهم.

وأما من قال: إن الجزية عوضٌ عن سكنى الدار ــ كما يقوله أصحاب الشافعي

(2)

ــ فهذا القول ضعيفٌ من وجوهٍ كثيرةٍ سيأتي التعرضُّ إليها فيما

(1)

"وأهله" ساقطة من المطبوع.

(2)

انظر "نهاية المطلب"(18/ 7)، قال الجويني: وهذا غير سديد.

ص: 25

بعد إن شاء الله تعالى.

قالوا: ولأن القتل إنما وجب في مقابلة الحِراب لا في مقابلة الكفر، ولذلك لا يُقتل النساء ولا الصبيان ولا الزَّمْنى والعميان ولا الرهبان الذين لا يقاتلون، بل نقاتل من حاربنا.

وهذه كانت سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل الأرض: كان يقاتل من حاربه إلى أن يدخل في دينه أو يُهادِنَه أو يدخل تحت قهره بالجزية، وبهذا كان يأمر سراياه وجيوشه إذا حاربوا أعداءهم كما تقدم من حديث بُريدة، فإذا ترك الكفَّار محاربةَ أهل الإسلام وسالموهم وبذلوا لهم الجزية عن يدٍ وهم صاغرون كان في ذلك مصلحةٌ لأهل الإسلام وللمشركين.

أما مصلحة أهل الإسلام فما يأخذونه من المال الذي يكون قوةً للإسلام مع صَغار الكفر وإذلاله، وذلك أنفع لهم من ترك الكفّار بلا جزيةٍ.

وأما مصلحة أهل الشرك فما في بقائهم من رجاء إسلامهم إذا شاهدوا أعلام الإسلام وبراهينه، أو بلغَتْهم أخباره، فلا بدَّ أن يدخل في الإسلام بعضهم، وهذا أحبُّ إلى الله من قتلِهم.

والمقصود إنما هو أن تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله، وليس في إبقائهم بالجزية ما يناقض هذا المعنى، كما أن إبقاء أهل الكتاب بالجزية بين ظهور المسلمين لا ينافي كونَ كلمةِ الله هي العليا وكونَ الدين كلِّه لله، فإنّ من كون الدين كلِّه لله: إذلالَ الكفر وأهلِه وصَغارَه، وضرْبَ الجزية على رؤوس أهله، والرقَّ على رقابهم. فهذا من دين الله، ولا يناقض

ص: 26

هذا إلا تركُ الكفار على عزِّهم وإقامة دينهم كما يحبُّون، بحيث تكون لهم الشوكة والكلمة، والله أعلم.

فصل

وقد احتج بحديث بُريدة هذا من يرى أن قسمة الفيء والخمس موكولٌ

(1)

إلى اجتهاد الإمام، يضعُه حيث يراه أصلحَ وأهمَّ، والناس إليه أحوج، كما يقول مالك ومن وافقه رحمهم الله تعالى.

قالوا: والمهاجرون كانوا في ذلك الوقت أولى بذلك من غيرهم، ولذلك لم يُجعل فيه للأعراب شيء، فإن المهاجرين خرجوا من ديارهم وأموالهم لله، ووصلوا إلى المدينة فقراء، وكان أحقّ الناس بالفيء هم ومن واساهم وآواهم.

قال القاضي عياضٌ

(2)

: ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يُؤثِرهم بالخُمس على الأنصار غالبًا، إلا أن يحتاج أحدٌ من الأنصار.

وأما الشافعي

(3)

رحمه الله تعالى فإنه أخذ بحديث بُريدة رضي الله عنه في الأعراب، فلم يرَ لهم شيئًا من الفيء، وإنما لهم الصدقة المأخوذة من أغنيائهم المردودة في فقرائهم، كما أن أهل الجهاد وأجناد المسلمين أحقُّ

(1)

في المطبوع: "موكولة".

(2)

"إكمال المعلم"(6/ 32، 33). وكلام الشافعي وأبي عبيد أيضًا منقول منه.

(3)

انظر نحوه في "الأم"(5/ 350).

ص: 27

بالفيء والصدقة

(1)

.

وذهب أبو عبيد إلى أن هذا الحديث منسوخٌ

(2)

، وأن هذا كان حكمَ من لم يهاجر أولًا في أنه لا حقَّ له في الفيء، ولا في الموالاة للمهاجرين، ولا في التوارث بينهم وبين المهاجرين. قال تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]، ثم نسخ ذلك بقوله:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75]، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"لا هجرةَ بعد الفتح، ولكن جهادٌ ونيةٌ"

(3)

. فلم يكن للأعراب إذ ذاك في الفيء نصيبٌ، فلما اتسعت رقعةُ الإسلام وسقط فرض الهجرة صار للمسلمين كلهم حقٌّ في الفيء حتى رعاة الشاء.

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لئن سلَّمني الله ليأتينَّ الراعيَ نصيبُه من هذا المال لم يَعْرَق فيه جبينُه

(4)

.

(1)

في "إكمال المعلم": "لا حق لهم من الصدقة".

(2)

انظر: "الأموال"(1/ 330).

(3)

أخرجه البخاري (2783) ومسلم (1353) من حديث ابن عباس. وأخرجه مسلم (1864) أيضًا من حديث عائشة.

(4)

أخرجه معمر في "جامعه"(20040 - عبد الرزاق) ــ ومن طريقه الطبري في "تفسيره"(22/ 516) وابن المنذر في "الأوسط"(6/ 420) ــ وأبو عبيد في "الأموال"(41، 540) والبيهقي في "الكبير"(6/ 351) بنحوه. وإسناده صحيح.

ص: 28

فصل

وقوله: "فإن سألوك على أن تُنزِلهم على حكم الله فلا تُنزِلْهم على حكم الله، فإنك لا تدري أتصيب حكمَ الله فيهم أم لا" فيه حجةٌ ظاهرةٌ على أنه لا يَسُوغ إطلاق حكم الله على ما لا يعلم العبد أن الله حكم به يقينًا من مسائل الاجتهاد، كما قال بعض السلف

(1)

: ليتَّقِ أحدكم أن يقول: أحلَّ الله كذا أو حرَّم كذا، فيقول الله له كذبتَ، لم أُحِلَّ كذا ولم أُحرِّمه.

وهكذا لا يَسُوغ أن يقول: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لِما لا يعلم صحته ولا ثقةَ رُواته، بل إذا رأى أيَّ حديث كان في أي كتابٍ، يقول:"لقوله صلى الله عليه وسلم "، أو "لنا قوله صلى الله عليه وسلم ". وهذا خطرٌ عظيمٌ، وشهادةٌ على الرسول بما لا يعلم الشاهد

(2)

.

وكذلك لا يَسُوغ له أن يخبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله بما لم

(1)

رُوي ذلك عن الربيع بن خُثيم، أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(2090)، وابن حزم في "الإحكام"(6/ 53)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه"(1/ 529) وغيرهم.

(2)

انظر: "المجموع" للنووي (1/ 63)، ففيه: قال المحققون من أهل الحديث وغيرهم: إذا كان الحديث ضعيفًا لا يقال فيه: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "

وذلك أن صيغة الجزم تقتضي صحته عن المضاف إليه، فلا ينبغي أن يُطلق إلّا فيما صح، وإلّا فيكون الإنسان في معنى الكاذب عليه. وهذا الأدب أخلَّ به جماهير الفقهاء من أصحابنا وغيرهم، بل جماهير أصحاب العلوم مطلقًا ما عدا حذَّاق المحدثين، وذلك تساهل قبيح.

ص: 29

يخبر به سبحانه عن نفسه، ولا أخبر به رسوله عنه، كما يستسهله أهل البدع. بل لا يخبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله إلا بما أخبر به عن نفسه وأخبر به رسوله عنه. وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد منع الأمير أن يُنزِل أهلَ الحصن على حكم الله وقال:"لعلك لا تدري أَتُصِيبُه أم لا"، فما الظنُّ بالشهادة على الله والحكمِ عليه بأنه كذا أو ليس كذا؟

والحديث صريحٌ في أن حكم الله سبحانه في الحادثة واحدٌ معينٌ، وأن المجتهد يصيبه تارةً ويخطئه تارةً، وقد نصَّ الأئمة الأربعة على ذلك صريحًا.

قال أبو عمر بن عبد البر

(1)

: ولا أعلم خلافًا بين الحذَّاق من شيوخ المالكيين ــ ثم عدَّهم ــ ثم قال: كلٌّ يَحكي أن مذهب مالك في اجتهاد المجتهدين والقائسين إذا اختلفوا فيما يجوز فيه التأويل من نوازل الأحكام= أن الحقَّ من ذلك عند الله واحدٌ من أقوالهم واختلافهم، إلا أنَّ كلَّ مجتهدٍ إذا اجتهد كما أُمِر، وبالغ ولم يَألُ، وكان من أهل الصناعة، ومعه آلة الاجتهاد= فقد أدَّى ما عليه، وليس عليه غيرُ ذلك، وهو مأجورٌ على قصده الصوابَ وإن كان الحق من ذلك واحدًا.

قال: وهذا القول هو الذي عليه أكثر أصحاب الشافعي

(2)

.

قال: وهو المشهور من قول أبي حنيفة فيما حكاه محمد بن الحسن

(1)

في "جامع بيان العلم وفضله"(2/ 919).

(2)

انظر "الأم"(9/ 77)، و"البرهان"(2/ 1319)، و"المستصفى"(2/ 357) وغيرها.

ص: 30

وأبو يوسف والحُذَّاق من أصحابهم

(1)

.

قلت: قال القاضي عبد الوهاب

(2)

: وقد نص مالك على منع القول بإصابة كل مجتهدٍ فقال: ليس في اختلاف أصحاب رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم ــ سعةٌ، إنما هو خطأٌ أو صوابٌ.

وسئل أيضًا

(3)

: ما تقول في قول من يقول: إن كل واحدٍ من المجتهدين مصيبٌ لِما كلِّف؟ فقال: ما هذا هكذا، قولان مختلفان لا يكونان قطُّ صوابًا.

وقد نصَّ على ذلك الإمام أحمد، فقال في رواية بكر بن محمد عن أبيه

(4)

: إذا اختلفت الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ رجل بأحد الحديثين وأخذ آخر بحديث آخر ضدّه، فالحق عند الله في واحدٍ، وعلى الرجل أن يجتهد، ثم قال: وإذا اختلف آخر عن رجل آخر منهم فالحق واحد، وعلى الرجل أن يجتهد

(5)

، ولا يدري أصاب الحق أم أخطأ.

(1)

انظر: "أصول البزدوي"(ص 615 وما بعدها)، و"أصول السرخسي"(2/ 131) وغيرهما.

(2)

نقله عنه الزركشي في "البحر المحيط"(6/ 54). وقول مالك في "الموافقات"(5/ 75).

(3)

أي مالك، انظر:"جامع بيان العلم"(2/ 906، 907)، و"الإحكام" لابن حزم (6/ 87)، و"الموافقات"(5/ 75).

(4)

انظر: "العدّة" لأبي يعلى (5/ 1542)، و"التمهيد" للكلوذاني (4/ 310).

(5)

"ثم قال

يجتهد" ساقطة من المطبوع.

ص: 31

وأصول الأئمة الأربعة وقواعدهم ونصوصهم على هذا، وأن الصواب من الأقوال كجهة القبلة في الجهات، وعلى هذا أكثر من أربعين دليلًا قد ذكرناها في كتابٍ مفردٍ

(1)

، وبالله التوفيق.

والمقصود أن قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بُريدة: "فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا" صريحٌ في

(2)

أن حكم الله واحدٌ، وأن المجتهد قد يُصيبه وقد يُخطئه، كما قال في الحديث الآخر:"إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحدٌ"

(3)

. فمن قال: كل مجتهدٍ مصيبٌ بمعنى أنه يصيب حكم الله الذي حكم به في نفس الأمر فقوله خطأ، وإن أراد أنه مصيب

(4)

للأجر بمعنى أنه مطيعٌ لله في أداء ما كُلِّف به، فقوله صحيح إذا استفرغ المجتهد وُسْعَه وبذلَ جهدَه.

فصل

فلنرجع إلى الكلام في أحكام الجزية.

قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا

(1)

لعله الكتاب الذي أشار إليه في "تهذيب السنن"(3/ 137) بقوله: "كتاب مفرد في الاجتهاد"، وفي "مفتاح دار السعادة" (1/ 155) بقوله:"كتاب الاجتهاد والتقليد".

(2)

"فيهم أم لا صريح في" ساقطة من المطبوع.

(3)

أخرجه البخاري (7352) ومسلم (1716) من حديث عمرو بن العاص بنحوه.

(4)

"بمعنى أنه

مصيب" ساقطة من المطبوع.

ص: 32

الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29].

فالجزية هي الخراج المضروب على رؤوس الكفار إذلالًا وصَغارًا، والمعنى: حتى يُعطوا الخراج عن رقابهم.

واختُلف في اشتقاقها، فقال القاضي في "الأحكام السلطانية"

(1)

: اسمها مشتقٌّ من الجزاء، إما جزاءً على كفرهم لأخذها منهم صَغارًا، أو جزاءً على أماننا لهم لأخذِها منهم رفقًا.

قال صاحب "المغني"

(2)

: هي مشتقّةٌ من جزاه بمعنى قضاه، لقوله:{لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 47]. فتكون الجزية مثل الفدية.

قال شيخنا: والأول أصح، وهذا يرجع إلى أنها عقوبةٌ أو أجرةٌ.

وأما قوله: {عَن يَدٍ} ، فهو في موضع النصب على الحال، أي يعطوها أذِلَّاء مقهورين. هذا هو الصحيح في الآية.

وقالت طائفةٌ

(3)

: المعنى من يدٍ إلى يدٍ نقدًا غير نسيئةٍ.

وقالت فرقةٌ

(4)

: من يده إلى يد الآخذ، لا باعثًا بها ولا موكِّلًا في دفعها.

(1)

(ص 153). وهو صادر عن "الأحكام السلطانية" للماوردي (ص 221).

(2)

(13/ 202).

(3)

منهم شريك وعثمان بن مقسم، انظر:"زاد المسير"(3/ 420)، و"تفسير البغوي"(2/ 282).

(4)

روي ذلك عن ابن عباس، انظر "تفسير البغوي"(2/ 282)، و"تفسير القرطبي"(8/ 115)، و"الوسيط" للواحدي (2/ 489)، و"زاد المسير"(3/ 420).

ص: 33

وقالت طائفةٌ

(1)

: معناه عن إنعامٍ منكم عليهم بإقراركم لهم وبالقبول منهم.

والصحيح القول الأول، وعليه الناس.

وأبعدَ كلَّ البعد ولم يُصِبْ مراد الله من قال

(2)

: المعنى: عن يدٍ منهم، أي عن قدرةٍ على أدائها، فلا تُؤخذ من عاجزٍ عنها. وهذا الحكم صحيح، وحملُ الآية عليه باطلٌ، ولم يفسِّر به أحدٌ من الصحابة ولا التابعين ولا سلف الأمة، وإنما هو من حذاقة بعض المتأخرين.

وقوله تعالى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} حالٌ أخرى، فالأول حال المسلمين في أخذ الجزية منهم أن يأخذوها بقهرٍ وعن يدٍ، والثاني حال الدافع لها أن يدفعها وهو صاغرٌ ذليلٌ.

واختلف الناس في تفسير "الصغار" الذي يكونون عليه وقتَ أداء الجزية، فقال عكرمة

(3)

: أن يدفعها وهو قائمٌ، ويكون الآخذ جالسًا.

وقالت طائفةٌ

(4)

: أن يأتي بها بنفسه ماشيًا لا راكبًا، ويُطال وقوفُه عند

(1)

انظر: "معاني القرآن" للزجاج (2/ 442)، و"تفسير البغوي"(2/ 282)، و"زاد المسير"(3/ 420).

(2)

نقله الماوردي في "النكت والعيون"(2/ 128)، و"الأحكام السلطانية"(ص 223).

(3)

أخرجه الطبري في "تفسيره"(11/ 408)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(6/ 1780).

(4)

انظر: "تفسير الطبري"(11/ 408)، و"تفسير البغوي"(2/ 282)، و"النكت والعيون"(2/ 128)، و"زاد المسير"(3/ 421)، و"المغني"(13/ 252).

ص: 34

إتيانه بها، ويُجَرُّ إلى الموضع الذي تُؤخذ منه بالعنف، ثم تُجَرُّ يدُه ويُمتَهَن.

وهذا كله مما لا دليلَ عليه، ولا هو مقتضى الآية، ولا نُقِل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة أنهم فعلوا ذلك.

والصواب في الآية أن الصَّغار هو التزامهم لجريان أحكام الملَّة عليهم وإعطاء الجزية، فإن التزام ذلك هو الصَّغار.

وقد قال الإمام أحمد في رواية حنبلٍ

(1)

: كانوا يجرون في أيديهم ويختمون في أعناقهم إذا لم يُؤدُّوا، [قيل له: فترى ذلك؟ قال: نعم، وهو] الصَّغار الذي قال الله تعالى:{وَهُمْ صَاغِرُونَ} .

وهذا يدلُّ على أن الذمّي إذا بذلَ ما عليه والتزم الصَّغار لم يحتجْ إلى أن يُجَرَّ بيده ويُضْرَب.

وقد قال في رواية مهنا بن يحيى

(2)

: يُستحبُّ أن يتعبوا في الجزية.

قال القاضي

(3)

: ولم يُرِد تعذيبَهم ولا تكليفَهم فوقَ طاقتهم، وإنما أراد الاستخفاف بهم وإذلالَهم.

(1)

"الجامع" للخلال (1/ 164، 165) ومنه الزيادة. وفيه: "وكانوا يحدّون".

(2)

المصدر نفسه (1/ 165). وفيه: "يبعثوا" تصحيف.

(3)

لم أجد كلامه في المصادر التي رجعت إليها، ولعله فيما لم يصل إلينا من كتابه "التعليقة".

ص: 35

قلت: لما كانت يد المعطي العليا ويد الآخذ السفلى احترز الأئمة أن يكون الأمر كذلك في الجزية، وأخذوها على وجهٍ تكون يد المعطي السفلى ويد الآخذ العليا.

قال القاضي أبو يعلى: وفي هذا دلالةٌ على أن هؤلاء النصارى الذين يتولَّون أعمال السلطان، ويظهر منهم الظلمُ والاستعلاء على المسلمين وأخذُ الضرائب= لا ذمَّةَ لهم، وأن دماءهم مباحةٌ؛ لأن الله تعالى وصفهم بإعطاء الجزية على وجه الصَّغار والذُّل.

وهذا الذي استنبطه القاضي من أصحِّ الاستنباط؛ فإن الله سبحانه وتعالى مدَّ القتال إلى غايةٍ، وهي إعطاء الجزية مع الصغار، فإذا كانت حالة النصراني وغيره من أهل الجزية منافيةً للذُّل والصَّغار فلا عصمةَ لدمِه ولا ماله، وليست له ذمَّةٌ. ومن هاهنا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه تلك الشروط التي فيها صَغارهم وإذلالهم، وأنهم متى خرجوا عن شيء منها فلا عهدَ لهم ولا ذمةَ، وقد حلَّ للمسلمين منهم ما يَحِلُّ من أهل الشقاق والمعاندة.

وسنذكر إن شاء الله في آخر الجواب الشروطَ العمرية وشرحها.

فصل

وقد تبيَّن بما ذكرنا أن الجزية وُضِعتْ صَغارًا وإذلالًا للكفار، لا أجرةً عن سكنى الدار، وذكرنا أنها لو كانت أجرةً لوجبتْ على النساء والصبيان والزَّمْنى

ص: 36

والعميان. ولو كانت أجرةً لما أنِفَتْ منها العرب من نصارى بني تغلب وغيرهم، والتزموا ضِعْفَ ما يؤخذ من المسلمين من زكاة أموالهم. ولو كانت أجرةً لكانت مقدَّرةَ المدَّة كسائر الإجارات. ولو كانت أجرةً لما وَجَبتْ بوصف الإذلال والصَّغار. ولو كانت أجرةً لكانت مقدَّرةً بحسب المنفعة، فإن سكنى الدار قد يُساوي في السنة أضعافَ أضعافِ الجزية المقدرة. ولو كانت أجرةً لما وجبتْ على الذمّي أجرةُ دارٍ أو أرضٍ يسكنها إذا استأجرها من بيت المال. ولو كانت أجرةً لكان الواجب فيها ما يتفق عليه المُؤجِر والمستأجر.

وبالجملة ففساد هذا القول يُعلم من وجوهٍ كثيرةٍ.

وقد اختلف أئمة الإسلام في تقدير الجزية، فقال الشافعي

(1)

رحمه الله تعالى: ويُجعل على الفقير المعتمل دينارٌ، وعلى المتوسط ديناران، وعلى الغني أربعة دنانير. وأقلُّ ما يُؤخذ دينارٌ، وأكثره ما وقع عليه التراضي، ولا يجوز أن يُنقصَ من دينارٍ.

وقال أصحاب مالك

(2)

: أكثر الجزية أربعةُ دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهمًا على أهل الوَرِق، ولا يُزاد على ذلك. فإن كان منهم ضعيفٌ خُفِّف عنه بقدر ما يراه الإمام.

(1)

انظر: "الأم"(5/ 424، 428)، و"التنبيه" للشيرازي (ص 237).

(2)

انظر: "عقد الجواهر الثمينة"(1/ 488).

ص: 37

وقال ابن القاسم

(1)

: لا يُنقَص من فرض عمر رضي الله عنه لمعسرٍ، ولا يُزاد عليه لغني.

وقال القاضي أبو الحسن

(2)

: لا حدَّ لأقلها، قال: وقيل: أقلُّها دينارٌ أو عشرة دراهم.

وقال أصحاب أبي حنيفة

(3)

رحمهم الله تعالى: تُوضَع على الغني ثمانيةٌ وأربعون درهمًا، وعلى المتوسط أربعةٌ وعشرون، وعلى الفقير اثنا عشر.

ثم اختلفوا في حد الغني والفقير والمتوسط، قالوا: والمختار أن يُنظَر في كل بلدٍ إلى حال أهله وما يعتبرونه في ذلك، فإن عادة البلاد في ذلك مختلفةٌ.

وأما الإمام أحمد رحمه الله تعالى فقد اختلفت الرواية عنه، فنقل أكثر أصحابه عنه أنها مقدَّرة الأقل والأكثر، فتؤخذ من الفقير المعتمل اثنا عشر درهمًا، ومن المتوسط أربعةٌ وعشرون، ومن الموسر ثمانيةٌ وأربعون.

قال

(4)

حربٌ في "مسائله"

(5)

: وسألت أبا عبد الله قلت: خراج الرؤوس إذا كان الذمي غنيًّا؟ قال: ثمانيةٌ وأربعون درهمًا، قلت: فإن كان دون ذلك؟

(1)

كما في المصدر السابق. والكلام متصل بما قبله.

(2)

المصدر نفسه.

(3)

انظر: "الاختيار لتعليل المختار" للموصلي (4/ 137).

(4)

من هنا إلى بداية الفصل الآتي في ورقة مستقلة مستدركة في الأصل.

(5)

نقله الخلال في "الجامع"(1/ 167).

ص: 38

قال: أربعةٌ وعشرون، قلت: فإن كان دون ذلك؟ قال: اثنا عشر

(1)

، قلت: فليسَ دون اثني عشر شيء

(2)

؟ قال: لا.

وقال في رواية ابنه صالحٍ وإبراهيم بن هانئٍ وأبي الحارث

(3)

: أكثر ما يؤخذ في الجزية ثمانيةٌ وأربعون، والمتوسط أربعةٌ وعشرون، والفقير اثنا عشر. زاد في رواية أبي الحارث

(4)

: أن عمر ضربَ على الغني ثمانيةً وأربعين، وعلى الفقير اثني عشر

(5)

.

قال الخلال

(6)

: والذي عليه العمل من قول أبي عبد الله: أن للإمام أن يزيد في ذلك وينقص، وليس لمن دونه أن يفعل ذلك. وقد روى يعقوب بن بختان خاصةً عن أبي عبد الله أنه لا يجوز للإمام أن ينقص من ذلك. وروى عن أبي عبد الله أصحابُه في عشرة مواضع أنه لا بأسَ بذلك.

قال

(7)

: ولعل أبا عبد الله تكلَّم بهذا في وقتٍ، والعمل من قوله على ما رواه الجماعة أنه لا بأسَ للإمام أن يزيد في ذلك وينقص، وقد أشبعَ الحجة في ذلك.

(1)

في الأصل: "أربعة عشر"، وهو تحريف.

(2)

في الأصل: "شيئًا".

(3)

روايتهم عند الخلال في "الجامع"(1/ 167).

(4)

بل في رواية صالح في المصدر السابق (1/ 167).

(5)

سيأتي تخريجه (ص 45).

(6)

المصدر نفسه (1/ 169).

(7)

المصدر نفسه، والكلام مستمر.

ص: 39

وقال الأثرم

(1)

: سمعت أبا عبد الله يُسأَل عن الجزية كم هي؟ قال: وضع عمر رضي الله عنه ثمانيةً وأربعين وأربعةً وعشرين واثني عشر. قيل له: كيف هذا؟ قال: على قدر ما يُطيقون. قيل: فيُزاد في هذا اليومَ ويُنقص؟ قال: نعم، يُزاد فيه ويُنقَص على قدر طاقتهم، وعلى قدر ما يرى الإمام.

وقال أبو طالب

(2)

: وسألت أبا عبد الله عن حديث عثمان بن حُنيفٍ تذهب إليه في الجزية

(3)

؟ قال: نعم. قلت: ترى الزيادة؟ قال: لمكان قول عمر رضي الله عنه: [أنا زدتُ عليهم]، فإن زاد فأرجو أن لا بأسَ إذا كانوا مطيقين، مثل ما قال عمر رضي الله عنه.

وقال أحمد بن القاسم

(4)

: سئل أبو عبد الله عن جزية الرؤوس، وقيل له: بلغَك أن عمر رضي الله عنه جعلها على قدْرِ اليسار من أهل الذمة: اثنا عشر وأربعةٌ وعشرون

(5)

وثمانيةٌ وأربعون؟ قال: [هكذا] على قدر طاقتهم. فكيف يصنع به إذا كان فقيرًا لا يقدر [على] ثمانيةٍ وأربعين؟ [قال: إنما هو على قدر الطاقة. قيل له: فيزاد عليهم أكثر من ثمانيةٍ وأربعين؟] قال: على حديث الحكم عن عمرو

(6)

بن ميمونٍ أنه قال: والله إن زدتُ عليهم درهمين

(1)

المصدر نفسه (1/ 169).

(2)

المصدر نفسه (1/ 170). ومنه الزيادة. وسيأتي حديث عثمان بن حنيف (ص 162).

(3)

في المطبوع: "بالجزية" خلاف الأصل ومصدر المؤلف.

(4)

المصدر نفسه (1/ 170). ومنه الزيادة.

(5)

في الأصل: "وأربعة عشر" خطأ.

(6)

في المطبوع: "عمر" خطأ.

ص: 40

لا يُجهِدهم، قال: وكانت ثمانيةً وأربعين فجعلها خمسين. قال: ولم يبين قوله في الزيادة أكثر من هذا.

قلت لأبي عبد الله

(1)

: يحكى عن الشافعي أنه قال: إذا سأل أهل الحرب أن يؤدُّوا إلى الإمام عن رؤوسهم دينارًا [دينارًا] لم يجز له أن يحاربهم؛ لأنهم قد بذلوا ما حدَّ النبي صلى الله عليه وسلم. فأعجبَه هذا وفكَّر فيه، ثم تبسَّم وقال: مسألة فيها نظر.

وقال صالح بن أحمد

(2)

: وسألتُ أبي: [إلى] أيّ شيء تذهب في الجزية؟ قال: أما أهل الشام [فـ] ـعلى ما وظف

(3)

عمر رضي الله عنه أربعة دنانير وكسوةٌ وزيتٌ، وأما أهل اليمن فعلى كل حالمٍ دينارٌ، وأما أهل العراق فعلى ما يؤخذ منهم.

وقال الأثرم

(4)

لأبي عبد الله: على أهل اليمن دينارٌ، شيء لا يزاد عليهم؟ قال: نعم. قيل له: ولا يؤخذ منهم ثمانيةٌ وأربعون؟ قال: كل قومٍ على سنَّتهم. ثم قال: أهل الشام خلاف غيرهم أيضًا، وكل قومٍ على ما قد جُعلوا عليه.

فقد ضمِنَ مذهبُه أربعَ رواياتٍ:

(1)

المصدر نفسه (1/ 170). والكلام متصل بما قبله.

(2)

المصدر نفسه (1/ 171).

(3)

في الأصل و"الجامع": "وصف". والتصويب من "مسائل صالح"(1/ 216).

(4)

المصدر نفسه (1/ 171).

ص: 41