المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌عدم الإحاطة بمذهبهم ودينهم - أحكام أهل الذمة - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌ سبب وضع الجزية

- ‌ يجوز أخذها مما تيسَّر من أموالهم

- ‌الكتاب الذي بأيدي الخَيابرة الذي يدَّعون أنه بخط علي في إسقاط الجزية عنهم باطلٌ

- ‌فصلفي بني تغلب وأحكامهم

- ‌فصل في السَّامرة

- ‌اختلاف الفقهاء فيهم: هل يُقَرُّون بالجزية أم لا

- ‌فصل في الصابئة

- ‌عدم الإحاطة بمذهبهم ودينهم

- ‌فصلفي الجزية والخراج وما بينهما من اتفاقٍ وافتراقٍ

- ‌ أصل الخراج وابتداء وضْعِه

- ‌الأرض ستة أنواعٍ:

- ‌النوع الثالث: ما ملك عن الكفار عَنْوةً وقهرًا

- ‌فصلفي كراهة الدخول في أرض الخراج

- ‌ذكر أحكام أهل الذمة في أموالهم

- ‌فصلفي الأمكنة التي يُمنع أهل الذمة من دخولها والإقامة بها

- ‌ذكر معاملتهم عند اللقاء وكراهة أن يُبدَؤوا بالسلام، وكيف يُرَدُّ عليهم

- ‌فصلفي عيادة أهل الكتاب

- ‌فصلفي شهود جنائزهم

- ‌فصلفي تعزيتهم

- ‌فصلفي تهنئتهم

- ‌فصلفي المنع من استعمال اليهود والنصارى في شيء من ولايات المسلمين وأمورهم

- ‌فصل(1)في سياق الآيات الدالَّة على غشِّ أهل الذمة للمسلمين وعداوتهم وخيانتهم

- ‌فصلفي أحكام ذبائحهم

- ‌المسألة الرابعة: إذا ذبحوا ما يعتقدون حلَّه، فهل تحرم علينا الشحوم المحرمة عليهم

- ‌ذكر أحكام معاملتهم

- ‌فصلفي البيع والشراء منهم

- ‌فصلفي شركتهم ومضاربتهم

- ‌فصلفي استئجارهم واستئجار المسلم نفسه منهم

- ‌فصلفي حكم أوقافهم ووقف المسلم عليهم

- ‌فصلفي أحكام نكاحهم ومناكحاتهم

- ‌فصلولو زوَّج الكافرُ ابنَه الصغير أكثرَ من أربع نسوةٍ، ثم أسلم الزوج والزوجات= لم يكن له الاختيار قبل بلوغه، فإنه لا حكم لقوله

- ‌فصل(4)نقرُّ أهل الذمة على الأنكحة الفاسدة بشرطين:

- ‌فصولٌ في أحكام مهورهم

- ‌فصل(2)في ضابط ما يصحُّ من أنكحتهم وما لا يصحُّ

- ‌فصلفي الكافر يكون وليًّا لوليته الكافرة دون المسلمة

- ‌فصلللمسلم إجبارُ زوجته الذمية على الغسل من الحيض

الفصل: ‌عدم الإحاطة بمذهبهم ودينهم

ل‌

‌عدم الإحاطة بمذهبهم ودينهم

.

فقال الشافعي

(1)

رحمه الله تعالى: هم صنفٌ من النصارى. وقال في موضع: يُنظر في أمرهم، فإن كانوا يوافقون النصارى في أصل الدين ولكنهم يخالفونهم في الفروع لم تضرَّ مخالفتهم

(2)

فتؤخذ منهم الجزية، وإن كانوا يخالفونهم في أصل الدين لم يُقَرُّوا على دينهم ببذل الجزية.

واختلف أصحابه

(3)

فقال أبو سعيد

(4)

الإصطخري: ليسوا من النصارى، ولا يجوز إقرارهم على دينهم، قال: لأنهم يقولون: إن الفلك حيٌّ ناطقٌ، وإن الكواكب السبعة آلهةٌ، فهم في حكم عبدة الأوثان.

واستفتى القاهر بالله العباسي الفقهاء فيهم، فأفتاه أبو سعيد أنهم لا يُقَرُّون، فأمر بقتلهم، فبذلوا مالًا عظيمًا فتركهم.

وأما أقوال السلف فيهم: فذكر سفيان عن ليثٍ عن مجاهدٍ قال: هم قومٌ بين اليهود والمجوس ليس لهم دينٌ

(5)

.

(1)

ينظر: "الأم"(5/ 583، 435، 6/ 17)، و"المغني"(9/ 547).

(2)

"لم تضر مخالفتهم" ليست في المطبوع.

(3)

انظر: "نهاية المطلب"(18/ 11، 12).

(4)

في الأصل: "أبو سعد" خطأ. انظر ترجمته في "طبقات الشافعية" للسبكي (3/ 230).

(5)

أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره"(1/ 47) عن سفيان به. وأخرجه الطبري (2/ 35، 36) وابن أبي حاتم (1/ 127، 128) من طرقٍ عنه بنحوه.

ص: 130

وفي تفسير شيبان عن قتادة قال: الصابئة قومٌ يعبدون الملائكة

(1)

.

قال محمد بن جريرٍ

(2)

: واختلف أهل التأويل فيمن يلزمه هذا الاسم من أهل الملل، فقال بعضهم: يلزم كلَّ من خرج من دينٍ إلى غير دينٍ. وقالوا: الذي عنى الله بهذا الاسم قومٌ لا دينَ لهم.

ثم ذكر عن عبد الرزاق عن سفيان عن ليثٍ عن مجاهدٍ قال: الصابئون قومٌ ليسوا يهودَ ولا نصارى، ولا دينَ لهم.

وحكى عن حجاجٍ عن مجاهدٍ قال: الصابئون بين المجوس واليهود، لا تُؤكل ذبائحهم ولا تُنكح نساؤهم.

وقال ابن جريجٍ: قلت لعطاءٍ: الصابئون زعموا أنهم ليسوا بمجوسٍ ولا يهود ولا نصارى، قال: قد سمعنا ذلك.

وقال ابن وهبٍ: قال ابن زيدٍ: الصابئون أهل دينٍ من الأديان كانوا بجزيرة الموصل يقولون: لا إله إلا الله، وليس لهم عمل ولا كتابٌ ولا نبي إلا قول "لا إله إلا الله"، قال: ولم يؤمنوا برسولٍ لله عز وجل، فمِن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: هؤلاء الصابئون، يُشبِّهونهم بهم.

(1)

لم أجده من طريق شيبان، وقد أخرجه الطبري (2/ 37، 16/ 485) من طريق سعيد بن أبي عروبة عنه ــ وسيأتي قريبًا ــ، ومن طريق معمر عنه.

(2)

في "تفسيره"(2/ 35 - 37)، والآثار الآتية كلها منه.

ص: 131

وقال سعيد عن قتادة: هم يعبدون الملائكة، ويُصلُّون إلى القبلة، ويقرؤون الزبور.

وقال سفيان عن السدِّي: هم طائفةٌ من أهل الكتاب.

وقال ابن جريرٍ

(1)

: الصابئ المستحدِث سوى دينه دينًا، كالمرتدِّ من أهل الإسلام عن دينه، وكلُّ خارجٍ من دينٍ كان عليه إلى آخَر غيرِه تُسمِّيه العرب صابئًا، يقال منه: صبأ فلانٌ يصبأ صبأً، ويقال: صَبَأتِ النجوم إذا طلعت، وصَبَأ علينا فلانٌ إذا طلع.

قلت: الصابئة أمةٌ كبيرةٌ فيهم السعيد والشقي، وهي إحدى الأمم المنقسمة إلى مؤمنٍ وكافرٍ، فإن الأمم قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم نوعان:

نوع كفّارٌ أشقياء كلهم ليس فيهم سعيد، كعبدة الأوثان والمجوس.

ونوع منقسمون إلى سعيد وشقي، وهم اليهود والنصارى والصابئة.

وقد ذكر الله سبحانه النوعين في كتابه فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 61]. وكذلك قال في المائدة

(2)

.

ص: 132

وقال في سورة الحج: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج: 17]، فلم يقل هاهنا:(من آمن منهم بالله واليوم الآخر)؛ لأنه ذكر معهم المجوس والذين أشركوا، فذكر ستَّ أممٍ، منهم اثنتان شقيتان، وأربع أممٍ منقسمة إلى شقي وسعيد، وحيث وعد أهل الإيمان والعمل الصالح منهم بالأجر ذكرهم أربع أممٍ ليس إلا. ففي آية الفصل بين الأمم أدخل معهم الأمتين، وفي آية الوعد بالجزاء لم يدخلهما معهم، فعُلِم أن الصابئين فيهم المؤمن والكافر والشقي والسعيد.

وهذه أمةٌ قديمةٌ قبل اليهود والنصارى، وهم أنواعٌ: صابئةٌ حنفاء وصابئةٌ مشركون. وكانت حرَّان دارَ مملكة هؤلاء قبل المسيح، ولهم كتبٌ وتآليف وعلومٌ، وكان في بغداد منهم طائفةٌ كبيرةٌ، منهم إبراهيم بن هلالٍ الصابئ

(1)

صاحب الرسائل، وكان على دينهم ويصوم رمضان مع المسلمين، وأكثرهم فلاسفةٌ، ولهم مقالاتٌ مشهورةٌ ذكرها أصحاب المقالات

(2)

.

وجملة أمرهم أنهم لا يكذِّبون الأنبياء ولا يوجبون اتباعهم، وعندهم أن من اتبعهم فهو سعيد ناجٍ، وأن من أدرك بعقله ما دَعَوا إليه فوافقَهم فيه

(1)

من الكتّاب المشهورين، توفي سنة 384. انظر ترجمته في "يتيمة الدهر" (2/ 242 وما بعدها)، و"معجم الأدباء" (1/ 130 - 158)، و"وفيات الأعيان" (1/ 52 - 54، 392 - 393) وغيرها.

(2)

انظر: "الملل والنحل" للشهرستاني (ص 259 وما بعدها). وقد اعتمد عليه المؤلف في بيان عقائدهم.

ص: 133

وعمل بوصاياهم فهو سعيد وإن لم يتقيَّدْ بهم. فعندهم دعوةُ الأنبياء حقٌّ، ولا تتعيَّن طريقًا للنجاة. وهم يُقِرُّون أن للعالم صانعًا مدبرًا حكيمًا منزَّهًا عن مماثلة المصنوعات، ولكنْ كثير منهم أو أكثرهم قالوا: نحن عاجزون عن الوصول إلى جلاله بدون الوسائط، والواجب التقرب إليه بتوسط الروحانيين المقدَّسين، المطهَّرين عن المواد الجسمانية، المبرَّئين عن القوى الجسدية، المنزَّهين عن الحركات المكانية والتغييرات الزمانية، بل قد جُبِلوا على الطهارة وفُطِروا على التقديس.

قالوا: وإنما أرشدنا إليهم معلِّمنا الأول هرمس، فنحن نتقرب إليهم وبهم، وهم آلهتنا وشفعاؤنا عند ربِّ الأرباب وإله الآلهة، فالواجب علينا أن نطهِّر نفوسنا عن الشبهات الطبيعية ونهذِّب أخلاقنا عن علائق القوة الغضبية

(1)

، حتى تحصل المناسبة بيننا وبين الروحانيات، فحينئذٍ نسأل حاجاتنا منهم، ونَعرِض أحوالنا عليهم، ونَصْبُو في جميع أمورنا إليهم، فيشفعون لنا إلى خالقنا وخالقهم ورازقنا ورازقهم. وهذا التطهر

(2)

والتهذيب لا يحصل إلا برياضتنا وفطامِ أنفسنا عن دَنِيَّات الشهوات، وذلك إنما يتمُّ بالاستمداد من جهة الروحانيات، والاستمداد هو التضرُّع والابتهال بالدعوات، وإقامةِ الصلوات وإيتاء الزكوات، والصيام عن المطعومات والمشروبات، وتقريب القرابين والذبائح، وتبخير البخورات مع العزائم،

(1)

في المطبوع: "العصبية"، تصحيف.

(2)

كذا في الأصل. وفي المطبوع: "التطهير".

ص: 134

ليحصل لنفوسنا استعدادٌ إلى الاستمداد العالي من غير واسطةٍ، فيكون حكمنا وحكم الأنبياء في ذلك واحدًا.

قالوا: والأنبياء أَتَوا بتزكية النفوس وتهذيبها وتطهير الأخلاق من الرذائل، فمن أطاعهم فهو سعيد.

قالوا: والروحانيات هي الأسباب المتوسطة في الاختراع والإيجاد وتصريف الأمور من حالٍ إلى حالٍ، وهي تستمدُّ القوة من الحضرة القدسية، وتُفِيض الفيضَ على الموجودات السُّفلية، فمنها مدبِّرات الكواكب السبعة السيارة في أفلاكها، وهي هياكلها، فلكل روحاني هيكلٌ وهو فلكٌ، ونسبة الروحاني إلى ذلك الهيكل الذي اختصَّ به نسبة الروح إلى الجسد، فهو ربُّه ومُدِيره

(1)

ومدبِّره.

ويقولون: الهياكل آباءٌ، والعناصر أمهاتٌ، فتفعل الروحانياتُ تحريكَها على قدرٍ مخصوصٍ، ليحصل من حركتها انفعالاتٌ في الطبائع والعناصر، فيحصل من ذلك تركيباتٌ وامتزاجاتٌ في المركبات، فتتبعها قُوًى نفسانية

(2)

، وتركبت عليها نفوسٌ روحانيةٌ مثل أنواع النبات وأنواع الحيوان

(3)

، ثم قد تكون التأثيرات كليةً صادرةً عن روحاني كلي، وقد تكون جزئيةً صادرةً عن روحاني جزئي. ومنها مدبِّرات الآثار العُلْوية الظاهرة في

(1)

"ومديره" ساقطة من المطبوع، وهي ثابتة في الأصل و"الملل والنحل"(ص 261).

(2)

"فتتبعها قوى نفسانية" ساقطة من المطبوع.

(3)

في المطبوع: "الحيوانات" خلاف الأصل.

ص: 135

الجوّ كالمطر والثلوج والبرد والرياح والصواعق والشُّهب والرعد والبرق والسحاب، والآثار السُفْلِية كالزلازل والمياه وغيرها.

قالوا: ومدبّراتٌ هاديةٌ شائعة

(1)

في جميع الكائنات حتى لا يُرى موجودٌ

(2)

ما خالٍ عن قوةٍ وهدايةٍ بحسب قبوله واستعداده.

وأما أحوال الروحانيات من الرَّوح والريحان والنعمة واللذة والراحة والبهجة والفرح والسرور في جِوار ربِّ الأرباب فمما لا يخطر على قلب بشرٍ، طعامهم وشرابهم: التسبيح والتقديس والتهليل والتمجيد، وأنسهم بذكر الله تعالى وطاعته، فهم بين قائمٍ وراكعٍ وساجدٍ وقاعدٍ لا يريد تبديل حالته التي هو فيها بغيرها، إذ لذته وبهجته وسروره فيما هو فيه.

قالوا

(3)

: والروحانيات مبادئ الموجودات وموادُّ الأرواح

(4)

، والمبادئ أشرف ذاتًا وأسبق وجودًا وأعلى رتبةً من سائر الموجودات التي حصلت بتوسطها، فعالَمها عالَمُ الكمال، والمبدأ منها والمعاد إليها، والمصدر عنها والمرجع إليها، والأرواح إنما

(5)

نزلت من عالمها، حتى

(1)

في المطبوع: "سارية" خلاف الأصل.

(2)

في الأصل والمطبوع: "بوجود". والتصويب من "الملل والنحل" الذي نقل عنه المؤلف.

(3)

انظر: "الملل والنحل"(ص 284).

(4)

في "الملل والنحل": "وعالمها معاد الأرواح".

(5)

في الأصل: "لها". والتصويب من "الملل والنحل".

ص: 136

اتصلت بالأبدان، وتوسَّخت بأوضار الأجسام، ثم طهرتْ عنها بالأخلاق الزكية والأعمال المرضية، حتى انفصلت عنها فصعدت إلى عالمها الأول، فالنزول هو النشأة الأولى، والصعود هو النشأة الأخرى.

قالوا

(1)

: وطريقنا في التوسل إلى حضرة

(2)

القدس ظاهرٌ وشرعنا معقول، فإن قُدماءنا من الزمان الأول لما أرادوا الوسيلة عملوا أشخاصًا في مقابلة الهياكل العلوية على نِسَبٍ وإضافاتٍ وهيآتٍ

(3)

وأحوالٍ وأوقاتٍ مخصوصةٍ، وأوجبوا على من يتقرب بها إلى ما يقابلها من العُلويات لباسًا وبخورًا وأدعيةً مخصوصةً وعزائم، تقرَّبوا بها

(4)

إلى رب الأرباب ومسبِّب الأسباب، وتلقينا ذلك عن عاذيمون

(5)

وهرمس.

فهذا بعض ما نقله أرباب المقالات من دين الصابئة، وهو بحسب ما وصل إليهم، وإلا فهذه الأمة فيهم المؤمن بالله وأسمائه وصفاته وملائكته ورسله واليوم الآخر، وفيهم الكافر، وفيهم الآخذ من دين الرسل بما وافق عقولهم واستحسنوه، فدانوا به ورَضُوه لأنفسهم، وعقْدُ أمرِهم أنهم يأخذون بمحاسنِ ما عند أهل الشرائع بزعمهم، ولا يوالون أهلَ ملةٍ ويعادون أخرى، ولا يتعصَّبون لملّةٍ على ملّةٍ، والملل عندهم نواميسُ لمصالح العالَم، فلا

(1)

"الملل والنحل"(ص 286).

(2)

في الأصل: "حضيرة". والمثبت موافق لما في "الملل والنحل".

(3)

"وهيآت" ساقطة من المطبوع.

(4)

في المطبوع: "يقربونها" خلاف ما في الأصل و"الملل والنحل".

(5)

في الأصل: "عاديموت". والتصويب من "الملل والنحل".

ص: 137

معنى لمحاربة بعضها بعضًا، بل يُؤخذ بمحاسنها وما تكمل به النفوس وتتهذَّب به الأخلاق، ولذلك سُمُّوا صابئين، كأنهم صَبَأوا عن التعبد بكل ملّةٍ من الملل والانتساب إليها. ولهذا قال غير واحدٍ من السلف: ليسوا يهودَ ولا نصارى ولا مجوس

(1)

، وهم نوعان: صابئةٌ حنفاء، وصابئةٌ مشركون؛ فالحنفاء هم الناجون منهم، وبينهم مناظراتٌ وردٌّ من بعضهم على بعضٍ

(2)

، وهم قوم إبراهيم، كما أن اليهود قوم موسى، والحنفاء منهم أتباعه.

وبالجملة، فالصابئة أحسن حالًا من المجوس، فأخذ الجزية من المجوس تنبيهٌ على أخذها من الصابئة بطريق الأَولى، فإن المجوس من أخبث الأمم دينًا ومذهبًا، ولا يتمسكون بكتابٍ، ولا ينتمون إلى ملّةٍ، ولا يثبت لهم كتابٌ ولا شبهة كتابٍ أصلًا. ولهذا لما ظهرت فارسُ على الروم فرح المشركون بذلك؛ لأنهم مثلهم ليسوا أهل كتابٍ، وساء ذلك المسلمين، فلما ظهرت الروم على فارس فرح المسلمون

(3)

، لأن النصارى أقرب إليهم من المجوس من أجل كتابهم.

وكل ما عليه المجوس من الشرك، فشركُ الصابئة إن لم يكن أخفَّ منه فليس بأعظم منه. وقد تردَّد الشافعي رحمه الله تعالى في أخذ الجزية منهم في

(1)

كذا في الأصل غير ممنوع من الصرف، والصواب صرفه.

(2)

ذكر الشهرستاني هذه المناظرات في "الملل والنحل"(ص 263 - 298).

(3)

كما في مطلع سورة الروم، وانظر حديث ابن عباس الذي أخرجه أحمد (2495، 2769)، والترمذي (3193)، والنسائي في "الكبرى"(11389) وغيرهم. وفي الباب عن غيره من الصحابة.

ص: 138

موضع، وقطع بأخذها منهم في موضع، وعلَّق القول في موضعٍ، كما حكينا لفظه

(1)

.

فصل

فإن قيل: فهل للإمام أن يستسلف منهم الجزية؟

قلنا: ليس له ذلك إلا برضاهم، كما ليس له أن يستسلف الزكاة إلا برضا ربِّ المال، بل الجزية أولى بالمنع، فإنها تسقط بالإسلام وبالموت في أثناء السنة، وتتداخل عند أبي حنيفة، فهي بعرض السقوط قبلَ الحول وبعده.

فإن قيل: فهل له أن يأخذ منهم في أثناء السنة بقسطِ ما مضى منها؟

قيل: هذا فيه نزاعٌ؛ فأبو حنيفة يجوِّز أن يأخذ في كل شهرٍ بقسطه، ولأصحاب الشافعي في ذلك وجهان. قال أبو المعالي الجويني

(2)

: أظهرهما أنه ليس له ذلك، فإن الطلبة في آخر السنة عند استمرار الأحوال، بذلك جرتْ سننُ الماضين وسنن المتقدمين، والجزية موضوعها على الإمهال كالزكاة.

فإن قيل: فما تقولون لو سقط عنه الوجوب في أثناء السنة بموتٍ أو عمًى أو زمانةٍ أو إسلامٍ، هل تؤخذ منه بقسط ما مضى؟

قيل: الصحيح من المذهب أنها تسقط عنه وأن لا يطالب بقسط ما مضى، ومن الأصحاب من لم يحكِ في ذلك نزاعًا، ولكن أبا عبد الله بن حمدان

(1)

في أول الفصل.

(2)

في "نهاية المطلب"(18/ 32).

ص: 139

حكى في ذلك وجهين فقال

(1)

: وفيمن

(2)

أسلم في الحول أو مات أو جُنَّ جنونًا مُطْبقًا أو أُقعِد أو عَمِي وجهان.

فإن قيل: فإن اتفق اجتماع ديون الآدميين والجزية فهل تُقدَّم الجزية أو الديون؟

قيل: أما أصحاب الشافعي فبنَوا ذلك على الأصل وقالوا

(3)

: يُنحَى

(4)

بالجزية نحوَ

(5)

حقوق الله كالزكاة، أو يُنْحَى

(6)

بها نحو حقوق الآدميين وليست من القُرَب، فعلى هذا تقع المحاصَّة بينها وبين غيرها من الديون.

ومنهم من قال: هي من حقوق الله، فإنه لا مستحقَّ لها معيَّنًا ولا تسقط بإسقاط الآدمي، وهي عقوبةٌ على الكفر وصَغارٌ لأهله.

وعلى هذا فيخرج على الأقوال الثلاثة في تقديم حقّ الله أو حقّ الآدمي أو وقوع المحاصَّة.

ولأصحاب أحمد أيضًا ثلاثةُ أوجهٍ مثل هذه

(7)

.

(1)

في "الرعاية الكبرى"(2/ق 31 أ) نسخة تشستربيتي 3541.

(2)

في الأصل: "ومن". والتصويب من "الرعاية".

(3)

انظر: "نهاية المطلب"(18/ 33).

(4)

قبلها في الأصل: "هذا". ولا موقع لها، وكأنها زائدة.

(5)

في المطبوع: "مستحق بالجزية يحق" تحريف.

(6)

في المطبوع: "ويحق" تحريف.

(7)

كما في "الرعاية الكبرى"(2/ 31 أ).

ص: 140