الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جريجٍ، عن عمرو بن شعيبٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرَّ الناس على ما أسلموا عليه، من طلاقٍ أو نكاحٍ أو ميراثٍ توارثوا عليه. قال ابن جريجٍ: فذكرتُ ذلك لعطاءٍ، فقال: ما بلغنا إلا ذلك.
فصل
في الكافر يكون وليًّا لوليته الكافرة دون المسلمة
قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 72]، وقال:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 74].
قال حنبلٌ
(1)
: سمعت أبا عبد الله يقول: لا يزوِّج النصراني ولا اليهودي، ولا يكون النصراني واليهودي وليًّا.
قال: وسمعت أبا عبد الله قال: لا يَعقِد نصراني ولا يهودي عقدةَ نكاحٍ لمسلم ولا مسلمةٍ، ولا يكونان وليينِ، لا يكون إلا مسلمًا.
وقال في رواية الميموني
(2)
، وقد سأله رجل عن النصراني يكون وليًّا إذا كانت ابنته مسلمةً؟ قال: السلطان أولى.
وقال مهنا
(3)
: سألت أبا عبد الله عن نصراني أو يهودي أسلمت ابنته، أيزوِّجها أبوها وهو نصراني أو يهودي؟ قال: لا يزوِّجها إذا كان نصرانيًّا أو
(1)
المصدر نفسه (1/ 231).
(2)
المصدر نفسه (1/ 230).
(3)
المصدر نفسه (1/ 231).
يهوديًّا، فقلت له: فإن زوَّجها؟ قال: لا يجوز النكاح، يعني يُرَدُّ النكاح. قلت: فعلَ، وأذنت الابنة؟ قال: يعيد النكاح. قلت: يسافر معها؟ قال: لا يسافر معها، ثم قال لي أحمد بن حنبلٍ: ليس هو بمحرمٍ.
قال الخلال
(1)
: وقال في موضع آخر: قلت لا يسافر معها؟ قال: نعم.
قال أبو بكرٍ
(2)
: وهو الصواب، وبيَّنها مهنا مرةً في قوله: لا. قلت: فكيف يسافر معها وتقول
(3)
: يعيد النكاح إذا أنكحها بأمرها؟ قال: نعم، هو يعيد نكاحها إذا أنكحها. قلت: فإن كانت المسلمة
(4)
وأبوها نصراني وهي محتاجةٌ يُجبَر أبوها على النفقة عليها؟ قال: لم أسمع في هذا شيئًا. قلت له: فإن قومًا يقولون: لا يُجبَر على النفقة عليها، فكيف تقول أنت؟ قال: يُعجبني أن ينفق عليها، فقلت له: يُجبَر؟ فقال: يُعجِبني، ولم يقل: يُجبَر.
وقد تضمن هذا النص ثلاثة أمورٍ:
أحدها: أن الكافر لا يصح أن يزوِّج وليتَه المسلمة.
والثاني: أنه لا يكون مَحرمًا.
والثالث: أنه لا يُجبر على النفقة مع اختلاف الدين، وسنذكر الكلام في
(1)
في المصدر نفسه عقب الرواية المذكورة.
(2)
المصدر نفسه.
(3)
في المطبوع: "يقول" خطأ. وضمير الخطاب لأحمد كما في "الجامع".
(4)
كذا في الأصل و"الجامع" بالألف واللام، وحذفهما في المطبوع.
هاتين المسألتين عن قربٍ، إن شاء الله تعالى.
قال حنبلٌ
(1)
: حدثنا شُريح بن النعمان، حدثنا حماد بن سلمة، عن جعفر بن أبي وحشية أن هانئ بن قبيصة زوَّج ابنته من عروة البارقي على أربعين ألفًا، وهو نصراني، فأتاها القعقاع بن شَوْرٍ، فقال: إن أباكِ زوَّجكِ وهو نصراني لا يجوز نكاحه، زوِّجيني نفسَكِ، فتزوَّجها على ثمانين ألفًا، فأتى عروة علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: إن القعقاع تزوَّج بامرأتي، فقال: لئن كنتَ تزوَّجتَ امرأته لأرجُمَنَّك، فقال: يا أمير المؤمنين إنَّ أباها زوَّجها وهو نصراني لا يجوز نكاحه. قال: فمن زوَّجك؟ قال: هي زوَّجتني نفسَها، فأجاز نكاحها وأبطلَ نكاح الأب، وقال لعروة: خذ صداقَك من أبيها.
قال حنبلٌ
(2)
: قال أبو عبد الله: إنما جعل الأمر إليها لأن الأب نصراني لا يجوز حكمه فيها، فردَّ الأمر إليها، ولا بدّ أن يجدّد هذا النكاح الآخر إذا رضيت، وإنما صيَّر لها الأمر بالرضا، ولا يجوز أن تزوِّج نفسها إلا بولي. وعليٌّ حينئذٍ السلطان، فأجاز ذلك وليها، وقال: خذ مهرك من أبيها؛ لأنه لم يكن دخل بها، ولو كان دخل بها لكان المهر لها والعدة عليها.
وقال حربٌ
(3)
: قلت لأحمد: امرأةٌ أبوها نصراني وأخوها مسلم، مَن
(1)
كما في "الجامع"(1/ 231، 232).
(2)
في المصدر المذكور بعد النص السابق.
(3)
"الجامع" للخلال (1/ 233).
يزوِّجها؟ قال: الأخ. قلت: فهل للمشركين من الولاية شيء؟ قال: لا.
وقال صالحٌ
(1)
: قال أبي في امرأةٍ لها أبٌ ذمي ولها أخٌ مسلم، قال: لا يكون الذمي وليًّا.
فصل
فإن تزوَّج المسلم ذميةً بولاية أبيها الذمي، فهل ينعقد النكاح؟
فقال القاضي في "الجامع"
(2)
: لا يجوز النكاح على ظاهر كلام أحمد في رواية حنبلٍ
(3)
: لا يعقد يهودي ولا نصراني عقدَ نكاحٍ لمسلم ولا لمسلمةٍ، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي في قولهما: يجوز.
والدلالة عليه: أن كل عقدٍ افتقرت صحته إلى شهادة مسلمين لا يصح بولاية كتابي، كما لو تزوج مسلمةً.
قال: وعلى هذا القياس لا يلي في مالها كما لا يلي في نكاحها.
وخالف القاضيَ أبو الخطاب، فقال
(4)
: يجوز أن يزوِّج الكافر وليته الكافرة
(5)
من مسلم، قال: لأنه وليها، فصح تزويجه لها كما لو زوَّجها من
(1)
المصدر نفسه (1/ 233).
(2)
لعله "الجامع الكبير"، فليس النصّ في "الجامع الصغير" له.
(3)
انظر: "المغني"(9/ 378).
(4)
كما في "المغني"(9/ 378).
(5)
في الأصل: "المسلمة". والتصويب من هامشه.
كافرٍ، قال: ولأنها امرأةٌ لها وليٌّ مناسبٌ، فلم يجز أن يليها غيره، كما لو تزوجها ذمي.
قال الشيخ في "المغني"
(1)
: وهو أصح.
قلت: هو مخالفٌ لنصِّ أحمد، كما تقدم لفظه.
فصل
ولا يلي المسلم نكاحَ الكافرة، لما تقدَّم من قطع الموالاة بين المسلمين والكفار، إلا أن يكون سلطانًا أو سيدًا لأمةٍ. فإن ولاية السلطان عامةٌ. وأما سيد الأمة فإن له أن يزوِّجها من كافرٍ، وإن لم يملك تزويج ابنته الكافرة من كافرٍ
(2)
.
والفرق بينهما أنه يزوِّجها بحكم الملك، فجاز ذلك كما لو باعها من كافرٍ، بخلاف ابنته، فإنه يزوِّجها بحكم الولاية، وقد انقطعت باختلاف الدين كما انقطع التوارث والإنفاق.
فإن قيل: فما تقولون في أم ولد الذمي إذا أسلمت، هل يلي نكاحها؟
قيل: فيه وجهان لأصحابنا
(3)
:
أحدهما: يليه، لأنها مملوكته، فيلي نكاحها كالمسلم، ولأنه عقد على
(1)
(9/ 378).
(2)
انظر: "المغني"(9/ 377).
(3)
"المغني"(9/ 377).
منافعها، فيليه كما يلي إجارتها.
والثاني: لا يليه لقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 72]، ولأنها مسلمةٌ، فلا يلي نكاحها كابنته.
قال الشيخ في "المغني"
(1)
: وهذا أولى لما ذكرنا من الإجماع. يعني قول ابن المنذر
(2)
: أجمع كل من نَحفظ عنه من أهل العلم أن الكافر لا ولاية له على مسلم بحالٍ.
وقد قال في "المحرر"
(3)
: ولا يلي مسلمٌ نكاحَ كافرةٍ إلا بالملك أو السلطنة. ولا يلي كافرٌ نكاحَ مسلمةٍ إلا بملكٍ نُقِرُّ له عليها، كمن أسلمت أمُّ ولده أو مكاتبتُه أو مدبَّرتُه في وجهٍ. ويلي الكافر نكاحَ موليته الكافرة من كافرٍ ومسلم. وهل يباشر تزويجَ المسلم في المسألتين، أو بشرط أن يباشره بإذنه مسلم أو الحاكم خاصةً؟ فيه ثلاثة أوجهٍ.
قلت: في المسألة الأولى الزوجة هي المسلمة والولي كافرٌ، وفي المسألة الثانية المولية كافرةٌ والزوج مسلم. وقد حكى
(4)
الأوجه الثلاثة في المسألتين، فالصواب أن يقرأ:"وهل يباشر تزويج المسلم في المسألتين" ليعمَّ الصورتين، أي الشخص المسلم. وأما على ما رأيته في النسخ: "وهل
(1)
(9/ 377).
(2)
"الأوسط"(8/ 292).
(3)
(2/ 16، 17).
(4)
في المطبوع: "وقلت على" بدل "وقد حكى".
يباشر تزويج المسلمة؟ " فإنه يختص بالمسألة الأولى، إلا أن يقال: أراد النفس المسلمة.
وبكل حالٍ فمن قال: يباشر تزويجَ المسلم، فحجته أنه يزوِّجها بحكم الملك في المسألة الأولى، ويزوِّج الكافرة بحكم الولاية في المسألة الثانية، وهي ولايةٌ على كافرةٍ، ولا ولاية له على الزوج، فلا يمتنع تزويج الكافرة له.
ومن قال: يعقده الحاكم خاصةً، فحجته انقطاع الولاية بين الكافر والمسلم، فهذه المرأة في حكم من لا وليَّ لها في الصورة الأولى. وأما في الثانية فلما كان الزوج مسلمًا وللولي عليه ولايةٌ مَّا فإنه هو الذي يوجب له عقدَ النكاح، والكافر ليس أهلًا
(1)
لذلك، فكانت الولاية للحاكم.
ومن قال: نأذن لمسلم يباشر العقد فلأنه ولي في الحقيقة، ولكن اتصال هذا العقد بمسلم يمنع من مباشرة الكافر له، فيباشره مسلم بإذن الوليِّ جمعًا بين الحقين: حق الولي وحق المسلم.
فصل
فإن تزوّج المسلم ذميةً بشهادة ذميين، فنصّ أحمد على أنه لا يصح.
قال مهنا
(2)
: سألت أحمد عن رجل مسلم تزوج يهوديةً بشهادة نصرانيين أو مجوسيين، قال: لا يصلح إلا عدولٌ. وهذا قول الشافعي.
(1)
في الأصل: "أهل".
(2)
كما في "الجامع" للخلال (1/ 228).
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: يصح النكاح
(1)
. وخرَّجه الأصحاب
(2)
وجهًا في المذهب بناءً على قبول شهادة بعضهم على بعضٍ.
وحجة من أبطله قوله: "لا نكاحَ إلا بولي وشاهدَيْ عدلٍ"
(3)
، وأن الشهادة إنما شُرطت لإثبات الفراش عند التجاحد، ولا يمكن إثباته بشهادة الكفار، وبأن شهادتهم كلا شهادةٍ، فقد خلا النكاح عن الشهادة، وبأن النكاح لو انعقد بشهادتهما لسمعت شهادتهما على المسلم فيما يرجع إلى حقوق النكاح من وجوب المهر والنفقة والسكنى، وهذا ممتنعٌ.
قال المجوِّزون: الشهادة في الحقيقة للمسلم على الكافرة، لأنهما يشهدان عليها بإثبات ملْكِ بُضْعها له أصلًا، فهي في الحقيقة شهادة كافرٍ على كافرٍ، ونحن نقبلها، فنصحح العقد بها. وأما حقوق النكاح فإنما تثبت ضمنًا وتبعًا، ويثبت في التبع ما لا يثبت في المتبوع، ونظائره كثيرةٌ جدًا.
فصل
ولا يكون الكافر مَحْرمًا للمسلمة. نصَّ عليه أحمد، فقال أبو الحارث
(4)
:
(1)
انظر: "الاختيار لتعليل المختار"(3/ 84).
(2)
انظر: "المغني"(9/ 349).
(3)
أخرجه ابن حبان (4075) من حديث عائشة بزيادة "وشاهدي عدل"، وقال: ولا يصح في ذكر الشاهدين غير هذا الخبر. وإسناده حسن. وراجع كلام الدارقطني (3/ 255 - 256) والبيهقي (7/ 124 - 125) على هذه الزيادة ومن رواها.
(4)
"الجامع" للخلال (1/ 229).
قيل لأبي عبد الله: المجوسي مَحْرمٌ لأمه وهي مسلمةٌ؟ قال: لا.
وقال أبو الحارث أيضًا
(1)
: سئل أبو عبد الله عن امرأةٍ مسلمةٍ لها ابنٌ مجوسي وهي تريد سفرًا، يكون لها مَحْرمًا يسافر بها؟ قال: لا، هذا يرى نكاح أمه، فكيف يكون لها مَحْرمًا وهو لا يُؤمَن عليها؟!
وقال مهنا
(2)
: سألت أحمد عن مجوسي تُسلِم ابنته وهو مجوسي يُفرَّق بينه وبينها؟ قال: نعم، إن كان يتقى منه. فقلت له: وأي شيء يتقى منه؟ فقال: يجامعها.
وقال أبو داود
(3)
: سئل أبو عبد الله عن المجوسي تسلم أخته يُحال بينهما؟ قال: نعم، إذا خافوا أن يأتيها.
قال
(4)
: وسمعت أبا عبد الله يُسأل عن المجوسي يسافر بابنته أو يزوِّجها، قال: ليس هو لها بولي.
وقال علي بن سعيد
(5)
: سألت أحمد عن النصراني واليهودي يكونان مَحْرمًا؟ قال: هما لا يزوّجان، فكيف يكونان مَحْرمًا؟
(1)
المصدر نفسه.
(2)
المصدر نفسه (1/ 230).
(3)
المصدر نفسه.
(4)
المصدر نفسه.
(5)
المصدر نفسه (1/ 230).
وقال مهنا
(1)
: سألت أبا عبد الله عن نصراني أو يهودي أسلمت ابنته، أيزوِّجها أبوها وهو نصراني أو يهودي؟ قال: لا يزوِّجها. فقلت له: فإن زوّجها، قال لا يجوز النكاح. قلت: فعلَ وأذنت الابنة. قال: يعيد النكاح. قلت: يسافر معها؟ قال: لا يسافر معها، ثم قال لي: ليس هو بمَحْرمٍ.
فقد نصَّ على أن مَحْرم المسلمة لا يكون كافرًا.
فإن قيل: فأنتم لا تمنعون من النظر إليها، والخلوة بها، وكونهما في بيت واحدٍ.
قيل: بل نمنعه إذا كان مجوسيًّا، كما نصَّ عليه أحمد. وأما اليهودي والنصراني فلا يؤمن عليها في السفر أن يبيعها أو يقتلها بسبب عداوة الدين، وهذا منتفٍ في خلوته بها، ونظره إليها في الحضر، فافترقا. والمقصود من المَحْرم كمالُ الحفظ والشفقة، وعداوة الدين قد تمنع كمال ذلك.
فصل
فإن قيل: فما تقولون في وجوب الإنفاق على الأقارب مع اختلاف الدين؟ لقوله تبارك وتعالى: {وَعَلَى اَلْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 231]، واختلاف الدين يمنع الميراث.
[قيل: إن كانوا من غير عمودي النسب لم تجب نفقتهم مع اختلاف الدين]
(2)
،
(1)
المصدر نفسه (1/ 231).
(2)
زيد ما بين المعكوفتين ليستقيم السياق. وانظر: "زاد المعاد"(6/ 152).
وأما عمود النسب ففيهم روايتان
(1)
:
إحداهما: لا تجب نفقتهم لذلك.
والثانية: تجب لتأكد قرابتهم بالعصبة
(2)
.
وحكى بعض الأصحاب في وجوب نفقة الأقارب مطلقًا مع اختلاف الدين وجهين، وهذه الطريقة أفقه، فإن اختلاف الدين
(3)
إن منع وجوب الإنفاق منع في سائر الأقارب، وإن لم يكن مانعًا لم يمنع في حق قرابة الكلالة، كالرقّ والغنى. فأما أن يكون مانعًا في قرابةٍ دون قرابةٍ فلا وجه له، ولا يصح التعليل بتأكد القرابة؛ لأن الأخ والأخت أقرب من أولاد البنات.
والذي يقوم عليه الدليل وجوب الإنفاق وإن اختلف الدينان، لقوله تعالى:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 7]، {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 14]، وليس من الإحسان ولا من المعروف تركُ أبيه وأمه في غاية الضرورة والفاقة، وهو في غاية الغنى. وقد ذمَّ الله تبارك وتعالى قاطعي الرحم، وعظَّم قطيعتها، وأوجب حقّها وإن كانت كافرةً، قال تعالى:
(1)
انظر: "المغني"(11/ 375، 376).
(2)
في الأصل: "بالبعضية". والتصويب من هامشه.
(3)
"وجهين
…
الدين" ساقطة من المطبوع.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [الرعد: 26]، وفي الحديث:"لا يدخل الجنةَ قاطعُ رَحِمٍ"
(1)
، و"الرَّحِم معلَّقةٌ بساق العرش تقول: يا ربِّ، صِلْ من وصلني، واقطَعْ من قطعني"
(2)
، وليس من صلة [الرحم]
(3)
تركُ القرابة تَهلِك جوعًا وعطشًا وعُريًا، وقريبه من أعظم الناس مالًا. وصلة الرحم واجبةٌ وإن كانت لكافرٍ، فله دينه وللواصل دينه.
وقياس النفقة على الميراث قياسٌ فاسدٌ، فإن الميراث مبناه على النصرة والموالاة، بخلاف النفقة فإنها صلةٌ ومواساةٌ من حقوق القرابة، وقد جعل الله للقرابة حقًّا وإن كانت كافرةً، فالكفر لا يُسقِط حقوقها في الدنيا، قال الله تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 36].
وكل من ذكر في هذه الآية فحقُّه واجبٌ وإن كان كافرًا، فما بال ذي القربى وحده يخرج من جملة من وصَّى الله بالإحسان إليه؟ ورأس الإحسان
(1)
أخرجه البخاري (5984) ومسلم (2556) من حديث جبير بن مطعم.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (25901) والبيهقي في "شعب الإيمان"(7560) من حديث عبد الله بن عمرو بنحوه. وأخرجه مسلم (2555) من حديث عائشة بلفظ: "الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله".
(3)
ليست في الأصل.
الذي لا يجوز إخراجه من الآية هو الإنفاق عليه عند ضرورته وحاجته، وإلا فكيف يوصى بالإحسان إليه في الحالة التي لا يحتاج إلى الإحسان، ولا يجب له الإحسان أحوجَ ما كان إليه؟ والله سبحانه وتعالى حرَّم قطيعة الرحم وإن كانت كافرةً، وتركُ رحمِه يموت جوعًا وعطشًا وهو من أغنى الناس وأقدرِهم على دفع ضرورته= أعظمُ قطيعةً.
فإن قيل: فهل تقولون بدفع الزكوات والكفارات إليه؟
قيل: إن كان في المسألة إجماعٌ معلومٌ لم يجز مخالفتهم، وإن لم يكن فيها إجماعٌ احتاج القول بعدم الجواز إلى دليلٍ.
والفرق بين الزكاة والنفقة أن الزكاة حقُّ الله فرضَها على الأغنياء، تُصرَف في جهاتٍ معينةٍ، وهي عبادةٌ يُشترط لها النية، ولا تؤدى بفعل الغير، ولا تسقط بمضي الزمان، ولا تجوز على رقيقه وبهائمه. والنفقة بخلاف ذلك، فقياس أحد البابين على الآخر قياسٌ فاسدٌ.
ثم يقال: إن لم يكن بينهما فرقٌ ولا إجماعٌ فالحق التسوية، وإن كان بينهما فرقٌ امتنع الإلحاق.
فصل
ويجوز نكاح الكتابية بنصّ القرآن، قال تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 6]. والمحصنات هنا هن العفائف، وأما المحصنات المحرَّمات في سورة النساء فهن المزوَّجات.
وقيل: المحصنات اللاتي أُبِحن هن الحرائر، ولهذا لم تحلَّ إماء أهل الكتاب.
والصحيح الأول، لوجوهٍ:
أحدها: أن الحرية ليست شرطًا في نكاح المسلمة.
الثاني: أنه ذكر الإحصان في جانب الرجل كما ذكره في جانب المرأة، فقال:{إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ} [المائدة: 6]، وهذا إحصان عفةٍ بلا شكٍّ، فكذلك الإحصان المذكور في جانب المرأة.
الثالث: أنه سبحانه ذكر الطيبات من المطاعم والطيبات من المناكح، فقال تعالى:{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 6].
والزانية خبيثةٌ بنصِّ القرآن، والله سبحانه وتعالى حرَّم على عباده الخبائث من المطاعم والمشارب والمناكح، ولم يبح لهم إلا الطيبات. وبهذا يتبين بطلان قول من أباح تزويج الزواني، وقد بينا بطلان هذا القول من أكثر من عشرين وجهًا في غير هذا الكتاب
(1)
.
(1)
أشار إلى ذلك في "أعلام الموقعين"(5/ 347). وانظر: "زاد المعاد"(5/ 160، 161)، و"إغاثة اللهفان"(1/ 108 - 110)، فقد ذكر فيهما بعض الوجوه. وللتفصيل راجع:"مجموع الفتاوى"(32/ 109 - 134).
والمقصود أن الله سبحانه أباح لنا المحصنات من أهل الكتاب، وفعله أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم، فتزوج عثمان نصرانيةً، وتزوج طلحة بن عبيد الله نصرانيةً، وتزوج حذيفة يهوديةً.
قال عبد الله بن أحمد
(1)
: سألت أبي عن المسلم يتزوج النصرانية أو اليهودية؟ فقال: ما أُحِبُّ أن يفعل ذلك، فإن فعل فقد فعل ذلك بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال صالح بن أحمد
(2)
: حدثني أبي، ثنا محمد بن جعفرٍ، حدثنا سعيد، عن قتادة: أن حذيفة بن اليمان وطلحة بن عبيد الله والجارود بن المعلَّى ــ وذكر آخر ــ تزوَّجوا نساءً من أهل الكتاب، فقال لهم عمر: طلِّقوهن، فطلَّقوا إلا حذيفة. فقال عمر: طلِّقْها. فقال: تشهد أنها حرامٌ؟ قال: هي جَمْرةٌ
(3)
، طلِّقها. فقال: تشهد أنها حرامٌ؟ فقال: هي جَمْرةٌ! قال حذيفة: قد علمتُ أنها جَمْرةٌ، ولكنها لي حلالٌ. فأبى أن يطلِّقها. فلمَّا كان بعدُ طلَّقَها، فقيل له: ألا طلَّقتَها حين أمرك عمر؟ فقال: كرهتُ أن يظن الناس أني ركبتُ أمرًا لا ينبغي.
(1)
"الجامع" للخلال (1/ 240)، وفيه أنها رواية حنبل عن أحمد.
(2)
"الجامع"(1/ 243)، وهو في "مسائله"(2/ 320). وأخرجه عبد الرزاق (10057) عن معمر عن قتادة مختصرًا. وهو مرسل، قتادة لم يُدرك عمر رضي الله عنه.
(3)
في "الجامع": "خمرة" تصحيف.
وقد تأوَّلت الشيعةُ الآية على غير تأويلها، فقالوا:"المحصنات من المؤمنات" من كانت مسلمةً في الأصل، "والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم" من كانت كتابيةً ثم أسلمت.
قالوا: وحمَلَنا على هذا التأويل قوله تعالى: {وَلَا تَنكِحُوا اُلْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 219]، وأي شركٍ أعظم من قولها: الله ثالث ثلاثةٍ؟! وقوله تعالى: {وَلَا تُمَسِّكُوا بِعِصَمِ اِلْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10].
وأجاب الجمهور بجوابين
(1)
:
أحدهما: أن المراد بالمشركات الوثنيات.
قالوا: وأهل الكتاب لا يدخلون في لفظ المشركين في كتاب الله تعالى. قال تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} [البينة: 1]، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [الحج: 17].
وكذلك الكوافر المنهيّ عن التمسك بعصمتهن إنما هن
(2)
المشركات، فإن الآية نزلت في قصة الحديبية، ولم يكن للمسلمين زوجاتٌ من أهل الكتاب إذ ذاك، وغاية ما في ذاك التخصيص، ولا محذورَ فيه إذا دلَّ عليه دليلٌ.
(1)
انظر: "المغني"(9/ 545، 546).
(2)
في الأصل: "هي".
الجواب الثاني: جواب الإمام أحمد، قال في رواية ابنه صالحٍ
(1)
: قال الله تعالى: {وَلَا تَنكِحُوا اُلْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} ، وقال في سورة المائدة، وهي آخر ما نزل من القرآن:{وَاَلْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} .
فصل
فإن قيل: فإذا كان قوله: {وَاَلْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} المراد به إحصان العفة لا إحصان الحرية، فمن أين حرمتم نكاح الأمة الكتابية؟
قيل: الجواب من وجهين
(2)
، أحدهما: أن تحريم الأمة الكتابية لم ينعقد عليه الإجماع، فأبو حنيفة يجوِّزه
(3)
. وقد قال أحمد في رواية ابن القاسم
(4)
: الكراهة في إماء أهل الكتاب ليست بالقوية، إنما هو شيء تأوله الحسن ومجاهدٌ. هذا نصه.
وهذا من نصِّه كالصريح بأنه ليس بمحرَّمٍ، وأقلُّ ما في ذلك توقُّفه عن التحريم، لكن قال الخلال
(5)
: توقُّف أحمد في رواية ابن القاسم لا يَرُدُّ قول
(1)
"الجامع" للخلال (1/ 245). وهي في "مسائله"(2/ 223).
(2)
انظر: "المغني"(9/ 554).
(3)
انظر: "الاختيار لتعليل المختار"(3/ 88).
(4)
"الجامع" للخلال (1/ 279).
(5)
الذي في "الجامع" له (1/ 280): لم ينفذ لأبي عبد الله قول يعمل عليه في هذا، وإنما حكى قلة تقوية ذلك عنده. والعمل على ما روى عنه الجماعة من كراهية ذلك. وانظر:"المغني"(9/ 554).
من قطع. وقد روى عنه هذه المسألة أكثرُ من عشرين نفسًا أنه لا يجوز.
فالمسألة إذن مسألة نزاعٍ، والحجة تَفصِل بين المتنازعين
(1)
.
قال المبيحون: قال الله تعالى: {فَاَنكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ اَلنِّسَاءِ} [النساء: 3]، فإذا طابت له الأمة الكتابية فقد أذن له في نكاحها. وقال تعالى:{وَأَحَلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]، ولم يذكر في المحرمات الأمة الكتابية. وقال تعالى:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32]، والمراد بالصالحين من صلُح للنكاح، هذا أصحُّ التفسيرين. وذهبت طائفةٌ إلى أنه الإيمان
(2)
. والأول أصح، فإن الله سبحانه لم يأمرهم بإنكاح أهل الصلاح والدين خاصةً من عبيدهم وإمائهم، كما لم يخصَّهم بوجوب الإنفاق عليهم، بل يجب على السيد إعفافُ عبده وأمته كما يجب عليه الإنفاق عليه، فإن ذلك من تمام مصالحه وحقوقه على سيده، فقد أطلق الأمر بتزويج الإماء مسلماتٍ كنّ أو كافراتٍ، ولم يمنع من تزويج الأمة الكافرة بمسلم.
(1)
انظر الكلام عليه في "مجموع الفتاوى"(32/ 181 - 190)، و"زاد المعاد"(5/ 177، 178)، و"المغني"(9/ 554)، و"الاستذكار"(16/ 263، 264) و"الحجة على أهل المدينة"(3/ 359، 360).
(2)
انظر: "زاد المسير"(6/ 36).
قالوا: وقد قال: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة: 219]، فدلَّ على جواز نكاح النوعين، وأن هذا خيرٌ من هذا.
قالوا: وقد أباح الله سبحانه وطأهن بملك اليمين، فكذلك يجب أن يباح وطؤهن بعقد النكاح، وعكسهن المجوسيات والوثنيات.
قالوا: فكل جنسٍ جاز نكاح حرائرهم جاز نكاح إمائهم كالمسلمات.
قالوا: ولأنه يجوز نكاحها بعد عتقها، فيجوز نكاحها قبله كالأمة المسلمة.
قالوا: ولأنها يجوز للذمي نكاحها، فجاز للمسلم نكاحها كالحرة الكتابية، وعكسه الوثنية.
قالوا: ولأنه تباح ذبيحتها، فأبيح نكاحها كالحرة.
قال المحرّمون: قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]، فأباح تعالى نكاح الأمة بثلاثة شروطٍ:
أحدها: عدم الطَّول لنكاح الحرة.
والثاني: إيمان الأمة المنكوحة.
والثالث: خشية العَنَت.
فلا تتحقق الإباحة بدون هذه الأمور الثلاثة؛ لأن الفرج كان حرامًا قبل ذلك، وإنما أبيح على هذا الوجه وبهذا الشرط، فإذا انتفى ذلك بقي على
أصل التحريم.
قال المبيحون: غاية هذا أنه مفهومُ شرطٍ، والمفهوم عندنا ليس بحجةٍ.
قال المحرّمون: نحن نساعدكم على أن المفهوم ليس بحجةٍ، ولكن الأصل في الفروج التحريم، ولا يباح منها إلا ما أباحه الله ورسوله، والله سبحانه إنما أباح نكاح الأمة المؤمنة، فيبقى ما عداها على أصل التحريم. على أن الإيمان لو لم يكن شرطًا في الحلّ لم يكن في ذكره فائدةٌ، بل كان زيادةً في اللفظ ونقصانًا من المعنى، وتوهُّمًا لاختصاص الحلِّ ببعض محالِّه، وكلام العقلاء فضلًا عن كلام رب الأرض والسماء يُصان عن ذلك.
يوضحه أن صفة الإيمان صفةٌ مقصودةٌ، فتعليق الحكم بها يدلُّ على أنها هي العلة في ثبوته، ولو أُلغيت الأوصاف التي عُلِّقت بها الأحكام لفسدت الشريعة، كقوله:{وَاَلَّذِينَ يَرمُونَ اَلْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4]، وقوله:{وَاَلْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلنِّسَاءِ} [النساء: 24]، ونظائره أكثر من أن تحصر.
قال المبيحون: لا يمكنكم الاستدلال بالآية؛ لأن الله سبحانه قال: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]، فلم يبح نكاح الأمة إلا عند عدم الطول لنكاح الحرة المؤمنة.
وقلتم: لا يباح له نكاح الأمة إذا قَدَر على حرةٍ كتابيةٍ، فألغيتم وصف الإيمان في الأصل، فكيف تنكرون على من ألغاه في البدل؟
قال المحرمون ــ واللفظ لأبي يعلى ــ: لو خلّينا والظاهر لقلنا: إيمان
المحصنات شرطٌ، لكن قام دليل الإجماع على تركه، ولم يقم دليل على ترك شرطه في الفتيات.
قلت: لم تُجمِع الأمّة
(1)
على أن إيمان المحصنات ليس شرطًا، بل أحد الوجهين للشافعية: أنه إذا قدر على نكاح حرةٍ كتابيةٍ، ولم يقدر على نكاح حرةٍ مسلمةٍ، أنه ينتقل إلى الأمة. وهذا قول قوي، وظاهر القرآن يقتضيه. وقد يقال: إن آية النساء متقدمةٌ على آية المائدة التي فيها إباحة المحصنات من أهل الكتاب، قال تعالى:{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 6]، فحينئذ أبيح نكاح الكتابيات.
قال المحرمون: قال الله تعالى: {وَاَلْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} ، والإحصان هاهنا هو إحصان الحرية.
قال القاضي إسماعيل في "أحكام القرآن"
(2)
: يقع الإحصان على العفة، ويقع على الحرية، وإنما أريد بهذا الموضع الحرية؛ لأنه لو أريد به العفة لما جاز لمسلمٍ أن يتزوج نصرانيةً ولا يهوديةً حتى يثبت عفتها، ولما جاز له أيضًا أن يتزوج ــ بهذه الآية ــ مسلمةً حتى يثبت عفتها؛ لأن اللفظ جاء في
(1)
في الأصل: "لم يجمع على الأمة".
(2)
طُبع منه قطعة ليس فيها هذا النص. وانظر مختصره المطبوع حديثًا (2/ 251). وانظر كلام شيخ الإسلام في معنى الإحصان في "مجموع الفتاوى"(32/ 121 - 123).
الموضعين على شيء واحدٍ، فعُلِم أنهن الحرائر المؤمنات والحرائر من
(1)
أهل الكتاب، لأن الله تعالى قال:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25].
وقد حدثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان، أخبرنا ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ: لا يحل نكاح إماء أهل الكتاب؛ لأن الله تعالى قال: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ}
(2)
.
حدثنا علي، حدثنا يزيد بن زُريعٍ، ثنا يونس: كان الحسن يكره أن يتزوج الأمة اليهودية والنصرانية، وقال: إنما رخّص الله في الأمة المسلمة، قال تعالى:{مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ}
(3)
.
ثم ذكر المنع من نكاح الأمة الكتابية عن إبراهيم ومكحولٍ وقتادة ويحيى بن سعيد، وعن الفقهاء السبعة. وأرفع ما روى فيه عن جابر بن عبد الله.
(1)
في الأصل: "هن". والمثبت يقتضيه السياق.
(2)
أخرجه سعيد بن منصور (619 - تفسير) وابن أبي شيبة (16438) والطبري (6/ 599) من طرق عن سفيان به. ولفظه في أكثر الطرق: "لا ينبغي"، وعند سعيد:"لا يصلح".
(3)
أخرجه ابن المنذر في "تفسيره"(2/ 649) من طريق آخر عن يزيد بن زريع به. وأخرج ابن أبي شيبة (16436) من طريق آخر عن الحسن بنحو معناه.
قال القاضي
(1)
: حدثنا ابن أبي أُويسٍ، حدثنا ابن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة، عن أبي الزبير قال: سألت جابرًا عن الرجل له عبد مسلم، وأمةٌ نصرانيةٌ، أينكحها إياه؟ قال: لا
(2)
.
قال المبيحون: لم يُجمِع الناس على أن الإحصان هاهنا إحصان الحرية.
قال سفيان بن عيينة، عن مطرفٍ، عن عامر:{وَاَلْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} ، قال: إذا أحصنت فرجها، واغتسلت من الجنابة
(3)
.
وصحَّ عن مجاهدٍ: {وَاَلْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} ، قال: هن العفائف
(4)
.
قالوا: ولو طولبتم بموضع واحدٍ من القرآن أريد بالإحصان فيه الحرية لا يصلح لغيرها لم تجدوا إليه سبيلًا، والذي اطَّرد مجيء القرآن به في هذه اللفظة شيئان: العفة والتزويج، وأما الإسلام والحرية فلم يتعين إرادة واحدٍ منهما باللفظ.
وقولكم: إنه لو أريد به العفة لما جاز التزوُّج بالكتابية ولا بالمسلمة إلا
(1)
هو القاضي إسماعيل كما تقدم.
(2)
لم أجده في المصادر الأخرى، وإسناده لا بأس به.
(3)
أسنده عبد الرزاق (10066) عن ابن عيينة به.
(4)
أسنده ابن أبي شيبة (17696) والطبري (6/ 570).
بعد ثبوت عفتها، فهذا هو الذي دلَّ عليه الكتاب والسنة في غير موضع.
ومن محاسن الشريعة تحريم نكاح البغايا، فإنه من أقبح الأمور، والناس إذا اجتهدوا في تعيير الرجل قالوا: زوجُ بَغِيٍّ، ومثل هذا فطرةٌ فطر الله عليها الخلق، فلا تأتي شريعةٌ بإباحته.
والبغيُّ خبيثةٌ، والله سبحانه حرَّم الخبائث من المناكح كما حرَّمها من المطاعم، ولم يُبِح نكاح المرأة إلا بشرط إحصانها، وقال في نكاح الزواني:{وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3]، ولم ينسخ هذه الآيةَ شيء. ويكفي في نكاح الحرة عدم اشتهار زناها، فإن الأصل عفتها، فعفتها ثابتةٌ بالأصل، فلا يشقُّ اشتراطها، فإذا اشتهر زناها حرم نكاحها، فإذا تابت فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
وأما ما ذكرتم عن جابرٍ رضي الله عنه والتابعين من التحريم فقد عارضهم آخرون.
قال ابن أبي شيبة
(1)
: حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن مغيرة، عن أبي مَيْسرة قال: إماء أهل الكتاب بمنزلة حرائرهم.
(1)
في "المصنف"(16435). وأسنده الخلال في "أحكام أهل الذمة"(1/ 280) من طريق الأثرم عن الإمام أحمد، والطبري في "تفسيره"(6/ 600) عن ابن حميد، كلاهما عن جرير به. قال الأثرم لأحمد: مغيرة عن أبي ميسرة مرسل هكذا؟ قال: "نعم هو مرسل". أي: لأن مغيرة بن مقسم الضبي لم يُدرك أبا ميسرة عمرو بن شرحبيل الهمداني، فإنه من كبار التابعين توفي سنة 63.
قال المحرِّمون: وأما قياسكم التزوج بالأمة الكتابية على وطئها فقياسٌ فاسدٌ جدًّا، فإن واطئ الأمة بملك اليمين ينعقد ولده حرًّا مسلمًا، فلا يضرُّ وطء الأمة الكافرة بملك اليمين. وأما واطئ الأمة بعقد النكاح فإن ولده ينعقد رقيقًا لمالك الأمة، وفي ذلك التسببُ إلى إثبات ملك الكافر على المسلم، فافترقا.
ولهذا يجوز وطء الأمة المسلمة بملك اليمين، ولا يجوز وطؤها بعقد النكاح إلا عند الضرورة بوجود الشرطين، وما ثبت للضرورة يقدَّر بقدرها، ولم يجز أن يتعدَّى، والضرورة تزول بنكاح الأمة المسلمة، فيُقتصَر عليها كما اقتُصِر في جواز أكل الميتة ولحم الخنزير على قدر الضرورة.
قال المبيحون: هذا ينتقض عليكم بما لو كانت الأمة الكافرة كبيرةً لا يَحبَلُ مثلها، أو كانت لمسلم، فإن الولد لا يثبت عليه ملك كافرٍ.
قال المحرِّمون: أليس الجواز يفضي إلى هذا فيما إذا كانت الأمة لكافرٍ، وهي ممن تحبل؟ ولم يفرِّق أحدٌ. بل القائل قائلان: قائل بالجواز مطلقًا، وقائل بالمنع مطلقًا، والشارع إذا منع من الشيء لمفسدةٍ تتوقع منه سدَّ بابَ تلك المفسدة بالكلية. ولهذا لما حرم نكاح الأمة إلا عند عدم الطول وخوف العَنَت خشية إرقاقِ الولد= لم يبح نكاح العاقر التي لا تَحْبَل ولا تلد بدون الشرطين.
قالوا: وأما قولكم: إنه يجوز
(1)
نكاحها بعد العتق فجاز قبله= فحاصله
(1)
في المطبوع: "لا يجوز"، وهو يقلب المعنى، ويخالف الأصلَ وما تقدم ذكره (ص 564).
قياس الأمة الكتابية على الحرة، وهو قياسٌ باطلٌ لما عُلِم من الفرق.
وأما قولكم: إنه يجوز للكافر نكاحها، فجاز للمسلم= فمن أبطل القياس، فإن المجوسية يجوز للمجوسي نكاحها، ولا يجوز للمسلم، والخمر والخنزير مالٌ عندهم دون المسلمين.
وأما قياسكم حلَّ النكاح على حلِّ الذبيحة فقياسٌ فاسدٌ، فإن الرقّ لا تأثير له في الذبائح، وله تأثيرٌ في النكاح.
قالوا: وأما قوله تعالى: {فَاَنكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ اَلنِّسَاءِ} [النساء: 3]، فالمراد به ما حلَّ وأُذِن فيه، وهو سبحانه لم يأذن إلا في ثلاثة أصنافٍ من النساء: الحرائر من المسلمات، والحرائر من الكتابيات، والإماء من المسلمات، فبقي الإماء الكتابيات لم يأذن فيهن، فبقين على أصل التحريم. ولمّا أذن في وطئهن بملك اليمين قلنا بإباحته.
وأما قوله تعالى: {وَأَحَلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]، ففي الآية ما يدلُّ على التحريم، وهو قوله:{مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} ، أي غير زناةٍ. والتزوُّج بمن لم يبح الله التزوّج بها حرامٌ باطلٌ، فيكون زنًا. على أنه عامٌّ مخصوصٌ بالإجماع، والعامُّ إذا خُصَّ فمن الناس من لا يحتجُّ به، والأكثرون على الاحتجاج به، لكنه إذا تطرق إليه التخصيص ضعف أمره. وقيل: التخصيص بالمفهوم والقياس وقول الصحابي وغير ذلك.
وأما قوله تعالى: {وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٌ} [البقرة: 219]، فمن استدلَّ به فقد أبعد النُّجعة جدًّا، وهو إلى أن يكون حجةً عليه أقرب.
قالوا: وحكمة الشريعة تقتضي تحريمها، لاجتماع النقصين
(1)
فيها، وهما نقص الدين ونقص الرق، بخلاف الحرة الكتابية والأمة المسلمة، فإن أحد النقصين جُبِر
(2)
بعدم الآخر.
قالوا: وقد كانت قضية المساواة في الكفاءة تقتضي كون المرأة كفؤًا للرجل كما يكون الرجل كفؤًا لها، ولكن لما كان الرجال قوَّامين على النساء، والنساء عَوانٍ عندهم، لم يشترط مكافأتهن للرجال، وجاز للرجل أن يتزوَّج من لا تكافئه لحاجته إلى ذلك. فإذا فقدت صفات الكفاءة جملةً بحيث لم يوجد منها صفةٌ واحدةٌ في دينٍ ولا حريةٍ ولا عفةٍ اقتضت محاسن الشريعة صيانته عنها بتحريمها عليه.
فهذا غاية ما يقال في هذه المسألة، والله أعلم.
فصل
قال القاضي: يكره نكاح الكتابية، فإن فعل عَزَلَ عنها. نصَّ عليه في رواية ابن هانئٍ.
قلت: هذا وهم من القاضي، وإنما الذي نصّ عليه أحمد ما رواه عنه ابنه عبد الله
(3)
، قال: أكره أن يتزوج الرجل في دار الحرب، أو يتسرى من أجل ولده.
(1)
في الأصل: "النقيضين" هنا وفيما يأتي. وهو تحريف.
(2)
في الأصل: "أجبر". والفعل بهذا المعنى ثلاثي.
(3)
في "مسائل الإمام أحمد" بروايته (1261).
وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم
(1)
: لا يتزوج ولا يتسرى الأسير في دار الحرب، وإن خاف على نفسه لا يتزوج.
وقال في رواية حنبلٍ
(2)
: ولا يتزوج الأسير، ولا يتسرى بمسلمةٍ، إلا أن يخاف على نفسه، فإذا خاف على نفسه لا يطلب الولد.
ولم يقل أحمد: إنه إذا تزوج الكتابية في دار الإسلام يعزِل عنها. ولا وجه لذلك البتة.
فصل
ويجوز نكاح السامرة، فإنهم صنفٌ من اليهود، وإن كانوا فيهم بمنزلة أهل البدع في المسلمين، فإنهم يدينون بزعمهم بالتوراة، ويَسْبِتون مع اليهود.
وأما الصابئة فهل تجوز مناكحتهم؟ قال القاضي: ظاهر كلام أحمد يقتضي روايتين:
إحداهما: أنهم صنفٌ من اليهود، قال في رواية محمد بن موسى
(3)
في الصابئين: بلغني أنهم يسبتون، فهؤلاء إذا أَسْبتوا
(4)
يُشبِهون اليهود.
(1)
"مسائله"(2/ 122).
(2)
انظر: "المبدع"(7/ 5).
(3)
"الجامع" للخلال (2/ 438، 439)، و"المغني"(9/ 547).
(4)
كذا في الأصل و"الجامع"، وغيَّره في المطبوع إلى "سبتوا". وقد ورد الفعل ثلاثيًّا ورباعيًّا في اللغة.
والثانية: أنهم صنفٌ من النصارى، قال في رواية حنبلٍ
(1)
: الصابئون جنسٌ من النصارى، إذا كان لهم كتابٌ أُكِل من طعامهم.
قال القاضي: فينظر في حالهم، فإن وافقوا اليهود والنصارى في أصل دينهم وخالفوهم في الفروع جازت مناكحتهم، وإن خالفوهم في أصل دينهم لم تجز مناكحتهم، وقد تقدمت المسألة مستوفاةً في أول الكتاب
(2)
.
فصل
قال القاضي: ومن كان متمسكًا بغير التوراة والإنجيل كزبور داود وصحف شِيث وإبراهيم، هل يُقَرُّون على ذلك؟ وهل تحلُّ مناكحتهم وذبائحهم؟ على وجهين
(3)
:
أحدهما: يُقَرُّون ويناكحون، على ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصورٍ
(4)
وقد سئل عن نكاح المجوس، فقال: لا يعجبني إلا من أهل الكتاب. فأطلق القول في أهل الكتاب، ولم يخص أهل الكتابين.
وقال في رواية حنبلٍ
(5)
: قال تعالى: {وَلَا تَنكِحُوا اُلْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 219]، مشركات العرب الذين يعبدون الأصنام. ففسَّر الآية
(1)
"الجامع"(2/ 438).
(2)
انظر: (ص 129 وما بعدها).
(3)
انظر: "المغني"(9/ 547).
(4)
"الجامع"(1/ 244).
(5)
المصدر نفسه (1/ 245).
على عبدة الأصنام. وظاهر هذا أن ما عدا عبدة الأوثان غير منهيّ عن نكاحهن.
والوجه الثاني: لا تجوز مناكحتهم ولا يُقَرُّون. وهو قول أصحاب الشافعي.
وجه الأول قوله: {وَاَلْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْكِتَابَ} ، وهذا عامٌّ في كل كتابٍ، ولأنه متمسكٌ بكتابٍ من كتب الله أشبهَ أهلَ التوراة والإنجيل.
ووجه الثاني تعليلان:
أحدهما: أن الكتاب ما كان منزلًا كالتوراة والإنجيل والقرآن، فأما ما لم يكن كذلك فليس بكتابٍ، بل يكون وحيًا وإلهامًا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"أتاني آتٍ من ربي، فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرةٌ في حجةٍ"
(1)
، وقال:"وأمرني أن آمر أصحابي بالتلبية"
(2)
، ولم يكن ذلك قرآنًا، وإنما كان وحيًا. ولأن هذه الكتب وإن كانت منزلة ولكنها اشتملت على مواعظ، ولم تشتمل على أحكامٍ، وهي الأمر والنهي، فضعفت في بابها.
قلت: ليس في الدنيا من يتمسَّك بهذه الكتب ويكفُر بالتوراة والإنجيل البتةَ، فهذا القسم مقدَّرٌ لا وجود له، بل كل من صدَّق بهذه الكتب وتمسَّك بها فهو مصدِّقٌ بالكتابين أو أحدهما، ولهذا لم يخاطبهم الله سبحانه في
(1)
أخرجه البخاري (1534، 2337) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(2)
أخرجه أحمد (16567) وأبو داود (1814) والترمذي (829) وغيرهم من حديث السائب بن خلّاد، وإسناده صحيح.
القرآن بخصوصهم، بل خاطبهم مع جملة أهل الكتاب.
وأما قوله: إن الكتاب عامٌّ في قوله: {وَاَلْمُحْصَنَاتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْكِتَابَ} ، فعُرْف القرآن من أوله إلى آخره في الذين أوتوا الكتاب أنهم أهل الكتابين خاصةً، وعليه إجماع المفسرين والفقهاء وأهل الحديث.
فصل
قال أحمد في رواية الميموني
(1)
وقد سأله: هل ينكح اليوم الرجلُ ــ مع كثرة النساء ــ في أهل الكتاب؟ فقال: نعم، قد رخّص لنا في ذلك غير واحدٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال في رواية مهنا
(2)
: يتزوَّج
(3)
الرجل المرأتين من أهل الكتاب لا بأس به، قيل له: وثلاثٌ؟ قال: وثلاثٌ، قيل له: وأربع؟ قال: وأربع. وذكره عن سعيد بن المسيب.
فصل
وأما المجوس فلا تحلُّ مناكحتهم ولا أكلُ ذبائحهم، وليس لهم كتابٌ. نصَّ على ذلك في رواية إسحاق بن إبراهيم وأبي الحارث وغيرهما.
(1)
"الجامع"(1/ 244).
(2)
المصدر نفسه (1/ 248).
(3)
في الأصل: "يزوج". والمثبت من "الجامع".
فقال في رواية إسحاق
(1)
: لا فرَّج الله عمن يقول هذه المقالة، يعني نكاح المجوس وأكل ذبائحهم.
ونصَّ على أنه لا كتاب لهم في رواية الميموني
(2)
، فقال: المجوس ليس لهم كتابٌ، ولا تؤكل ذبيحتهم ولا ينكحون.
وقال في رواية محمد بن موسى
(3)
، وقد سئل: أيصحُّ عن علي أن المجوس أهل كتابٍ؟ فقال: هذا باطلٌ، واستعظمه جدًّا، وقال: إن قومًا قد أساؤوا
(4)
، يقولون هذا القول، وهو قول سوءٍ. فقد نصَّ على تحريم مناكحتهم، وعلى أنه لا كتاب لهم.
وقد ذكر ابن المنذر
(5)
عن حذيفة أنه تزوَّج بمجوسيةٍ، فقال له عمر: طلقها. ولكن ضعفه أحمد في رواية المروذي
(6)
، وقد سأله عن حديث ابن عونٍ عن محمد أن حذيفة تزوَّج مجوسيةً، فأنكره، وقال: الأخبار على خلافه. قال المروذي: قلت لأبي عبد الله: ثبت عندك؟ قال: لا.
(1)
"الجامع"(1/ 241).
(2)
"الجامع"(2/ 469).
(3)
"الجامع"(2/ 468).
(4)
في "الجامع": "قد فشوا".
(5)
"الأوسط"(8/ 476).
(6)
"الجامع"(1/ 240، 241).
وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم
(1)
: روى الداناج وأبو وائلٍ أنه تزوج يهوديةً.
وروى المروزي عن الشافعي قولين
(2)
، أحدهما: يجوز مناكحتهم، وبناهما على أنه هل لهم كتابٌ أم لا؟ وأنكر غيره من أصحاب الشافعي هذا النقل والبناء، وقال: لو قلنا: تحلُّ مناكحتهم إذا قلنا لهم كتابٌ، لوجب أن نقول: لا يُقَرُّون بالجزية إذا قلنا لا كتاب لهم.
وقال أبو ثورٍ: يجوز مناكحتهم وأكل ذبائحهم، قال المرُّوذي
(3)
: قلت لأحمد: إن أبا ثورٍ يحتج بأنهم أهل كتابٍ. فقال: وأيُّ كتابٍ لهم؟
قال القاضي: فإن قيل: فكيف استجاز أحمد في رواية إبراهيم أن يدعو على من يجيز نكاح المجوس وهو مما يسوغ فيه الاجتهاد، لأنكم قد رويتم ذلك عن حذيفة وأبي ثورٍ؟ وخرَّجه بعض أصحاب الشافعي قولًا له.
(1)
المصدر نفسه (1/ 241). وتصحف فيه "الداناج" إلى "الداتاج"، ولم يعرفه المحقق. وهو عبد الله بن فيروز من رجال "الصحيحين"، والداناج معَّرب "دانا" بالفارسية بمعنى العالم.
(2)
انظر: "روضة الطالبين"(7/ 135، 136). قال الجويني في "نهاية المطلب"(12/ 245): المذهب الذي عليه التعويل تحريم مناكحتهم وذبيحتهم، واختلف قول الشافعي في أنه هل كان لهم كتاب فرُفِع من بين أظهرهم أو لم يكن لهم كتاب أصلًا؟
(3)
"الجامع"(1/ 241).
قيل له: أما ما رُوي عن حذيفة فقد بينَّا ضعفه، وأما أبو ثورٍ فيحتمل أن أحمد لم يظهر له خلافه في ذلك الوقت. وكذلك هذا القائل من الشافعية
(1)
؛ لأنه حدث بعد أحمد، ولم يظهر هذا في وقته عن الشافعي. والذي يبين هذا ما قاله في رواية المرُّوذي
(2)
: ما اختلف أحدٌ في نكاح المجوس أو ذبائحهم، اختلفوا في اليهود والنصارى، فأما المجوس فلم يختلفوا، وضعَّف ما جاء فيه.
قلت: قوله "لعله لم يظهر له خلافه" جوابٌ فاسدٌ، فإنه قد حكي له أن أبا ثورٍ يجيز نكاح المجوس، فقال: أبو ثورٍ كاسمه
(3)
، ودعا عليه، وقال: لا فرَّج الله عمن يقول بهذا القول. والمسألة عنده مما لا يسوغ فيها الاجتهاد، لظهور إجماع الصحابة على تحريم مناكحتهم. وهذا مما يدلُّ على فقه الصحابة، وأنهم أفقه الأمة على الإطلاق، ونسبةُ فقه من بعدهم إلى فقههم كنسبة فضلهم إلى فضلهم، فإنهم أخذوا في دمائهم بالعصمة، وفي ذبائحهم ومناكحتهم بالحرمة، فردُّوا الدماء إلى أصولها، والفروج والذبائح إلى أصولها.
(1)
هو أبو إسحاق المروزي (ت 340) كما تقدم، وذكره النووي في "روضة الطالبين"(7/ 136) مع أبي عبيد بن حربويه (ت 319) من المجيزين لنكاح المجوسيات.
(2)
"الجامع"(1/ 241).
(3)
انظر: "الرد على السبكي" لابن تيمية (1/ 14)، و"طبقات الشافعيين" لابن كثير (ص 99)، و"تفسير ابن كثير"(3/ 37) ط. الشعب.