المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الكتاب الذي بأيدي الخيابرة الذي يدعون أنه بخط علي في إسقاط الجزية عنهم باطل - أحكام أهل الذمة - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌ سبب وضع الجزية

- ‌ يجوز أخذها مما تيسَّر من أموالهم

- ‌الكتاب الذي بأيدي الخَيابرة الذي يدَّعون أنه بخط علي في إسقاط الجزية عنهم باطلٌ

- ‌فصلفي بني تغلب وأحكامهم

- ‌فصل في السَّامرة

- ‌اختلاف الفقهاء فيهم: هل يُقَرُّون بالجزية أم لا

- ‌فصل في الصابئة

- ‌عدم الإحاطة بمذهبهم ودينهم

- ‌فصلفي الجزية والخراج وما بينهما من اتفاقٍ وافتراقٍ

- ‌ أصل الخراج وابتداء وضْعِه

- ‌الأرض ستة أنواعٍ:

- ‌النوع الثالث: ما ملك عن الكفار عَنْوةً وقهرًا

- ‌فصلفي كراهة الدخول في أرض الخراج

- ‌ذكر أحكام أهل الذمة في أموالهم

- ‌فصلفي الأمكنة التي يُمنع أهل الذمة من دخولها والإقامة بها

- ‌ذكر معاملتهم عند اللقاء وكراهة أن يُبدَؤوا بالسلام، وكيف يُرَدُّ عليهم

- ‌فصلفي عيادة أهل الكتاب

- ‌فصلفي شهود جنائزهم

- ‌فصلفي تعزيتهم

- ‌فصلفي تهنئتهم

- ‌فصلفي المنع من استعمال اليهود والنصارى في شيء من ولايات المسلمين وأمورهم

- ‌فصل(1)في سياق الآيات الدالَّة على غشِّ أهل الذمة للمسلمين وعداوتهم وخيانتهم

- ‌فصلفي أحكام ذبائحهم

- ‌المسألة الرابعة: إذا ذبحوا ما يعتقدون حلَّه، فهل تحرم علينا الشحوم المحرمة عليهم

- ‌ذكر أحكام معاملتهم

- ‌فصلفي البيع والشراء منهم

- ‌فصلفي شركتهم ومضاربتهم

- ‌فصلفي استئجارهم واستئجار المسلم نفسه منهم

- ‌فصلفي حكم أوقافهم ووقف المسلم عليهم

- ‌فصلفي أحكام نكاحهم ومناكحاتهم

- ‌فصلولو زوَّج الكافرُ ابنَه الصغير أكثرَ من أربع نسوةٍ، ثم أسلم الزوج والزوجات= لم يكن له الاختيار قبل بلوغه، فإنه لا حكم لقوله

- ‌فصل(4)نقرُّ أهل الذمة على الأنكحة الفاسدة بشرطين:

- ‌فصولٌ في أحكام مهورهم

- ‌فصل(2)في ضابط ما يصحُّ من أنكحتهم وما لا يصحُّ

- ‌فصلفي الكافر يكون وليًّا لوليته الكافرة دون المسلمة

- ‌فصلللمسلم إجبارُ زوجته الذمية على الغسل من الحيض

الفصل: ‌الكتاب الذي بأيدي الخيابرة الذي يدعون أنه بخط علي في إسقاط الجزية عنهم باطل

ورأيت لشيخنا في ذلك فصلًا نقلتُه من خطه بلفظه، قال

(1)

: و‌

‌الكتاب الذي بأيدي الخَيابرة الذي يدَّعون أنه بخط علي في إسقاط الجزية عنهم باطلٌ

، وقد ذكر ذلك الفقهاء من أصحابنا وأصحاب الشافعي وغيرهم، كأبي العباس بن سُرَيج

(2)

والقاضي أبي يعلى والقاضي الماوردي وأبي محمد المقدسي وغيرهم، وذكر الماوردي

(3)

أنه إجماعٌ. وصدَق.

قال: هذا الحكم ثابتٌ بالكتاب والسنة والإجماع، ثابتٌ بالعموم لفظًا ومعنى، وهو عمومٌ منقول بالتواتر لم يخصَّه أحدٌ من علماء الإسلام، ولا دليلٌ من أدلَّة

(4)

الشرع، فيمتنع تخصيصه بما لا تُعرف صحته، ولا وجد أيضًا في الشريعة [معنًى] للتخصيص، فإن الواحد من المسلمين ــ مثل أبي بُردة بن نِيار

(5)

وسالمٍ [مولى] أبي حذيفة

(6)

ــ إنما خُصَّ بحكمٍ لقيام معنًى

(1)

نقل البعلي بعضَه في "الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية لابن تيمية"(ص 457، 458). وانظر: "مجموع الفتاوى"(28/ 664).

(2)

في المطبوع: "شريح"، تحريف.

(3)

قال في "الأحكام السلطانية"(ص 223): "ويهود خيبر وغيرهم في الجزية سواء بإجماع الفقهاء". وكذا في "الأحكام السلطانية" لأبي يعلى (ص 154).

(4)

في الأصل: "شيء أوله" تحريف.

(5)

في المطبوع: "دينار"، تحريف. خصَّه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه تَجزي عنه جذعة في الأضحية وقال:"ولن تَجزي عن أحدٍ بعدك"، وذلك لأنه تعجَّل الذبح قبل الصلاة، ولم يبقَ له شيء يذبحه بعد الصلاة غير جذعة من المعز. أخرجه البخاري (955) ومسلم (1961) من حديث البراء.

(6)

وذلك حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم امرأة أبي حذيفة سهلة بنت سهيل أن تُرضعه بعد ما قد بلغ مبلغ الرجال، لتَحْرُم عليه، وكان قد تبنَّاه أبو حذيفة، فكان يدخل عليها قبل نزول آيات الأحزاب في النهي عن التبنِّي. أخرجه البخاري (4000) ومسلم (1453) من حديث عائشة. ورأت عامَّة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عدا عائشة أن رضاع الكبير كانت رخصة أرخصها النبي صلى الله عليه وسلم لسالمٍ خاصَّة. أخرجه مسلم (1454).

ص: 75

اختصَّ به، وليس كذلك اليهود وأعقابهم، بل الخيابرة قد صدر منهم محاربة الله ورسوله وقتالُ عليٍّ لهم ما يكونون به أحقَّ بالإهانة، فأما الإكرام وترك الجهاد إلى الغاية التي أمر الله بها في أهل دينهم فلا وجهَ له.

وأيضًا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضرب جزيةً راتبةً على من حاربه من اليهود، لا بني قَينُقَاع ولا النضير ولا قُريظة ولا خيبر، بل نفى بني قينقاع إلى أَذرِعاتٍ، وأجلى النَّضير إلى خيبر، وقتل قريظة، وقاتل أهلَ خيبر فأقرَّهم فلّاحين ما شاء الله، وأمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، لكن لما بعث معاذًا إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالمٍ دينارًا أو عِدْلَه مَعافرَ.

قلت: ومقصود شيخنا: أن أهل خيبر وغيرهم من اليهود كانوا في حكمه سواءً، فلم يأخذ الجزية من غيرهم حتى

(1)

أسقطها عنهم، فإن الجزية إنما نزلت فريضتها بعد فراغه من اليهود وحربهم، فإنها نزلت في سورة براءة عامَ حجة الصديق رضي الله عنه سنة تسعٍ، وقتاله لأهل خيبر كان في السنة السابعة، وكانت خيبر بعد صلح الحديبية جعلها الله سبحانه شُكرانًا لأهل الحديبية وصبرهم، كما جعلَ فتحَ قريظة بعد الخندق شُكرانًا وجَبْرًا لما حصل للمسلمين في تلك الغزوة، وكما جعل النَّضير بعد أحدٍ كذلك، وجعل قينقاع

(1)

في هامش الأصل: "حين" بعلامة خ.

ص: 76

بعد بدرٍ. وكل واقعةٍ من وقائع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعداء الله اليهود كانت بعد غزوةٍ من غزوات الكفّار، ولم تكن الجزية نزلتْ بعدُ، فلما نزلتْ أخذَها رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى نجران، وهم أول من أُخِذتْ منهم الجزية كما تبيَّن، وبُعِث معاذٌ فأخذَها من يهود اليمن.

فإن قيل: فلِمَ [لَم] يأخذْها من أهل خيبر بعد نزولها؟

قيل: كان قد تقدَّم صلحُه لهم على إقرارهم في الأرض بنصف ما يخرج منها ما شاء، فوفَى لهم عهدَهم، ولم يأخذ منهم غيرَ ما شرط عليهم. فلما أجلاهم عمر رضي الله عنه إلى الشام ظنُّوا أنهم يستمرُّون على أن يُعفَوا منها، فزوَّروا كتابًا يتضمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقطها عنهم بالكلية، وقد صنَّف الخطيب والقاضي وغيرهما في إبطال ذلك الكتاب تصانيفَ، ذكروا فيها وجوهًا تدلُّ على أن ذلك الذي بأيديهم موضوعٌ باطلٌ

(1)

.

قال شيخنا: ولما كان عام إحدى

(2)

وسبعمائةٍ أَحضر جماعةٌ من يهود دمشق عهودًا ادَّعَوا أنها قديمةٌ، وكلُّها بخط علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد غَشَّوها بما يقتضي

(3)

تعظيمها، وكانت قد نَفَقَتْ على ولاة الأمور من مدةٍ طويلةٍ، فأُسقِطت عنهم الجزية بسببها، وبأيديهم تواقيعُ ولاةٍ، فلما وقفتُ عليها تبيَّن في نفسها ما يدلُّ على كذبها من وجوهٍ كثيرةٍ جدًّا.

(1)

تقدم الكلام عليه في أول الكتاب (ص 12 - 14).

(2)

كذا في الأصل، كأنه أراد:"سنة إحدى".

(3)

في الأصل: "يتقضى" سهوًا.

ص: 77

منها: اختلاف الخطوط اختلافًا متفاقمًا في تأليف الحروف، الذي يُعلَم معه أن ذلك لا يصدر عن كاتبٍ واحدٍ، وكلها نافيةٌ أنه خطُّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

ومنها: أن فيها من اللحن الذي يخالف لغةَ العرب مما لا يجوز نسبةُ مثله إلى علي رضي الله عنه ولا غيره.

ومنها: الكلام الذي لا يجوز نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حقِّ اليهود، مثل قوله: إنهم يُعامَلون بالإجلال والإكرام، وقوله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وقوله: أحسنَ الله بكم الجزاء، وقوله: وعليه أن يُكرِمَ مُحسِنَكم ويعفو عن مُسيئكِم، وغير ذلك.

ومنها: أن في الكتاب إسقاطَ الخراج عنهم مع كونهم في أرض الحجاز، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يضَعْ خراجًا قطُّ، وأرض الحجاز لا خراجَ فيها بحالٍ، والخراج أمرٌ يجب على المسلمين، فكيف يسقط عن أهل الذمة.

ومنها: أن في بعضها إسقاطَ الكُلَفِ والسُّخَر عنهم، وهذا مما فعله الملوك المتأخرون لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه.

وفي بعضها أنه شهد عنده عبد الله بن سلامٍ وكعب بن مالك وغيرهما من أحبار اليهود، وكعب بن مالك لم يكن من أحبار اليهود، وإنما كان من الأنصار، وإنما سمعوا اسم كعب الأحبار أنه كان من اليهود

(1)

فاعتقدوا أنه كعب بن

(1)

"وإنما كان

من اليهود" ساقطة من المطبوع.

ص: 78

مالك

(1)

، وذلك لم يكن من الصحابة، وإنما أسلم على عهد عمر رضي الله عنه.

ومنها: أن لفظ الكلام ونظمه ليس من جنس كلام النبي صلى الله عليه وسلم.

ومنها: أن فيه من الإطالة والحَشْو ما لا يُشبِه عهود النبي صلى الله عليه وسلم.

وفيها وجوهٌ أخرى متعددةٌ، مثل أن هذه العهود لم يذكرها أحدٌ من العلماء المتقدمين قبل ابن سُرَيج

(2)

، ولا ذكروا أنها رفعت إلى أحدٍ من ولاة الأمور فعملوا بها، ومثل ذلك مما يتعيَّن شهرتُه ونقلُه.

قلت: ومنها أن هذا لم يروِه أحدٌ من المصنفين [في] كتب السير والتاريخ، ولا رواه أحدٌ من أهل الحديث ولا غيرهم البتةَ، وإنما يُعرف من جهة اليهود، ومنهم بدأ وإليهم يعود.

فصل

(3)

وأما العبد فإن كان سيِّده مسلمًا فلا جزيةَ عليه باتفاق أهل العلم، ولو وجبت عليه لوجبتْ على سيده، فإنه هو الذي يؤدِّيها عنه.

وفي "السنن" و"المسند"

(4)

من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال

(1)

حسب ظنّهم، وإلّا فهو كعب بن ماتع الملقب بكعب الأحبار، انظر ترجمته ومصادر أخباره في "سير أعلام النبلاء"(3/ 489).

(2)

في المطبوع: "شريح" خطأ.

(3)

انظر: "المغني"(13/ 220).

(4)

"سنن أبي داود"(3032) و"مسند أحمد"(1949) واللفظ له، وأخرجه أيضًا الترمذي (633، 634) والبيهقي (9/ 189) والضياء في "المختارة"(9/ 531)؛ كلهم من حديث قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس. وقابوس فيه لين، ثم إنه قد اختُلف عليه كما ذكره الترمذي، فروي عنه عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا. قال أبو حاتم: هذا من قابوس، لم يكن قابوس بالقوي، فيحتمل أن يكون مرةً قال هكذا، ومرةً قال هكذا. "العلل"(943).

ص: 79

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَصلُح قِبلتانِ في أرضٍ، وليس على مسلم جزيةٌ".

وإن كان العبد لكافرٍ فالمنصوص عن أحمد أنه لا جزيةَ عليه أيضًا، وهو قول عامة أهل العلم.

قال ابن المنذر

(1)

: أجمع كل من يُحفظ عنه من أهل العلم على أنه لا جزيةَ على العبد.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا جزيةَ على عبدٍ"

(2)

. وفي رفعه نظر، وهو ثابتٌ عن ابن عمر.

وإن العبد بحقون الدمِ أشبه

(3)

النساء والصبيان. ولأنه لا مالَ له، فهو

(1)

"الإجماع"(ص 62). والمؤلف صادر عن "المغني".

(2)

ذكره ابن قدامة في "المغني"(13/ 220)، فقال: "يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم

" ثم قال: "وعن ابن عمر مثله". والمرفوع لا وجود له في دواوين الحديث، ولذا قال المؤلف: "في رفعه نظر". وقال الحافظ في "التلخيص الحبير" (1913): "ليس له أصل".

وأما الموقوف، فالذي صحَّ عن ابن عمر أنه قال:"ليس في مال العبد زكاة حتى يعتق". أخرجه ابن أبي شيبة (10333) والبيهقي في "الكبير"(4/ 108). فأثر ابن عمر في عدم وجوب الزكاة، ولكن لمَّا استشهد الإمام أحمد به ــ كما سيأتي قريبًا ــ على نفي الجزية عنه أيضًا= نشأ منه هذا الذي نسبه ابن قدامة والمؤلف إلى ابن عمر.

(3)

في المطبوع: "محقون الدم فأشبه" خلاف الأصل.

ص: 80

أسوأ حالًا من الفقير العاجز. ولأنها لو وجبتْ عليه لوجبتْ على سيده، إذ هو المؤدِّي لها عنه، فيجب عليه أكثر من جزيةٍ. ولأنه تَبَعٌ، فلم تَجِبْ عليه الجزية كذرِّية الرجل وامرأته. ولأنه مملوكٌ، فلم تَجِبْ عليه كبهائمه ودوابِّه.

وعن أحمد رواية أخرى أنها تجب عليه، ونحن نذكر نصوص أحمد من الطرفين

(1)

.

قال أبو طالب

(2)

: وسألت أبا عبد الله عن العبد النصراني عليه جزيةٌ؟ قال: ليس عليه جزيةٌ.

وقال في موضع آخر: قلت فالعبد؟ [قال:] ليس عليه جزيةٌ

(3)

، لنصرانيٍّ كان أم لمسلمٍ، كما قال ابن عمر

(4)

رضي الله عنهما.

وقال عبد الله بن أحمد

(5)

: سألت أبي عن رجل مسلم كاتَبَ عبدًا نصرانيًّا هل تؤخذ من العبد الجزيةُ في مكاتبته؟ فقال: إن العبد ليس عليه جزية، والمكاتب عبدٌ ما بقي عليه درهم.

وقال أحمد

(6)

:

ثنا يزيد، ثنا سعيد، عن قتادة، عن سفيان العقيلي، عن

(1)

في المطبوع: "الطريقين".

(2)

كما في "جامع الخلال"(1/ 182).

(3)

كذا في الأصل، والذي في مطبوعة "الجامع":"صدقة"، وهو الموافق لما صحَّ عن ابن عمر كما سبق آنفًا.

(4)

في المطبوع: "أبو محمد" خطأ.

(5)

لم أجده في "مسائله" المطبوعة، والمؤلف صادر عن "الجامع" للخلال (1/ 182).

(6)

كذا، والظاهر أنه وهم، لأن الخلال أسنده في "الجامع"(1/ 176) عن عصمة بن عصام، قال: حدثنا حنبل، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا يزيد

إلخ. إذًا فهو من رواية حنبل بن إسحاق بن حنبل، عن أبيه (وهو عم الإمام أحمد)، عن يزيد بن هارون به.

نعم، أخرجه أحمد ــ كما عند الخلال (1/ 178) ــ ولكن ليس عن يزيد بن زريع، بل عن إسماعيل بن علية عن سعيد بن أبي عروبة به. وأخرجه أبو عبيد في "الأموال"(209) وابن أبي شيبة (21195) والخلال في "الجامع"(1/ 177) من طرق عن سعيد به. وفي إسناده لين لجهالة حال سفيان العقيلي، ولكن له متابعات يصحُّ بها، وسيأتي بعضها.

ص: 81

أبي عِياضٍ قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تشتروا من رقيق أهل الذمة ولا مما في أيديهم [شيئًا]، لأنهم أهل خراجٍ

(1)

يبيع بعضُهم بعضًا، ولا يُقرَّنَّ أحدُكم بالصَّغار بعد إذ أنقذه الله منه.

قال حنبلٌ

(2)

: سمعت أبا عبد الله قال: أراد عمر أن يوفِّر الجزية؛ لأن

(3)

المسلم إذا اشتراه سقط عنه أداءُ ما يؤخذ منه، والذمي يؤدّي عنه وعن مملوكه خراج جماجمهم، إذا كانوا عبيدًا أخذ منهم جميعًا الجزية.

وقال إسحاق بن منصورٍ

(4)

: قلت لأبي عبد الله: قول عمر لا تشتروا رقيق أهل الذمة؟ قال: لأنهم أهل خراجٍ يؤدي بعضهم عن بعضٍ، فإذا صار إلى المسلم انقطع عنه ذلك.

(1)

في الأصل: "حاح". والتصويب من "الجامع".

(2)

"الجامع" للخلال (1/ 177).

(3)

في الأصل: "لم". والتصويب من "الجامع".

(4)

في "مسائله"(2/ 549)، والنقل من "الجامع"(1/ 177).

ص: 82

فصل

(1)

ومَن بعضُه حرٌّ فقياس المذهب أن عليه الجزية بقدر ما فيه من الحرِّية.

فصل

(2)

فإنْ عَتَق العبدُ فهل تجب عليه الجزية؟ فيه روايتان عن أحمد:

إحداهما: أن الجزية واجبةٌ عليه سواءٌ كان المُعتِق مسلمًا أو كافرًا، وهذا ظاهر المذهب وقول أكثر أهل العلم، منهم الإمام الشافعي وأبو حنيفة والليث بن سعدٍ وسفيان الثوري وغيرهم.

والثانية: لا جزيةَ عليه، نصَّ عليها في رواية بكر بن محمد

(3)

عن أبيه أنه قال لأبي عبد الله: النصراني الذي أُعتِق عليه جزية؟ قال: ليس عليه جزيةٌ، لأن ذمته ذمةُ مواليه، ليس عليه جزية.

ووهَّن الخلال

(4)

هذه الرواية وقال: هذا قول قديمٌ رجع عنه أحمد، والعمل على ما رواه الجماعة.

وعن الإمام مالك روايتان أيضًا

(5)

، إحداهما: أن عليه الجزية.

(1)

"المغني"(13/ 220).

(2)

انظر: "المغني"(13/ 223).

(3)

"الجامع"(1/ 181).

(4)

"الجامع"(1/ 182).

(5)

كما في "المغني"(13/ 223).

ص: 83

والثانية

(1)

: إن كان المعتق له مسلمًا فلا جزيةَ عليه، لأن عليه الولاءَ لسيِّده، وهو شعبةٌ من الرقّ، وكأنه عبد المسلم.

قلت: وهي مسألة اختلف فيها التابعون، فعمر بن عبد العزيز أخذ منه الجزية، والشعبي لم ير عليه جزيةً وقال: ذمته ذمة مولاه. حكاه أحمد عنهما

(2)

.

فصل

(3)

ومن أسلم سقطت عنه الجزية، سواءٌ أسلم في أثناء الحول أو بعده، ولو اجتمعت عليه جزيةُ سنين ثم أسلم سقطتْ كلُّها. هذا قول فقهاء المدينة وفقهاء الرأي وفقهاء الحديث، إلا الشافعي وأصحابه فإنه قال: إن أسلم بعد الحول لم تسقط؛ لأنه دَينٌ استحقَّه صاحبه، واستحقَّ المطالبةَ به في حال الكفر، فلم تسقط بالإسلام، كالخراج وسائر الديون. وله ــ فيما إذا أسلم في أثناء الحول ــ قولان، أحدهما: أنها تسقط. والثاني: أنها تُؤخذ بقسطه.

والصحيح الذي لا ينبغي القول بغيره سقوطها، وعليه تدلُّ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه، وذلك من محاسن الإسلام وترغيبِ الكفار فيه. وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي الكفار على الإسلام حتى يسلموا يتألَّفُهم بذلك، فكيف يُنفَّر عن الدخول في الإسلام من أجل دينارٍ؟ فأين هذا من ترك

(1)

"والثانية" ليست في المطبوع.

(2)

كما في "الجامع" للخلال (1/ 181).

(3)

انظر: "المغني"(13/ 221).

ص: 84

الأموال للدخول في الإسلام؟

قال سفيان الثوري عن قابوس

(1)

بن أبي ظَبيان، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس على مسلم جزيةٌ"

(2)

.

قال أبو عبيد: تأويل هذا الحديث: لو أن رجلًا أسلم في آخر السنة وقد وجبت الجزية عليه، أن إسلامه يُسقِطها عنه، فلا تؤخذ منه وإن كانت قد لزِمتْه قبل ذلك؛ لأن المسلم لا يؤدِّي الجزية، ولا تكون عليه دَينًا. وقد روي عن عمر وعلي وعمر بن عبد العزيز ما يحقِّق هذا المعنى.

حدثنا عبد الرحمن، عن حماد بن سلمة، عن عبيد الله بن رواحة قال: كنت مع مسروقٍ بالسِّلسلة فحدَّثني أن رجلًا من الشعوب ــ يعني الأعاجم ــ أسلم وكانت تؤخذ منه الجزية، فأتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين أسلمتُ والجزية تؤخذ منّي، فقال: لعلك أسلمتَ متعوِّذًا؟ فقال: أمَا في الإسلام ما يُعِيذني؟ قال: بلى

(3)

! قال: فكتب أن لا تؤخذ منه الجزية

(4)

.

وحدثنا هُشيمٌ قال: أخبرنا سيَّارٌ، عن الزبير بن عدي قال: أسلم

(1)

في الأصل: "حانوس" تحريف.

(2)

من طريق سفيان أخرجه أبو عبيد في "الأموال"(125)، والكلام الآتي منه، وقد تقدَّم تخريج الحديث من أمهات المصادر.

(3)

"قال بلى" ليست في المطبوع.

(4)

"الأموال"(126) ــ ومن طريقه البيهقي في "الكبير"(9/ 199) ــ وإسناده حسن. وأخرجه عبد الرزاق (19285) وابن زنجويه (185) من طريقين عن ابن سيرين بنحوه.

ص: 85

دِهقانٌ

(1)

على عهد علي رضي الله عنه فقال له علي رضي الله عنه: إن أقمتَ في أرضك رفعنا عنك جزيةَ رأسك وأخذناها من أرضك، وإن تحوَّلتَ عنها فنحن أحقُّ بها

(2)

.

وحدثنا يزيد بن هارون، عن المسعودي، عن محمد بن عبيد الثقفي أن دِهقانًا أسلم، فقام إلى علي، فقال له علي: أما أنت فلا جزية عليك، وأما أرضك فلنا

(3)

.

وحدثنا حجّاجٌ، عن حمّاد بن سلَمة، عن حُميدٍ قال: كتب عمر بن عبد العزيز: من شهد شهادتنا واستقبل قبلتنا واختتَن فلا تأخذوا منه جزيةً

(4)

.

(1)

الدهقان: رئيس القرية أو الإقليم وزعيم الفلّاحين، ومَن له مال وعقار. ويطلق على التاجر أيضًا.

(2)

"الأموال"(127). وأخرجه أيضًا يحيى في "الخراج"(188) ــ ومن طريقه البيهقي (9/ 142) ــ وسعيد بن منصور (2593) وابن أبي شيبة (21948)، كلهم عن هشيم به. والزبير بن عدي من صغار التابعين، روايته عن علي مرسلة. ويشهد له المرسل الآتي.

(3)

"الأموال"(128)، وأخرجه يحيى بن آدم (189) عن وكيع، وابن زنجويه (322، 365) عن أبي نعيم، كلاهما عن المسعودي به، وهما ممن روى عنه قبل اختلاطه. وأخرجه ابن أبي شيبة (21947) من طريق آخر عن محمد بن عبيد الله الثقفي عن عمر وعلي قالا: إذا أسلم وله أرض وضعنا عنه الجزية وأخذنا منه خراجها. والثقفي لم يدرك عمر ولا عليًّا، فروايته عنهما مرسلة.

(4)

"الأموال"(129)، وإسناده جيِّد. وأخرجه ابن زنجويه (188) عن النضر بن شميل عن عوف الأعرابي قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة كتابًا قرئ على الناس وأنا أسمع

بنحوه. وذكره مالك في "الموطأ"(188) بنحوه بلاغًا.

ص: 86

قال أبو عبيد

(1)

: أفلا ترى أن هذه الأحاديث قد تتابعتْ عن أئمة الهدى بإسقاط الجزية عمن أسلم، ولم ينظروا في أول السنة كان ذلك ولا في آخرها، فهو عندنا على أن الإسلام أهدر ما كان قبله، وإنما احتاج الناس إلى هذه الآثار في زمن بني أميَّة، لأنه يُروى عنهم ــ أو عن بعضهم ــ أنهم كانوا يأخذونها منهم وقد أسلموا؛ يذهبون إلى أن الجزية بمنزلة الضرائب على العبيد، يقولون: لا يُسقِط إسلامُ العبد عنه ضريبتَه. ولهذا اختار من اختار

(2)

من القرَّاء الخروجَ عليهم.

وقد رُوي عن يزيد بن أبي حبيبٍ ما يُثبِت ما كان من أخْذِهم إياها.

حدثنا عبد الله بن صالحٍ، ثنا حرملة بن عمران، عن يزيد بن أبي حبيبٍ قال: أعظمُ ما أتتْ

(3)

هذه الأمة بعد نبيِّها ثلاثُ خصالٍ: قتلُهم عثمان بن عفّان، وإحراقُهم الكعبة، وأخْذُهم الجزيةَ من المسلمين

(4)

.

والجزية وُضِعت في الأصل إذلالًا للكفّار وصَغارًا، فلا تُجامِعُ الإسلامَ بوجهٍ، ولأنها عقوبةٌ فتسقُط بالإسلام، وإذا كان الإسلام يَهدِم ما قبله من الشرك والكفر والمعاصي فكيف لا يهدم ذُلَّ الجزية وصَغارها؟ وإن

(1)

في "الأموال" عقب الآثار السابقة.

(2)

في "الأموال": "استجاز من استجاز".

(3)

في الأصل: "كانت". والتصويب من "الأموال".

(4)

"الأموال"(130). أخرجه أيضًا البخاري في "التاريخ الأوسط"(193) وابن زنجويه (193) وابن الأعرابي في "معجمه"(1891).

ص: 87

المقصود تألُّف الناس على الإسلام بأنواع الرغبة فكيف لا يُتألَّفون بإسقاط الجزية؟ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي على الإسلام عطاءً لا يعطيه على غيره، وقد جعل الله سبحانه سهمًا في الزكاة للمؤلَّفة قلوبهم، فكيف لا يُسقِط عنهم الجزية بإسلامهم؟ وكيف يُسلِّط الكفار أن يتحدَّثوا بينهم بأن من أسلم منهم أُخِذ بالضرب والحبس ومُنِع ما يملكه حتى يعطي ما عليه من الجزية؟

فصل

فإن مات الكافر في أثناء الحول سقطتْ عنه، ولم تؤخذ بقدر ما أدرك منه. وإن مات بعد الحول فذهب الشافعي أنها لا تسقط وتُؤخذ من تَرِكته، وهو ظاهر كلام أحمد. وقال أبو حنيفة: تسقط بالموت، وحكاه أبو الخطَّاب عن شيخه القاضي

(1)

.

قال أبو عبيد

(2)

: وأما موت الذمي في آخر السنة فقد اختُلف فيه.

فحدثنا سعيد بن عُفيرٍ، عن عبد الله بن لَهِيعة، عن عبد الرحمن بن جُنادة

(3)

كاتبِ حيَّان بن سُرَيج

(4)

، وكان حيَّان بن سُرَيج بعثه إلى عمر بن عبد العزيز وكتب إليه يستفتيه: أيجعلُ جزيةَ موتى القِبْط على أحيائهم؟

(1)

كما في "المغني"(13/ 222).

(2)

"الأموال"(1/ 108).

(3)

في الأصل: "حبارة" تصحيف.

(4)

في المطبوع: "شريج"، وفي "الأموال":"شريح"، كلاهما تصحيف. انظر:"الإكمال"(4/ 273).

ص: 88

فسأل عمر عن ذلك عِراكَ بن مالكٍ ــ وعبدُ الرحمن يسمع ــ فقال: ما سمعتُ لهم بعَقْدٍ ولا عهدٍ، إنما أُخِذوا عَنوةً بمنزلة الصيد. فكتب عمر إلى حيَّان بن سُرَيج يأمره أن يجعل جزية الأموات على الأحياء. وكان حيَّان والِيَه على مصر

(1)

.

قال

(2)

: وقد رُوي من وجهٍ آخر عن مَعقِل بن عبيد الله عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: ليس على من مات ولا من أَبَقَ جزيةٌ. يقول: لا تؤخذ من ورثته بعد موته، ولا يجعلها بمنزلة الدَّين، ولا تؤخذ من أهله إذا هرب عنهم منها، لأنهم لم يكونوا ضامنين لذلك.

قال الآخذون لها

(3)

: هي دَينٌ وجب عليه في حياته فلم يسقط بموته، كديون الآدميين.

قال المُسقِطون: هي عقوبةٌ، فتسقط بالموت كالحدود؛ ولأنها صغارٌ وإذلالٌ فزال بزوال محلّه. وقولكم:"إنها دَينٌ فلا تسقط بالموت" إنما يتأتَّى على

(4)

أصلِ من لا يُسقِطها بالإسلام، وأما من أسقطها بالإسلام فلا يصحُّ

(1)

"الأموال"(131).

(2)

أي أبو عبيد برقم (132). وقد وصله ابن أبي شيبة (33312) بلفظ: "لا يؤخذ من أهل الكتاب إلا صلب الجزية، ولا تؤخذ من فارٍّ، ولا من ميت، ولا يؤخذ أهلُ الأرض بالفارّ".

(3)

انظر: "المغني"(13/ 222).

(4)

في الأصل: "عند".

ص: 89

منه هذا الاستدلال.

ولا ريبَ أن الجزية عقوبةٌ وحقٌّ عليه، ففيها الأمران، فمن غلَّب جانبَ العقوبة أسقطها بالموت كما تسقط العقوبات الدنيوية عن الميت، ومن غلَّب فيها جانبَ الدَّين لم يُسقِطها، والمسألة محتملة. والله أعلم.

فصل

(1)

فإن اجتمعت عليه جزيةُ

(2)

سنين استُوفِيَتْ كلُّها عند الجمهور. وقال أبو حنيفة: تتداخل، وتؤخذ منه جزية واحدة، وأجراها مجرى العقوبة، فتتداخل كالحدود. والجمهور جعلوها بمنزلة سائر الحقوق المالية كالدية والزكاة وغيرهما.

وقول الجمهور أصحُّ، لا يناسب التخفيفُ عنه بترك أداء ما وجب عليه للمسلمين، ولاسيَّما إذا [كان] ممن لا يُعذَر بالتأخير. ولو قيل بمضاعفته عليه عقوبةً له لكان أقوى من القول بسقوطها، والله أعلم.

فصل

وإذا بذلوا ما عليهم من الجزية أو الخراج أو الدية أو الدَّين أو غيره من عينِ

(3)

ما نعتقده نحن محرَّمًا، ولا يعتقدون تحريمه، كالخمر والخنزير=

(1)

"المغني"(13/ 223).

(2)

في الأصل: "دية". وفي هامشه: "كذا".

(3)

في الأصل: "غير" تصحيف.

ص: 90

جاز قبوله منهم. هذا مذهب أحمد وغيره من السلف.

قال الميموني

(1)

: قرأت على أبي عبد الله: هل على أهل الذمة إذا اتَّجروا في الخمر والخنزير العُشْرُ؟ أنأخذ منه؟ فأملى عليَّ: قال عمر: "ولُّوهم بيعَها"

(2)

، لا يكون هذا إلا على الأخذ. قلت: كيف إسنادُه؟ قال: إسناده جيدٌ.

وقال يعقوب بن بختان

(3)

: سألت أبا عبد الله عن خنازير أهل الذمة وخمورهم، قال: لا تقتُلْ خنازيرهم فإن لهم عهدًا، ولا يؤخذ منهم خمر ولا خنزير؛ يَلُون هم

(4)

بيعَها.

وقال عبد الله

(5)

: قلت لأبي: فإن كان مع النصراني خمرٌ وخنازير، كيف يُصنع بها؟ فقال: قال عمر: "ولُّوهم بيعَها"، [وقد قال بعض الناس: تُقوَّم عليهم]، وهو قولٌ شنيعٌ، ولا أراه يُعجِبني.

(1)

كما في "جامع الخلال"(1/ 138).

(2)

أسنده الميموني ــ كما في المصدر السابق ــ عن أحمد، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن سويد بن غَفَلة أن عمر قال:"ولُّوهم بيعها: الخمرَ والخنزيرَ، نعشُرْها". وأخرجه أبو عبيد أيضًا كما سيأتي قريبًا.

(3)

كما في "الجامع"(1/ 139).

(4)

في الأصل: "يكون لهم". والتصويب من "الجامع".

(5)

كما في "الجامع"(1/ 139)، ومنه الزيادة، ولم أجده في "مسائله" المطبوعة.

ص: 91

وكذلك نقل عنه صالحٌ سواءً

(1)

.

وقال أبو عبيد

(2)

: باب أخذ الجزية من الخمر والخنازير. حُدِّثنا [عن]

(3)

عبد الرحمن، عن سفيان بن سعيد، عن إبراهيم بن عبد الأعلى الجعفي، عن سُويد بن غَفَلة قال: بلغ عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه أن ناسًا يأخذون الجزية من الخنازير، وقام بلالٌ فقال: إنهم ليفعلون، فقال عمر رضي الله عنه: لا تفعلوا، وَلُّوهم بيعَها

(4)

.

وحدثنا الأنصاري، عن إسرائيل، عن إبراهيم بن عبد الأعلى، عن سُويد بن غَفَلة أن بلالًا قال لعمر: إن عُمَّالك يأخذون الخمر والخنازير في الخراج، فقال: لا تأخذوها منهم، ولكن وَلُّوهم بيعَها، وخذوا أنتم من الثمن

(5)

.

قال أبو عبيد

(6)

: يريد أن المسلمين كانوا يأخذون من أهل الذمةِ الخمرَ والخنازير من جزية رؤوسهم وخراج أرضهم بقيمتها، ثم يتولَّى

(1)

كما في المصدر السابق.

(2)

"الأموال"(1/ 109).

(3)

الزيادة من "الأموال".

(4)

"الأموال" برقم (133)، وأخرجه أيضًا عبد الرزاق (9886) عن سفيان به. وسبق أن الإمام أحمد قال: إسناده جيد.

(5)

"الأموال"(134).

(6)

عقب الأثر السابق.

ص: 92

المسلمون

(1)

بيعَها. فهذا الذي أنكره بلالٌ ونهى عنه عمر، ثم رخَّص لهم أن يأخذوا ذلك من أثمانها إذا كان أهل الذمة المتولِّين لبيعها، لأن الخمر والخنازير مالٌ من أموال أهل الذمة، ولا يكون مالًا للمسلمين.

ومما يبيِّن ذلك ما حدَّثني عليُّ بن مَعبدٍ، عن عبيد الله بن عمرٍو، عن ليث بن أبي سُليمٍ، أن عمر كتب إلى العُمَّال يأمرهم بقتل الخنازير، وتُقتَصُّ

(2)

أثمانُها لأهل الجزية من جزيتهم

(3)

.

قال أبو عبيد: فهو لم يجعلها قِصاصًا من الجزية إلا وهو يراها مالًا من أموالهم. فإذا مرَّ الذميُّ بالخمر والخنازير على العاشر فإنه لا يَطِيب له أن يَعشُرها، ولا يأخذَ ثمنَ العُشْر منها وإن كان الذميُّ هو المتولِّي لبيعها أيضًا. وهذا ليس من الباب الأول ولا يُشبِهه، لأن

(4)

ذلك حقٌّ وجب على رقابهم وأرضهم. والعُشر هاهنا إنما هو شيء يوضع على الخمر والخنازير أنفُسِها، فلذلك ثمنُها لا يطيب، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله إذا حرَّم شيئًا حرَّم ثمنَه"

(5)

.

(1)

في الأصل: "المسلمين".

(2)

في الأصل: "يقضي". والتصويب من "الأموال".

(3)

"الأموال"(135)

(4)

في الأصل: "ان".

(5)

أخرجه أحمد (2678) وأبو داود (3488) وابن حبان (4938) والضياء في "المختارة"(9/ 511) من حديث ابن عباس بإسناد صحيح.

ص: 93

قال أبو عبيد

(1)

: وقد رُوِي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أفتى في مثل هذا بغير ما أفتى به في ذلك، وكذلك عمر بن عبد العزيز.

ثنا أبو الأسود المصري، حدثنا عبد الله بن لَهِيعة، عن عبد الله بن هُبيرة السَّبائي

(2)

أن عُتبة بن فَرْقَد بعث إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأربعين ألفَ درهمٍ صدقة الخمر، فكتب إليه عمر: بعثتَ إليَّ بصدقة الخمر، وأنت أحقُّ بها من المهاجرين، وأخبرُ الناسِ بذلك، وقال: واللهِ لا أستعملك على شيءٍ بعدها، قال: فنزعه

(3)

.

قال

(4)

: وحدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن المثنَّى بن سعيد الضُّبَعي قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدِيّ بن أرطاة: أن ابعَثْ إليَّ بتفصيل الأموال التي قِبَلك من أين دخلَتْ؟ فكتب إليه بذلك وصنَّفه له، فكان فيما كتب إليه: مِن عُشْرِ الخمر أربعة آلاف درهمٍ. قال: فلبثنا ما شاء الله، ثم جاء جوابُ كتابه: إنك كتبتَ إليَّ تذكر من عشور الخمر أربعة آلاف درهمٍ. إن الخمر لا يَعْشُرها مسلم ولا يشتريها ولا يبيعها، فإذا أتاك كتابي هذا فاطلب الرجلَ فاردُدْها عليه، فهو أولى بما كان فيها. فطلب الرجل فرُدَّتْ عليه الأربعة الآلاف، وقال: أستغفر الله، إني لم أعلَمْ.

(1)

"الأموال"(1/ 110).

(2)

في المطبوع: "الشيباني" تحريف.

(3)

"الأموال" برقم (137). وفيه: "فتركه".

(4)

"الأموال"(138).

ص: 94

قال أبو عبيد: فهذا عندي الذي عليه العمل، وإن كان إبراهيم النخعي قد قال غير ذلك.

حدثنا يحيى بن سعيد القطّان وعبد الرحمن بن مهدي، كلاهما عن سفيان، عن حمادٍ، عن إبراهيم في الذمي يمرُّ بالخمر على العاشر، قال: يُضاعَف عليه العُشر

(1)

.

قال أبو عبيد: وكان أبو حنيفة يقول: إذا مرَّ على العاشر بالخمر والخنازير، عَشَرَ الخمرَ ولم يَعْشُر الخنازير. سمعتُ محمد بن الحسن يحدِّث بذلك عنه.

قال أبو عبيد: وقول الخليفتين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعمر بن عبد العزيز رحمه الله أولى بالاتباع، أن لا يكون على الخمر عُشْرٌ أيضًا، انتهى

(2)

.

وهذا الفرق هو محضُ الفقه، فإنهم إذا تبايعوها فيما بينهم فقد تعاقدوا على ما يعتقدونه مالًا، فإذا أخذناه منهم أخذنا [ما] هو حلالٌ عندهم ــ وإن كنّا لا نعتقد أنه يحلُّ سببُه

(3)

ــ كما اكتسبوه بعقودٍ ومواريثَ أو أسبابٍ من هباتٍ ووصايا وغيرها [ممَّا] لا يجوز في شرعنا؛ فعاملُونا به أو قَضَونا إياه مما لنا عليهم= ساغ لنا أخذُه، وإن لم يُسوَّغ في شرعنا تلك الأسباب التي

(1)

"الأموال"(139).

(2)

أي انتهى النقل من "الأموال" لأبي عبيد.

(3)

في الأصل والمطبوع: "لا يعتقدونه كل سنة"، تحريف.

ص: 95

أخذوها

(1)

، كما تأخذ المرأة من مهرٍ في عقد نكاحٍ لا نجيزه نحن وهم يعتقدونه نكاحًا. وهذا بخلاف ما سرقوه أو غصبوه أو اكتسبوه بوجهٍ يعتقدون تحريمه كالربا، فإنه حرام عليهم بنصّ التوراة.

وأما ما منع الخليفتان فهو فرض العُشْر على نفس الخمر والخنازير إذا اتَّجروا فيها، فهذا غير أخذِ أثمانها منهم إذا كان لنا عليهم ذلك من وجهٍ آخر.

فالفرق بين أن يكون المأخوذ من جهة الخمر والخنازير وبين أن يكون من جهة الجزية والدَّين والدية وغيرها= ظاهرٌ، وبالله التوفيق.

فصل

وأخذُ الجزية من أهل الكتاب وحِلُّ ذبائحهم ومناكحتهم مرتَّبٌ على أديانهم لا على أنسابهم، فلا يُكْشَف عن آبائهم هل دخلوا في الدين قبل المبعث أو بعده، ولا قبلَ النسخ والتبديل ولا بعده، فإن الله سبحانه أقرَّهم بالجزية ولم يَشْرِط ذلك، وأباح لنا ذبائحهم وأطعمتهم ولم يَشْرِط ذلك في حِلِّها، مع العلم بأن كثيرًا منهم دخل في دينهم بعد تبديله ونسخه، وكانت المرأة من الأنصار تَنذُر إن عاش لها ولدٌ أن تُهوِّده، فلما جاء الإسلام أرادوا منْعَ أولادهم من المُقام على اليهودية وإلزامَهم بالإسلام، فأنزل الله تعالى:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 254]، فأمسكوا عنهم

(2)

.

(1)

في الأصل: "حدها"، تصحيف.

(2)

انظر: "تفسير الطبري"(4/ 546 وما بعدها). وسيأتي تخريجه (ص 102).

ص: 96

ومعلومٌ قطعًا أن دخولهم في دين اليهودية كان بعدَ تبديله وبعدَ مجيء المسيح، ولم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم أحدًا ممن أقرَّه بالجزية متى دخل آباؤه في الدين، ولا من كان يأكل هو وأصحابه من ذبائحهم من اليهود، ولا أحدٌ من خلفائه بعده

(1)

البتةَ.

وكيف يمكن العلم بهذا أو يكون شرطًا في حِلِّ المناكحة والذبيحة والإقرار بالجزية، ولا سبيل إلى العلم به إلا لمن أحاط بكلِّ شيء علمًا؟! وأيُّ شيء يتعلَّق به من آبائه إذا كان هو على دينٍ باطلٍ لا يقبله الله؟ فسواءٌ كان آباؤه كذلك أو لم يكونوا.

والنبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من يهود اليمن، وإنما دخلوا في اليهودية بعد المسيح في زمن تُبَّعٍ، وأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده من نصارى العرب، ولم يسألوا أحدًا منهم عن مبدأ دخوله في النصرانية هل كان قبل المبعث أو بعده، وهل كان بعد النسخ والتبديل أم لا؟

وقد اختلف كلام الشافعي رحمه الله تعالى في الجزية والمناكحة فقال في "المختصر"

(2)

: وأصلُ ما أَبني عليه أن الجزية لا تُقبَل من أحدٍ دان دينَ كتابٍ، إلا أن يكون آباؤه دانوا به قبلَ نزول الفرقان، فلا تُقبل ممن بدَّل يهوديةً بنصرانيةٍ أو نصرانيةً بمجوسيةٍ أو مجوسيةً بنصرانيةٍ أو بغير الإسلام. وإنما أذن الله عز وجل بأخذ الجزية منهم على ما دانوا به قبل محمد، وذلك

(1)

"بعده" ساقطة من المطبوع.

(2)

"مختصر المزني"(ص 387) و"الأم"(5/ 436).

ص: 97

خلاف ما أحدثوا من الدين بعده، فإن أقام على ما كان عليه وإلا نُبِذ إليه عهدُه وأُخرِج من بلاد الإسلام بماله، وصار حربًا، ومن بدَّل دينَه من كتابيةٍ لم يحلَّ نكاحُها.

قال المزني

(1)

: قد قال في كتاب النكاح: "إذا بدَّلت بدينٍ يحلُّ نكاح أهله فهي حلالٌ". وهذا عندي أشبه، وقال ابن عباس رضي الله عنهما:{وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 53]

(2)

. فمن دان منهم دينَ أهل الكتاب قبلَ نزول الفرقان وبعده سواءٌ عندي في القياس. وبالله التوفيق.

قال المنازعون له: الكلام على هذا من وجوهٍ:

أحدها: أن يقال: الأصل الذي تبني عليه لا بدَّ أن يكون معلومًا ثبوتُه بكتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم نصًّا أو استنباطًا، فأين في كتاب الله عز وجل أو سنة رسوله أن الجزية لا تُقبل ممن دان بدينٍ إلا أن يكون آباؤه دانوا به قبل نزول الفرقان؟ وأين يُستنبط ذلك منهما أو من أحدهما فيكون أصلًا منصوصًا أو مستنبطًا؟

الثاني: أن سكوت القرآن والسنة عن اعتبار ذلك في جميع المواضع، وعن الإيماء إليه والدلالة عليه= دليل على عدم اعتباره.

(1)

الكلام متصل بما قبله في "المختصر".

(2)

أي: قرأ ابن عباس هذه الآية مستدلًّا بها على أن من تنصَّر فحكمه حكمهم، كما عند الطبري (8/ 130) وغيره. وفي المطبوع:"وقال ابن عباس في قوله تعالى"، إقحام أفسد المعنى، فإن ما بعد الآية كلام المزني وليس تفسير ابن عباس.

ص: 98

الثالث: أن إطلاقهما وعمومهما المطَّردينِ في جميع المواضع متناولٌ

(1)

لكل من اتَّصف بتلك الصفة، ولم يَرِد فيهما موضع واحدٌ مخصّصٌ ولا مقيّدٌ، فيجب التمسك بالعام حتى يقوم دليلُ

(2)

تخصيصِه.

الرابع: أن عمل النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته في أهل الكتاب بعد نزول الآية مبيِّنٌ أنه المراد منها، وقد عُلِم أنه صلى الله عليه وسلم لم يَبْنِ

(3)

في أخذ الجزية وحلِّ الذبائح والنكاح إلا على مجرد دينهم لا على اعتبار

(4)

آبائهم وأنسابهم.

الخامس: أنه سبحانه قد حكم ــ ولا أحسن من حكمه ــ أنه من تولَّى اليهود والنصارى فهو منهم، فقال

(5)

: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 53]، فإذا كان أولياؤهم منهم بنص القرآن كان لهم حكمهم، وهذا عامٌّ خُصَّ منه من يتولَّاهم ودخل في دينهم بعد التزام الإسلام، فإنه لا يُقَرُّ ولا تُقبل منه الجزية، بل إما الإسلام أو السيف، فإنه مرتدٌّ بالنص والإجماع، ولا يصح إلحاق من دخل في دينهم من الكفار قبل التزام الإسلام بمن دخل فيه من المسلمين.

يوضحه الوجه السادس: أن من دان بدينهم من الكفار بعد نزول الفرقان

(1)

في الأصل: "متاول". والمثبت يقتضيه السياق.

(2)

بعدها في المطبوع: "على"، وليست في الأصل.

(3)

في الأصل: "لم يبين".

(4)

"اعتبار" ساقطة من المطبوع.

(5)

"فقال" ليست في المطبوع.

ص: 99

فقد انتقل من دينه إلى دينٍ خيرٍ منه وإن كانا جميعًا باطلينِ. وأما المسلم فإنه قد انتقل من دين الحق إلى الدين الباطل بعد إقراره بصحة ما كان عليه وبطلانِ ما انتقل إليه، فلا يُقَرُّ.

السابع: أن دين أهل الكتاب قد صار باطلًا بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا فرقَ بين من اختاره بنفسه ممن لم يتقدم دخول آبائه فيه قبل ذلك وبين من دخل فيه ممن تقدم دخول آبائه فيه، فإن كلَّ واحدٍ منهما اختار دينًا باطلًا، وما على الرجل من أبيه؟ وأي شيء يتعلق به منه؟

الثامن: أن تبعيته لأبيه منقطعةٌ ببلوغه، بحيث صار مستقلًّا بنفسه في جميع الأحكام، فما بالُ تبعية الأب بعد البلوغ أثَّرتْ في إقراره على دينٍ باطلٍ قد قطع الإسلامُ تبعيتَه فيه؟

التاسع: أن ذلك الدين قد عُلم بطلانه ونسْخُه قطعًا بمجيء المسيح، فقد أُقِرَّ على دينٍ دخل فيه آباؤه بعد نسخه وتبديله.

العاشر: أن نسبة من دخل في اليهودية بعد بعث المسيح وتركَ دين المسيح، كنسبة من دخل في النصرانية بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كلاهما دخل في دينٍ باطلٍ منسوخٍ.

الحادي عشر: أن آباء هذا الكتابي لو أدركوا دين الإسلام فدخلوا فيه، وأقام هو على دينه بعد بلوغه= لأقررناه ولم نتعرَّض له، مع اعتراف آبائه ببطلان دينهم الذي كانوا عليه. فإذا أُقِرَّ على دينٍ قد اعترف آباؤه ببطلانه فكيف لا يُقَرُّ على دينٍ دخل آباؤه فيه وهم معتقدون صحته؟

ص: 100

الثاني عشر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يؤمر بالجهاد كان يُقِرُّ الناس على ما هم عليه، ويدعوهم إلى الإسلام، بل كانت المرأة تُسلِم وزوجها كافرٌ فلا يفرِّق الإسلام بينهما، ولم يَنزِل تحريم المسلمة على الكافر إلا بعد صلح الحديبية.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس في الدعوة مراتب: فإنه أُمِر أولًا أن يقرأ باسم ربه، ثم أُمر ثانيًا أن يقوم نذيرًا، فأُمِر بإنذار عشيرته وقومه ودعوتهم إلى الله تعالى، ثم أُمِر بإنذار الناس والصبر والعفو والهجر لمن آذاه، ثم أُمر بالهجرة، ثم أُمر بقتال من قاتله، ثم أُمر بالجهاد العام، ثم بضرب الجزية على أهل الكتاب، فضَربها عليهم وأَلحق بهم المجوس، وكانت العرب من عبّاد الأوثان قد دخلوا كلهم في الدين، وكان صلى الله عليه وسلم يُقِرُّ الناس على ما هم عليه حتى يأتيه الأمر من الله بما يأخذهم به ويفعله معهم. فلما جاءه أمره بالهجرة بادر إلى امتثاله، ثم جاءه الأمر بالجهاد فقام به حقَّ القيام، ثم جاءه الأمر بالتفريق بين المؤمنات والكفَّار في النكاح، ثم جاءه الأمر بصلح الكفار بتوادعهم، ثم جاءه الأمر بأخذ الجزية منهم وإقرارهم على دينهم ولا يتعرَّض لهم ما لم ينقُصوه شيئًا مما شرط عليهم، فلم يكن قبل الهجرة والجهاد يمنع من أراد التهوُّد أو التنصُّر من أهل الأوثان، فلما علَتْ كلمة الإسلام وصار للمسلمين الغلبةُ والقهر منع من أراد منهم التهوُّد أو التنصُّر بعد أن أقرَّ بالإسلام، وأمر بقتله إن لم يراجع دينَ الإسلام، ولم يمنع يهوديًّا من نصرانيةٍ، ولا نصرانيًّا من يهوديةٍ كما منع المسلم منهما.

ص: 101

وقد علم صلى الله عليه وسلم أن من أبناء الأنصار من دخل في اليهودية بعد النسخ والتبديل، كما روى أبو داود في "سننه"

(1)

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت المرأة تكون مِقلاتًا فتجعل على نفسها إن عاش لها ولدٌ أن تُهوِّده، فلما أُجلِيتْ بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: لا نَدَعُ أبناءنا، فأنزل الله عز وجل:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 254].

قال أبو داود: المِقْلات التي لا يعيش لها ولدٌ.

وهو يدلُّ على أن من تهوَّد وإن كان أصله غيرَ يهودي فإنه مثلهم، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع قبل فرض الجهاد ولا بعده وثنيًّا دخل في دين أهل الكتاب، بل ولا يهوديًّا تنصَّر أو نصرانيًّا تهوَّد أو مجوسيًّا دخل في التهوُّد والتنصُّر. بل جمهور الفقهاء اليوم يُقِرُّونه على ذلك

(2)

كما هو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايات عنه، وعنه رواية ثانيةٌ: لا يُقبل منه إلا الإسلام، وعنه رواية ثالثةٌ: لا يُقبل منه إلا الإسلام أو دينه الأول إن كان دينًا يقرّ أهله عليه.

الثالث عشر: أنه لو لم يعرف له أبٌ لكونه لقيطًا، أو انقطع نسبه من أبيه

(1)

برقم (2682)، وأخرجه أيضًا النسائي في "الكبرى"(10982، 10983) والطبري في "تفسيره"(4/ 546) وابن حبان (140) والضياء في "المختارة"(10/ 72 - 73)، من طرق عن شعبة، عن أبي بِشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وهذا إسناد صحيح على رسم الصحيحين.

(2)

انظر: "المغني"(12/ 32، 13/ 226)، و"نهاية المطلب"(12/ 251)، و"روضة الطالبين"(7/ 140).

ص: 102

بكونه ولد زنًا، فإن ذلك لا يمنع اعتباره في دينه بنفسه. ولو كان من شرط ذلك دخول آبائه في الدين قبل النسخ والتبديل لم يثبت لهذا حكم دينه، ولم يُقرَّ عليه، لعدم أبيه حسًّا وشرعًا، إذ تبعيته هنا منتفيةٌ، وإنما له حكمُ نفسِه.

ولهذا قال الإمام أحمد ومن تبعه: أنه يحكم بإسلامه في هذه المواضع وفيما إذا مات أبواه أو أحدهما، وهو دون البلوغ؛ لأنه إنما كان كافرًا تبعًا لهما، وإلّا فهو على الفطرة الأصلية، فإذا لم يكن له من يتبعه على دينه كان مسلمًا؛ لأن مقتضى الفطرة موجودٌ والمغيِّر لها مفقودٌ. فأحمد اعتبر في بقائه على دينه وجودَ أبويه لتتحقق التبعية، والشافعي لم يعتبر بقاء الأبوين ولا وجودهما في كونه تبعًا لهما، فإذا كان قد أقرَّه على الدين الباطل حيث لا تتحقق تبعية الأبوين عُلِم أن إقراره لم يكن لأجل آبائه، وهو ظاهرٌ.

الرابع عشر: قوله

(1)

: "وإنما أذن الله تعالى بأخذ الجزية منهم على ما دانوا به قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك خلاف ما أحدثوا من الدين بعده".

فيقال: إن أُريد بما دانوا به قبل محمد صلى الله عليه وسلم فذلك إنما هو قبل مبعث المسيح، فلا تُقبل من يهودي جزيةٌ إلا أن يُعلَم أن آباءه توارثوا اليهودية قبل مبعث المسيح، فإنها بطلتْ بمبعثه، كما بطلتْ هي والنصرانية وسائر الأديان بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وإن أريد به ما دانوا به قبلَ مبعثه وإن كان باطلًا منسوخًا، فما الفرق بين ذلك وبين ما دانوا به بعد المبعث قبل أن تبلغهم الدعوة وتقوم عليهم

(1)

أي قول الشافعي المذكور قبل صفحات.

ص: 103

الحجة؟ فإنك إنما اعتبرتَ وقتَ مبعثه خاصةً.

وإن أريد به ما دانوا به قبل قيام الحجة عليهم انتقض ذلك من وجهين:

أحدهما: أنك لم تعتبر ذلك، وإنما اعتبرتَ نفس المبعث.

الثاني: أن الدين إذا كان باطلًا قبل المبعث لم يكن لتمسك الآباء به أثرٌ في إقرار الأبناء.

الخامس عشر: أنهم إذا دانوا بدينٍ قد أُقِرَّ أهله عليه بعد المبعث مع بطلانه قطعًا، فقد أُقِرُّوا على دينٍ مبدَّلٍ منسوخٍ وأُخِذَت منهم الجزية عليه.

السادس عشر: أن قوله: "بخلاف ما أحدثوا من الدين بعده" يُشْعِر بأنه كان صحيحًا إلى زمن المبعث، فأحدثوا بعد المبعث دينًا آخر غيره، فلذلك لا يُقَرُّون عليه. وهذا خلاف الواقع، فإنهم كانوا قد أحدثوا وبدَّلوا قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما بُعث صلى الله عليه وسلم استمرُّوا على ذلك الإحداث والتبديل، وانضاف إليه إحداثٌ آخر وتبديلٌ آخر، فلم يكن دينهم قبل المبعث سالمًا من الإحداث والتبديل، بل كان كله قد انتقض إلا الشيء القليل منه.

السابع عشر: قوله: "فإن أقام على ما كان عليه، وإلا نُبذ إليه عهدُه". فيقال: متى سار رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه في أهل الذمة هذه السيرة؟ ومتى قال هو أو أحدٌ من خلفائه ليهودي أو نصراني: متى دخل آباؤك في الدين؟ فإن كانوا دخلوا فيه قبل مبعثي وإلا نَبذتُ إليك العهد! وأيضًا فإن الذي كان عليه باطلٌ قطعًا، سواءٌ أدرك آباؤه حقَّه أو لم يُدركوه، فهو مقيمٌ على ما كان عليه آباؤه من الباطل.

ص: 104

الثامن عشر: أن إقراره بين أظهُرِ المسلمين على باطل دينه بالجزية والذُّلِّ والصَّغار والتزام أحكام الملة وكفّ شرِّه عن المسلمين= خيرٌ وأنفع للمسلمين من أن يخرج بماله إلى بلاد الكفار المحاربين، فيكون قوةً للكفار محاربًا للإسلام ممتنعًا من أداء الجزية وجريان أحكام الملة عليه مع إقامته على الدين الباطل.

التاسع عشر: قوله: "ومن بدَّل دينه من كتابيةٍ لم يحلَّ نكاحها". فيقال: إذا كان العلم بكون الكتابية دخل آباؤها في الدين قبل النسخ والتبديل شرطًا في حلِّ نكاحها لم يحلَّ نكاح امرأةٍ من أهل الكتاب حتى يعرف أن آباءها كانوا كذلك. وهذا لا سبيلَ إلى العلم به إلا من جهتهم، وخبرُهم لا يُقبل في ذلك، والمسلمون لا علم لهم بذلك، فلا يحلُّ نكاح امرأةٍ كتابيةٍ أصلًا، وهذا خلاف نص القرآن!

ولا يقال: من لم يُعلَم حال أبويها جاز نكاحها، فإن شرط الحلِّ إذا لم يُعلَم ثبوته امتنع ثبوت الحلِّ، والصحابة رضي الله عنهم تزوَّجوا منهم، ولم يسألوا عن ذلك.

وقد ألزم المزني الشافعيَّ بالنكاح، فقال الشافعي في كتاب النكاح

(1)

: إذا بدَّلت بدينٍ يحلُّ نكاح أهله فهو حلالٌ. قال المزني: وهذا عندي أشبهُ، ثم احتج بقول ابن عباس رضي الله عنهما في تأويل قوله تعالى:{وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 53]، وهذا من أحسن الاحتجاج.

(1)

"مختصر المزني"(ص 387). وقد تقدم.

ص: 105

ثم قال المزني

(1)

: فمن دان منهم دينَ أهل الكتاب قبل نزول الفرقان وبعده سواءٌ عندي في القياس.

الوجه العشرون: أنه لو صح اشتراط ذلك الشرط لم يُبَحْ لنا ذبيحةُ أحدٍ من أهل الكتاب؛ لأنا لا نعلم متى دخل آباؤه في الدين، والجهل بوجود الشرط كالعلم بانتفائه في امتناع ثبوت الحكم قبل تحقُّقه.

وقد قال الشافعي

(2)

رحمه الله: تنصَّرت

(3)

قبائل من العرب قبل أن يبعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم ويُنزِل عليه الفرقان فدانتْ بدين أهل الكتاب، فأخذ عليه الصلاة والسلام الجزية من أُكيدِر دُومةَ، وهو رجل يقال من غسَّان أو كِندةَ، ومن أهل ذمة اليمن، وعامتهم عرب، ومن أهل نجران وفيهم عرب، فدلَّ ما وصفتُ أن الجزية ليست على الأحساب وإنما هي على الأديان.

فقد صرَّح رحمه الله تعالى بعدم اعتبار الأنساب في الجزية، وأخبر أنها على الأديان، ومعلومٌ أن هذا لا فرقَ فيه بين

(4)

أن يكون الآباء دانوا بالدين قبل تبديله أو لم يكونوا كذلك، وكونُ الآباء قد دخلوا في الدين قبل نزول القرآن بعد بطلانه وتبديله لا أثرَ له، فإنهم بين المبعث وضرب الجزية كانوا قد دخلوا في دينٍ يُقَرُّون عليه.

(1)

المصدر نفسه.

(2)

في "الأم"(5/ 403 - 405)، و"مختصر المزني"(ص 384).

(3)

كذا في الأصل، وفي "الأم" و"المختصر":"انتوت" أي قصدت.

(4)

في المطبوع: "ولا فرق بينه وبين" خلاف ما في الأصل.

ص: 106

ونكتة المسألة أنهم بعد المبعث وإن دخلوا في دينٍ باطلٍ فدخلوا

(1)

في دينٍ يُقَرُّون عليه، وذلك قبل الأمر بالجهاد.

فهذه الوجوه ونحوها وإن كانت مُبطِلةً لهذا الأصل فإنها من أصول الشافعي رحمه الله تعالى وقواعده، فمن كلامه وكلام أمثاله من الأئمة استفدناها، ومنه ومنهم تعلَّمناها، ولم نخرج فيها عن أصوله وقواعده.

وليس المعتنون بالوجوه والطرق واختلافِ المنتسبين إليه والاعتناء بعباراتهم أقربَ إليه منا ولا أولى

(2)

به، بل هذه طريقته وأصوله التي أوصى بها أصحابه، فمن وافقه في نفس أصوله أحقُّ به ممن أعرض عنها، والله المستعان.

وقد قال أبو المعالي الجويني في "نهايته"

(3)

بعد أن حكى كلام بعض أصحاب الشافعي: أنَّ من تنصَّر أو تهوَّد بعد تبديل الدينين وتغيير الكتابين قبلَ مبعث نبينا صلى الله عليه وسلم نُظِر: فإن تمسَّك بالدين غير مبدَّلٍ، وحدثَ

(4)

التبديلُ، ثم أدركه الإسلام= قُبِلت الجزية منه، وإن دخل في الدين المبدَّل ثم أدركه الإسلام لم تُقبل منه وإن كان ذلك قبل المبعث. وهل تُقبل من أولاده؟ فيه وجهان مبنيان على أن الجزية هل تؤخذ من أولاد المرتدّين؟ = قال: وهذا

(1)

في المطبوع: "قد دخلوا".

(2)

في الأصل: "ولا ولى".

(3)

"نهاية المطلب"(18/ 11).

(4)

في الأصل: "وحذف".

ص: 107