المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصلفي استئجارهم واستئجار المسلم نفسه منهم - أحكام أهل الذمة - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌ سبب وضع الجزية

- ‌ يجوز أخذها مما تيسَّر من أموالهم

- ‌الكتاب الذي بأيدي الخَيابرة الذي يدَّعون أنه بخط علي في إسقاط الجزية عنهم باطلٌ

- ‌فصلفي بني تغلب وأحكامهم

- ‌فصل في السَّامرة

- ‌اختلاف الفقهاء فيهم: هل يُقَرُّون بالجزية أم لا

- ‌فصل في الصابئة

- ‌عدم الإحاطة بمذهبهم ودينهم

- ‌فصلفي الجزية والخراج وما بينهما من اتفاقٍ وافتراقٍ

- ‌ أصل الخراج وابتداء وضْعِه

- ‌الأرض ستة أنواعٍ:

- ‌النوع الثالث: ما ملك عن الكفار عَنْوةً وقهرًا

- ‌فصلفي كراهة الدخول في أرض الخراج

- ‌ذكر أحكام أهل الذمة في أموالهم

- ‌فصلفي الأمكنة التي يُمنع أهل الذمة من دخولها والإقامة بها

- ‌ذكر معاملتهم عند اللقاء وكراهة أن يُبدَؤوا بالسلام، وكيف يُرَدُّ عليهم

- ‌فصلفي عيادة أهل الكتاب

- ‌فصلفي شهود جنائزهم

- ‌فصلفي تعزيتهم

- ‌فصلفي تهنئتهم

- ‌فصلفي المنع من استعمال اليهود والنصارى في شيء من ولايات المسلمين وأمورهم

- ‌فصل(1)في سياق الآيات الدالَّة على غشِّ أهل الذمة للمسلمين وعداوتهم وخيانتهم

- ‌فصلفي أحكام ذبائحهم

- ‌المسألة الرابعة: إذا ذبحوا ما يعتقدون حلَّه، فهل تحرم علينا الشحوم المحرمة عليهم

- ‌ذكر أحكام معاملتهم

- ‌فصلفي البيع والشراء منهم

- ‌فصلفي شركتهم ومضاربتهم

- ‌فصلفي استئجارهم واستئجار المسلم نفسه منهم

- ‌فصلفي حكم أوقافهم ووقف المسلم عليهم

- ‌فصلفي أحكام نكاحهم ومناكحاتهم

- ‌فصلولو زوَّج الكافرُ ابنَه الصغير أكثرَ من أربع نسوةٍ، ثم أسلم الزوج والزوجات= لم يكن له الاختيار قبل بلوغه، فإنه لا حكم لقوله

- ‌فصل(4)نقرُّ أهل الذمة على الأنكحة الفاسدة بشرطين:

- ‌فصولٌ في أحكام مهورهم

- ‌فصل(2)في ضابط ما يصحُّ من أنكحتهم وما لا يصحُّ

- ‌فصلفي الكافر يكون وليًّا لوليته الكافرة دون المسلمة

- ‌فصلللمسلم إجبارُ زوجته الذمية على الغسل من الحيض

الفصل: ‌فصلفي استئجارهم واستئجار المسلم نفسه منهم

‌فصل

في استئجارهم واستئجار المسلم نفسه منهم

أما استئجارهم فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استأجر دليلًا يدلُّه على طريق الهجرة، وكان مشركًا، فأَمِنَه ودفع إليه راحلته هو والصديق

(1)

.

وأما إيجارهم نفسه فهي مسألة تفصيلٍ، ونحن نذكر نصوص أحمد.

قال إسحاق بن إبراهيم

(2)

: سمعت أبا عبد الله وسأله رجل بنَّاءٌ: أبني للمجوس

(3)

ناووسًا

(4)

؟ قال: لا تبنِ لهم، ولا تُعِنْهم على ما هم فيه.

وقال محمد بن عبد الحكم

(5)

: سألت أبا عبد الله عن الرجل المسلم يحفر لأهل الذمة قبرًا بكراءٍ، قال: لا بأس به.

وليس هذا باختلاف رواية. قال شيخنا

(6)

: والفرق بينهما أن الناووس

(1)

أخرجه البخاري (2263) من حديث عائشة.

(2)

كما في "الجامع" للخلال (340).

(3)

في الأصل: "للمجو".

(4)

الناووس: صندوق من خشب أو نحوه توضع فيه جثة الميت.

(5)

كذا في الأصل، والصواب: محمد بن الحكم كما في "طبقات الحنابلة"(1/ 295). والنص في "الجامع" للخلال (337) بإسناده إليه: (أخبرني محمد بن علي قال: حدثنا بكر بن محمد عن أبيه) فاختصره المؤلف وتوهم أنه "محمد بن عبد الحكم". وهو على الصواب في "اقتضاء الصراط المستقيم"(2/ 21).

(6)

في "اقتضاء الصراط المستقيم"(2/ 21).

ص: 384

من خصائص دينهم الباطل فهو كالكنيسة، بخلاف القبر المطلق؛ فإنه ليس في نفسه معصيةً ولا من خصائص دينهم.

وقال إسحاق بن منصورٍ

(1)

: قيل لأبي عبد الله: يؤاجر الرجل نفسه [من اليهودي والنصراني؟ قال: لا بأس، نعم].

[وقال مهنا

(2)

: قلت لأحمد: هل تكره للمسلم يؤاجر نفسه] للمجوسي؟ قال: لا.

قال

(3)

: وسألت أحمد قلت: يُكرِي الرجل نفسَه لمجوسي، يخدمه ويذهب في حوائجه؟ قال: لا بأس، قلت له: فيقول له: لبيك إذا دعاه؟ قال: لا.

وقد قال في رواية الأثرم

(4)

: إن آجر نفسه من الذمي في خدمته لم يجز، وإن كان في عملِ شيء جاز.

وقال في رواية أحمد بن سعيد

(5)

: لا بأس أن يؤاجر نفسه من الذمي.

فهذه ثلاث رواياتٍ عنه: رواية مطلقةٌ بالجواز، ورواية مصرحةٌ بالمنع

(1)

"الجامع" للخلال (335)، وهو في "مسائله"(2/ 81). وقد تداخلت الروايتان في الأصل، فميَّزنا بينهما بالاعتماد على مصدر المؤلف، ووضعنا الزيادة بين معكوفتين.

(2)

المصدر نفسه (336).

(3)

المصدر نفسه (1/ 198) بعد النصّ السابق.

(4)

كما في "الروايتين والوجهين"(1/ 430) و"المغني"(8/ 135).

(5)

المصدر نفسه (8/ 136).

ص: 385

في الخدمة خاصةً، ورواية مصرحةٌ بالجواز في الخدمة

(1)

.

وللشافعي قولان في إجارة نفسه له للخدمة.

وقد اختلف أصحاب أحمد في ذلك

(2)

، فمنهم من منع إجارة نفسه منه إجارة العين مطلقًا للخدمة وغيرها، وجوَّز إجارة نفسه منه على عمل في الذمة.

ومنهم من منع إجارة الخدمة خاصةً، وجوَّز إجارة العمل، وهذه طريقة أكثر أصحابنا. وفرَّقوا بينهما بأن إجارة الخدمة تتضمن حبْسَ نفسه على خدمته مدة الإجارة، وذلك فيه نوعُ إذلالٍ للمسلم وإهانةٍ له تحت يد الكافر فلم يجز، كبيع العبد المسلم له.

قالوا: ويحقِّقه أن عقد الإجارة للخدمة يتعين فيه حبسه مدة الإجارة واستخدامه، والبيع لا يتحقق فيه ذلك، فإذا منع منه فالمنع من الإجارة أولى.

قالوا: ولأنها بيعُ منافعه، والمنافع تجري مجرى الأعيان، فلا يجوز بيع رقبته ولا بعضِها ولا منافعِه من الذمي.

قالوا: وهذا بخلاف الإجارة على الذمة، فإنها لم تتضمن ذلك، وإنما هي التزامٌ لعملٍ مضمونٍ في الذمة.

وتلخيص مذهبه: أن إجارة المسلم نفسه للذمي ثلاثة أنواعٍ:

(1)

المصدر نفسه (8/ 135). وانظر: "الإنصاف"(6/ 25).

(2)

انظر: "المغني"(8/ 135).

ص: 386

أحدها: إجارةٌ على عمل في الذمة، فهذه جائزةٌ.

الثانية: إجارةٌ للخدمة، فهذه فيها روايتان منصوصتان عنه أصحُّهما المنع منها.

الثالثة: إجارة عينه منه لغير الخدمة، فهذه جائزةٌ، وقد آجر علي رضي الله عنه نفسه من يهودي يستقي له كلَّ دلوٍ بتمرةٍ، وأكل النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك التمر

(1)

.

هذا كله إذا كان الإيجار لعملٍ لا يتضمن تعظيم دينهم وشعائره، فإن كانت الإجارة على عمل يتضمن ذلك لم يجز، كما نصَّ عليه في رواية إسحاق بن إبراهيم

(2)

، وقد سأله رجل بنَّاءٌ: أبني ناووسًا للمجوس؟ فقال: لا تَبْنِ لهم.

وقال الشافعي في كتاب الجزية من "الأم"

(3)

: وأكره للمسلم أن يعمل بناءً أو نجارةً أو غير ذلك في كنائسهم التي لصلاتهم.

وقال أبو الحسن الآمدي

(4)

: لا يجوز أن يُؤجِر نفسه لعمل ناووسٍ ونحوه، رواية واحدةً.

(1)

أخرجه ابن ماجه (2446) من حديث ابن عباس، وفي إسناده حنش، ضعَّفه أحمد وغيره.

(2)

تقدمت قريبًا.

(3)

(5/ 510).

(4)

كما في "اقتضاء الصراط المستقيم"(2/ 42).

ص: 387

فإن قيل: فقد قال الخلال

(1)

: أخبرني أبو نصرٍ إسماعيل بن عبد الله بن ميمونٍ العجلي قال: قال أبو عبد الله فيمن حمل خمرًا أو خنزيرًا أو ميتةً لنصارى: يكره أكل كرائه، ولكنه يقضي للحمَّال بالكراء، وإذا كان للمسلم فهو أشد كراهيةً.

قيل: اختلف الأصحاب في هذا النص على ثلاثة طرقٍ

(2)

:

إحداها: إجراؤه على ظاهره، وأن المسألة رواية واحدةٌ.

قال ابن أبي موسى في "الإرشاد"

(3)

: وكره أحمد أن يؤجر المسلم نفسه لحمل ميتةٍ أو خنزيرٍ لنصراني، فإن فعل قُضِي له بالكراء. وإن آجر نفسَه لحمل محرَّمٍ لمسلم كانت الكراهية أشدَّ، ويأخذ الكراء، وهل يطيب له؟ على وجهين: أوجهُهما أنه لا يطيب له، وليتصدقْ به.

وهكذا ذكر أبو الحسن الآمدي قال

(4)

: إذا آجر نفسَه من رجل في حمل خمرٍ أو خنزيرٍ أو ميتةٍ كره؛ نص عليه، وهذه كراهة تحريمٍ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن حاملها

(5)

.

إذا ثبت هذا فيُقْضى له بالكراء، وغير ممتنعٍ أن يُقضى بالكراء وإن كان

(1)

في "الجامع"(339).

(2)

انظر: "اقتضاء الصراط المستقيم"(2/ 42 وما بعدها).

(3)

(ص 214).

(4)

كما في "اقتضاء الصراط المستقيم"(2/ 43).

(5)

في عشرةٍ لعن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الخمر، وسيأتي تخريجه.

ص: 388

محرَّمًا، كإجارة الحجام، فقد صرَّح هؤلاء بأنه يستحق الأجرة مع كونها محرمةً عليه على الصحيح.

الطريقة الثانية: تأويل هذه الرواية بما يخالف ظاهرها، وجعْلُ المسألة رواية واحدةً: أن هذه الإجارة لا تصح. وهي طريقةٌ ضعيفةٌ، فإنه صنَّف "المجرَّد"

(1)

قديمًا، ورجع عن كثيرٍ منه في كتبه المتأخرة.

الطريقة الثالثة: تُخرَّج هذه المسألة على روايتين:

إحداهما: أن هذه الإجارة صحيحةٌ يستحقّ بها الأجرة مع الكراهة للفعل والأجرة.

والثانية: لا تصح الإجارة، ولا يستحق بها أجرةً وإن حملها.

وقد قال إسحاق بن منصورٍ

(2)

: قلت لأبي عبد الله: سئل الأوزاعي عن الرجل يُؤجِرُ [نفسَه] لنظارة كَرْم النصراني، فكره ذلك. فقال أحمد: ما أحسن ما قال؛ لأن أصل ذلك يرجع إلى الخمر، إلا أن يعلم أنه يباع لغير الخمر فلا بأس. هذا لفظه.

فقد منع مرةً

(3)

إجارة نفسه لحفظ الكرم الذي يتخذ للخمر، فأولى أن يمنع من إجارة نفسه على حمل الخمر.

(1)

هو للقاضي أبي يعلى.

(2)

"الجامع" للخلال (338).

(3)

في "الاقتضاء": "منع من".

ص: 389

وهذه طريقة القاضي في "التعليق"، وطريقة أصحابه. وهذا قياس مذهب أحمد ونصوصه في الخمر: أنه لا يجوز إمساكها، ويجب إراقتها.

وقد قال في رواية أبي طالب

(1)

: إذا أسلم وله خمرٌ أو خنزيرٌ يصبُّ الخمر ويسرح الخنازير، قد حرما عليه، وإن قتلها فلا بأس.

فقد نص على أنه لا يجوز إمساكها، وفي حملها إمساكٌ لها. وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاملها، فكيف تصح الإجارة على حملها؟ وهذا مذهب مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد.

هذا كله فيما إذا استأجر [على حمل]

(2)

الخمر والميتة، حيث لا يجوز إقرارها.

فأما إن استأجره لحملها للإراقة أو الإلقاء في الصحراء، فإنه تجوز الإجارة على ذلك؛ لأنه عمل مباحٌ، لكن إن كانت الأجرة لجِلد

(3)

الميتة لم تصح، واستحق أجرة المثل، وإن كان قد سلخ الجلد وأخذه ردَّه على صاحبه. وهذا مذهب مالك والشافعي.

قال شيخنا

(4)

: والأشبه طريقة ابن أبي موسى، فإنها أقرب إلى مقصود أحمد، وأقرب إلى القياس، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن عاصر الخمر ومعتصرها

(1)

في "الجامع" للخلال (828).

(2)

الزيادة من "اقتضاء الصراط المستقيم".

(3)

في "الاقتضاء": "جلد".

(4)

في "اقتضاء الصراط المستقيم"(2/ 45).

ص: 390

وحاملها والمحمولة إليه

(1)

. فالعاصر والحامل قد عاوضا على منفعةٍ تستحق العوض، وليست محرَّمةً في نفسها، وإنما حرِّمت بقصد المعتصر والمستحيل

(2)

، فهو كما لو باع عنبًا أو عصيرًا لمن يتخذه خمرًا، وفات العصير والعنب في يد المشتري، فإن مال البائع لا يذهب مجانًا، بل يُقضى له بعوضه، كذلك هاهنا، المنفعة التي وفاها المؤجر لا تذهب مجانًا، بل يُعطى بدلَها، فإن تحريم الانتفاع بها إنما كان من جهة المستأجر، لا من جهته.

ثم نحن نحرم الإجارة عليه لحق الله سبحانه، لا لحق المستأجر والمشتري، بخلاف من استؤجر للزنا أو التلوُّط أو السرقة ونحو ذلك، فإن نفس هذا الفعل محرمٌ في نفسه، فهو كما لو باعه ميتةً أو خمرًا أو خنزيرًا، فإنه لا يقضى له بثمنها؛ لأن نفس هذه العين محرمةٌ.

ومثل هذه الإجارة والجعالة لا توصف بالصحة مطلقًا، ولا بالفساد مطلقًا، بل يقال: هي صحيحةٌ بالنسبة إلى المستأجر، بمعنى أنه تجب عليه الأجرة والجُعْل، فاسدةٌ بالنسبة إلى الآجر، يعني أنه يحرم عليه الانتفاع بالمال، ولهذا في الشريعة نظائر.

(1)

وبائعها ومبتاعها، وساقيها وشاربها، وآكل ثمنها، والخمر بعينها. وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده، أخرجه أحمد (4787، 5716) وأبو داود (3674) وابن ماجه (3380) والحاكم (2/ 32) عن ابن عمر. وأخرجه الترمذي (1295) وابن ماجه (3381) والضياء في "المختارة"(6/ 181) من حديث أنس بنحوه. وأخرجه أحمد (2897) وابن حبان (5356) والحاكم (2/ 31) من حديث ابن عباس بنحوه.

(2)

في "الاقتضاء": "والمستحمل".

ص: 391

ونصُّ أحمد على كراهة نظارة كَرْم النصراني لا ينافي هذا، فإنا ننهاه عن هذا الفعل وعن ثمنه، ثم نقضي له بكرائه، ولو لم يفعل هذا لكان فيه منفعةٌ عظيمةٌ، وإعانةٌ للعصاة، فإن من استأجروه على عمل يستعينون به على المعصية قد حصَّلوا غرضَهم منه، ثم لا يعطونه شيئًا، وإذا أخذ منهم العوض ينزع منه ثم يرد إليهم هنيئًا موفرًا.

فإن قيل: فما تقولون فيمن سلَّم إليهم المنفعة المحرَّمة التي استأجروه عليها كالغناء والنوح والزنا واللواط؟

قيل: إن كان لم يقبض منهم العوض لم يقض له به، باتفاق الأمة، وإن كان قد قبض له لم يطب له أكله ولم يملكه بذلك. والجمهور يقولون: يردُّه عليهم لأنه قبضه قبضًا فاسدًا، وهذا فيه روايتان منصوصتان عن الإمام أحمد: إحداهما: أنه يردُّه عليهم. والثانية: لا يأكله ولا يرده، بل يتصدق به.

قال شيخنا

(1)

: وأصح الروايتين أنه لا يرده عليه، ولا يباح للآخذ، ويُصرَف في مصالح المسلمين، كما نصّ عليه أحمد في أجرة حمّال الخمر.

ومن ظنّ أنها تُردُّ على الباذل المستأجر؛ لأنها مقبوضةٌ بعقد فاسدٍ، فيجب ردُّها عليه كالمقبوض بعقد الربا ونحوه من العقود الفاسدة= قيل له: المقبوض بالعقد الفاسد يجب فيه الترادُّ من الجانبين، فيردُّ كلٌّ منهما على الآخر ما قبضه منه، كما في عقود الربا، وهذا عند من يقول: المقبوض بالعقد

(1)

"اقتضاء الصراط المستقيم"(2/ 46).

ص: 392

الفاسد لا يُملَك. فأما إذا تلف المعوض

(1)

عند القابض وتعذَّر ردُّه فلا يقضى له بالعوض الذي بذله، ويجمع له بين العوض والمعوض، فإن الزاني واللائط ومستمع الغناء والنوح قد بذلوا هذا المال عن طيب نفوسهم، واستوفوا عوضه المحرم، وليس التحريم الذي فيه لحقهم، وإنما هو لحق الله، وقد فاتت هذه المنفعة بالقبض، والأصول تقتضي أنه إذا رد أحد العوضين يرد الآخر، فإذا تعذَّر على المستأجر ردُّ المنفعة لم يردَّ عليه المال الذي بذله في استيفائها.

وأيضًا فإن هذا الذي استوفيت منفعته عليه ضررٌ في أخذ منفعته وعوضها جميعًا، بخلاف ما كان العوض خنزيرًا أو ميتةً فإن ذلك لا ضرر عليه في فواته، فإنه لو كان باقيًا أتلفناه عليه، ومنفعة الغناء والنوح لو لم تفت لتوفرت عليه، بحيث يتمكن من صرفها في أمرٍ آخر، أعني القوة التي عمل بها.

فإن قيل: فيلزمكم على هذا أن تقضوا له بها إذا طالب بقبضها:

قيل: نحن لا نأمر بدفعها ولا بردّها، كعقود الكفار المحرمة، فإنهم إذا أسلموا قبل القبض [لم نحكم بالقبض، ولو أسلموا بعد القبض]

(2)

لم نحكم بالرد، لكن المسلم تحرم عليه هذه الأجرة؛ لأنه كان معتقدًا لتحريمها بخلاف الكافر. فإذا طلب الأجرة قلنا له: أنت فرَّطتَ حيث صرفتَ قوتك

(1)

كذا في الأصل. وفي "الاقتضاء": "المقبوض".

(2)

الزيادة من "الاقتضاء" ليستقيم السياق.

ص: 393

في عمل محرمٍ، فلا يقضى له بالأجرة. فإذا قبضها ثم قال الدافع: هذا المال اقضُوا لي بردِّه، فإنه قبض مني باطلًا، قلنا له: أنت دفعته بمعاوضةٍ رضيتَ بها، فإذا طلبتَ استرجاع ما أخذ منك فاردُدْ إليه ما أخذته منه، فإن في بقائه معه منفعةً له.

فإن قال: قد تعذَّر ردُّ المنفعة التي استوفيتُها منه.

قيل له: فلا يجمع لك بين ما استمتعتَ به من منفعته وبين العوض الذي بذلتَه فيها.

فإن قال: أنا بذلتُ ما لا يجوز بذله، وهو أخَذَ ما لا يجوز أخذُه.

قيل: وهو بذل لك من منفعته ما لا يجوز له بذله، واستوفيتَ أنت ما لا يجوز استيفاؤه، فكلاكما سواءٌ، فما الموجب لرجوعك عليه، ولا يفوت عليك شيء، وتفوت

(1)

المنفعة عليه، وكلاكما راضٍ بما بذل مستوفٍ لعوضه؟

فإن قال: ما بذلتُه أنا عينٌ يمكن الرجوع فيها فيجب، وما بذلَه منفعةٌ لا يمكن الرجوع فيها.

[قيل:]

(2)

إذا أمكن الرجوع في معوَّضها الذي بذلت في مقابلته، أو إذا لم يمكن: الأول مسلَّم، والثاني هو محل النزاع، فكيف يُجعل مقدمةً من

(1)

في الأصل: "وتفويت". والمثبت يقتضيه السياق.

(2)

زيادة ليستقيم السياق.

ص: 394

مقدمات الدليل؟ وقياسه على المقبوض عوضًا عن الخمر والميتة لا يصح كما عرف الفرق بينهما.

على أنا لا نسلِّم أن مشتري الخمر إذا قبض ثمنها وشربها ثم طلب أن يعاد إليه المال أن يُقضَى له به، بل الأوجه أن لا يردّ إليه الثمن، ولا يباح للبائع أيضًا، لاسيما ونحن نعاقب الخمَّار ــ بيَّاعَ الخمر ــ بأن يحرق الحانوت التي يباع فيها، نصَّ عليه أحمد وغيره من العلماء. فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حرَّق حانوتًا يباع فيها الخمر

(1)

، وعلي بن أبي طالب حرَّق قريةً يباع فيها الخمر

(2)

.

وهذا على أصل من يرى جواز العقوبات المالية أطردُ، فإنه إذا جاز عقوبته بمالٍ ينزع منه يفسده عليه ويحول بينه وبينه، فأن لا يقضى له بمالٍ أخرجه في المعصية ويُمنع من استرجاعه أولى وأحرى، وبالله التوفيق.

فصل

(3)

فهذا حكم إجارة نفسه لهم، وأما إجارة داره لأهل الذمة فقال

(1)

أخرجه عبد الرزاق (10051، 17035) وأبو عبيد في "الأموال"(290) وابن سعد في "الطبقات"(7/ 60) وابن زنجويه في "الأموال"(410) والدولابي في "الكنى والأسماء"(1041) بأسانيد صحيحة.

(2)

أخرجه أبو عبيد في "الأموال"(291) عن علي بن أبي طالب بإسناد فيه لين.

(3)

اعتمد المؤلف في هذا الفصل على "اقتضاء الصراط المستقيم"(2/ 21 - 31).

ص: 395

الخلال

(1)

: باب الرجل يؤاجر داره للذمي أو يبيعها منه، ثم ذكر عن المرُّوذي

(2)

أن أبا عبد الله سئل عن رجل باع داره من ذمي وفيها محاريب

(3)

؟ فاستعظم ذلك، وقال نصراني؟! لا تباع، يضرب فيها الناقوس وينصب فيها الصُّلبان! وقال: لا تباع من الكافر، وشدَّد في ذلك.

وعن أبي الحارث

(4)

أن أبا عبد الله سُئل عن الرجل يبيع داره، وقد جاءه نصراني فأرغبه وزاده في ثمن الدار، ترى أن يبيع منه وهو نصراني أو يهودي أو مجوسي؟ قال: لا أرى له ذلك، يبيع داره من كافرٍ يكفر فيها؟ يبيعها من مسلم أحبُّ إليَّ. فهذا نصٌّ على المنع.

ونقل عنه إبراهيم بن الحارث

(5)

: قيل لأبي عبد الله: الرجل يُكرِي منزلَه من الذمي ينزل فيه وهو يعلم أنه يشرب فيه الخمر ويشرك فيه؟ فقال: ابن عونٍ كان لا يُكري إلا من أهل الذمة، يقول: يُرعِبهم. قيل له: كأنه أراد إذلال أهل الذمة بهذا؟ قال: لا، ولكنه أراد أنه كره أن يُرعِب المسلمين، يقول: إذا جئتُه أطلب الكراء من المسلم أرعبته، فإذا كان ذميًّا كان أهونَ عنده. وجعل أبو عبد الله يعجب من ابن عونٍ فيما رأيت.

(1)

في "الجامع"(1/ 200).

(2)

المصدر نفسه (345).

(3)

المقصود بها الأماكن التي تخصَّص لصلاة التطوع وصلاة النساء في المنزل.

(4)

"الجامع"(346).

(5)

المصدر نفسه (342).

ص: 396

وهكذا نقل الأثرم سواءً، ولفظه:"قلت لأبي عبد الله"

(1)

. ومسائل الأثرم وإبراهيم بن الحارث يشتركان فيها غالبًا

(2)

.

ونقل عنه مهنا

(3)

: سألت أحمد عن الرجل يكري المجوسيَّ داره أو دكَّانه وهو يعلم أنهم يُرْبُون

(4)

؟ فقال: كان ابن عونٍ لا يرى أن يكري المسلم، ويقول: أُرعِبهم في أخذ الغلّة، وكان يرى أن يكري غير المسلمين.

قال الخلال

(5)

: كل من حكى عن أبي عبد الله في الرجل يُكرِي داره من ذمي فإنما أجابه أبو عبد الله على فعل ابن عونٍ، ولم يُنقَل لأبي عبد الله فيه قول، وقد حكى عنه إبراهيم أنه رآه معجبًا بقول ابن عونٍ. والذين رووا عن أبي عبد الله في المسلم يبيع داره من الذمي أنه كره ذلك كراهيةً شديدةً. فلو نُقِل لأبي عبد الله قول في السكنى كان السكنى والبيع عندي واحدًا. والأمر في ظاهر قول أبي عبد الله أنه لا يباع منه؛ لأنه يكفر فيها وينصِب الصُّلبان وغير ذلك. والأمر عندي أن لا يباع منه ولا يُكرى لأنه معنى واحدٌ.

قال

(6)

: وقد أخبرني أحمد بن الحسين بن حسان قال: سئل أبو عبد الله

(1)

كما في "اقتضاء الصراط المستقيم"(2/ 22).

(2)

هذا أيضا كلام شيخ الإسلام في المصدر السابق.

(3)

"الجامع"(344).

(4)

كذا في الأصل، وفي "الجامع" و"اقتضاء الصراط":"يزنون".

(5)

"الجامع"(1/ 201).

(6)

أي الخلال في "الجامع"(347).

ص: 397

عن حُصَين بن عبد الرحمن

(1)

، فقال: روى عنه حفصٌ

(2)

، لا أعرفه. قال له أبو بكرٍ: هذا من النسَّاك. حدثني أبو سعيد الأشجّ، سمعت أبا خالدٍ الأحمر يقول: حفصٌ هذا العُدَيُّ

(3)

نفسِه باع دار حصين بن عبد الرحمن عابدِ أهل الكوفة من عونٍ البصري! فقال له أحمد: حفصٌ؟ قال: نعم، فعجب أحمد من حفص بن غياثٍ.

قال الخلال: وهذا أيضًا تقويةٌ لمذهب أبي عبد الله.

قال شيخنا

(4)

: وعونٌ هذا كان من أهل البدع أو من الفُسَّاق بالعمل، فأنكر أبو خالدٍ الأحمر على حفص بن غياثٍ قاضي الكوفة أنه باع دار الرجل الصالح من مبتدعٍ، وعجب أحمد من فعل القاضي.

قال الخلال

(5)

: وإذا كان يكره بيعها من فاسقٍ فكذلك من كافرٍ، وإن كان الذمي يُقَرُّ والفاسق لا يقرُّ، لكن ما يفعله الكافر فيها أعظم.

(1)

هو النخعي الكوفي، قال أبو حاتم: مجهول. وذكره ابن حبان في الثقات. انظر: "تهذيب التهذيب"(2/ 383).

(2)

أي حفص بن غياث النخعي الكوفي، القاضي المشهور.

(3)

كذا في الأصل. وفي هامشه: "السعدي". وفي "الجامع": "العدني". وفي "اقتضاء الصراط": "العدوي". والمثبت تصغير "العدوّ".

(4)

في "اقتضاء الصراط المستقيم"(2/ 25).

(5)

لم أجد كلامه في "الجامع". ونقله عنه شيخ الإسلام في المصدر المذكور.

ص: 398

وهكذا ذكر القاضي

(1)

عن أبي بكر عبد العزيز

(2)

، وقد ذكر قول أحمد في رواية أبي الحارث: لا أرى أن يبيع داره من كافرٍ يكفر بالله فيها، يبيعها من مسلمٍ أحبُّ إلي. فقال أبو بكرٍ: لا فرقَ بين الإجارة والبيع عنده، فإذا أجاز البيع أجاز الإجارة، وإذا منع البيع منع الإجارة. ووافقه القاضي وأصحابه على ذلك.

قال شيخنا

(3)

: وتلخيص الكلام في ذلك: أما بيع داره من كافرٍ فقد ذكرنا منع أحمد منه، ثم اختلف أصحابه في ذلك هل هذا تنزيهٌ أو تحريمٌ؟ فقال الشريف أبو علي بن أبي موسى: كره أحمد أن يبيع مسلم داره من ذمي يكفر فيها بالله تعالى، ويستبيح المحظورات، فإن فعل أساء ولم يبطل البيع. وكذلك أبو الحسن الآمدي أطلق الكراهة مقتصرًا عليها.

وأما الخلال وصاحبه

(4)

والقاضي فمقتضى كلامهم تحريم ذلك، وصرَّح به القاضي فقال

(5)

: لا يجوز أن يؤاجر داره أو بيته ممن يتخذه كنيسةً أو بيت نارٍ، أو يبيع فيه الخمر، سواءٌ شرط أنه يبيع فيه الخمر أم لم يشرط، لكنه يعلم أنه يبيع فيه الخمر. وقد قال أحمد في رواية أبي الحارث: لا أرى أن يبيع داره من كافرٍ يكفر فيها بالله، إلى آخر كلامه.

(1)

هو القاضي أبو يعلى، ونقل عنه شيخ الإسلام في المصدر المذكور.

(2)

في الأصل: "أبي بكر بن عبد العزيز" خطأ. فعبد العزيز بن جعفر هو أبو بكر.

(3)

"اقتضاء الصراط المستقيم"(2/ 26).

(4)

يعني أبا بكر عبد العزيز بن جعفر المعروف بغلام الخلال، المذكور قريبًا.

(5)

كما في "اقتضاء الصراط"(2/ 26). ومنه نقل المؤلف ما في هذا الفصل.

ص: 399

قال القاضي: وقال أحمد أيضًا في نصارى وقفوا ضيعةً لهم للبِيْعة: لا يستأجرها الرجل المسلم منهم يُعينهم على ما هم فيه، قال: وبهذا قال الشافعي.

ثم قال القاضي: فإن قيل: أليس قد أجاز أحمد إجارتها من أهل الذمة مع علمه بأنهم يفعلون فيها ذلك؟

قيل: المنقول عن أحمد أنه حكى قول ابن عونٍ وعجب منه، وذكر القاضي رواية الأثرم. وهذا يقتضي أن القاضي لا يجوِّز إجارتها من ذمي، وقد قال أبو بكرٍ: إذا أجاز البيع أجاز الإجارة، وإذا منع منع.

قال شيخنا

(1)

: وكلام أحمد يحتمل الأمرين، فإن قوله في رواية أبي الحارث:"يبيعها من مسلم أحبُّ إليَّ" يقتضي أنه منع تنزيهٍ. واستعظامُه لذلك في رواية المروذي، وقولُه: لا يباع من الكافر، وتشديدُه في ذلك= يقتضي التحريم.

وأما الإجارة فقد سوَّى الأصحاب بينها وبين البيع، وما حكاه عن ابن عونٍ فليس بقول أحمد، وإعجابه بفعله إنما هو لحسن مقصد ابن عونٍ ونيته الصالحة. ويمكن أن يقال: ظاهر الرواية أنه أجاز ذلك، فإن إعجابه بالفعل دليلُ جوازه عنده، واقتصاره على الجواب بفعل رجل يقتضي أنه مذهبه في أحد الوجهين.

(1)

"اقتضاء الصراط"(2/ 27).

ص: 400

والفرق بين الإجارة والبيع أن ما في الإجارة من مفسدة الإعانة قد عارضَه مصلحةٌ أخرى، وهي صرف إرعاب المطالبة بالكراء عن المسلم، وإنزال ذلك بالكافر، وصار ذلك بمنزلة إقرارهم بالجزية، فإنه وإن كان إقرارًا لكافرٍ لكن لما تضمنه من المصلحة جاز، ولذلك جازت مهادنة الكفار في الجملة.

فأما البيع فهذه المصلحة منتفيةٌ فيه، وهذا ظاهرٌ على قول ابن أبي موسى وغيره إن البيع مكروهٌ غير محرمٍ، فإن الكراهة في الإجارة تزول بهذه المصلحة الراجحة، كما في نظائرها. فيصير في المسألة أربعة أقوالٍ.

قال شيخنا

(1)

: وهذا الخلاف عندنا والتردد في الكراهة هو إذا لم يعقد الإجارة على المنفعة المحرَّمة، فأما إن آجره إياها لأجل بيع الخمر أو اتخاذها كنيسةً أو بِيْعةً لم يجز، قولًا واحدًا. وبه قال الشافعي وغيره. كما لا يجوز أن يُكري أَمتَه أو عبدَه للفجور.

وقال أبو حنيفة: يجوز أن يؤاجرها لذلك

(2)

.

قال أبو بكر الرازي

(3)

: لا فرقَ عند أبي حنيفة بين أن يشترط أن يبيع فيه الخمر وبين أن لا يشترط، لكنه يعلم أنه يبيع فيه الخمر، أن الإجارة تصح.

(1)

"اقتضاء الصراط"(2/ 29). والكلام مستمر.

(2)

أي إجارة الدار لبيع الخمر واتخاذها كنيسة.

(3)

لم أجد كلامه في كتبه المطبوعة.

ص: 401

ومأخذه في ذلك أنه لا يستحق عليه بعقد الإجارة فعل هذه الأشياء

(1)

، وإن شرط له أن لا يبيع فيها الخمر ولا يتخذها كنيسةً، ويستحق عليه الأجرة بالتسليم في المدة. فإذا لم يستحق عليه فعل هذه الأشياء كان ذكرها وترك ذكرها سواءً. كما لو اكترى دارًا لينام فيها أو يسكنها، فإن الأجرة تستحق عليه وإن لم يفعل ذلك، وكذلك يقول فيما إذا استأجر رجلًا لحمل خمرٍ أو خنزيرٍ أنه يصح؛ لأنه لا يتعين حمل الخمر، بل لو حمل عليه بدلَه عصيرًا استحق الأجرة، فهذا التقييد عنده لغوٌ، فهو بمنزلة الإجارة المطلقة، والمطلقة عنده جائزةٌ، وإن غلب على ظنه أن المستأجر يعصي فيها، كما يجوِّز بيع العصير لمن يتخذه خمرًا. ثم إنه كره بيع السلاح في الفتنة، قال: لأن السلاح معمولٌ للقتال لا يصلح لغيره.

وعامة الفقهاء خالفوه في المقدمة الأولى، وقالوا: ليس المقيَّد كالمطلق، بل المنفعة المعقود عليها هي المستحقة، فتكون هي المقابلة بالعوض وهي منفعةٌ محرمةٌ، وإن جاز للمستأجر أن يقيم مثله مقامه. وألزموه ما لو اكترى دارًا ليتخذها مسجدًا، فإنه لا يستحق عليه فعل المعقود عليه، ومع هذا فإنه أبطل هذه الإجارة بناءً على أنها اقتضت فعل الصلاة، وهي لا تستحق بعقد إجارةٍ.

ونازعه أصحابنا وكثيرٌ من الفقهاء في المقدمة الثانية، وقالوا: إذا غلب على ظنِّه أن المستأجر ينتفع بها في محرَّمٍ حرمت الإجارة له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

في الأصل: "فعل هذه الإجارة فعل هذه الأشياء".

ص: 402

لعن عاصرَ الخمر ومعتصرها

(1)

، والعاصر إنما يعصر عصيرًا، لكن إذا رأى أن المعتصر يريد أن يتخذه خمرًا أو عصيرًا استحقَّ اللعنة، وهذا أصلٌ مقرَّرٌ في غير هذا الموضع، لكن معاصي الذمي قسمان:

أحدهما: ما اقتضى عقدُ الذمة إقرارَه عليها.

والثاني: ما اقتضى عقدُ الذمة منْعَه منها أو من إظهارها.

فأما القسم الثاني فلا ريبَ أنه لا يجوز على أصل أحمد أن يؤاجر أو يبايع إذا غلب على الظنّ أنه يفعل ذلك كالمسلم وأولى.

وأما القسم الأول فعلى ما قاله ابن أبي موسى: يُكره ولا يحرم؛ لأنا قد أقررناه على ذلك، وإعانته على سكنى هذه الدار كإعانته على سكنى دار الإسلام، فلو كان هذا من الإعانة المحرمة لما جاز إقرارهم بالجزية. وإنما كُرِه ذلك؛ لأنه إعانةٌ من غير مصلحةٍ لإمكان بيعها من مسلم، بخلاف الإقرار بالجزية فإنه جاز لأجل المصلحة. وعلى ما قاله القاضي: لا يجوز؛ لأنه إعانةٌ على ما يستعين به على المعصية من غير مصلحةٍ تقابل هذه المفسدة، فلم يجز، بخلاف إسكانهم دار الإسلام، فإن فيه من المصالح ما هو مذكورٌ في فوائد إقرارهم بالجزية.

فصل

وحقيقة الأمر أن الكفار ممنوعون من الاستيلاء على ما ثبت للمسلمين

(1)

تقدم تخريجه.

ص: 403

فيه حقٌّ من عقارٍ أو رقيقٍ أو زوجةٍ مسلمةٍ أو إحياء مواتٍ أو تملُّكٍ بشفعةٍ من مسلم؛ لأن مقصود الدعوة أن تكون كلمة الله هي العليا

(1)

، وإنما أُقِرُّوا بالجزية للضرورة العارضة، والحكم المقيد بالضرورة مقدَّرٌ بقدرها، ولهذا لم يثبت عن واحدٍ من السلف لهم حقُّ شفعةٍ على مسلم، وأخذ بذلك الإمام أحمد، وهي من مفرداته التي برز بها على الثلاثة؛ لأن الشِّقص يملكه المسلم إذا أوجبنا فيه شفعةً لذمي كنّا قد أوجبنا على المسلم أن ينقل الملك في عقاره إلى كافرٍ بطريق القهر للمسلم، وهذا خلاف الأصول.

والشفعة في الأصل إنما هي من حقوق أحد الشريكين على الآخر، بمنزلة الحقوق التي تجب للمسلم على المسلم، كإجابة الدعوة وعيادة المريض، وكمنعه أن يبيع على بيع أخيه أو يخطب على خطبته.

قال عبد الله بن أحمد

(2)

: سألت أبي عن الذمي اليهودي والنصراني لهم شفعةٌ؟ قال: لا، قلت: المجوسي؟ قال: ذاك أشدُّ.

وقال حربٌ

(3)

: سألت أحمد قلت: أهل الذمة لهم شفعةٌ؟ قال: لا.

وقال أبو داود

(4)

: سمعت أبا عبد الله يُسأل: للذمي شفعةٌ؟ قال: لا.

وكذلك نقل أبو طالب وصالحٌ وأبو الحارث والأثرم، كلهم قالوا

(1)

انظر: "اقتضاء الصراط المستقيم"(2/ 40)، فقد نقل عنه المؤلف ما يأتي.

(2)

"الجامع" للخلال (323).

(3)

المصدر نفسه (324).

(4)

المصدر نفسه (325)، و"مسائله"(ص 276).

ص: 404

عنه

(1)

: ليس للذمي شفعةٌ.

زاد أبو الحارث: مع المسلم.

قال الأثرم: قيل له: لم؟ قال: لأنه ليس له مثل حق المسلم، واحتجَّ فيه.

قال الأثرم: ثنا الطباع، ثنا هُشيمٌ، أخبرنا الشيباني عن الشعبي أنه كان يقول: ليس لذمي شفعةٌ.

وقال سفيان عن حميدٍ عن أبيه: إنما الشفعة لمسلم، ولا شفعة لذمي.

وقال أحمد

(2)

: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن زيدٍ عن ليثٍ عن مجاهدٍ أنه قال: ليس ليهودي ولا لنصراني شفعةٌ.

وقال الخلال

(3)

: أخبرني محمد بن الحسن بن هارون قال: سئل أبو عبد الله وأنا أسمع عن الشفعة للذمي، قال: ليس للذمي شفعةٌ، ليس له حق المسلم.

أخبرني عِصمة بن عصامٍ

(4)

، حدثنا حنبلٌ قال: سمعت أبا عبد الله قال: ليس ليهودي ولا لنصراني شفعةٌ، إنما ذلك للمسلمين بينهم.

(1)

المصدر نفسه (326). والنصوص الآتية كلها منه.

(2)

كما في "الجامع" للخلال (327).

(3)

المصدر نفسه (328).

(4)

المصدر نفسه (329).

ص: 405

وقال في رواية إسحاق بن منصورٍ

(1)

: ليس لليهودي والنصراني شفعةٌ، قيل: ولم؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب"

(2)

.

وهذا مذهب شريحٍ والحسن والشعبي

(3)

.

واحتج الإمام أحمد بثلاث حججٍ:

إحداها: أن الشفعة من حقوق المسلمين بعضهم على بعضٍ، فلا حقَّ للذمي فيها. ونكتة هذا الاستدلال أن الشفعة من حق المالك، لا من حق المِلْك.

الحجة الثانية: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تبدؤوا اليهودَ والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريقٍ فاضطَرُّوهم إلى أضيقِه"

(4)

. وتقرير الاستدلال من هذا أنه لم يجعل له حقًّا في الطريق المشترك عند تزاحمهم مع المسلمين، فكيف يجعل لهم حقًّا إلى انتزاع ملك المسلم منه قهرًا؟ بل هذا تنبيهٌ على المنع من انتزاع الأرض من يد المسلم وإخراجه منها لحقِّ الكافر، لنفي ضرر الشركة عنه، وضررُ الشركة على الكافر أهونُ عند الله من تسليطه على إزالة مِلْك المسلم عنه قهرًا.

(1)

المصدر نفسه (330).

(2)

حديث حسن، تقدم تخريجه (247، 248).

(3)

انظر: "المغني"(7/ 524). وفيه: روي ذلك عن الحسن والشعبي. ورُوي عن شريح أن له الشفعة.

(4)

أخرجه مسلم (2167) من حديث أبي هريرة.

ص: 406

الدليل [الثالث]: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمع دينانِ في جزيرة العرب"

(1)

. ووجه الاستدلال من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بإخراجهم من أرضهم ونقلها إلى المسلمين، لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله، فكيف نسلِّطهم على انتزاع أراضي المسلمين منهم قهرًا وإخراجهم منها؟

وأيضًا، فالشفعة حقٌّ يختصُّ بالعقار، فلا يساوي الذمي فيه المسلم، كالاستعلاء في البنيان. يوضحه أن الاستعلاء تصرفٌ في هواء ملَكَه المختصُّ به، فإذا مُنع منه فكيف يسلَّط على انتزاع ملك المسلم منه قهرًا، وهو ممنوع من التصرف في هوائه تصرفًا يستعلي فيه على المسلم؟ فأين هذا الاستعلاء من استعلائه عليه بإخراجه من ملكه قهرًا؟

وأيضًا، فالشفعة وجبت لإزالة الضرر عن الشفيع وإن كان فيها ضررٌ بالمشتري، فإذا كان المشتري مسلمًا فسلِّط الذمي على انتزاع ملكه منه قهرًا كان فيه تقديم حقّ الذمي على حق المسلم، وهذا ممتنعٌ.

وأيضًا، فإنه يتضمن مع إضراره بالمسلم إضرارًا بالدين، وتملُّكَ دار المسلمين منهم قهرًا، وشغْلَها بما يُسخِط الله بدلَ ما يرضيه. وهذا خلاف قواعد الشرع. ولذلك حرِّم عليهم نكاح المسلمات إذ كان فيه نوع استعلاءٍ عليهن، ولذلك لم يَجز القصاصُ بينهم وبين المسلمين ولا حدُّ القذف، ولا يُمكَّنون من تملُّك رقيقٍ مسلم، وقد قال تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اَللَّهُ لِلْكَافِرِينَ

(1)

تقدم تخريجه.

ص: 407

عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 140]، ومن أعظم السبيل تسليط الكافر على انتزاع أملاك المسلمين منهم وإخراجهم منها قهرًا، وقد قال تعالى:{لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20]، وهذا يقتضي مطلق المساواة بين المسلم والكافر، لا نفي المساواة المطلقة، فإنها منتفيةٌ عن كل شيئين وإن تماثلا. وبهذه الآية احتجَّ من نفى القصاص بينهم وبين المسلمين.

وأيضًا، فالذمي تَبَعٌ لنا في الدار، وليس بأصلٍ من أهل الدار، ولهذا عند الشافعي يؤدِّي الجزية أجرةً لمكان السكنى والتبسط في دار الإسلام، ولهذا متى نقض العهد أُلحق بمأمنه، وأُخرج من دارنا وأُلحق بداره، فهو في دار الإسلام أُجرِي مُجرى الساكن المنتفع، لا مُجرى الساكن الحقيقي. وحقُّ السكنى لا يقوى على انتزاع الشِّقص من يد مالكه، وقد قال تعالى:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 104]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لليهود:"اعلموا أن الأرض لله ورسوله"

(1)

. فعباده الصالحون هم وارثوها، وهم المُلَّاك لها على الحقيقة، والكفار فيها تَبَعٌ ينتفعون بها لضرورة إبقائهم بالجزية، فلا يساوون المالكين حقيقةً، ولهذا منعهم كثيرٌ من الأئمة من شراء الأرض العشرية، لما في ذلك من إسقاط حقّ المسلم من العُشْر الذي يجب، فكيف يسلَّطون على انتزاع نفس أرض المسلم وعقاره منه قهرًا؟

(1)

أخرجه البخاري (3167) ومسلم (1765) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 408

وأيضًا، فلو كانوا مالكين حقيقةً لما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بإخراجهم من جزيرة العرب وقال:"لئن عِشْتُ لأُخرِجنَّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب"

(1)

. هذا مع بقائهم على عهدهم وعدم نقضهم له، فلو كانوا مالكين لدورهم حقيقةً لما أخرجهم منها ولم ينقضوا عهدًا.

ولهذا احتج الإمام أحمد بذلك على أنه لا شفعةَ لهم على مسلم، وهذا من ألطفِ ما يكون من الفهم، وأدقِّ ما يكون من الفقة.

وأيضًا، فالشفعة تقف على مِلْكٍ ومالك، فإذا اختصَّت الشفعة بملكٍ دون مالك، وهو العقار دون غيره، فأولى أن تختصَّ بمالك دون مالك، وهو المسلم دون غيره. وهذا على أصل من يقول:"الشفعة تَثْبُت على خلاف القياس" ظاهرٌ جدًا، فإنها تسليطٌ على انتزاع ملك الغير منه قهرًا، لمصلحة الشفيع، فيجب أن يقتصر بها على ما قام عليه الدليل، وثبت به الإجماع دون غيره.

وأما نحن فليست الشفعة عندنا على خلاف القياس، ولكن حكمة الشارع وقياس أصوله أوجبتها، دفعًا لضرر الشركة بحسب الإمكان

(2)

، وإذا كان البائع قد رغب عن الشِّقص ورضي بالثمن، فرغبته عنه لشريكه ليدفع عنه ضرر الشريك الدخيل أولى، وهو يأخذ منه الثمن الذي يأخذه من الشريك، ولا يفوت عليه شيء.

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

انظر كلام المؤلف في الشفعة في كتابه "أعلام الموقعين"(2/ 446 وما بعدها).

ص: 409

فهذا محض قياس الأصول، ولكن هذا حقٌّ للمسلم على المسلم، فلا حقَّ للذمي فيه كسائر الحقوق التي لأهل الإسلام بعضهم على بعضٍ، وإذا كان كثيرٌ من الفقهاء يمنعون الذمي من التمليك بالإحياء، كعبد الله بن المبارك والشافعي وأحمد في رواية وكثيرٍ من المالكية

(1)

، مع أن الإحياء لا يتضمن انتزاع ملك مسلم منه، فلأن يُمنع من انتزاع أرض المسلم وعقاره منه قهرًا أولى وأحرى.

وأيضًا، فإذا مُنع من مشاركة المسلم في تجديد الملك فيما هو مشتركٌ ــ وفيه عِمارةُ دار الإسلام ــ فأحرى أن يُمنع من انتزاع عقارٍ ثبت عليه مِلْك المسلم واختصَّ به، فإن إزالة الملك الخاص وانتزاعه من المسلم قهرًا أشدُّ ضررًا من المشاركة فيما هو مشتركٌ بين العموم.

وليس مع الموجبين للشفعة نصٌّ من كتاب الله ولا سنةٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إجماعٌ من الأمة

(2)

، وغاية ما معهم إطلاقاتٌ وعموماتٌ، كقوله: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يُقْسَم

(3)

، وقوله:"من كان له شريكٌ في ربعةٍ أو حائطٍ فلا يحلُّ أن يبيعَ حتى يُؤذِنَ شريكَه"

(4)

، ونحو ذلك مما لا يُعرَض فيه للمستحق، وإنما سِيقت لأحكام الأملاك لا لعموم الأملاك من

(1)

انظر: "المغني"(8/ 147، 148).

(2)

انظر: "المغني"(7/ 524).

(3)

أخرجه البخاري (2257) ومسلم (1608) من حديث جابر رضي الله عنه.

(4)

أخرجه مسلم (1608) من حديث جابر.

ص: 410

أهل الملة وغيرها.

وليس معهم قياسٌ استوى فيه الأصل والفرع في المقتضي للحكم، فإن قياس الكافر على المسلم من أفسد القياس، وكذلك قياس بعضهم من تجب له الشفعة بمن تجب عليه من أفسد القياس أيضًا، فإن الذمي يُستحقّ عليه القصاص، ولا يَستحَقُّه هو على المسلم، ويُستحقّ عليه حدُّ القذف ولا يَستحقُّه، وكذلك المطلِّق في مرض الموت يستحقّ عليه الميراث ولا يستحقّه، وكذلك المسلم يَستحقّ تعلية البنيان على الذمي ولا يَستحقّه الذمي عليه، والمسلم يَستحقّ نكاح الكافرة وشراء الرقيق الكافر، ولا يَستحقّ الذمي نكاحَ المسلمة ولا شراء الرقيق المسلم، والمسلم يستأجر الكافر للخدمة دون العكس.

وكذلك قياس بعضهم الأخذَ بالشفعة على الرد بالعيب من هذا النمط، فإن الرد بالعيب من باب استدراك الظُّلامة وأخذ الجزء الفائت الذي يترك على الثمن في مقابلته، فأين ذلك من تسليطه على انتزاع ملك المسلم منه قهرًا، واستيلائه عليه؟

وكذلك قياس بعضهم ذلك على ثبوت الخيار في البيع هو من هذا الضرب، فإن الخيار إن كان خيار شرطٍ فهو شرطه له على نفسه، وإن كان خيار مجلسٍ فمن لا يثبته كيف يحتجُّ به؟ وإن ألزم به من يثبته فهو يُفرِّق بأن خيار المجلس هو موجب العقد شرعًا فلا يتخلَّف عن العقد، كالحلول والتقابض والسلامة.

ص: 411

وكذلك قياس بعضهم الأخذ بالشفعة على التملك بالإحياء، مع أنه تملُّكٌ بغير عوضٍ يرجع إلى المسلمين، فيقال: من الذي سلَّم الحكم في هذه المسألة؟ وقد تنازع فيها الفقهاء قديمًا وحديثًا على أقوال أربعةٍ

(1)

:

أحدها: أنه لا يملك بالإحياء في دار الإسلام، وهذا اختيار أبي عبد الله بن حامدٍ، وهو منصوص الشافعي، وقول طائفةٍ من المالكية وأهل الظاهر.

الثاني: أنه يملك به كالمسلم، وهو المنصوص عن أحمد في رواية حرب وإبراهيم بن هانئ ويعقوب بن بختان ومحمد بن [أبي] حرب

(2)

، وهي

(3)

قول الحنفية وأكثر المالكية، واختيار أكثر الأصحاب.

واستثنى المالكية ما أحياه بجزيرة العرب، فإنه لا يملكه فإن فعل أعطي قيمة ما عَمَرَ ونزع منه.

والقول الثالث: أنه إن أذن له الإمام ملك به وإلا لم يملك، وهذا مذهب ابن المبارك.

القول الرابع: أنه إن أحيا فيما بَعُدَ من العمران ملَكَه، وإن أحيا فيما قرب من العمران لم يملكه وإن أذن فيه الإمام، فإن فعل أُعطِي قيمةَ ما عمرَ ونزع

(1)

انظر: "عقد الجواهر الثمينة"(3/ 16)، و"المغني"(8/ 148)، و"الاختيار لتعليل المختار"(3/ 66)، و"المهذب"(2/ 294)، و"المحلى"(8/ 243).

(2)

انظر: "الجامع" للخلال (1/ 152، 153).

(3)

كذا في الأصل.

ص: 412

منه، وهذا قول مطرِّفٍ وابن الماجشون

(1)

.

والذين يملِّكونه بالإحياء اختلفوا فيما أحياه، هل يلزمه عنه خراجٌ أو عشر، أو لا يلزمه شيء من ذلك؟

فقال صاحب "المحرر"

(2)

: والذمي كالمسلم في الملك بالإحياء، نص عليه، لكن إن أحيا مواتَ عنوةٍ لزمه عنه الخراج، وإن أحيا غيره فلا شيء عليه فيه. ونقل عنه حربٌ: عليه عشْرُ ثمرِه وزرعه.

والمقصود أنا إن قلنا: لا يملك الذمي بالإحياء بطل الاستدلال به، وإن قلنا: يملك به فالفرق بينه وبين تملكه بالشفعة من وجوهٍ ثلاثةٍ:

أحدها: أنه بالإحياء لا ينتزع ملك مسلم منه، بل يُحيي مواتًا لا حقَّ فيه لأحدٍ ينتفع به، فهو كتملُّك المباحات من الحطب والحشيش والمعادن وغيرها.

الثاني: أنه ليس في إحيائه ضررٌ على المسلم ولا قهرٌ وإذلالٌ له، بخلاف تسليطه على إخراجه من داره وأرضه، واستيلائه هو عليها.

الثالث: أنه بالإحياء عامرٌ للأرض الموات، وفي ذلك نفعٌ له وللإسلام، بخلاف قهره للمسلم وأخذ أرضه وداره منه، وإخراجه منها، فقياس الأخذ بالشفعة على الإحياء قياس باطلٌ.

(1)

"عقد الجواهر الثمينة"(3/ 17).

(2)

(1/ 167).

ص: 413

وعلى هذا فيجاب عن هذا القياس بالجواب المركب: أنه إن لم يكن بين الإحياء والأخذ بالشفعة فرقٌ، فالحكم فيهما واحدٌ وهو عدم الملك بهما، وإن كان بينهما فرقٌ بطل الالتزام به، والله أعلم.

* * * *

ص: 414