الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلامٌ مختلطٌ لا تعويلَ عليه، والمذهب: القطعُ بأخذ الجزية ممن تمسَّك بالدين المبدَّل قبل المبعث وأدركه الإسلام نظرًا إلى تغليب الحَقْن. وإذا تعلَّق بالكتاب فليس كله مبدلًا، وغير المبدل منه ينتصب شبهةً في جواز حَقْن دمه بالجزية، إذ ذاك لا ينحطُّ عن الشبهة التي تمسَّك
(1)
بها المجوس، فلا ينبغي أن يُعتدَّ بهذا، بل الوجه القطع بقبول الجزية كما قدمنا. انتهى.
وهذا الذي ذكره في غاية القوة، وما ذكره من حكى كلامه مخالفٌ للمعلوم المقطوع به من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبقي عليه درجةٌ واحدةٌ، وهي القطع بأخذها ممن تهوَّد بعد المبعث قبل الأمر بالقتال، إذ كانوا مُقَرِّين على دينهم، فقد دخل في دينٍ باطلٍ يقرّ أهله عليه، كما تقدم.
فصل
في بني تغلب وأحكامهم
بنو تغلب بن وائل بن ربيعة بن نِزارٍ من صميم العرب، انتقلوا في الجاهلية إلى النصرانية، وكانوا قبيلةً عظيمةً لهم شوكةٌ قويةٌ، واستمرُّوا على ذلك حتى جاء الإسلام، فصُولحوا على مضاعفة الصدقة عليهم عوضًا من الجزية. واختلفت الرواية متى صُولحوا.
ففي "سنن أبي داود"
(2)
من حديث إبراهيم بن مهاجرٍ، عن زياد بن
(1)
في هامش الأصل: "تعلق".
(2)
برقم (3040)، وكذا أخرجه الطبري في "تهذيب الآثار"(ص 223 - مسند علي) والعقيلي في "الضعفاء"(3/ 440) وأبو نعيم في "الحلية"(4/ 198)، كلهم من طريق عبد الرحمن بن هانئ النخعي، عن شريك، عن إبراهيم بن مهاجر به.
حُدَيرٍ قال: قال عليٌّ: لئن بقيتُ لنصارى بني تغلب لأقتُلَنَّ المُقاتِلة، ولأَسبِينَّ الذرّيةَ، فإني كتبتُ الكتاب بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يُنصِّرُوا أبناءهم.
لكن قال أبو داود: هذا حديث منكرٌ، بلغني عن أحمد بن حنبل أنه كان ينكر هذا الحديث إنكارًا شديدًا
(1)
. وقال أبو علي
(2)
: لم يقرأه أبو داود في العرضة الثانية. انتهى.
وإبراهيم بن مهاجرٍ ضعَّفه غير واحدٍ
(3)
. والمشهور أن عمر هو الذي صالحهم.
قال أبو عبيد
(4)
: ثنا أبو معاوية، ثنا أبو إسحاق الشيباني، عن السفَّاح، عن داود بن كُردوسٍ قال: صالحتُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن بني تغلب ــ بعدما قطعوا الفُرات وأرادوا أن يلحقوا بالروم ــ على أن لا يَصْبُغوا صبيًّا،
(1)
قال أحمد في عبد الرحمن بن هانئ النخعي: ليس بشيء، كما في "العلل" برواية ابنه (5691). وقال العقيلي بعد أن أخرج الحديث في ترجمته:"لا يتابَع عليه". أي من هذا الطريق، لأنه إنما يُعرف من رواية الكلبي، عن أصبغ بن نُباتة ــ وكلاهما متروك منكر الحديث ــ عن عليٍّ بنحوه. أخرجه عبد الرزاق (9975) وأبو يعلى (323، 332) من طرق عن الكلبي به.
(2)
هو اللؤلؤي راوي "السنن" عن أبي داود.
(3)
انظر "ميزان الاعتدال"(1/ 67، 68).
(4)
في "الأموال"(72)، وأخرجه يحيى بن آدم في "الخراج"(206، 208) ــ ومن طريقه البيهقي (9/ 216) ــ وابن أبي شيبة (10684) من طرق عن أبي إسحاق الشيباني به.
ولا يُكرهوا على دينٍ غير دينهم، وعلى أن عليهم العُشر مضاعفًا، من كل عشرين درهمًا درهمٌ. فكان داود يقول: ليس لبني تغلب ذمَّةٌ؛ قد صَبَغوا في دينهم.
قال أبو عبيد: قوله "لا يَصبُغوا في دينهم" يعني: لا يُنصِّروا أولادهم.
قال أبو عبيد: وكان عبد السلام بن حربٍ يزيد في إسناد هذا الحديث: عن داود عن عُبادة بن النعمان عن عمر
(1)
.
وحدثني سعيد بن سليمان عن هُشيمٍ
(2)
قال: أبنا مغيرة، عن السفَّاح بن المثنى، عن زرعة بن النعمان ــ أو النعمان بن زرعة ــ أنه سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكلَّمه في نصارى بني تغلب، وكان عمر رضي الله عنه قد همَّ أن يأخذ منهم الجزية، فتفرَّقوا في البلاد، فقال النعمان لعُمر: يا أمير المؤمنين، إن بني تغلب قومٌ عرب يَأْنَفون من الجزية، وليست لهم أموالٌ، إنما هم أصحاب حروثٍ ومَواشي
(3)
، ولهم نكايةٌ في العدو، فلا تُعِنْ عدوَّك عليك بهم. فصالحَهم عمر رضي الله عنه [على] أن أَضعفَ عليهم الصدقة، واشترط
(1)
أخرجه يحيى بن آدم (207) عن عبد السلام بن حرب عن أبي إسحاق الشيباني به. ومن طريق يحيى أخرجه البيهقي (9/ 216). وعبد السلام ثقة حافظ، على لين في بعض حديثه. وهنا قد خالف غيرَ واحدٍ بذكر عُبادة بن النعمان فيه. وإنما ورد ذكر "عُبادة بن النعمان بن زرعة" في قصة أخرى رويت من طريق الشيباني، عن السفاح، عن داود بن كردوس؛ أخرجها ابن أبي شيبة (18611) والبخاري في "التاريخ"(4/ 212).
(2)
في هامش الأصل: "هشام" بعلامة خ.
(3)
كذا في الأصل بإثبات الياء.
عليهم أن لا يُنصِّروا أولادهم
(1)
.
قال مغيرة: فحُدِّثتُ أن عليًّا قال: إن تفرَّغتُ لبني تغلب ليكونَنَّ لي فيهم رأيٌ، لأقتلنَّ مقاتِلَتَهم ولأَسبِينَّ ذراريَّهم، فقد نقضوا العهد، وبرئتْ منهم الذمة حين نصَّروا أولادهم
(2)
.
وحدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة، عن الحَكَم، عن إبراهيم، عن زياد بن حُدَيرٍ: أن عمر رضي الله عنه أمره أن يأخذ من نصارى بني تغلب العُشر، ومن نصارى أهل الكتاب نصف العشر
(3)
.
قال أبو عبيد: والحديث الأول ــ حديث داود بن كُردوسٍ وزُرعة ــ هو الذي عليه العمل: أن يكون عليهم الضِّعف مما على المسلمين، أَلَا تسمعه يقول: من كل عشرين درهمًا درهمٌ؟ وإنما يؤخذ من المسلمين إذا مرُّوا بأموالهم على العاشر: مِن كل أربعين درهمًا درهمٌ، فذلك ضِعف هذا، وهو المضاعف الذي اشترط عمر عليهم. وكذلك سائر أموالهم من المواشي
(1)
"الأموال"(74)، وعلَّقه البخاري في "تاريخه"(4/ 212) عن النفيلي عن هشيم به. وخالف فيه مغيرة أبا إسحاق الشيباني في إسناده، فأسقط داود بن كردوس، وزاد زرعة بن النعمان، كما أنه أخطأ في اسم السفاح ــ وهو ابن مطر ــ فجعله ابن المثنَّى بن حارثة (كذا في تاريخ البخاري)، فأخشى أن يكون مغيرة ــ وهو ثقة مدلس ــ دلَّسه عن بعض الضعفاء.
(2)
سبق تخريجه وبيان وهيه، ولعل مغيرة سمعه من الكلبي ولذا أبهمه.
(3)
"الأموال"(75)، وأخرجه أيضًا عبد الرزاق (19400) عن عبد الله بن كثير عن شعبة به. وإسناده صحيح.
والأرضين يكون عليها في تأويل هذا الحديث الضِّعفُ أيضًا، فيكون في خمسٍ من الإبل شاتان، وفي العشر أربعُ شياهٍ، وكذلك الغنم والبقر. وعلى هذا الحَبُّ والثمار، فيكون ما سَقَتْه السماء فيه عُشرانِ وفيما سُقِي بالغَرْب عُشر. وفي حديث عمر رضي الله عنه: وشرطه عليهم أن يكون على أموال نسائهم وصبيانهم مثلُ ما على أموال رجالهم، وكذلك يقول أهل الحجاز. انتهى.
فهذا الذي فعله عمر رضي الله عنه وافقه عليه جميع الصحابة والفقهاء بعدهم.
ويُروى عن عمر بن عبد العزيز أنه أبى عليهم إلا الجزية، وقال: لا والله إلا الجزية، وإلا فقد آذنتم بالحرب
(1)
.
ولعله رأى أن شوكتهم ضعفتْ، ولم يخَفْ منهم ما خاف عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإن عمر رضي الله عنه كان بعدُ مشغولًا بقتال الكفار وفتح البلاد، فلم يأمن أن يلحقوا بعدوّه فيقوونهم عليه، وعمر
(2)
أمِنَ ذلك.
وأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: لئن بقيتُ لهم لأقتلنَّ مقاتِلتَهم
(1)
ذكره ابن قدامة في "المغني"(13/ 224) بهذا اللفظ، والمؤلف صادر عنه. وفي "المدونة" (2/ 283) عن ابن وهب عن ابن أبي ذئب أن عمر بن عبد العزيز قال لنصارى كلب وتغلب: لا نأخذ الصدقة منكم، وعليكم الجزية. فقالوا: أتجعلنا كالعبيد؟ قال: لا نأخذ منكم إلا الجزية. قال: فتوفي عمر وهم على ذلك.
(2)
أي: ابن عبد العزيز.
ولأَسْبِيَنَّ ذريتَهم، فإنهم نقضوا العهد ونصَّروا أولادهم
(1)
.
وعلى هذا فلا تجري هذه الأحكام التي ذكرها الفقهاء فيهم، فإنهم ناقضون للعهد، ولكن العمل على جريانها عليهم، فلعل بعض الأئمة جدَّد لهم صلحًا على أن حكم أولادهم حكمهم كسائر أهل الذمة، والله أعلم.
فصل
(2)
فتؤخذ الصدقة منهم مضاعفةً من مالِ مَن تؤخذ منه الزكاة لو كان مسلمًا، من ذكرٍ وأنثى وصغيرٍ وكبيرٍ وزَمِنٍ وصحيح وأعمى وبصيرٍ. هذا قول أهل الحجاز وأهل العراق وفقهاء الحديث منهم الإمام أحمد وأبو عبيد، إلا أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى استثنى الصبيان والمجانين بناءً على أصله في أنه لا زكاة عليهم
(3)
، ولا تُؤخَذ الصدقة مضاعفةً من أرضهم كما تُؤخذ من أرض الصبي والمجنون المسلم الزكاة.
وأما الشافعي رحمه الله تعالى فإنه قال: المأخوذ منهم جزيةٌ وإن كان باسم الصدقة، فلا تُؤخذ إلا ممن تؤخذ منه الجزية، فلا تُؤخذ من امرأةٍ ولا صبي ولا مجنونٍ، وحكمها عنده حكم الجزية وإن خالفتْها في الاسم.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال:
(1)
تقدم قريبًا.
(2)
انظر: "المغني"(13/ 224، 225).
(3)
كما في "الخراج" لأبي يوسف (ص 122).
هؤلاء حمقى رَضُوا بالمعنى وأَبَوا الاسم
(1)
.
وقال النعمان بن زرعة: خذ منهم الجزية باسم الصدقة
(2)
.
قال الشافعي
(3)
رحمه الله تعالى: واختلفت الأخبار عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في نصارى العرب من تَنوخَ وبَهراء وبني تغلب، فرُوي عنه أنه صالحهم على أن يُضْعِف عليهم الجزية، ولا يُكرَهوا على غير دينهم. وهكذا حفظ أهل المغازي فقالوا: رَامَهم عمر رضي الله عنه على الجزية فقالوا: نحن عربٌ لا نؤدّي كما يؤدِّي العجم، ولكن خُذ منّا كما يأخذ بعضكم من بعضكم، يعنون الصدقة، فقال عمر: هذا فرض على المسلمين
(4)
، فقالوا: ازدَدْ
(5)
ما شئتَ بهذا الاسم لا اسم الجزية. فراضَاهم على أن أَضْعفَ عليهم الصدقة، [وقال للمُعشّر]: فإذا أضعفتَها عليهم فانظر إلى مواشيهم وذهبهم وورِقهم وأطعمتهم وما أصابوا من معادنِ بلادهم وركازِها، وكل أمرٍ أُخِذَ فيه من مسلمٍ خُمسٌ فخذْ خُمسينِ، وعُشْرٌ فخُذْ عُشْرينِ، ونصفُ عُشرٍ فخُذْ عُشرًا، ورُبع عُشرٍ فخُذْ نصفَ عُشرِ، وكذلك مواشيهم فخُذِ الضِّعفَ منهم. وكلّ ما أُخِذ من عُشرِ ذمي فمسلكُه مسلكُ الفيء، وما اتَّجر به نصارى
(1)
كذا في "المغني"(13/ 225)، ولم أجده في كتب الشافعي ولا في كتب البيهقي نقلًا عنه.
(2)
"المغني"(13/ 225).
(3)
انظر: "الأم"(5/ 690 وما بعدها)، والنقل من "مختصر المزني"(ص 386).
(4)
"فقالوا نحن
…
على المسلمين" ساقطة من المطبوع.
(5)
كذا في الأصل. وفي "الأم" و"مختصر المزني": "فزِدْ". وفي المطبوع: "اردد" خطأ.
العرب وأهل دينهم وإن كانوا يهودَ تُضاعَفُ عليهم فيه الصدقة، انتهى.
قالوا: ولأنهم أهل ذمةٍ، فكان الواجب عليهم جزية لا صدقة، كغيرهم من أهل الذمة.
قالوا: ولأنه مالٌ يؤخذ من أهل الكتاب لحَقْنِ دمائهم، فكان جزيةً كما لو أُخذ باسم الجزية
(1)
.
قالوا: ولأن الزكاة طُهرةٌ، وهؤلاء ليسوا من أهل الطهرة.
قالوا: ولأن عمر رضي الله عنه إنما سألهم الجزية لم يسألهم الصدقة، فالذي سألهم إياه عمر رضي الله عنه هو الذي بذلوه بغير اسمه.
قالوا: ولأن نساءهم وصبيانهم ومجانينهم ليسوا من أهل الزكاة ولا من أهل الجزية، فلا يجوز أن يُؤخذ منهم واحدٌ منهما.
قالوا: ولأن المأخوذ منهم مصرف الفيء لا مصرف الصدقة، فيباح لمن يُباح له أخذُ الجزية.
قال أصحاب أحمد
(2)
: المتَّبَع في ذلك فعل عمر رضي الله عنه، وهم سألوه أن يأخذ منهم ما يأخذ من المسلمين ويُضعِفه عليهم، فأجابهم إلى ذلك، وهو يأخذ من صبيان المسلمين ونسائهم ومجانينهم، وذلك هو الزكاة، وعلى هذا البذل والصلح دخلوا وبه أقرُّوا.
(1)
في الأصل: "الصدقة". والمثبت من هامشه بعلامة خ.
(2)
انظر: "المغني"(13/ 225).
قالوا: ويدل عليه قوله: "من كل عشرين درهمًا درهم"، فهذا غير مذهب الجزية، بل مذهب الصدقة.
قالوا: فشرط عمر رضي الله عنه يقتضي أن يكون على أموال نسائهم وصبيانهم ما على أموال رجالهم.
قالوا: ولفظ الصلح إنما وقع على الصدقة المضاعفة لا على الجزية، وهم الذين بذلوا ذلك فيؤخذ منهم ما التزموه.
قالوا: ولأن نساءهم وصبيانهم صِيْنوا عن السبي بهذا الصلح ودخلوا في حكمه، فجاز أن يدخلوا في الواجب به كالرجال العقلاء.
قال أبو عبيد
(1)
: وهذا أشبهُ لأنه عمَّهم بالصلح، فلم يَستثنِ منهم صغيرًا دون كبيرٍ، والله أعلم.
فصل
وعلى هذا فمن كان منهم فقيرًا أو له مالٌ غير زكوي كالدُّور وثياب البذْلة وعَبيدِ الخدمة فلا شيء عليه، كما لا يجب ذلك على أهل الزكاة من المسلمين، ولا يُؤخذ مِن أقلَّ مِن نصابٍ، وإن كان المأخوذ من أحدهم أقلَّ من جزيةٍ كفى. وقال في "الرعاية"
(2)
: يحتمل أن يكمل الجزية.
(1)
"الأموال"(1/ 76).
(2)
(1/ 588).
وفي مصرفه روايتان
(1)
:
إحداهما: أنه مصرف الفيء، وهذا اختيار القاضي أبي يعلى
(2)
، وهو الصحيح وهو مذهب الشافعي؛ لأنه مأخوذٌ من مشركٍ، وهو جزيةٌ باسم الصدقة.
والثانية: أن مصرفه مصرف الصدقة، وهي اختيار أبي الخطاب، لأنه معدولٌ به عن الجزية في الاسم والحكم والقدر، فيُعدَل بمصرفه عن مصرفها.
قال الشيخ أبو محمد المقدسي
(3)
: والأول أقيس وأصح؛ لأن معنى الشيء أخصُّ به من اسمه، ولهذا لو سُمِّي رجلٌ أسدًا أو نَمِرًا أو أسودَ أو أحمرَ لم يَصِرْ له حكم المسمَّى بذلك.
قال: ولأنَّ هذا لو كان صدقةً على الحقيقة لجاز دفعها إلى فقراءِ من أُخِذتْ منهم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"أَعْلِمْهم أن عليهم صدقةً، تُؤخذ من أغنيائهم فَتُرَدُّ في فقرائهم"
(4)
.
(1)
انظر: "المغني"(13/ 225).
(2)
في "الأحكام السلطانية"(ص 137).
(3)
"المغني"(13/ 225).
(4)
أخرجه البخاري (1395) ومسلم (19) عن ابن عباس في حديث إرسال معاذٍ إلى اليمن.
فصل
(1)
فإن بذَلَ التغلبيُّ الجزية وتُحَطُّ عنه الصدقة فهل يقبل منه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يقبل منه، لأن الصلح وقع على هذا، فلا يُغيَّر.
والثاني: يُقبل منه، لقوله تعالى:{حَتَّى يُعْطُوا اُلْجِزْيَةَ} [التوبة: 29]، وهذا قد أعطى الجزية، ولأن الجزية هي الأصل والصدقة بدلٌ، فإذا بذل الأصل حرم قتله وقتالُه
(2)
، ولأن الجزية هي الصَّغار والذُّل الذي أَنِفُوا منه، فترك لمصلحةٍ، فإذا زالت المصلحة وأقرُّوا به والتزموه قُبِل منهم. وهذا أرجح، والله أعلم.
وأما إن كان باذلُ الجزية منهم حربيًّا لم يدخل تحت الصلح فإنها تُقبل منه قولًا واحدًا، ولا يلزمه ما صالح عليه إخوانه. وإن أراد الإمام نقْضَ صلحهم وإلزامهم بالجزية لم يكن له ذلك؛ لأن عقد الذمة على التأبيد، وقد عقد معهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلم يكن لغيره نقضُه ما داموا على العهد.
فصل
وهذا الحكم يختصُّ ببني تغلب، نصَّ عليه أحمد.
(1)
انظر: "المغني"(13/ 226).
(2)
"وقتاله" ساقطة من المطبوع.
وقال علي بن سعيد
(1)
: سمعت أحمد يقول: أهل الكتاب ليس عليهم في مواشيهم صدقةٌ ولا في أموالهم، إنما تُؤخذ منهم الجزية، إلا أن يكونوا صُولحوا على أن تؤخذ منهم، كما صنع عمر رضي الله عنه بنصارى بني تغلب حين أضعفَ عليهم الصدقةَ في صلحه إياهم.
وقال صالح بن أحمد
(2)
: قلت لأبي: هل على نساء أهل الذمة وصبيانهم ونخيلهم وكُرومِهم وزروعهم ومواشيهم صدقةٌ؟ قال: ليس عليهم فيها شيء إلا على نصارى بني تغلب.
وكذلك قال في رواية ابن منصورٍ
(3)
.
وقال حرب بن إسماعيل
(4)
: قلت لأحمد: فالذي
(5)
تكون له الغنم أو الإبل هل تؤخذ منهم؟ قال: كيف تؤخذ منهم؟! إلا نصارى بني تغلب فإنها تُضاعَف عليهم. قال: وكذلك قال قومٌ في أرضهم: تُضاعَف عليهم، أُراه قال: إن اشتروا من المسلمين.
وقال الميموني
(6)
: قرأت على أبي عبد الله هل على أهل الذمة صدقةٌ
(1)
كما في "الجامع" للخلال (1/ 142).
(2)
المصدر نفسه (1/ 143).
(3)
كما في المصدر السابق.
(4)
"الجامع"(1/ 143).
(5)
كذا في الأصل، وفي "الجامع":"فالذمي".
(6)
كما في "الجامع"(1/ 143).
في إبلهم وبقرهم وغنمهم؟ فأملى عليَّ
(1)
: ليس عليهم. وقال الزهري: لا نعلم في مواشي أهل الذمة صدقةً إلا بني تغلب
(2)
. قال: وعمر رضي الله عنه لمَّا أقرَّهم على النصرانية أضعفَ عليهم لأنهم عرب. قلت: وتذهب إلى أن تُؤخذ من مواشي بني تغلب خاصّةً؟ قال: نعم. قلتُ: وتُضعِف عليهم على ما فعل عمر رضي الله عنه؟ قال: نعم.
وقال القاضي وأبو الخطّاب
(3)
: حكمُ من تنصَّر من تَنُوخَ وبَهْراء، أو تهوَّدَ من كِنانة وحِمْير، أو تمجَّس من تميمٍ
(4)
= حكمُ بني تغلب سواءً.
وهذا مخالفٌ لنص أحمد ولعموم الأدلة، فلا يُلتفَت إليه، وإنما أُخِذ ذلك قياسًا على نصارى بني تغلب، وقد حكينا كلام الشافعي أن هذا الحكم في نصارى بني تغلب وتنوخ وبهراء، والمحفوظ عن عمر رضي الله عنه إنما هو في نصارى بني تغلب خاصةً. وقد ظنَّ القاضي وأبو الخطّاب أن ذلك لكونهم عربًا، فألحقوا بهم هذه القبائل، وهذا لا يصح، وقد نص أحمد على الفرق كما ذكرنا نصوصه.
قال الشيخ في "المغني"
(5)
: ولنا عموم قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا
(1)
في الأصل: "عليهم". والتصويب من "الجامع".
(2)
قول الزهري أخرحه يحيى بن آدم (201) عن ابن المبارك عن يونس عنه.
(3)
انظر: "المغني"(13/ 226).
(4)
في الأصل: "فهم"، وفي هامشه:"تهم" بعلامة خ. والتصويب من "المغني".
(5)
(13/ 226).
اُلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا إلى اليمن فقال:"خُذْ من كل حالمٍ دينارًا" وهم عرب، وقبِلَ الجزية من أهل نجران وهم من بني الحارث بن كعبٍ. قال الزهري: أول من أعطى الجزية أهلُ نجران، وكانوا نصارى
(1)
. وأخذَ الجزيةَ من أُكيدِرِ دُومةَ وهو عربي. وحكم الجزية ثابتٌ بالكتاب والسنة في كل كتابيٍّ، عربيًّا كان أو غير عربي، إلا ما خُصَّ به بنو تغلب لمصالحة عمر رضي الله عنه إياهم، ففي من عداهم يبقى الحكم على عموم الكتاب وشواهد السنة. ولم يكن بين [غير] بني تغلب وبين أحدٍ من الأئمة صلحٌ كصلحِ بني تغلب فيما بلغنا، ولا يصح قياسُ غير بني تغلب عليهم لوجوهٍ:
أحدها: أن قياس سائر العرب عليهم مخالفٌ للنصوص التي ذكرناها، ولا يصح قياس المنصوص عليه على ما يلزم منه مخالفةُ النص.
الثاني: أن العلة في بني تغلب الصلح، ولم يوجد الصلح مع غيرهم ولا يصح القياس مع تخلُّف العلة.
الثالث: أن بني تغلب كانوا ذوي قوةٍ وشوكةٍ، لَحِقوا بالروم وخِيفَ منهم الضرر إن لم يُصالَحوا، ولم يوجد هذا لغيرهم. فإن وُجِد هذا لغيرهم فامتنعوا من أداء الجزية، وخِيفَ الضررُ بترك مصالحتهم، فرأى الإمام مصالحتهم على أداء الجزية باسم الصدقة= جاز ذلك إذا كان المأخوذ منهم بقدر ما يجب عليهم من الجزية أو زيادة. وقد ذكر ذلك الشيخ أبو إسحاق في
(1)
تقدَّم تخريجه.
"المهذَّب"
(1)
، ونص عليه أحمد.
والحجة في هذا قصةُ بني تغلب وقياسهم عليهم.
قال علي بن سعيد
(2)
: سمعت أحمد يقول: أهل الكتاب ليس عليهم في مواشيهم صدقةٌ، ولا في أموالهم، إنما تُؤخذ منهم الجزية إلا أن يكونوا صُولِحوا على أن تُؤخذ منهم، كما صنع عمر رضي الله عنه بنصارى بني تغلب حين أضعفَ عليهم الصدقةَ في صلحه إياهم، إذا كانوا في معناهم.
أما قياس من لم يُصالَح عليهم في جعلِ جزيتهم صدقةً فلا يصح، والله أعلم، انتهى
(3)
.
فصل
(4)
وأما مناكحتهم وحلُّ ذبائحهم ففيها قولان للصحابة، وهما روايتان عن الإمام أحمد:
إحداهما: لا تحلُّ، وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه
(5)
والشافعي رحمه الله تعالى. وطردَ الشافعي المنعَ في ذبائح العرب من أهل الكتاب
(1)
(3/ 307).
(2)
كما في "الجامع" للخلال (1/ 142).
(3)
أي انتهى النقل من "المغني".
(4)
انظر "المغني"(13/ 228).
(5)
أخرجه عبد الرزاق (10034) وابن أبي شيبة (16447) والطبري في "تفسيره"(8/ 133) وفي "تهذيب الآثار"(ص 226 - مسند علي) من طرق صحاحٍ وحسان.
كلهم
(1)
.
واختُلِف في مأخذ هذا القول فقالت طائفةٌ: لم يتحقق دخولهم في الدين قبل التبديل، فلا يثبت لهم حكم أهل الكتاب
(2)
. وهذا المأخذ جارٍ على أصل الشافعي، وقد عرفتَ ما فيه.
وقالت طائفةٌ أخرى: إنهم لم يدينوا بدين أهل الكتاب، بل انتسبوا إليه ولم يتمسكوا به عملًا. وهذا مأخذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإنه قال: إنهم لم يتمسكوا من دينهم إلا بشرب الخمر
(3)
. وهذا المأخذ أصح وأفقه.
والقول الثاني: أنه تحلُّ مناكحتهم وذبائحهم، وهذا هو الصحيح عن أحمد، رواه عنه الجماعة، وهو آخر الروايتين عنه. قال إبراهيم بن الحارث: وكان آخر قوله أنه لا يرى بذبائحهم بأسًا
(4)
.
وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما
(5)
، وروي نحوه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
(6)
، وبه قال الحسن والنخعي والشعبي وعطاءٌ الخراساني والحكم
(1)
انظر: "الأم"(3/ 606).
(2)
"المهذب"(1/ 457).
(3)
جزء من أثر عليٍّ الذي سبق تخريجه آنفًا.
(4)
"الجامع" للخلال (2/ 440).
(5)
أخرجه مالك في "الموطأ"(1407)، وابن أبي شيبة (16451) والطبري في "تفسيره"(8/ 130، 132) وفي "تهذيب الآثار"(ص 228 - مسند علي)، من طرق عنه.
(6)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبير"(9/ 216، 284).
وحمادٌ وإسحاق وأبو حنيفة وأصحابه. قال الأثرم
(1)
: وما علمتُ أحدًا كرهه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا عليًّا رضي الله عنه.
وذلك لدخولهم في عموم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} ، وقوله تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 6]، ولأنهم أهل كتابٍ يُقَرُّون على دينهم ببذل المال، فتحل ذبائحهم ونساؤهم كبني إسرائيل.
فصل
وقعت مسألة: وهي هل يصح ضمان الجزية عمن هي عليه أم لا؟
فكان الجواب: لا يخلو إما أن يكون الضامن مسلمًا أو كافرًا:
فإن كان مسلمًا لم يصح ضمانه؛ لأن الجزية صَغارٌ وإذلالٌ
(2)
، فلا يجوز للمسلم أن يضمنه عن الكافر؛ لأنه يصير مطالَبًا بها، وهو فرعٌ على المضمون عنه، فلا يصح ذلك، كما لو ضمن ما عليه من العقوبة.
وإن كان الضامن ذميًّا، فإن ضمِنَها بعد الحول صح ضمانه، لأنه ضمن دَينًا مستقرًّا على من هو في ذمته، وإن كان بعرض السقوط
(3)
بالإسلام فهذا لا يمنع صحة الضمان، كما يصح ضمان الصداق قبل الدخول وإن كان
(1)
انظر: "الجامع" للخلال (2/ 440).
(2)
"وإذلال" ساقطة من المطبوع.
(3)
في المطبوع: "بمعرض من السقوط".
بعرض سقوطه كله أو نصفه، و [يصح] ضمان ثمن المبيع
(1)
قبل قبضه، وإن كان بصدد السقوط بتلفه.
وإن ضمنها قبل الحول فهذا ينبني على ضمان ما لم يجب، والجمهور يصحِّحونه والشافعي يُبطِله، فإذا صححناه صحَّ ضمان الذمي للجزية، كما يصح ضمان ما يُدايِنه به أو ما يُتلِفه عليه، وغايته أنه ضمانٌ معلَّقٌ بشرطٍ، وذلك لا يُبطله، فإن الضمان يجري مجرى النذر، فإنه التزامٌ، فلا يُنافيه التعليق بالشرط.
ولأصحاب الشافعي وجهان في صحة ضمان المسلم للجزية عن الذمي.
قال بعضهم: وذلك مبنيٌّ على أنه هل يجب عند أداء الجزية الصَّغارُ من جَرِّ اليد والانتهار والإذلال أم لا؟ فإن أوجبناه لم يصح الضمان، وإن لم نُوجِبه صح.
قال الجويني في "نهايته"
(2)
: والأصح عندي تصحيح الضمان، فإن ذلك لا يقطع إمكان توجيه الطلب على المضمون عنه.
قلت: وعلى هذا المأخذ فينبغي أن لا يصح ضمان الذمي أيضًا للجزية؛ لأنه يُفضي إلى سقوط الصَّغار عن المضمون عنه إذا أدَّى الضامن، كما أجْرَوا الخلافَ في توكيل الذميِّ الذميَّ في أداء الجزية عنه.
(1)
في المطبوع: "البيع".
(2)
"نهاية المطلب"(18/ 17).
ولم أر لأصحابنا في هذه المسألة كلامًا إلا ما ذكره أبو عبد الله بن حمدان في "رعايته"
(1)
فقال: وهل للمسلم أن يتوكَّل لذمي في أداء جزيته أو أن يضمنها عنه أو أن يحيل الذمي عليه بها؟ يحتمل وجهين أظهرهما المنع، انتهى.
وعلى هذا يجري الخلاف فيما إذا تحمَّلَها عنه مسلم أو ذمي، والحَمالة أن يقول: أنا ملتزمٌ لما على فلانٍ بشرط براءة ذمته منه. وقد اختلف الفقهاء في أصل هذه الحمالة.
فالشافعي وأحمد لا يصحِّحانها، هكذا ذكره أصحابه عنه، ولا نصَّ له في المنع، والصحيح الجواز، وهو مقتضى أصوله، وهو اختيار شيخنا، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة.
قالت الحنفية
(2)
: المضمون له بالخيار، إن شاء طالب الأصل وإن شاء طالب الضامن، إلا إذا اشترط فيه براءة الأصل، فحينئذٍ تنعقد حوالةً اعتبارًا بالمعنى، كما أن الحوالة بشرط أن لا يبرأ المحيلُ تكون كفالةً. فعندهم تصح الحوالة بشرط أن لا يبقى الدَّين في ذمة المحيل، وينقلب ضمانًا، ويصح الضمان بشرط براءة المضمون عنه، وتنقلب حوالةً. وهذا صحيح لا يخالف نصًّا ولا قياسًا، ولا يتضمَّن غررًا، فالصواب القول به.
والمقصود أن المسلم لو تحمَّل عن الذمي بالجزية لم يصح تحملُه،
(1)
لم أجد كلامه في "الرعاية الصغرى" و"الكبرى".
(2)
انظر: "الاختيار لتعليل المختار"(3/ 3، 4).