الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
في الأمكنة التي يُمنع أهل الذمة من دخولها والإقامة بها
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 28].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "انطلِقُوا إلى يهودَ"، فخرجنا معه حتى جئنا بيتَ المِدْراس
(1)
، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فناداهم فقال:"يا معشرَ اليهود، أَسْلِموا تَسْلَموا"، فقالوا: قد بلَّغتَ يا أبا القاسم. فقال: "ذلك أريد"، فقال:"أَسلِموا تَسلموا"، فقالوا: قد بلَّغتَ يا أبا القاسم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ذلك أريد"، ثم قالها الثالثة فقال:"اعلموا أنما الأرض لله ورسوله، وإني أريد [أن] أُجْلِيَكم من هذه الأرض، فمن وجد منكم بماله شيئًا فليَبِعْه، وإلا فاعلموا أنما الأرض لله ورسوله". متفق عليه
(2)
، ولفظه للبخاري.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: يوم الخميس، وما يوم الخميس! قال: اشتدَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعُه، فقال: "ائتوني بكتفٍ أكتبْ لكم كتابًا لا تَضِلُّوا
(3)
بعده
(1)
المِدراس: الموضع الذي يُدرس فيه كتاب اليهود.
(2)
البخاري (7348) ومسلم (1765).
(3)
في المطبوع: "لا تضلون". والمثبت من الأصل موافق للرواية.
أبدًا"، فتنازعوا ــ ولا ينبغي عند نبيٍّ تنازعٌ ــ فقالوا: ما له؟ أَهَجَرَ؟ استفهِمُوه. فقال: "ذَروني، الذي أنا فيه خيرٌ مما تدعونني إليه"، فأمرهم بثلاثٍ فقال: "أَخرِجوا المشركين من جزيرة العرب، وأَجيزوا الوفدَ بنحوٍ مما كنت أُجيزهم"، والثالثة إما سكتَ عنها، وإما قالها فنسيتُها. متفق عليه
(1)
، ولفظه للبخاري.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن يهودَ بني النضير وقُريظة حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير وأقرَّ قريظةَ ومنَّ عليهم، حتى حاربت قريظة
(2)
بعد ذلك، فقتل رجالهم وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين، إلا بعضهم لحِقُوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا فأَمَّنهم. وأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود المدينة كلهم: بني قَينُقاع وهم قوم عبد الله بن سلامٍ، ويهود بني حارثة، وكل يهودي كان بالمدينة. متفق عليه
(3)
، واللفظ لمسلم.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لأُخرِجنَّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أَدَع فيها إلا مسلمًا". رواه مسلم
(4)
.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: آخرُ ما عهِد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يُترك
(1)
البخاري (3168) ومسلم (1637).
(2)
"ومنَّ عليهم حتى حاربت قريظة" ساقطة من المطبوع.
(3)
البخاري (4028) ومسلم (1766)
(4)
برقم (1767).
بجزيرة العرب دينانِ". رواه أحمد
(1)
.
وفي "مسنده"
(2)
أيضًا عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا علي، إن أنتَ وُلِّيتَ الأمرَ بعدي فأَخرِجْ أهلَ نجران من جزيرة العرب".
وفي "المسند"
(3)
أيضًا عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال: آخرُ ما تكلَّم به رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أَخرِجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب".
قال بكر بن محمد عن أبيه
(4)
: وسألت أبا عبد الله عن قول النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
برقم (23652)، وأخرجه أيضًا ابن هشام في "السيرة" (2/ 665) وابن المنذر في "الأوسط" (6/ 19) والطبراني في "الأوسط" (1066) من طرق عن ابن إسحاق قال: حدثني صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عائشة. وهذا إسناد حسن.
(2)
برقم (661)، وأخرجه أيضًا ابن أبي عاصم في "السنة"(1218) وابن بطة في "الإبانة"(2916 - نشرة عادل آل حمدان)، وإسناده واهٍ، فيه قيس بن الربيع الأسدي والأشعث بن سوَّار، كلاهما ضعيف. وأخرجه عبد الرزاق (9994) من طريق آخر فيه الحسن بن عُمارة، متروك الحديث. وسيأتي في كلام المؤلف لاحقًا أنه غير محفوظ.
(3)
برقم (1691)، وأخرجه أيضًا الدارمي (2540) وأبو يعلى (872) والبيهقي (9/ 208). وإسناده جيِّد، وقد اختاره الضياء (3/ 319، 320).
(4)
"الجامع" للخلال (140). وليس فيه جواب الإمام أحمد، وكأنه سقط من النسخة. وهو ثابت في "الأحكام السلطانية" لأبي يعلى (ص 196).
"أَخرِجوا المشركين من جزيرة العرب"، قال: إنما الجزيرة موضع العرب، وأما موضع يكون فيه أهل السواد والفرس فليس هو جزيرة العرب. موضع العرب: الذي يكونون فيه.
وقال المرُّوذي
(1)
: سئل أبو عبد الله عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أَخرِجوا المشركين من جزيرة العرب"، قال: هم الذين قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم، ليست لهم ذمةٌ، ليس هم مثل اليهود والنصارى، أي يُخرَجون من مكة والمدينة دون الشام. يريد أن اليهود والنصارى يُخرَجون من مكة والمدينة
(2)
.
قال إسحاق بن منصورٍ
(3)
: قال أحمد: ليس لليهود والنصارى أن يدخلوا الحرم.
وقال حنبلٍ: قال عمي
(4)
: جزيرة العرب يعني المدينة وما والاها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجلى يهودَ، فليس لهم أن يقيموا بها.
وقال عبد الله بن أحمد
(5)
: سمعت أبي يقول: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "لا
(1)
"الجامع"(141).
(2)
الفقرة الأخيرة من المؤلف للإيضاح.
(3)
"الجامع"(142). وانظر "مسائله"(2/ 540).
(4)
أي الإمام أحمد، وقد كان حنبل بن إسحاق بن حنبل يدعو الإمام بـ"عمّي" مع أنهما ابنا عمّ، ولعلَّ ذلك لكبر سنّه إجلالًا له. وقوله هذا رواه الخلال في "الجامع"(143).
(5)
"الجامع"(144).
يبقى دينانِ بجزيرة العرب"، تفسيره: ما لم يكن في يد فارس والروم. وقال الأصمعي: كل ما كان دون أطراف الشام.
وقال إبراهيم بن هانئٍ
(1)
: سئل أبو عبد الله عن جزيرة العرب، فقال: ما لم يكن في يد فارس والروم. قيل له: ما كان خلف العرب؟ قال: نعم.
وفي "المغني"
(2)
: جزيرة العرب ما بين الوادي إلى أقصى اليمن، قاله سعيد بن عبد العزيز.
وقال الأصمعي وأبو عبيد: هي من ريف العراق إلى عَدَنٍ طولًا، ومن تِهامة وما وراءها إلى أطراف الشام عرضًا.
وقال أبو عبيدة: هي من حَفَرِ أبي موسى
(3)
إلى اليمن طولًا، ومن رَمْل يَبْرِين
(4)
إلى منقطَع السَّماوة
(5)
عرضًا.
قال الخليل: إنما قيل لها: جزيرة العرب لأن بحرَ الحبش وبحرَ فارس والفراتَ قد أحاطت بها، ونُسِبت إلى العرب لأنها أرضها ومسكنها ومعدِنها.
(1)
المصدر السابق (145).
(2)
(13/ 243). وانظر لهذه الأقوال "معجم ما استعجم"(1/ 6).
(3)
بين فَلْج وفُلَيج، وهو على خمس مراحل من البصرة. انظر:"معجم ما استعجم"(1/ 457).
(4)
هو رمل معروف في ديار بني سعد من تميم. المصدر نفسه (4/ 1387).
(5)
السَّماوة: مفازة بين الكوفة والشام، وقيل: بين الموصل والشام، وهي من أرض كلب. المصدر السابق (3/ 754).
وقول الإمام أحمد: جزيرة العرب المدينة وما والاها، يريد مكة واليمامة وخيبر واليَنْبُع وفَدَك ومخاليفها وما والاها. وهذا قول الشافعي، لأنهم لم يُجْلَوا من تَيْماء ولا من اليمن
(1)
.
قلت: وهذا يردُّ قول سعيد بن عبد العزيز: إنها ما بين الوادي إلى أقصى اليمن، إلا أن يريد أوَّلَه. وحديث أبي عبيدة صريحٌ في أن أرض نجران من جزيرة العرب، فإنه قال:"أخرِجوا أهلَ نجران ويهودَ أهل الحجاز من جزيرة العرب"، وكذا قوله لعلي رضي الله عنه:"أخرِجْ أهلَ نجران من جزيرة العرب".
قال أبو عبيد
(2)
: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجَعْد قال: جاء أهلُ نجران إلى علي رضي الله عنه فقالوا: شفاعتُك بلسانك، وكتابك بيدك، أخرَجَنا عمرُ من أرضنا فرُدَّها إلينا، فقال: ويلكم، إن عمر كان رشيدَ الأمر، ولا أغيِّر شيئًا صنعه عمر. قال أبو معاوية: قال الأعمش: فكانوا يقولون: لو كان في نفسه عليه شيء لاغتنم هذا.
قلت: وهذا يدلُّ على أن حديث علي رضي الله عنه الذي ذكرناه قبلُ غير محفوظٍ، فإنه لو كان عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أمْرُه بإخراج أهل نجران من جزيرة
(1)
إلى هنا انتهى النقل من "المغني". وبعدها تعليق المؤلف.
(2)
"الأموال" برقم (296)، وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (32667) وابن زنجويه (418) وعبد الله في "السنة"(1285) والآجري في "الشريعة"(1235) والبيهقي (10/ 120).
العرب لم يعتذر بأن عمر قد فعلَ ذلك وكان رشيدَ الأمر، أو لعله نسي الحديث أو أحال على عمر رضي الله عنه قطعًا لمنازعتهم وطلبهم.
فإن قيل: فأهلُ نجران كان النبي صلى الله عليه وسلم قد صالحهم، وكتب لهم كتابَ أمْنٍ على أرضهم وأنفسهم وأموالهم، فكيف استجاز عمر رضي الله عنه إخراجهم؟
قيل: قد قال أبو عبيد
(1)
: إنما نرى عمر قد استجاز إخراج أهل نجران ــ وهم أهل صلحٍ ــ لحديث يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم فيهم خاصةً، يحدِّثونه عن إبراهيم بن ميمونٍ مولى آل سَمُرة عن ابن سمرة عن أبيه
(2)
عن أبي عبيدة بن الجراح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان آخر ما تكلَّم به أن قال: "أخرِجوا اليهودَ من الحجاز وأخرِجوا أهلَ نجران من جزيرة العرب".
فإن قيل: زدتم الأمر إشكالًا، فكيف أمر بإخراجهم وقد عقد معهم الصلح؟
قيل: الصلح كان معهم بشروطٍ فلم يَفُوا بها، فأمر بإخراجهم.
قال أبو عبيد
(3)
: وإنما نراه قال ذلك لنكْثٍ كان منهم، أو لأمرٍ أحدثوه بعد الصلح.
(1)
"الأموال"(1/ 187).
(2)
"عن أبيه" ليس في "الأموال". وهو موصول بذكره في المصادر الأخرى، وقد تقدم تخريجه.
(3)
"الأموال"(1/ 188).
قال
(1)
: وذلك بيِّنٌ في كتابٍ كتبه عمر رضي الله عنه إليهم قبل إجلائه إياهم منها.
حدثنا ابن أبي زائدة، عن ابن عونٍ قال: قال لي محمد بن سيرين: انظُرْ كتابًا قرأته عند فلان بن جبيرٍ، فكلِّمْ فيه زيادَ بن جُبيرٍ، قال: فكلَّمتُه فأعطاني، فإذا في الكتاب: "بسم الله الرحمن الرحيم. من عمر أمير المؤمنين إلى أهل رُعاشَ
(2)
كلهم، سلامٌ عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإنكم زعمتم أنكم مسلمون ثم ارتددتم بعدُ، وإنه من يَتُبْ منكم ويُصلِح لا يضرُّه ارتداده ونُصاحبه صحبةً حسنةً، فادَّكِروا ولا تَهلِكوا، وليُبشِرْ من أسلم منكم. فإن أبى إلا النصرانية فإنَّ ذمتي بريئةٌ ممن وجدناه ــ بعد عشرٍ تبقى من شهر الصوم ــ من النصارى بنجران. أما بعد، فإنَّ يعلى كتب يعتذر أن يكون أَكره أحدًا منكم على الإسلام أو عذَّبه عليه، إلا أن يكون وعيدٌ لم ينفُذْ إليه منه شيء. أما بعد، فقد أمرتُ يعلى أن يأخذ منكم نصفَ ما عملتم من الأرض، وإني لن أريد نزْعَها منكم ما أصلحتم"
(3)
.
وقال الشيخ في "المغني"
(4)
: فأما إخراج أهل نجران منها فلأن النبي صلى الله عليه وسلم صالحَهم على ترك الربا، فنقَضُوا عهدَه.
(1)
الكلام متصل بما قبله في المصدر السابق.
(2)
موضع من أرض نجران. انظر: "معجم ما استعجم"(2/ 660). وفيه ذكر كتاب عمر هذا.
(3)
"الأموال"(300)، وإسناده صحيح إلى زياد بن جبير.
(4)
(13/ 243، 244).
فإن قيل: فرسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرَّ أهل خيبر بها إلى أن قبضه الله وهي من جزيرة العرب. وأصرحُ من هذا أنه مات ودِرعُه مرهونةٌ عند يهودي بالمدينة على ثلاثين صاعًا من شعيرٍ أخذه لأهله.
قيل: أما إقرار أهل خيبر فإنه لم يُقِرَّهم إقرارًا لازمًا، بل قال:"نُقِرُّكم ما شِئنا". وهذا صريحٌ في أنه يجوز للإمام أن يجعل عقد الصلح جائزًا من جهته متى شاء نقضه بعد أن يَنْبِذ إليهم على سواءٍ، فلما أحدثوا ونكثوا أجلاهم عمر رضي الله عنه.
فروى البخاري في "صحيحه"
(1)
عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه لما فَدَّعَ
(2)
أهلُ خيبر عبدَ الله بن عمر قام عمر خطيبًا فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عامَلَ يهودَ خيبر على أموالهم، وقال:"نُقِرُّكم ما أقرَّكم الله تعالى"، وإن عبد الله بن عمر خرج إلى ماله هناك فعُدِي عليه من الليل، ففُدِّعت يداه ورجلاه، وليس لنا هناك عدوٌّ غيرهم، هم عدوُّنا وتُهمتُنا، وقد رأيتُ إجلاءهم. فلما أجمع عمر رضي الله عنه على ذلك أتاه أحد بني [أبي] الحُقَيق فقال: يا أمير المؤمنين، أتُخرِجنا وقد أقرَّنا محمد وعامَلَنا على الأموال وشرط ذلك لنا؟ فقال عمر رضي الله عنه: أظننتَ أني نسيتُ قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
برقم (2730). والزيادة منه.
(2)
الفدع: عوج في المفاصل كأنها قد فارقت مواضعها، وأكثر ما يكون في رُسْغ اليد أو القدم. والفعل الثلاثي منه لازم، والمتعدّي فدَّع كما ضبطه الصغاني في "التكملة"(4/ 315).
لك: "كيف بك إذا أُخرِجتَ من خيبر تَعدُو بك قَلُوصك ليلةً بعد ليلةٍ؟ " فقال: كانت هذه هُزَيلةً
(1)
من أبي القاسم، فقال: كذبتَ يا عدوَّ الله! قال: فأجلاهم عمر رضي الله عنه وأعطاهم قيمةَ ما كان لهم من الثمر مالًا وإبلًا وعُروضًا من أقتابٍ وحبالٍ وغير ذلك.
وفي "صحيحه"
(2)
أيضًا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلَ خيبر، فقاتلهم حتى ألجأهم إلى قصرهم، وغلَبَهم على الأرض والزرع والنخل، فصالحوه على أن يُجْلَوا منها ولهم ما حملَتْ رِكابهم، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء والحلقة ــ وهي السلاح ــ، ويخرجون منها، واشترط عليهم أن لا يكتموا ولا يُغيِّبوا شيئًا، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهدَ، فغيَّبوا مَسْكًا فيه مالٌ وحُلِيٌّ لحُيَيِّ بن أخطب كان احتمله معه إلى خيبر حين أُجلِيت النَّضير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمِّ حُيَيٍّ ــ واسمه سَعْية ــ:
(1)
تصغير الهزل ضدّ الجدّ.
(2)
لم يخرجه البخاري بهذا الطول، وإنما أخرجه مختصرًا (2328، 2338، 2730) من طرق عن نافع عن ابن عمر. ومنشأ الوهم أن البخاري ذكر عقب الحديث السابق (2730) أنه قد "رواه حماد بن سلمة، عن عبيد الله، أحسبه عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم ". ولم يَسُق لفظه، فأتى الحميدي في "الجمع بين الصحيحين"(1/ 165، 166) وساق لفظه مطوَّلًا من "مستخرج البَرقاني" ــ كما قاله الحافظ في "الفتح"(5/ 329) ــ ونسبه إلى البخاري. والظاهر أن المؤلف صادر عن الحميدي، وقد أورده أيضًا في "زاد المعاد"(3/ 388، 389). وهذا السياق المطوَّل أخرجه أيضًا ابن حبان (5199) وابن المنذر في "الأوسط"(6/ 365) والبيهقي في "السنن"(9/ 137) و"الدلائل"(4/ 229)، من طرق عن حماد بن سلمة به. وإسناده جيِّد.
"ما فَعَل مَسْكُ حُيَيٍّ الذي جاؤوا
(1)
به من النضير؟ "، قال: أذهبَتْه النفقات والحروب، فقال: "العهد قريبٌ، والمال أكثر من ذلك".
وقد كان حُيَيٌّ قُتِل قبل ذلك، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم سَعْية إلى الزبير فمسَّه بعذابٍ، فقال: قد رأيتُ حُيَيًّا يطوف في خرِبةٍ هاهنا، فذهبوا فطافوا فوجدوا المَسْك في الخربة، فقَتلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنَي أبي الحُقَيق وأحدهما زوج صفية بنت حُيَيّ بن أخطب، وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءهم وذراريهم، وقسم أموالهم بالنكْث الذي نكثوا، وأراد أن يُجليهم منها، فقالوا: يا محمد، دَعْنا نكون في هذه الأرض نُصلِحها ونقومُ عليها. ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه غلمانٌ يقومون عليها ولا يفرغون أن يقوموا، فأعطاهم خيبر على أنَّ لهم الشطْرَ من كل زرعٍ وشيءٍ ما بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان عبد الله بن رواحة يأتيهم في كل عامٍ يَخْرُصها عليهم، ثم يُضمِّنهم الشطْرَ، فشكَوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدةَ خرصه، وأرادوا أن يَرْشُوه، فقال عبد الله: أتُطعِمونني السُّحتَ؟ والله لقد جئتكم من عند أحبِّ الناس إليَّ، ولأنتم أبغضُ الناس إليَّ مِن عِدِّتِكم
(2)
من القردة والخنازير، ولا يَحملني بغضي إياكم وحبِّي إياه على أن لا أعدِلَ عليكم، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعطي كلَّ امرأةٍ من نسائه ثمانين وَسَقًا من تمرٍ كلَّ
(1)
كذا في الأصل. وفي مصادر التخريج و"زاد المعاد": "جاء".
(2)
في المطبوع: "عدلكم" خلاف ما في الأصل و"صحيح ابن حبان".
عامٍ وعشرين وَسَقًا من شعيرٍ، فلمَّا كان زمان عمر رضي الله عنه غشُّوا المسلمين، وألقَوا ابنَ عمر من فوقِ بيت ففَدَعوا يديه، فقال عمر: من كان له سهم بخيبر فليحضر حتى نقسمها بينهم، فقسمها عمر رضي الله عنه بينهم. فقال رئيسهم: لا تُخرِجْنا، دَعْنا نكونُ فيها كما أقرَّنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ، فقال عمر رضي الله عنه لرئيسهم: أتراه سَقَط عليَّ قولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف بك إذا رَقَصَتْ بك راحلتُك نحو الشام يومًا ثم يومًا ثم يومًا؟ ". وقسمها عمر رضي الله عنه بين من كان شهد خيبر من أهل الحديبية
(1)
.
وأما رَهْن النبي صلى الله عليه وسلم دِرعَه عند اليهودي فلعله من اليهود الذين كانوا يَقْدَمون المدينةَ بالمِيرة والتجارة من حولها، أو من أهل خيبر، وإلا فيهود المدينة كانوا ثلاث طوائف: بني قينقاع وبني النضير وقريظة. فأما بنو قينقاع فحاربهم أولًا، ثم منَّ عليهم. وأما بنو النضير فأجلاهم إلى خيبر وأجلى بني قينقاع أيضًا، وقتل بني قريظة
(2)
، وأجلى كلَّ يهودي كان بالمدينة. فهذا اليهودي المرتهن: الظاهرُ أنه من أهل العهد قدِمَ المدينة بطعامٍ، أو كان ممن لم يحارب فبقي على أمانه، فالله أعلم.
فهذا أصل إجلاء الكفّار من أرض الحجاز. ثم اختلف الفقهاء بعد ذلك، فقال مالك
(3)
: أرى أن يُجلَوا من أرض العرب كلها؛ لأن رسول الله
(1)
هنا انتهى لفظ حديث ابن عمر الطويل.
(2)
في الأصل: "بني النضير" خطأ.
(3)
كما في "المغني"(13/ 242).
- صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجتمع دينانِ في جزيرة العرب"
(1)
.
وفي "صحيح مسلم"
(2)
من حديث عمر رضي الله عنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لأُخرِجنَّ اليهودَ والنصارى من جزيرة العرب، حتى لا أَدع فيها إلا مسلمًا".
وقال الشافعي
(3)
: يُمنعون من الحجاز، وهو مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها، وهي قراها. أما غير الحرم منه فيُمنَع الكتابي وغيره من الاستيطان والإقامة به، وله الدخول بإذن الإمام لمصلحةٍ، كأداء رسالةٍ أو حمل متاعٍ يحتاج إليه المسلمون، وإن دخل لتجارةٍ ليس فيها كبير حاجةٍ لم يأذن له إلا بشرط أن يأخذ من تجارته شيئًا، ولا يمكّن من الإقامة أكثر من ثلاثٍ.
وقد أدخل بعض أصحاب الشافعي اليمن في جزيرة العرب
(4)
، ومنعهم من الإقامة فيها. وهذا وهمٌ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا قبل موته إلى اليمن وأمره أن يأخذ من كل حالمٍ دينارًا، وأقرَّهم فيها، وأقرَّهم أبو بكر بعده، وأقرَّهم عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ولم يُجْلُوهم من اليمن مع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، فلم يُعرَف عن إمامٍ أنه أجلاهم من اليمن.
(1)
حديث حسن، سبق تخريجه.
(2)
برقم (1767).
(3)
انظر: "المهذب"(3/ 319).
(4)
انظر: "نهاية المطلب"(18/ 61، 62)، و"الوسيط" للغزالي (7/ 67).
وإنما قال الشافعي وأحمد: يُخْرَجون من مكة والمدينة واليمامة وخيبر ويَنْبُع ومخاليفها، ولم يذكرا اليمن، ولم يُجلَوا من تَيماء أيضًا. وكيف يكون اليمن من جزيرة العرب وهي وراء البحر، فالبحر بينها وبين الجزيرة؟
(1)
فهذا القول غلطٌ محضٌ.
وأما الحرم فإن كان حرم مكة فإنهم يمنعون من دخوله بالكلية، فلو قدِمَ رسولٌ لم يَجُزْ أن يأذن له الإمام في دخوله، ويَخرج الوالي أو من يثق به إليه، ولا يختصُّ المنع بخِطَّة مكة بل بالحرم كله.
وأما حرم المدينة فلا يُمنع من دخوله لرسالةٍ أو تجارةٍ أو حَمْل متاعٍ.
فصل
فهذا تفصيل مذهب الشافعي رحمه الله تعالى.
وأما مذهب أحمد
(2)
رحمه الله تعالى فعنده يجوز لهم دخول الحجاز للتجارة؛ لأن النصارى كانوا يتَّجرون إلى المدينة في زمن عمر رضي الله عنه كما تقدم.
وحكى أبو عبد الله بن حمدان
(3)
عنه رواية: أن حرم المدينة كحرم مكة
(1)
كذا في الأصل. وينظر الخطّ الفاصل بين اليمن وبين باقي جزيرة العرب في "معجم البلدان"(5/ 447، 448).
(2)
اعتمد المؤلف في هذا الفصل على "المغني"(13/ 244، 245).
(3)
في "الرعاية الكبرى"(2/ 33 أ).
في امتناع دخوله.
والظاهر أنها غلطٌ على أحمد، فإنه لم يَخْفَ عليه دخولُهم بالتجارة في زمن عمر رضي الله عنه وبعده وتمكينُهم من ذلك.
ولا يأذن
(1)
لهم في الإقامة أكثر من ثلاثة أيامٍ. وقال القاضي: أربعةٌ، وهي حدُّ ما يُتِمُّ المسافر الصلاة
(2)
.
وإذا مرِض بالحجاز جازت له الإقامة، لمشقَّةِ الانتقال على المريض. ويجوز أن يقيم معه من يُمرِّضه.
وإن كان له دَينٌ على أحدٍ وكان حالًّا أُجبِر غريمُه على وفائه، فإن تعذَّر وفاؤه لمطْلٍ أو غيبةٍ مُكِّن من الإقامة لِيَستوفيَ دينَه، وفي إخراجه ذهاب ماله.
وإن كان الدَّين مؤجَّلًا لم يُمكَّن من الإقامة، ويُوكِّل من يستوفيه؛ لأن التفريط منه.
فإن أراد أن يضع ويتعجَّل فهل يجوز ذلك؟ على روايتين منصوصتين، أشهرهما المنع، وأصحهما عند شيخنا الجواز
(3)
. والمنع قول ابن عمر
(4)
(1)
أي الإمام.
(2)
"المغني"(13/ 244).
(3)
انظر الكلام على هذه المسألة في "إغاثة اللهفان"(2/ 679 - 685).
(4)
أخرجه مالك في "الموطأ"(1352)، والطحاوي في "مشكل الآثار"(11/ 61)، والبيهقي (6/ 28).
- رضي الله عنهما، والجواز قول ابن عباس
(1)
رضي الله عنهما.
وروى ابن عباس رضي الله عنهما في ذلك حديثًا رواه الدارقطني
(2)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أجلى يهود بني النضير قالوا: إن لنا ديونًا لم تَحُلَّ، فقال:"ضَعُوا وتعجَّلوا". وإسناده حسن، ليس فيه إلا مسلم بن خالدٍ الزنجي، وحديثه لا ينحطُّ عن رتبة الحسن.
فإن دعت الحاجة إلى الإقامة لبيع بضاعته فوقَ ثلاثٍ، ففيه وجهان
(3)
:
أحدهما: يجوز له ذلك؛ لأن في تكليفه ترْكَها أو حمْلَها معه ضياعَ ماله، وذلك يمنع الدخول بالبضائع، ويضرُّ بأهل الحجاز، ويقطع الجلب عنهم، وهذا هو الصحيح.
والثاني: يُمنع من الإقامة؛ لأن له منها بُدًّا.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنّف"(8/ 72، 429)، وابن أبي شيبة (4/ 471)، والبيهقي (6/ 28).
(2)
برقم (2880 - 2983)، وأخرجه أيضًا الطبراني في "الأوسط"(817، 6755) والحاكم (2/ 52)، والبيهقي (6/ 28). وفي إسناده مسلم بن خالد الزنجي كما ذكر المؤلف، وقد اختُلف عليه في إسناده على أوجه، وجعل الدارقطني الحمل عليه فقال:"مسلم بن خالد ثقة إلا أنه سيئ الحفظ، وقد اضطرب في هذا الحديث". وأعلَّه أبو حاتم ــ كما في "العلل" لابنه (1134) ــ بأن ابن جريج خالف الزنجي فرواه من حديث عكرمة مرسلًا، وقال: لا يمكن أن يكون مثل هذا الحديث متصلًا.
(3)
انظر: "المغني"(13/ 244).
فإن أراد الانتقال إلى مكان آخر من الحجاز جاز، ويقيم فيه ثلاثة أيامٍ أو أربعةً، ولا يدخلون إلا بإذنٍ من الإمام أو نائبه. وقيل: يكفي إذنُ آحاد المسلمين. هذا حكم غير الحرم.
قال أصحاب الإمام أحمد رحمهم الله تعالى
(1)
: ولا يُمنعون من تَيماء وفَيْدَ ونجرانَ ونحوهن. وقد تقدم الحديث المصرِّح بأن نجران من جزيرة العرب. قالوا: فإن دخلوا غير الحرم لم يجز إلا بإذن مسلم.
وأما الحرم فيُمنعون دخولَه بكل حالٍ، ولا يجوز للإمام أن يأذن في دخوله، فإن دخل أحدهم فمرض أو مات أُخرِج، وإن دُفِن نُبِش
(2)
.
وهل يُمنَعون من حرم المدينة؟ حكي عن أحمد رحمه الله تعالى فيه روايتان
(3)
كما تقدم. وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أنزل وفدَ نصارى نجران في مسجده، وحانتْ صلاتهم فصلَّوا فيه
(4)
، وذلك عام الوفود بعد نزول قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ
(1)
المصدر نفسه.
(2)
المصدر نفسه (13/ 245).
(3)
المصدر نفسه (13/ 246).
(4)
أخرجه ابن هشام في "السيرة"(1/ 574) والبيهقي في "الدلائل"(5/ 382) من طريق محمد بن إسحاق قال: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير بن العوام
…
(فذكر خبر دخولهم المسجد وصلاتهم إلى المشرق). وهذا إسناد مرسل. ولكن قد صحَّ واستفاض أنهم قد دخلوا المدينة والتقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويكفي هذا القدر مستدَلًّا للمسألة، وبالله التوفيق.
هَذَا} [التوبة: 28]، فلم تتناول الآية حرمَ المدينة ولا مسجدَها.
فصل
وأما تفصيل مذهب مالك
(1)
رحمه الله تعالى، فإنهم يُقَرُّون عنده في جميع البلاد إلا جزيرة العرب: وهي مكة والمدينة وما والاهما.
وروى عيسى بن دينارٍ عنه دخول اليمن فيها.
وروى ابن حبيبٍ أنها من أقصى عدنٍ وما والاها من أرض اليمن كلها إلى ريف العراق في الطول، وأما في العرض فمن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام ومصر في المغرب والمشرق، وما بين المدينة
(2)
إلى مُنقطَع السماوة. ولا يُمنَعون من الاجتياز بها مسافرين ولكن لا يقيمون.
فصل
وأما أبو حنيفة رحمه الله تعالى فعنده: لهم دخول الحرم كله حتى الكعبة نفسها، ولكن لا يستوطنون به. وأما الحجاز فلهم الدخول إليه والتصرف فيه والإقامة بقدر قضاء حوائجهم.
وكأنَّ أبا حنيفة رحمه الله تعالى قاس دخولهم مكة على دخولهم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يصح هذا القياس، فإن لحرم مكة أحكامًا يخالف بها
(1)
انظر: "عقد الجواهر الثمينة"(1/ 487).
(2)
في المصدر السابق: "بين سَرَب". وسرب بلد قرب المدينة. انظر: "معجم ما استعجم"(2/ 731، 1234).
المدينة، على أنها ليست عنده حرمًا.
فإن قيل: الله سبحانه إنما منع المشركين من قربان المسجد الحرام، ولم يمنع أهل الكتاب منه، ولهذا أذن مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحج الأكبر:"أن لا يحج بعد العام مشركٌ"
(1)
. والمشركون الذين كانوا يحجون هم عبدة الأوثان لا أهل الكتاب، فلم يتناولهم المنع.
قيل: للناس قولان في دخول أهل الكتاب في لفظ المشركين.
فابن عمر وغيره كانوا يقولون: هم من المشركين. قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: لا أعلم شركًا أعظم من أن يقول: المسيح ابن الله وعُزير ابن الله
(2)
. وقد قال تعالى فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31].
والثاني: لا يدخلون في لفظ المشركين؛ لأن الله سبحانه جعلهم غيرهم في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [الحج: 17].
قال شيخنا
(3)
: والتحقيق أن أصل دينهم دين التوحيد فليسوا من
(1)
أخرجه البخاري (369) ومسلم (1347) من حديث أبي هريرة.
(2)
أخرجه البخاري (5285).
(3)
انظر نحو هذا الكلام في "مجموع الفتاوى"(14/ 91 - 93، 32/ 179)، و"الجواب الصحيح"(3/ 115 - 116)، و"تلخيص كتاب الاستغاثة"(ص 148).
المشركين في الأصل، والشرك طارٍ عليهم، فهم منهم باعتبار ما عرضَ لهم لا باعتبار أصل الدين، فلو قُدِّر أنهم لم يدخلوا في لفظ الآية دخلوا في عمومها المعنوي وهو كونهم نجسًا، والحكم يعمُّ بعموم علّته.
فإن قيل: فالآية نبَّهت على دخولهم الحرم عوضًا عن دخول عبَّاد الأصنام
(1)
، فإنه سبحانه قال:{وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 28]، فإنها لما نزلت انقطع عنهم ما كان المشركون يَجلبون إليهم من المِيرة، فأعاضهم الله بالجزية.
قيل: ليس في هذا ما يدلُّ على دخول أهل الجزية المسجدَ الحرام بوجهٍ ما، بل تؤخذ منهم الجزية وتُحمل إلى من بالمسجد الحرام وغيره، على أن الإغناء من فضل الله وقع بالفتوح والفيء والتجارات التي حملها المسلمون إلى مكة.
فإن قيل: فالآية إنما منعت قُربانَهم المسجدَ الحرام خاصةً، فمن أين لكم تعميم الحكم للحرم كله؟
قيل: المسجد الحرام يُراد به في كتاب الله تعالى ثلاثة أشياء: نفس البيت، والمسجد الذي حوله، والحرم كله.
فالأول كقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 143].
والثاني قوله تعالى: {إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اِللَّهِ
(1)
في هامش الأصل: "الأوثان" بعلامة خ.
{وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 23]، على أنه قد قيل: إن المراد به هاهنا الحرم كله، والناس سواءٌ فيه.
والثالث كقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1]، وإنما أُسرِي به من داره من بيت أم هانئٍ
(1)
، وجميع الصحابة والأئمة فهموا من قوله تعالى:{فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] مكة كلّها والحرم، لم يخصَّ ذلك أحدٌ منهم بنفس المسجد الذي يُطاف فيه.
ولما نزلت هذه الآية كانت اليهود بخيبر وما حولها، ولم يكونوا يُمنَعون من المدينة، كما في "الصحيح"
(2)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات ودِرْعُه مرهونةٌ عند يهودي على طعامٍ أخذه لأهله، فلم يُجْلِهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند نزولها من الحجاز، وأمر مؤذِّنَه أن يؤذِّن بأن لا يحجَّ بعد العام مشركٌ.
فإن قيل: فما تقولون في دخولهم مساجدَ الحلّ
(3)
؟
(1)
روى ذلك ابن سعد في "الطبقات"(2/ 182 - 183) والطبري في "التفسير"(14/ 414) والطبراني في "الكبير"(24/ 432) والبيهقي في "دلائل النبوة"(2/ 404) من طرق عن أم هاني، وكلها واهية بمرة. والذي في "الصحيح" من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم أُسري به من بيته، وفي حديث مالك بن صعصعة أنه أسري به من عند البيت من الحطيم. أخرجهما البخاري (349، 3887) ومسلم (163، 164).
(2)
البخاري (2916) ومسلم (1603) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3)
انظر: "المغني"(13/ 246).
قيل: إن دخلوها بغير إذنٍ مُنِعوا من ذلك ولم يُمكَّنوا منه لأنهم نجسٌ، والجنب والحائض أحسنُ حالًا منهم وقد مُنِعا من دخول المساجد.
وإن دخلوها بإذن مسلم ففيه قولان للفقهاء هما روايتان عن أحمد.
ووجه الجواز: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل الوفود من الكفّار في مسجده، فأنزل فيه وفدَ نجران ووفدَ ثقيفٍ
(1)
وغيرهم.
وقال سعيد بن المسيب: كان أبو سفيان يدخل مسجدَ المدينة وهو على شِركه
(2)
.
وقدم عُمير بن وَهْبٍ ــ وهو مشركٌ ــ فدخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم فيه ليَفْتِك به، فرزقَه الله تعالى الإسلام
(3)
.
ووجه المنع: أنهم أسوأ حالًا من الحائض والجنب، فإنهم نجسٌ بنص
(1)
سبق تخريج ما يتعلق بوفد نجران، وأما خبر وفد ثقيف فأخرجه أحمد (17913) وأبو داود (3026) وابن خزيمة (1328) من حديث الحسن عن عثمان بن أبي العاص الثقفي. ورجاله ثقات.
(2)
لم أقف عليه. وخبر مجيء أبي سفيان إلى المدينة قبل إسلامه ذكره ابن إسحاق وغيره من أصحاب المغازي، وليس فيه التصريح بدخوله المسجد. انظر:"سيرة ابن هشام"(2/ 389)، ومرسل عكرمة عند ابن أبي شيبة (38057).
(3)
روى ذلك أصحاب المغازي: عروة (من رواية ابن لهيعة عن أبي الأسود عنه)، وموسى بن عقبة عن الزهري، وابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير، كلهم مرسلًا. أخرجها الطبراني في "الكبير"(17/ 56 - 61) والبيهقي في "الدلائل"(3/ 147 - 149).
القرآن، والحائض والجنب ليسا بنجسٍ بنصّ السنة
(1)
.
ولما دخل أبو موسى على عمر بن الخطاب وهو في المسجد أعطاه كتابًا فيه حسابُ عمله، فقال له عمر: ادعُ الذي كتبه ليقرأه، فقال: إنه لا يدخل المسجد، قال: ولِمَ؟ قال: إنه نصراني
(2)
. وهذا يدل على شهرة ذلك بين الصحابة.
ولأنه قد انضمَّ إلى حدث جنابته حدثُ شركِه، فيتغلَّظ المنع.
وأما دخول الكفار مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فكان ذلك لما كان بالمسلمين حاجةٌ إلى ذلك، ولأنهم كانوا يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم في عهودهم، ويؤدُّون إليه الرسائل، ويحملون منه الأجوبةَ، ويسمعون منه الدعوة. ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج من المسجد لكل من قصدَه من الكفار، فكانت المصلحة في دخولهم ــ إذ ذاك ــ أعظمَ من المفسدة التي فيه، بخلاف الجنب والحائض فإنه كان يُمكِنهما التطهرُ والدخول إلى المسجد.
وأما الآن فلا مصلحةَ للمسلمين في دخولهم مساجدَهم والجلوس فيها، فإن دعت إلى ذلك مصلحةٌ راجحةٌ جاز دخولها بالإذن
(3)
، والله أعلم.
* * * *
(1)
كما في حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له لمَّا أخبره أنه انخنس منه لأنه كان جنبًا: "سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس". أخرجه البخاري (283) ومسلم (371).
(2)
أخرجه البيهقي في "السنن"(9/ 204، 10/ 127) بإسناد حسن.
(3)
في هامش الأصل: "بلا إذن" برمز خ.